مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

آية وعبرة وأعرض عن الجاهلين

بسم الله الرحمن الرحيم

[1]هذه ثالثة الوصايا التي نروم استنباط هداياتها من آية سورة الأعراف ، متفيئين لظلالها ومستلهمين من دروسها وعبرها، والخطاب فيها لمن تنزل عليه الوحي؛ توجيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء، وترشيدا لتعامل الداعية مع الناس تبعا، وهي قوله تعالى "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" [الأعراف:199]، و الآية جامعة لمكارم الأخلاق كما سبق، قال ابن العربي: "قال علماؤنا : هذه الآية من ثلاث كلمات ، قد تضمنت قواعد الشريعة المأمورات والمنهيات ، حتى لم يبق فيه حسنة إلا أوضحتها ، ولا فضيلة إلا شرحتها ، ولا أكرومة إلا افتتحتها ، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة .فقوله :  "خذ العفو"  تولى بالبيان جانب اللين، ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف، وقوله : "وأمر بالعرف" تناول جميع المأمورات والمنهيات ؛ وإنهما ما عرف حكمه ، واستقر في الشريعة موضعه، واتفقت القلوب على علمه، وقوله : "وأعرض عن الجاهلين" تناول جانب الصفح بالصبر الذي به يتأتى للعبد كل مراد في نفسه وغيره.[2]"

فحامل مشعل الإصلاح في أخذه للعفو،- بإطلاقات السابقة في بابه- و أمره بالعرف، ونهيه عن المنكر، قد يسمع ما لا يرضيه، ويُستفز بنابي الكلام ما يؤذيه، فيحتاج إلى ما يصرف به مناوشات الخصوم، ويرد به استفزازاتهم، فأرشده القرآن إلى استصحاب السيف الذي لا ينبو، وإتقان فن المناورة التي تقوم على الفر والكر، ذاكم هو الإعراض عمن لا يجدي معه حوار،  والتغافل عن ما يدعو إليه من سفه بسقط الكلام، فعدم الاكتراث بأمثال هؤلاء هو الرأي، و إلغاء التهمم بهم وبكلامهم هو الحزم، لأن في مجاراتهم تعكيرا للمزاج، و تضييعا للوقت، وتبديدا للجهد، وقد يستدرج بك اللجاج إلى ما لا تحمد عقباه، قال القرطبي: "أي: إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم، صيانة له عليهم، ورفعا لقدره عن مجاوبتهم، وهذا وإن كان خطابا لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه."[3]

وقد تناقل الناس قديما وحديثا حكما وأشعارا في الانصراف عن السفيه، والإعراض عن مواجهته ومجاراته فيما يدعو إليه، من ذلكم الأبيات التي تعزى للإمام الشافعي:

إذا نطَق السفيهُ فلا تُجِبْه      فخيرٌ من إجابته السكوتُ

فإن كلَّمته فرَّجتَ عنه          وإن خلَّيته كمدا يموتُ

وقد زعم بعض العلماء أن آية الإعراض عن الجاهلين منسوخة بالآيات التي تدعو إلى  المجابهة والذب عن الأعراض، والحق أنها  آية محكمة لم يدخلها النسخ ،قال ابن عطية:  قوله:"وأعرض عن الجاهلين" حكم مترتب محكم مستمر في الناس ما بقوا ، هذا قول الجمهور من العلماء... وحديث الحر بن قيس حين أدخل عمه عيينة بن حصن على عمر دليل على أنها محكمة مستمرة ، لأن الحر احتج بها على عمر فقررها ووقف عندها ".

و قصة الحر تناقلتها كتب التفسير وكتب الحديث و كتب السير والتراجم، فكل يوردها شاهدا لما يود الاستدلال عليه؛ لما اكتنزته من مسائل عدة، ولفظها كما عند البخاري عن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما قال: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَنَزَلَ عَلَى ابنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ رضي اللَّه عنه، فَلَمَّا دَخَل قَالَ: هِي يَا ابْنَ الخَطَّابِ! فَوَاللَّه مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ، وَلا تَحْكُمُ فِينَا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ رضي اللَّه عنه حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، واللَّهِ مَا جاوزَهَا عُمرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى. [4]".

والواقعة تجسد أعلى مراتب الإعراض عن الجهلة، من أعلى رجل سلطة في الوقت، لرجل مغرض؛ حمله استعجال الحظوظ العاجلة على تصرف كاد يودي بحياته، ثم حسن تدخل الحر وتذكير عمر بما صرفه عن الاستجابة لداعي الغضب والانفعال، "وكان رضي الله عنه وقافا عند حدود الله"، والأثر يحمل فقها جما، ففيه:

  • وصف  مجالس الكبراء، وما ينبغي أن تكون عليه مواصفات جلساء من ولاهم الله تدبير شؤون الرعية.
  • أثر الباطنة الصالحة ودورها في صرف القامات الوازنة عن الاستجابة لأهواء النفوس.
  •  بيان طبيعة النفس البشرية، وأنها تنتفض وتغضب إذا استفزت وإن زورا وبهتانا.
  • الرعيل الأول وردود أفعالهم عندما يذكرون بأمر الله، يترجمه إحجام عمر عن مؤاخذة متهمه بمجرد أن ذكر بالآية.
  • موقف عيينة بن حصن وطعنه في سياسة عمر تعضد المقولة التي تنص على أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، وذلك تبعا لاختلاف الأهواء وتباين المصالح وتضارب الرؤى، وإلا فسياسة عمر وتدبيره لشؤون الحكم أذعنت هامات الأعداء والخصوم، ولا يطعن فيها إلا مغرض أو ذو حقد دفين، وبالتنقيب في شخصية عيينة بن حصن يظهر وازعه في لمز الخليفة العادل بهذه المثلبة؛ فهو من متأخري المسلمين؛ إذ كان إسلامه عام الفتح، وقد تألفه النبي صلى الله علي وسلم بالعطاء، وإياه عنى العباس بن مرداس بقوله:

                              أتجعلُ نهبي ونهب العبيــدِ       بين عييــــــنة والأقرعِ

وما كان حصنٌ ولا حابسٌ          يفوقان مردس في مجمعِ

وما كنتُ في الحرب دونهما           ومن تضعِ اليوم لا يُرفع

 قال عنه الحافظ في الفتح: وسأل أبا بكر بعد وفاة رسول الله أن يعطيه أرضا يقطعه إياها فمنعه عمر لرأيه في المؤلفة،  كان في الجاهلية موصوفا بالشجاعة والجهل والجفاء... وسماه النبي صلى الله عليه وسلم: "الأحمق المطاع " وكان عيينة ممن وافق طليحة الأسدي لما ادعى النبوة، فلما غلبهم المسلمون في قتال أهل الردة فر طليحة وأسر عيينة، فأتى به أبو بكر فاستتابه فتاب، وكان قدومه إلى المدينة على عمر بعد أن استقام أمره وشهد الفتوح، وفيه من جفاء الأعراب شيء"[5]

وقد أكثر الناس في تتبع أخباره حتى وصمه بعضهم بالنفاق، ولا مقصد لنا في تحريرالقول في ذلك، وإنما القصد هنا أن وصفَ الإعراض عن الجاهلين من أوصاف عباد الرحمن  كما قال عنه المولى في محكم التنزيل:  "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ" [الفرقان:63]، لما فيه من استبقاء الجهد لصرفه فيما يفيد، وتعليم المخالف أن القصد  ليس هو  الانتصار للنفس، أو  البحث عن إفحام اللجوج وكشف عواره أمام الحضور، أو إشاعة الشماتة به.. وإنما الوازع المنطلق منه طلب هدايته، تسوقها محبة الخير للكافة، وإفشاء السلام للعالم، إذ المسلم الحق يشع منه النور، ويشعر بالإشفاق على المتنكبين مسالك الهداية، فإن صادف أهلا عرض بضاعته، فجلس مفيدا واستفاد ودادهم، وإن صادف إعراضا وتقطيبا صدف بعد إثبات الحجة وإقامة البرهان.

 [1]  المحرر الوجيز، 3/140.

[2]  أحكام القرآن، 2/363.

[3]  الجامع لأحكام القرآن، 7/346-347.

   [4]  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم:6856

[5]  ينظر فتح الباري، 13/258

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق