الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444ه) عبقري من الأندلس برَّد الله مضجعه

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوت ربنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين
وبعد؛ فمُتعلَّق القول هنا وغراسه؛ كَمِنٌ في تَجديد شمائل الكُنيْف المقرئ الملهَم، وترجيع صدى فتى القطر الغرْبي الموفَّق المعلَّم، مأْثُرة أرباب القراءة الأعلام ودُرَّة الأعيان النظار الفرسان، من أتته البراعة الأدائية لفنون التنزيل تجرُّ أذيالها، وانقادت له جياد الأفكار دِراكاً أبابيلَ تَتْرا، فلبَّته حِسان الأنظار العواصم سرّا وجهرا، لما آنست من المشْـرع الرِّوى الأصفى لها، الحافظ الثَّبْت الشّفّ الحُجَّة أبو عمرو الداني (ت 444 ه) قدّس الله سرَّه وبرَّد ضريحه، صاحب المذهب الأثري الرصين، والمنحى الاِتباعي المكين، مَن أصفقت نقاد الأقطار (المغرب والأندلس والمشرق) ـ قدامى ومحدثين ـ على إمامته في السبع القراآت عامة وريادته في مروي نافع على التَّعيين بالمدرستين المغربية والمشـرقية وامتداداتهما طُرّاً، ثم هو صاحب الاختيارات العتيدة الرضيّة الشهيرة، من بذَّ الأقران من الجلّة القراء الأفذاذ وبرَّز عليهم في تلطُّف عالٍ جَمّ وتظرّف فَذٍّ عزَّ له النظير؛ أمثال: مكّي(ت 437 ه) والمهدوي (ت 440 ه) والقرطبي(ت 461 ه)وابن شريح (ت 476 ه)وغيرهم؛ ممن ينضوي إلى لواء المدرستين القيروانية والأندلسية، فاتُّخذت - لحذاقته- اختياراته الأدائية ومذاهبه القرائية عمدة الإشراف في تحرير مسائل الخلاف بين أئمة الأمصار (رسما، ضبطا، عددا، قراءة، أداء، عزوا، علة ...)، مما تشهد به دواوين البرامج والفهارس والمشيخات والمسلسلات والأسمعة وما إلى ذلك من دوائر المعارف ومجاميع الفنون،وحسبنا من ذلك ما ذَيَّعَتْ له فرائد أوضاعه وشهدت به عيون آثاره وأخباره كَ: الجامع والتيسير والتجديد والمقنع والمحكم ... قال الشمس الجزري (ت 833ه) [ومن نظر كتبه؛ علم مقدار الرجل وما وهبه الله تعالى فيها، فسبحان الفتاح العليم]الغاية: 1/504-505، تر 2091، ثم إنَّ ألمع ما طَبَع منهج الرجل عند نقده مهيمِن قضايا القراآت، وتحرير غامض مسائل الخلاف وعلاج ما أَشكَل منها؛ مصَوَّرٌ في إمعانه في تتبع الأثر ومُثافنة وِطائه، قبل إعمال آلة الفكر والنظر وتقحُّم لُجّة التأويل أو التخريج إجراءً وإلحاقاً ...، وقد حفظنا عنه مَنْبَهَته السائرة الدالّة على مَنْحَاته عندما قال: (وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرءان؛ على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت ـ عنهم ـ لم يردَّها قياسُ عربية ولا فشوُّ لغة؛ لأن القراءةَ سنةٌ متبعة، يلزم قبولها والمصير إليها) [الجامع ص 396 ، [ذكر همز (بَارِئِكُم): 53]، فالقراءة سنّة مضبوطة لا تُتعدَّى، والنظر والتعليل والقياس مسالك من وراء ذلك، متى توافرت شرائطه وتراكبت ضرائره وما إليه، قال الداني رحمه الله: (قراءتنا قراءة المشايخ، نسمع في القرآن، ولا نستعمل فيه بالرأي) [التحديد ص91]، ثم لا يذهبَنَّ عن ذي اللُّب الفطن أبعاد هذا المنزع الروائي واتساع مطارح غايته، وأنَّ العلم فطنة ودراية آكد منه سماعا ورواية، وللدراية ضبطها ونظمها وللرواية نقلها وتعلُّمها،كما يقول الحافظ الداني (ت 444ه)، خاصة ما كان من نص الكتاب العزيز بمحلِّ الإنسان من العَيْن وعُدَّ ملاكَ تأويله وجماعه، ...
وعليه؛ فسياقة القصّة التي حُرِّف لأجلها سِنُّ الإفادة وجُرِّدتْ لمَخْض أوطابها ناشئات العزم؛ انْتِباذُ معالم الرعاية التامة المعتبرة في تتبع رِكاب الأثر وقَفْوِ سَنن المجوّيدين - عند الحافظ أبي عمرو الداني (ت 444ه) - في أداء الحرف القرآني وأخذه بداهةً، مع تبْدية ظواهر الاضطرار التأدّبي الصناعي أو الإعراب عن ملامع الإلجاء الفنّي،الموجبة لإعمال النظر وترداد الفكر في تعيين السَّمْت الأدائي لأوجه التنزيل، والتفريع من أصل الوضع الأول أو الحمْل على النظير عند انحسار معاهد التنصيص وانقطاع شواهد التبليغ، ثم استواء الدواعي المسوِّغة للتخريج على الوارد وما إليه، مع اجتذاب أزمّة أدبيات البيان والتبيين المواتية المسعفة في ضبط الفرْق في تحمُّل أوجه القرآن العظيم المرويَّة بين ما تُلُقِّيَ على جهة العرض والسماع إحاطةً واستيعاباً، وبين الذي اقْتُصـر في أخذه على أعيان الحروف ومساقط الأوجه المختلف فيها عن الأئمة (موضعاً وصفة وكيفية ...)، من غير تلاوة مطَّردة أو سَرْد متتابع جامع، وعليه؛ فإنَّا أمام وضعين مختلفين من أوضاع الأخذ والتوقيف والتحمُّل: الوضع الأول: إسناد القراءة أو إسناد الأداء أو إسناد التلاوة، ويراد منه:قراءة القرآن أجمع، والوضع الآخر: إسناد الرواية أو إسناد التحديث أو إسناد النصِّ، والغاية منه: رواية نص الكتاب المتضمِّن قراءةَ إمام من الأئمة السبعة أو العشـرة أو من فوقهم على الشيخ، وهو على شيخه مسلسلاً، كذا إلى المنتهى، مثل قراءة نص التيسير أو الكافي أو الإقناع أو النشر ...، فالفرق بين الوضعين؛ كَمِنٌ في أنَّ الأول قراءة متن الكتاب المضمَّن، والآخر رواية القراءة أي تحقّق تلاوة القرآن، ولأجل ذلك؛ فإن القارئ عندما يروم سند التلاوة إلى إمام من أئمة القراءة، فإنه لا يقتصـر في الأخذ بسند قراءته على نص الكتاب ومتنه، كلا ! بل يجنح إلى سند قراءته بمضمَّن الكتاب ويَرْكَن إليه، حتى يُسْلِمه إلى سند مؤلف الكتاب ثم يُفْضـي به إلى أئمة الأمصار، قال الحافظ الداني (ت 444ه): (فكلّ قارئ أو مقرئ أهمل العرض واجتزأ بمعرفته، أو بما تعلم في المكتب من معلِّمه الذي اعتماده على المصحف أو على الصحائف دون العرض، أو تمسّك فيما يأخذ به ويعلّمه بما يظهر له فيه من جهة إعراب أو معنى أو لغة، دون المرويّ عن أئمة الأمصار؛ فمبتدع مذموم مخالف لما عليه الجماعة من المسلمين، تارك لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءَ القرآن من تلاوته بما عُلّمه وأُقرئ به ...) [شرح الخاقانية 2/37]، فالاستواء بأفنية الصيانة القرائية والتروّي في تتبع أوضاع المتلو المنزل دليل على سبيل العصمة الأدائية التي تمثَّلها الحافظ الداني وجاهر بموجَبها في مؤلفاته وأوضاعه أثناء الاختيار المقيّد والانتصار المرشّد للأنهض الأقوى من أوجه التلاوة دون غيرها مما ندر أو عزَّ ...، دفعا لمثْلبة الشذوذ أو البعد عن المستعمل المؤيَّد الجاري من الأوجه القرائية، ولأجل ذلك نجد الحافظ الداني رحمه الله شديد الحراسة من تطرُّق النازل عن رتبة الاعتبار (قوة إعراب، وثاقة نقل)، دون إغفال مزيّة الشاذ الفصيح من الأوجه والمُدْرَك النازل عن رتبة المشهور المستفيض من أحرف التلاوة، ورعْي أثره في درك المفاد وكشف محجَّة المعاد، في مثل صنَع الإمام المهدوي (ت 440 ه) رحمه الله عند تجريد الخلاف بين الناس وحسْمه في تحقيق ثاني الهمز وتخفيفه من (أئمة) في سورة التوبة إذ قال: وقد عاب سيبويه والخليلتحقيق الهمزتين وجعلا ذلك من الشذوذ الذي لايعول عليه، والقراء أحذق بنقل هذه الأشياء من النحويين، وأعلم بالآثار ولا يلتفت إلى قول من قال إن تحقيق الهمزتين في لغة العرب شاذ قليل؛ لأن لغة العرب أوسع من أن يحيط بها قائل هذا القول، وقد أجمع على تحقيق الهمزتين أكثر القراء وهم أهل الكوفة وأهل الشام وجماعة من أهل البصرة وببعضهم تقوم الحجة [شرح الهداية 376]، ومثل ذلك ما صدع به الحافظ الداني رحمه فقال: ولاأعلم خلافا بين أهل الأداء إلا من شذّ منهم في ترك همز الذّئب حيث وقع، وبه كان يأخذ ابن مجاهد وأصحابه ولم يجمعوا على ترك همزه إلا للذي ورد عن أبي عمرو من كونه عنده من المهموز لاغير، ولوكان أيضا من غيرالمهموز كالفيل والنيل وشبههما مما لا أصل له في الهمز يجري مجرى ما فيه لغتان؛ لوجب همزه للدلالة على أصله، على أن إبراهيم بن اليزيدي وأبا حمدون وأباخلاد وأباشعيب وغيرهم قد نصّوا عليه عن اليزيدي عن أبي عمرو، وبذلك كان يأخذ أحمد ابن فرح، ويرويه عن أبي عمرعن اليزيدي [الجامع 2/572]، قال الباقلاني (ت 403 ه): [الأمر في القراءات يجب أن يكون أضيق من مسائل الاجتهاد، لأن مسائل الاجتهاد لا نص من النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وما من القرآن كلمة ولا حرف إلا عليه نص] الانتصار 415، فالقراءة سنة متبعة ونقل محضٌ، ولا مجال للاجتهاد فيها بمجرد القياس، إلا أن يأتي من وراء وراء [البرهان 1/322]، ثم الاجتهاد المُعتمل بالنظر وأدبياته الشهير بالاختيار في الوسط القرائي؛فإنما هو نخْل واستصفاء من فَلَك المروي وحيّزه، مُنبنٍ على معايير من النظر معروفة متعلقة باكتمال الأهلية وتحصيل المَلاءة بثقافة الصنعة [البرهان 1/331، الإبانة لمكي ص 49]، قال اليزيدي (ت 202 ه): (كان أبو عمروقد عرف القراءات، فقرأ من كل قراءة أحسنها وبما يختار العرب، وبما بلغه من لغة النبي صلى الله عليه وسلم وجاء تصديقه في كتاب الله عز وجل) [المفردات للداني ص 113] ثم القراء عند نقلهم أوجه الأداء عن أئمتهم ومشايخهم؛ فإنهم كانوا يفرّقون بين ما رواه الناقل وبين ما خرَّجه بفقهه ورآه، مع اشتهاره بالثقة والأمانة والضبط والعدالة والصيانة وتوابعها، وهو ما يَنْمي وجه إضافة كل حرف إلى أحد قراء الأمصار، في مثل قول الداني (ت 444 ه): (إن معنى إضافة كل حرف مما أنزل الله تعالى إلى من أضيف من الصحابة كأُبيّ وعبد الله وزيد وغيرهم؛ من قبَل أنه كان أضبط له، وأكثر قراءة وإقراء به وملازمة له وميلا إليه، لا غير ذلك، وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة بالأمصار؛ المراد بها أن ذلك القارئ، وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة وآثره على غيره وداوم عليه، ولزمه حتى اشتهر وعرف به وقصد فيه وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد) جامع البيان 1/129، والحديث عن الحافظ مليٌّ ذو أغراض وشؤون والخوض في غماره نديٌّ ذو استتباع وشجون، وفي قابل القيل نُدلي منه ببعض الصور الفنية والطرائق النقدية التي تترجم معالم العبقرية العلمية لفنون الدراية عند الحافظ أبي عمرو الداني (ت 444 ه)، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.