مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أسْرارُ البَيَان في الْقُرْآن (10) البَيَانُ في الفَرق بَينَ(دَابَّة مِنَ الأَرْض) و(دَابَّة الأَرْض)

            و ذلكَ قولُهُ تعالَى في سُورَة (النَّمْل ) : ﴿وَإِذا وَقَعَ عَلَيْهِمُ القَوْلُ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُم﴾، وقولُهُ تَعالى في سُورةِ (سَبَأ) : ﴿مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾. فَقَدْ وَرَدَ فِي الْآيَتَيْنِ كِلتَيهِما، كَلمَة (دَابَّة):

      أمَّا في الأولَى فَبقَوْلِهِ ( دَابَّةً مِنَ الأرْضِ)؛ وهيَ الدَّابَّةُ الّتي تَخرُجُ في آخِر الزَّمَان آيَةً لِلنَّاسِ وعَلامةً عَلى السَّاعَة. وهيَ تَخرُجُ منَ الأَرْض ، أيْ منْ هذِهِ الّتي نَعيشُ عَلَيْـها . وكلمَةُ(الأَرْض)هذهِ، لهَا مَعنىً عامٌّ، يُقصَد بهِ هذَا الكوْكَبُ الَّذي أَعدَّهُ اللهُ مُستَقَرّاً ومَتاعاً للنَّاس، واسْتَخلفَ فيهِ (آدَمَ) عليه السلامُ، بقَولهِ تعَالى: ﴿إنِّي جَاعِلٌ في الْأَرْضِ خَليفَةً﴾.والمعْنَى الثَّاني، مَعنىً خَاصٌّ، ويُقصَدُ بهِ الجُزءُ منْ هذهِ الأَرضِ، أوِ القِطْعَةُ منهَا؛ كالجُزءِ الّذي يُنْبِتُ منَ الأَرضِ، حيثُ التُّربةُ والخِصْبُ،  منْ مثلِ ما تَجدُ في قولهِ تَعَالى: ﴿وتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيهَا الْـمَاءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ وأنبَتَتْ﴾.وهيَ في كِلَا المعْنَيينِ (اسْمُ جِنْسٍ)،دَالٌّ علَى(ذَاتٍ).

          وأَمّا في الثَّانيةِ، فَبِقوْلِهِ (دابَّةُ الْأَرْضِ)، والمعْنَى هُنَا،قَدْ يُقصَدُ بهِ أحدُ المعْنَييْن السَّابقَينِ.لكِنّكَ،بشَيْءٍ منَ التّدبُّر، يَسبِقُ إلى ذِهنِكَ معنىً خَفيٌّ مُختلِفٌ،جَديرٌ بأنْ يَستَوقِفَكَ، ويَسْتَلفِتَ منْكَ الفِكْرَ والنَّظَر.فإذَا الدَّلالةُ تَنفَسحُ والـمَعنَى يَتّــسعُ.فَدَابَّة الأَرْض في الآيَةِ ، هيَ تلكَ الحَشرَةُ الصَّغيرَة الَّتي تَأكُلُ الخَشَب، وتُسَمَّى الأَرَضَة. وهيَ الَّتي أَكلَتْ عَصا النَّبيّ سُلَيْمَان،عليهِ السّلامُ، فَخَرَّ ، فَعَلمَ الناسُ أَنَّهُ كَانَ مَيّتاً . فَأدْركتَ بذَلكَ التدبُّر ،أنَّ كَلمَةَ (الأَرْضِ) هُنَا، تَحتَمِلُ أنْ  لَيسَتْ عَلى المعْنَى الظَّاهِر منهَا، وإِنَّما هيَ مَصدَرٌ  للفعْلِ (أَرَضَ يَأرُضُ:أَرْضًا) فَهُوَ (آرِضٌ)،كمَا تَقولُ (أَكلَ يَأكُلُ:أكْلاً) فَهوَ (آكِلٌ).

        ويُسْتعمُل الفعْلُ في الغَالبِ مَبْنِياً للمَجهُول. جاءَ في (لسَانِ العَرَب) : « أُرِضَت الخَشبَةُ أَرْضاً ، فهيَ مَأْرُوضَةٌ ، إذَا وَقَعَتْ فيهَا الأَرَضَةُ وَأَكَلتْهَا». وقالَ(الزَّمخشَريّ) في (الكَشّاف): «و(دَابَّةُ الأَرْض): الْأَرَضَةُ،وهيَ الدُّوَيْبةُ الَّتي يُقالُ لهَا السُّرْفَةُ، والأَرْضُ فِعْلُهَا، فَأُضيفَتْ إلَيْهِ.يُقالُ: أُرِضَت الخَشَبَة أَرْضاً. إذَا أَكلَتْهَا الأَرَضَةوقالَ (ابنُ عاشُور) في(التَّحرير والتَّنْوير)في بَيانٍ شَافٍ: «و(دَابَّةُ الأَرْضِ هيَ الأَرَضَةُ(بِفَتَحَاتٍ ثَلاثٍ)،وهيَ السُّرْفَةُ (بِضَمّ السّينِ وسُكُونِ الرّاءِ وفَتحِ الفَاء لا مَحالَةَ، وهاءِ تَأنيثٍ): سُوسٌ يَنْخُرُ الخَشَب». وأفَادَ في ذلكَ (السَّمينُ الحَلَبيّ) في (الدُّرّ المصُون)،بتَفصيلٍ أكبر، فقالَ:« الثّاني: أَنّ الأَرْضَ مصدَرٌ  لقوْلِكَ: (أَرَضَتِ الدَّابّةُ الخَشَبةَ تَأْرضُها أَرْضاً)، أيْ: (أكَلَتْها). فكَأنهُ قيلَ: (دَابَّةُ الأَكْلِ). يُقال: أرَضَتِ الدابَّةُ الخشبةَ تَأْرضها أَرْضاً، فأَرِضَتْ بالكسْرِ ،تَأْرَضُ هيَ، بالفَتْحِ، أرَضاً بالفَتحِ أيْضاً. نحوُ: أكَلَتِ القَوادحُ الأسنَانَ تأكلُها أكْلاً ،فَأَكِلَت هيَ، بالكسْرِ، تَأْكَلُ أَكَلاً بالفَتْح. وبفَتحِ الرَّاءِ قرَأَ (ابْنُ عَبَّاسٍ) و(العَبّاسُ بنُ الفَضْلِ) وهيَ مُقوِّيةُ الْـمَصدَريَّة في القِرَاءَة الْـمَشهورَةِ».

        وتَذْكُرُ  هذَا الفعْلَ، فتَذكُرُ الفعْلَ (قَرَضَ يَقْرُضُ قَرْضاً ) ، وهُو لهُ نفْسُ المعنَى ؛ فالحَيوانُ (القَارضُ) يَقطَعُ مَا يَأْكُـلُه بثنَايَاهُ قِطَعاً صغيرَةً.لكنَّ فِعْلَ (القَرْض) أشدُّ مِنْ فعْلِ (الْأَرْضِ). فالفَأْرُ ( يَقْرُض) لكنَّ الأَرَضَة (تَأْرُض) . فالأوَّل أَكْبـرُ ،وفعلُهُ أشَدُّ وأقْوَى، ويُسمَعُ لهُ صوتٌ، لكنّ الثَّانيَة أَصغَرُ، وفِعْلُها أَلطفُ وأَضعَفُ، ولا يُسمعُ لَها صوتٌ لِخَفَائِهَا . وكذلكَ (القافُ) منْ (قَرَضَ)، والهَمْزَةُ منْ (أَرَضَ) . فالقافُ قَويَّةٌ شَديدَةٌ مُسَتعْلِيةٌ، والهَمزَةٌ غَائرةٌ في الحَلْق مُنْسَفِلَةٌ مُنفَتِحَة . فهيَ لذَلكَ أضعَفُ منَ القَافِ،والفعْلُ (أَرَضَ) أَضعفُ منَ الفعْل (قَرَضَ).

        وهَكَذَا تُدْرِكُ أنَّ معنَى (دَابَّة الأَرْض)علَى هَذا الوَجْهِ، يُقصَدُ بهِ الدّابَّة الّتي فِعْلُها (الأَرْضُ)، لأنَّها (تَأرُضُ) الخَشبَ، كَمَا تَقُول (دَابَّة الحرْثِ) لأنَّهَا (تَحرُثُ) ، و (دَابَّة السَّقْي) لأنَّهَا (تَسقِي) الماءَ. فكلمَةُ (الأَرْضِ) هنَا (اسمُ مَعْنى)، فهيَ تدُلُّ علَى (حَدَثٍ)،لا (اسْمَ جِنسٍ) يَدُلّ علَى (ذَاتٍ).

          فإذا تدَبّرتَ هذَا ، انْكشَفَ لكَ أنَّ كلمَة ( الأَرْضِ)، منَ الْـمُشتَــرَك اللَّفظيّ الّذي اتَّفَقَ لفظُهُ واخْتَلفَ مَعناهُ. وعلَى هذَا يَتَحصَّلُ لكَ منَ الجُمْلَة التاليةِ ،بقَوْلكَ مَثلاً :(دَابَّةُ الأَرْضِ تَعِيشُ علَى الْأَرضِ) ، يَتحصَّلُ لكَ مِنهَا أَربَعُ دَلالاتٍ مُخْتَلفاتٍ ، فَتَدَبَّرْ ذَلكَ، فإنَّهُ منْ بَدائِعِ هَذهِ اللُّغَةِ الشَّريفَةِ اللَّطيفَة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق