مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

في رحاب توحيد ابن عاشر

إعداد:

د/ عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

د/ مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل.


قال الناظم رحمه الله:

يجب لله الوجــود والـقدم        كذا البقاء والغنى المطلق عـــــم

                                 وخلفه لخلقه بلا مثـــــال        ووحدة الذات ووصف والفعـال

وقدرة إرادة علم حيـــــاة          سمع كلام بصر ذي واجبـــات

قال الشارح رحمه الله: 

(و) الخامسة (خُلْفُه) اسم مصدر؛ أي مخالفته تعالى (لخلقه) أي لمخلوقاته الحوادث، (بلا مثال) حال من هاء خلفه مؤكدة، فهي كالتفسير للمخالفة التي هي كما مر صفة سلب، أي عدم المماثلة بينه تعالى وبين الحوادث في الذات ولا في صفة من الصفات ولا في فعل من الأفعال، وإن شئت ضربا من تفصيل هذا الإجمال فاستمع لما يتلى عليك فنقول:

أما الذات؛ فأين من ليس بجسم ولا جوهر ولا مصور بشكل ولا محدود ولا معدود ولا متبعض ولا متركب ولا مجانس ولا مكيف، ولا يتمكن في مكان، ولا يحتوي عليه زمان مما هو جسم أو جوهر ومصور ومحدود ومعدود؛ أي له نظير موجود، أو ممكن الوجود كالشمس والقمر، ومتبعض ومتركب ومجانس أي مشارك في جنس أو فصل، ومكيف بلون أو غيره، ومتمكن في مكان و[محتو] عليه زمان.

وأما الصفات؛ فأين الوجود الواجب الذي لا أول له ولا آخر، الظاهر بكل شيء وفي كل شيء ولكل شيء، الذي هو أظهر من كل شيء، وهو في القلوب أنس وعز وغنى ونور، من وجود جائز يصح في كل لحظة أن يخلفه العدم حتى احتاج إلى التدعيم بالقدرة الباهرة، واكتنفه عَدَمَان، ولم يظهر بشيء ولا في شيء ولا لكل شيء، وهو في القلوب وحشة وذل وفقر وظلمة، وأين القدم من غير تحديد بزمان من الحدوث أو القدم بمعنى طول المدة كقوله تعالى: (إنك لفي ضلالك القديم) [ يوسف، الآية: 95]، وقوله تعالى: (كالعرجون القديم) [ يس، الآية: 39.]، وأين البقاء الواجب من الفناء، أو بقاء جائز حاصل بإبقائه تعالى كالسبع المستثنيات، وأين الغنى المطلق الدائم من الاحتياج في كل نَفَس، أو غنى عارض بإغنائه تعالى، وما أحسن قول صاحب الحكم: “إلهي أنا الفقير في غنائي فكيف لا أكون فقيرا في فقري”، وأين القدرة القديمة الباهرة المؤثرة الشاملة للممكنات الغير المتناهية، والقوة الكاملة من العجز والقدرة الحادثة التي لا تأثير لها أصلا، والقوة المكتنفة بضعفين والمشوبة بالضعف حال تحققها؛ (الله الذي خلقكم من ضعف) الآية[الروم، الآية: 54]، وأين الإرادة النافذة القاهرة الشاملة من إرادة ترجع ناكصة غالبا، أو تكون منفذة لا نافذة، )وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) [ القصص، الآية: 68]:

فما شئتَ كان وإن لم أشا     وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن

بل لا تحصل ولا توجد إلا بالإرادة القديمة: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله)[ الإنسان، الآية: 30]، وأين العلم الذاتي المحيط الذي لا خفاء معه بوجه من الوجوه من علم عارض مكتسب تصحبه جهالات:

وقل لمن يدعي في العلم منزلة        علمت شيئا وغابت عنك أشياء

وما أحسن قول الحكم: “إلهي أنا الجهول في علمي فكيف لا أكون جهولا في جهلي”، وانظر لقول الخضر لموسى عليهما السلام: “ما علمي وعلمك وعلم سائر الخلق في علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر”. وأين السمع الذي ليس بأصمخة وآذان، ويتعلق بكل موجود ذوات وصفات، قديم وحادث، مما تحت الثرى والماء والريح والهوى إلى ما فوق سدرة المنتهى والكرسي والعرش، مِنْ سَمْع بآلة لا يتعلق إلا بالأصوات بشرط القرب والجهر أو أعلى السر، وأين البصر الذي ليس بآلة من حدقة وأجفان، ويتعلق بكل موجود بلا شرط حتى النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، من بصر بآلة لا يتعلق إلا بالأجرام وألوانها وأكوانها بشروط كعدم الحائل والبعد. وأين الحياة الذاتية التي تنزهت أن يعرض لها شبه الموت من السِّنَة والنوم، من حياة معارة يطرأ عليها الموت وشبهه :(الله يتوفى الأنفس حين موتها) الآية[الزمر، الآية: 42]. وأين الكلام الأزلي المتعلق أزلا وأبدا بجميع الواجبات والجائزات والمستحيلات الذي لا نفاذ له: (قل لو كان البحر مدادا) الآية[الكهف، الآية: 109]، (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) الآية[لقمان، الآية: 27]، الذي ليس بحرف ولا صوت، من كلامٍ مؤلف له بداية ونهاية لا يجتمع منه في آن واحد كلمتان بل ولا حرفان، فالخرس لازم له كما سيتبين في محله إن شاء الله، وإنما لم أذكر في هذا التفصيل المخالفة للحوادث لأن هذا  تفصيل لها، ولا الوحدانية، لأنها في التعقل نتيجة المخالفة التي هذا تفصيلها.

وأما الأفعال؛ فأين الاختراع والخلق والإيجاد عن عدم محض بمحض الاختيار لِحِكَمٍ بالغة من أفعال مكتسبة لا مخترعة، أي مقارنة للقدرة الحادثة، فلا تأثير لها فيها أصلا، مجبور عليها في الحقيقة وإن كانت في قالب الاختيار.

 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227 هـ على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين، ص: 51-52-53. 

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين) 

مطبعة التوفيق الأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق