مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامأعلام

عائشة أم المؤمنين رائدة التحرير النسائي

عائشة حِبّ النبي صلى الله عليه وسلم وسيدة بيت النبوة نموذج الريادة الأول في تاريخ المسلمين، هي حافظة السنن وفقيهة الفقهاء في زمن الانبعاث الإسلامي، وهي الفارسة الأديبة وصاحبة الدلال المفتية.
هي الشاعرة والمجادلة، حاملة السيف والقلم، وهي صاحبة النبي التي خرجت على الناس باسمها ناصحة موجّهة ومعلمة مرشدة وضاربة على أيدي المخالفين، ذودا عن الشريعة وتثبيتا لكلمة الله، هي السيدة الأبية التي أبت إلا أن تكون لها كلمتها في قومها ومنزلتها السامية التي تستحقها بين الناس، أم المؤمنين هي … مجاهدة ندبت نفسها لقضايا المسلمين وهموم النساء، وكرّست حياتها تبوئهن مقاعد للكرامة، وتؤسس لهن منطقا جديدا للحياة، يساير منطق التحرير الإسلامي الذي ارتضته الرسالة للإنسان.
عائشة في مخيال المسلمين شخصية قوية جريئة متحررة، عالمة فقيهة وأنثى متزنة، وهي في كل هذا التركيب نموذج للمرأة التي تتوق لاسترجاع حق مهضوم أو موقع ضائع أو حرية محجور عليها، هي المثال لكل امرأة تتوق اليوم أن تكون فاعلة.
عائشة كما هي اليوم في المخيال ليست إلا الطِلَّ من غيث لا زال التراث رطبا من سقيه، والنسمة من عبقِ أثرِها المزهر في النفوس والعقول.
عائشة أول مثال لريادة المرأة في التاريخ الإسلامي، ريادة عمّت كل المناحي والمجالات، وشملت كل العصور والأزمنة، ولا زالت إلى اليوم مصدر إلهام لكل امرأة أرادت أن تكون متحررة بثقافتها فاعلة بانية بإسلامها، وأن تكون شجرة وارفة مورقة بجذور ضاربة في تراب بيئتها.
عائشة الرائدة، لوحة نقرأ اليوم رموزها في هذه الورقة مسترشدين بقوله صلى الله عليه وسلم “كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام”[1].


عائشة –رضي الله عنها- لم تكن امرأة برزت بفضل “كوطا” انتقتها بين النساء وفرضتها لتكون “وجها” نسائيا يؤثث المجتمع الجديد الذي أخذ في التحول من الطابع الذكوري الجاهلي إلى الفضاء الإنساني الإسلامي.
عائشة كانت إنسانا مسئولا وامرأة وعت دورها في الحياة ونظرت إلى موقعها الذي ارتضاه لها الخالق فأنساها ما يراه الناس بعيون الازدراء الجاهلي، روي عنها -رضي الله عنها وأرضاها- قولها: “خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس قالت فسمعت وئيد الأرض ورائي -يعني حس الأرض- قالت: فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنه، قالت: فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، قالت: فمرّ وهو يرتجز ويقول:
ليت قليلا يدرك الهيجا جمل                ما أحسن الموت إذا حان الأجل
قالت: فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين وإذا فيهم عمر بن الخطاب وفيهم رجل عليه سبغة له -يعني مغفرا- فقال عمر: ما جاء بك، لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز، قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت لي ساعتئذ فدخلت فيها”[2].
هذا الموقف لم تكن ترى فيه إلا واجبا يعنيها بحكم عقيدة عقدَت عليها القلب والعقل واللسان، وما كان تأنيب عمر في رأيها إلا خيفة على المسلمين ونظرة إشفاق على امرأة في موطن بأس لا تقوى على غماره ولُججه، وما كان هذا المَلام إلا رأيا استحيت من عمر على ردّه واكتفت بدل ذلك بإنصاف صاحب الصبغة الذي كان بين النفر، قالت عائشة: “فرفع الرجل السبغة عن وجهه فإذا طلحة بن عبيد الله فقال يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم وأين التحوّز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل”[3].
عائشة لم تكن سيدة في قومها تشير عليهم، وهي الحكيمة، ثم تفترش ريش النعام لتتفرج على الخدّام والمرؤوسين كما هو دأب الأسياد، عائشة كانت من الناس، ويوم خرجت إلى موقعة الجمل خرجت بوعيها وبما أملاه عليها الضمير، وهي تعرف أنها على حق فيما وطنت فيه نفسها وما استقل به رأيها، وحتى يوم آخذها الأحنف بن قيس كان لها موقف أسرّته، فقد روي عن البيهقي أن الأحنف عاتبها بقوله: يا أم المؤمنين، هل عهِد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المسير؟ قالت: اللهم لا، قال: فهل وجدته في شيء من كتاب الله جل ذكره، قالت ما نقرأ إلا ما تقرؤون، فقال: فهل رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم استعان بشيء من نسائه إذا كان في قلة والمشركين في كثرة؟ قالت: اللهم لا، فقال الأحنف: فإذا ما هو ذنبنا؟”[4] وروي أن أبا الأسود الدؤلي قال لها: ما أنت من السوط والسيف إنما أنت حبيس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك الله أن تقرّي في بيتك وتتلي كتاب ربك، وليس على النساء قتال ولا لهن الطلب بالدماء، وإن أمير المؤمنين على بن أبي طالب لأولى بعثمان منك وأحسن رحما فإنهما أبناء عبد مناف، قالت: لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت إليه”[5].
هذا الموقف لم تكن ترى فيه أم المؤمنين إلا ثباتا يستدعيه المقام مثلما يستدعي أن تكون أكثر جنوحا إلى فعل التصويب وأبعد عن الجدل واللّجاج، فعائشة لم تكن يوما حبيسة ولم تكن متقاعسة والنبي حي بين أشياعه من المؤمنين، فعن أنس رضي الله عنه قال: “لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب، وقال غيره تنقلان القرب، على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم”[6].
عائشة –رضي الله عنها- بهذه المواقف قدّمت خدمة للنساء من بعدها ليكن طلائعيات شاهدات على الأمة، صاحبات ذكر وأثر، وأرقام صحيحة في معادلات التغيير الواعي العاقل والمسئول. لقد كانت أم المؤمنين قبل أن تشتهر بمواقفها “الجريئة” جريئة في قول الحق، وقبل ذلك كانت جريئة في اكتساب العلم الشرعي والمعرفة من المعلّم المربي صلى الله عليه وسلم، وعلى منهج فريد في التعلّم، فكانت تناقش النبي لتتعلّم، ولا تسمع شيئا لا تعرفه إلا وتراجعه فيه لتعرفه. وعُلم عنها أنها انفردت “فيما أُثر عن الفقهاء السبعة الكبار بتقرير ربع الأحكام الشرعية في الإسلام، فكانت بذلك أفقه الجميع، وأعلمهم وأحسنهم رأيا عند جمهور الناس”[7]. عن أبي موسى الأشعري قال: ما أشكل علينا –أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم- حديث قط فسألنا عائشة عنه إلا وجدنا عندها منه علما[8]، وعن الزهري قال: لو جمع علم الناس كلهم، ثم علم أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم لكانت عائشة أوسعهم علما”[9].
لقد شغلت الحميراء جموع الفقهاء والمفسرين والعلماء بشخصيتها القوية وآرائها الفقهية والعلمية فنقلوا أقوالها واستدراكاتها واجتهاداتها ومواقفها وآراءها، وكان في تراثها ذكر عند المفسرين بشروحها، وعند المؤرخين بمواقفها، وعند الفقهاء بمذهبها الذي سمي بفقه عائشة. ولقد تلقّى علمها عدد غفير من التلاميذ والأتباع والمتلقين، فكانت مدرستها الفكرية أكبر مدرسة. ولولا ريادة عائشة في هذا المجال لما حفظت لنا سيرة نبي الإسلام، وهي مرجع قوي للفقهاء في فهم الشريعة سنة وتنزيلا.
لقد أحاطت أم المؤمنين بروح التنزيل وتوجّهات النبي الكريم وأدركت كنه الإسلام ومقاصده فكانت في اجتهاداتها ترد ما خالف ذلك، وتصحّح ما انحرف عن مساره، ولقد علم عنها -رضي الله عنها- هذا المنهج في نقد النقول واستنفار العقول عند كل قول لا ترى فيه ما يعكس روح التنزيل، وبهذا المنهج ساهمت في ترسيخ ثقافة التحرير الذي جاء به الإسلام لصالح النساء، وفضلت عن غيرها من نساء النبي وأصحابه، بل كانت رافعة لذكرهن بعد أن كن بلا ذكر ولا قيمة في الجاهلية.
كانت عائشة تحارب كل قول يحيي ثقافة الإقصاء البائدة في حق المرأة ولا ينسجم مع نسقيّة التشريع، وفي ذلك أثر عنها أنها غضبت غضبا شديدا لمّا أُخبرت أن أبا هريرة يحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: “الطيرة من الدار والمرأة والفرس” فأجابت قائلة: “والذي أنزل الفرقان على محمد ما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إنما قال كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك[10].
و”عن علقمة قال: كنا عند عائشة فدخل أبو هريرة فقالت: أنت الذي تحدث أن امرأة عذبت في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تسقها؟ فقال: سمعته منه -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- قال عبد الله: كذا قال أبي، فقالت: هل تدري ما كانت المرأة؟ إن المرأة مع ما فعلت كانت كافرة، وإن المؤمن أكرم على الله عز وجل من أن يعذبه في هرة، فإذا حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر كيف تحدث”[11].
بهذا الوعي والتبصر كانت عائشة –رضي الله عنها- تراجع وتنتقد وتستدرك على كبار الصحابة، وكان لها منهج فريد في ذلك يقوم على الاستدلال والاستنباط والقياس، أسوَتها في ذلك الرسول الكريم الذي اكتسبت من رفقتها له منهجا سديدا في الفتيا والنظر في الأمور والقضايا، إضافة إلى أنها كانت تمتلك مشروعها القيمي والحضاري الخاص الذي يستحق اليوم أن يُنبش لتقديم الدرس والعبر لعموم الناس وللنساء، فهن اليوم أحوج إلى ذكراها.
يحق لكل امرأة اليوم أن تسأل نفسها لأي شيء خلقت؟ سؤال وجيه من شأنه أن يعيد ترتيب الوضع وِفق الناموس الرباني الذي لا يحابي أحدا على أحد، والقانون الإلهي الذي يحاسب الناس بميزان واحد ورد ذكره في القرآن الكريم ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (النحل 97).
لم تكن عائشة حكرا على متعة فانية، وإن نالت حظا منها … ولم تكن –رضي الله عنها- تبعا ولا إمّعة … وإن كانت زوجة نموذجية … ولم تكن وعاءَ جهل، وإن كانت أولى –زمنا- بذاك …
كل الأسباب كانت مهيأة لعائشة لأن تختار الخنوع والتقاعس ومتع الدنيا، وقد خيّرت من فوق سبع سماوات في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب 28-29).
النساء اليوم ملزمات أن يراجعن اختياراتهن على ضوء سيرة عائشة، وأن يضربن صفحا عن كل دقيقة يضيعنها بين يدي مسلسل تافه أو حديث أتفه.
سيرة عائشة تخاطب كل امرأة اليوم في شخصها وذاتها، وتقول لها: كوني فاعلة في زمنك وفي خدمة قومك، فأنت الأمل وأنت صاحبة الإرث، وأنت حاملة المشعل، كوني حرة أبية وفق ميزان الإسلام في التحرير، وكوني على قدر المسئولية إن لم تكوني عائشة.
نشر بتاريخ 23 يناير 2012
________________________________________
[1]  صحيح البخاري – كتاب أحاديث الأنبياء – باب قول الله تعالى وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون، حديث رقم 3230.
[2]  مسند أحمد – باقي مسند الأنصار، حديث رقم 24573.
[3]  مسند أحمد – باقي مسند الأنصار، حديث رقم 24573.
[4]  المحاسن والمساوء، البيهقي 1/35.
[5]  العقد الفريد، ابن عبد البر 2/278 وانظر الإمامة والسياسة، ابن قتيبة 1/60.
[6]  صحيح البخاري – كتاب الجهاد والسير – باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال، حديث رقم 2724.
[7]  موسوعة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، عبد المنعم الحفني،  ص 19.
[8]  ابن الجوزي.
[9]  الحاكم، الذهبي، الطبراني انظر موسوعة عائشة ص 72.
[10]  مسند أحمد – باقي مسند الأنصار حديث رقم 25503.
[11]  مسند أحمد – باقي مسند المكثرين – حديث رقم 10349.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أم المؤمنين عائشة تستحق منا كل احترام واهتمام، غير أن نعتها بالمتحررة فيه شيء من التعسف إذ المصطلح بمفهومه اليوم لا يليق في حقها رضي الله عنها وأرضاها، فلنتجنب مثل هذه المصطلحات مع خالص المودة والتقدير

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق