مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات وأبحاث

شواهد من مقامات الحريري في كتب البلاغة (الحلقة الثالثة)

 

ستة عشر: السرقات: طرق الحريري في مقاماته بابا جليلا هو باب السرقات الشعرية والنثرية،  وأومأ في ثنايا مقامته إلى ذمه لهذا النوع من الفعل فقال في المقامة الشعرية (ص:224):” واستِراقُ الشّعرِ عندَ الشّعراء، أفظَعُ منْ سرِقَةِ البَيْضاء والصّفْراء، وغَيرَتُهُمْ على بَناتِ الأفكارِ، كغيرَتِهِمْ على البَناتِ الأبكارِ”، وممن استشهد به العباسي في «معاهد التنصيص»(1) وجعله شاهدا على أن سرقة الشعر مذمومة.
سبعة عشر: الاستعارة: هي الضرب الثاني من المجاز، وهي ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له، وموقعها في الأذواق السليمة أبلغ وليس في أنواع البديع أعجب منها إذا وقعت في مواقعها (2)،وشاهدها من مقامات الحريري قوله في المقامة الفرضية (ص:155):” إلى أنْ عطَسَ أنْفُ الصّباحِ”، وقد جاء الحموي بالشاهد في باب ذكر الاستعارة حيث قال بعد استعراض قوله تعالى في سورة التكوير(الآية:18):  (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ):” ومن هذا النور استضاء الحريري في مقاماته بقوله إلى أن عطس أنف الصباح”(3) والملاحظ أن هذا الشاهد انفرد به الحموي دون غيره من البلغاء الذين أكثروا من شواهد الحريري في باب البديع خاصة.
ثمانية عشر: السجع: وهو تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد، وهو على ثلاثة أضرب: مطرف، ومتواز، وترصيع(4)، وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الواسطية(ص:293):” ألْجأني حُكمُ دهْرٍ قاسِطٍ، إلى أنْ أنتَجِعَ أرضَ واسِطِ”، وقوله في المقامة الدينارية (ص:30) :” وأَوْدَى الناطق والصامت. ورثى لنا الحاسد والشامت”.
ذكر هذين الشاهدين الحموي في خزانته في باب ذكر السجع(5) وقد جعلهما من السجع المتوازي الذي تتفق فيه اللفظة الأخيرة من القرينة مع نظيرتها في الوزن والروي. والناظر في مقامات الحريري يجد أن هذا الأخير أحكم نسج مقاماته في أسلوب مسجع ينم عن براعة وقدرة  كبيرتين في صياغة هذا السجع في جمل طويلة، لأنه كما أسلفنا الذكر كان السجع سمة عصره دون منازع، لذلك كانت عنايته تنصب على اللفظ وليس على المعنى؛ إذ المعنى لا يراد لذاته وإنما يراد لعرض أسلوبه المسجع؛ 

ستة عشر:

السرقات: طرق الحريري في مقاماته بابا جليلا هو باب السرقات الشعرية والنثرية،  وأومأ في ثنايا مقامته إلى ذمه لهذا النوع من الفعل فقال في المقامة الشعرية (ص:224):” واستِراقُ الشّعرِ عندَ الشّعراء، أفظَعُ منْ سرِقَةِ البَيْضاء والصّفْراء، وغَيرَتُهُمْ على بَناتِ الأفكارِ، كغيرَتِهِمْ على البَناتِ الأبكارِ“، وممن استشهد به العباسي في «معاهد التنصيص»(1) وجعله شاهدا على أن سرقة الشعر مذمومة.

سبعة عشر:

الاستعارة: هي الضرب الثاني من المجاز، وهي ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له، وموقعها في الأذواق السليمة أبلغ وليس في أنواع البديع أعجب منها إذا وقعت في مواقعها (2)،وشاهدها من مقامات الحريري قوله في المقامة الفرضية (ص:155):” إلى أنْ عطَسَ أنْفُ الصّباحِ“، وقد جاء الحموي بالشاهد في باب ذكر الاستعارة حيث قال بعد استعراض قوله تعالى في سورة التكوير(الآية:18):  (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ):” ومن هذا النور استضاء الحريري في مقاماته بقوله إلى أن عطس أنف الصباح”(3) والملاحظ أن هذا الشاهد انفرد به الحموي دون غيره من البلغاء الذين أكثروا من شواهد الحريري في باب البديع خاصة.

ثمانية عشر:

السجع: وهو تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد، وهو على ثلاثة أضرب: مطرف، ومتواز، وترصيع(4)، وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الواسطية(ص:293):” ألْجأني حُكمُ دهْرٍ قاسِطٍ، إلى أنْ أنتَجِعَ أرضَ واسِطِ“، وقوله في المقامة الدينارية (ص:30) :” وأَوْدَى الناطق والصامت. ورثى لنا الحاسد والشامت“.

ذكر هذين الشاهدين الحموي في خزانته في باب ذكر السجع(5) وقد جعلهما من السجع المتوازي الذي تتفق فيه اللفظة الأخيرة من القرينة مع نظيرتها في الوزن والروي. والناظر في مقامات الحريري يجد أن هذا الأخير أحكم نسج مقاماته في أسلوب مسجع ينم عن براعة وقدرة  كبيرتين في صياغة هذا السجع في جمل طويلة، لأنه كما أسلفنا الذكر كان السجع سمة عصره دون منازع، لذلك كانت عنايته تنصب على اللفظ وليس على المعنى؛ إذ المعنى لا يراد لذاته وإنما يراد لعرض أسلوبه المسجع، وكما قال شوقي ضيف:” وجدوا في أسلوبه حيوية نافذة ومرد هذه الحيوية إلى هذا الثوب المتوهج من السجع، الذي لا نجد فيه نقصا، فقد فصله وقطعه ووشاه ذوق رفيع”(6). 

تسعة عشر:

لزوم ما لا يلزم: وهو أن يجيء قبل حرف الروي وما في معناه من الفاصلة ما ليس بلازم في مذهب السجع، وقد يكون ذلك في غير الفاصلتين أيضا(7)، وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الساسانية(ص:542): “وما اشْتارَ العسَلَ. منِ اخْتارَ الكسلَ“، وقد انفرد القزويني في إيضاحه(8) بهذا الشاهد من بين كتب البلاغة القديمة، ورأى أن أصل الحسن في ذلك كله أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني دون العكس، وقد لجأ الحريري إلى هذا الضرب من المحسنات لكي يخضع الألفاظ ويطوعها لتتلاءم مع نظيرتها في السياق على نحو ما تلتئم الأنغام الصادرة عن آلات موسيقية مختلفة- كما يقول شوقي ضيف-(9).

عشرون:

حسن الختام: وهو الانتهاء وآخر ما يعيه السمع ويرتسم في النفس وربما حفظ من دون سائر الكلام في غالب الأحوال، فلا يحسن السكوت على غيره(10)، وشاهده من مقامات الحريري ما ذكره ابن حجة الحموي في خزانته من أن خواتم المقامات كلها تقوم مقام المثل السائر، إلا أنه اختار المقامة الثالثة عشرة وهي “الزورائية “(ص:128) هكذا في الخزانة، والذي في المقامات “البغدادية”، حيث قال:” فإذا نظر المتأمل إلى براعة استهلالها، وفهم القصد الذي جنح إليه الحريري، عرف مقدار حسن الختام الذي تمت به الفائدة؛ وحسن السكوت عليه”(11)؛ وذلك أمر صريح من أن الحريري أحسن اختيار  خواتم مقاماته كلها اختيارا ربما ينسي محاسن ما قبله ، وإن كان القزويني في إيضاحه وتلخيصه اقتصر على ذكر شواهده في هذا الباب من الشعر مع تنبيهه على حسن ختام السور القرآنية التي اشتملت على أحسن وجوه البلاغة وأكملها، ولم ينبه على حسن ختام مقامات الحريري وبلاغتها أيضا. 

استنتاج وتعليق:

بعد كل ما سبق ندرك القيمة العلمية والأدبية للمقامات بصفة عامة، كما نلمح الروعة الفنية والموضوعية لمقامات الحريري بصفة خاصة، فالمتأمل في هذه الشواهد يهتدي إلى مسألة أساسية مفادها أن مقامات الحريري نالت اهتماما وعناية بالغين من أبرز كتب البلاغة العربية التي جاءت بعده؛ إذ بلغت مواقع الاستشهاد بها في كتب البلاغة – حسب استقرائي – عشرين موقعا: أربعة عشر منها وقعت في باب البديع وهي:( العكس والتبديل، التلميح، الطباق، الجناس، التصدير، الترصيع، التضمين، التشريع، الاقتباس، الحذف، القلب، السجع، لزوم ما لا يلزم، حسن الختام) ، وثلاثة في باب البيان وهي: (الحقيقة والمجاز، التشبيه، الاستعارة)، وموقعا في المعاني وهو:( في الإيجاز بالقصر)، وآخر في السرقات الشعرية، وآخر في فصاحة الكلام.

إن شدة اهتمام البلاغيين بمقامات الحريري تدل على أنها تعد مصدرا مهما من مصادر الاستشهاد البلاغي، نظرا لما تتميز به من  بلاغة عالية ومتميزة سواء من حيث أسلوب كتابتها المسجع، أو لغتها المسبوكة المتينة، خاصة كتابي «الإيضاح» للقزويني إلى جانب «خزانة الأدب» لابن حجة الحموي، فهذا الأخير أكثر من الاستشهاد بدرر مقامات الحريري، وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الحموي استطاع أن يخرج شواهد الحريري من الحيز الضيق الذي اقتصرت عليه كتبُ البلاغة الأخرى وهو باب البديع وما يتبعه من محسنات؛ فقد أدرج الحموي بعض شواهده في باب البيان ممثلا في الاستعارة والتشبيه. إلى جانب الشواهد التي تدوولت في معظم كتب البلاغة والتي التزم علماء الفن بالتمثيل لها من قول الحريري، حتى أصبحت كأنها إرث بلاغي يتناقله البلاغيون قديمهم ومحدثهم ؛ نظرا لانفراد الحريري بهذا القول كالتشريع مثلا، فإننا لا نكاد نجد كتابا بلاغيا لم يشر إلى شاهد الحريري في هذا الباب، مع اختلاف البلغاء في إيراده؛ فهناك من وقف عند الاختصار والابتسار كالقزويني، وهناك من شرح وحلل وبين وجه الشاهد بتفصيل وإسهاب كبيرين، وخير مثال على ذلك سلسلة شروح التلخيص، والحال كذلك في الشواهد كلها. 

 ـــــــ

الهوامش:

1- معاهد التنصيص ص:360.

2- الإيضاح ص:240، خزانة الأدب وغاية الأرب1/109.

3- خزانة الأدب وغاية الأرب1/110.

4- الإيضاح ص:331.

5- خزانة الأدب وغاية الأرب2/411.

6- المقامة شوقي ضيف ص:66.

7-الإيضاح ص:335-336.

8- المصدر نفسه ص:336.

9- المقامة شوقي ضيف، ص:66.

10- الإيضاح ص:365، خزانة الأدب وغاية الأرب2/493.

11- خزانة الأدب وغاية الأرب2/494.

ـــــــــ

المصادر والمراجع:

* الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم( إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي)، تحقيق عبد الحميد هنداوي، ط:1،1422هـ/2001م، دار الكتب العلمية، بيروت. 

* الإيضاح في علوم البلاغة (الخطيب القزويني)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، ط:2 ، 1422هـ/ 2002م، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة.

* بغية الإيضاح في شرح تلخيص المفتاح( عبد المتعال الصعيدي)،ط:1، 1430هـ/2009م، مكتبة الآداب.

* التلخيص في علوم البلاغة(الخطيب القزويني)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، ط:2، 2009م، دار الكتب العلمية، بيروت.

* التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات(أبي المطرف أحمد ابن عميرة المخزومي)، تقديم وتحقيق: محمد بن شريفة، ط:1، 1412هـ/1991م.

* خزانة الأدب وغاية الأرب(تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري)، تحقيق : عصام شعيتو، ط:1، 1987، دار ومكتبة الهلال – بيروت.

* خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب(عبد القادر بن عمر البغدادي)،تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، ط:4،1418هـ/1997م، مكتبة الخانجي بالقاهرة.

* دراسات أدبية وإسلامية( الدكتور محمد الحافظ الروسي)، ط:1، 1436هـ/2011م، دار الأمان، الرباط.

* شرح عقود الجمان (جلال الدين السيوطي)، تحقيق: د. إبراهيم محمد الحمداني، د. أمين لقمان الحبار، ط:1، 2011م، دار الكتب العلمية، بيروت.

* شرح عقود الجمان( المرشدي)، 1348، مطبعة مصطفى الباني الحلبي وأولاده بمصر.

* شرح مقامات الحريري (الشريشي)، وضع حواشيه: إبراهيم شمس الدين، ط:2 ،2006م، دار الكتب العلمية، بيروت.

* الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز(يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه)،تحقيق: الشربيني شريدة، 1431هـ/2010م، دار الحديث، القاهرة.

* عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح (بهاء الدين السبكي)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي،  ط:1، 1423 هـ / 2003 م، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت – لبنان.

* المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر(ابن الأثير)، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد،1420هـ،  المكتبة العصرية للطباعة والنشر – بيروت.

* المصباح في المعاني والبيان والبديع(بدر الدين بن مالك الدمشقي الشهير بابن الناظم)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، ط:1، 1422هـ،2001م، دار الكتب العلمية، بيروت.

* المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم( التفتازاني)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، ط:3،1434هـ/2013م، دار الكتب العلمية، بيروت.

* معاهد التنصيص على شواهد التلخيص( العباسي).

* مفتاح تلخيص المفتاح (الخلخالي)، تحقيق: د. هاشم محمد هاشم محمود، ط.1،2011م، المكتبة الأزهرية للتراث. 

* المقامات (القاسم بن علي الحريري)، علق عليه وضبطه الأستاذ أحمد عبد السلام الطيبي، ط:7،2011 م، دار الكتب العلمية، بيروت.

* المقامة (شوقي ضيف)، الطبعة الثالثة، دار المعارف بمصر.

* معجم الأدباء (ياقوت الحموي الرومي)، تحقيق: د. إحسان عباس، ط.1، 1993م، دار الغرب الإسلامي، تونس.

* وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان( ابن خلكان)، تحقيق: د. إحسان عباس، ط. 5، 2009، دار صادر،  بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق