مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

جهود الإمام الأشعري في تأسيس الحوار مع الآخر وتأصيل مناهج النقد والتقويم: محمد الطاهر الميساوي

مستخلص البحث:
تحفل خريطة الفكر الإسلامي عبر التاريخ وفي مختلف مجالاتها بأسماء علماء ومفكرين أعلام كان لجهودهم أثر بعيد في صياغة مناهجه وقضاياه، وإسهام كبير في بلورة مفاهيمه ورؤاه، فكان لهم بذلك نصيب غير يسير في تحديد وجهته الكلية وتعيين مساره العام على نحو لا يكاد يختلف حوله مخالفوهم ومناوئوهم، بله موافقوهم ومؤيدوهم.
ويحتل الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري في تلك الخريطة مكانة يغبطه عليها الموافق، كما قد يحسده عليها المعاند؛ فهو الأب الروحي والفكري لمدرسة في الفهم والنظر والاستدلال صبغت بطابعها قطاعاتٍ واسعة من فكر المسلمين وثقافتهم في أصول فقه الاعتقاد ومسائل فقه العمل دون انحصار ولا انحسار في مذهب بعينه، كما حفزت من ردود الفعل عليها ما به زاد الفكرُ الإسلامي تنوعًا وثراءً، لو لا ما قد يعتور ذلك في بعض الأحيان من جفاء المنابذة وقساوة المنافسة مما لا يكاد يسلم منه فريق.
 إلا أن القيمة الذاتية لإسهامات الأشعري المنهجية والفكرية كثيرًا ما حُجبت بسبب غلبة اهتمام الدارسين والباحثين بمآلات فكره وتطورات منهجه تجليًا في المدرسة الأشعرية التي نفقت مقولاتها وسادت أعلامها وتنوعت مسالك تأثيرها وتداخلت بوارق أنظارها مع غيرها من مدارس الفكر الإسلامي وروافده المتنوعة عبر الزمان والمكان.
 ومع أهمية الدراسات التي عنيت بتحليل النسق الفكري لعلم الكلام الأشعري كما استوى من خلال تلك المآلات والتطورات، إلا أنه نجم عن ذلك ما يمكن عدُّه تهميشًا للأصل الذي تفرع عنه ذلك النسق، فأصبح الأشعري يُدرس أو يُنظر إليه تبعًا للصور التي جرى بها تطويرُ أفكاره، أو أُوِّلت بها مواقفُه على أيدي العلماء الذين جاؤوا من بعد وانتسبوا إليه، فحملوا لواء مذهبه وعقدوا معاقده وفرعوا مسائله وناضلوا من أجله.
 ويطمح الكاتب في هذا المقال إلى تصويب النظر إلى ما وصل إلينا من أعمال الشيخ أبي الحسن الأشعري لاستجلاء إسهامه في مجال تأسيس قواعد الحوار مع المخالف وإرساء منهج المراجعة والنقد والتقويم؛ بحثًا عن أرض مشتركة من التفاهم يمكن عبرها تجاوز حالات التوتر الحاد والاستقطاب المتنافي إلى حالة من التعارف والتسالم الإيجابي.
 وسيسعى البحث في خلال ذلك إلى التبصر بمغزى ما قام به الأشعري في هذا المجال من أفق المسيرة التاريخية للفكر الإسلامي في تعاطيه مع مشكلات الحياة وقضايا الواقع استهداءً ببصائر الوحي وارتكازًا على قواعد التوحيد، أملاً في إبراز إحدى خصائص هذا الفكر وسنن فعله وحركته القائمة على الاستيعاب والتأليف والتجاوز. والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.
تمهيد: مشكلات منهجية وتاريخية في دراسة تراث الأشعري:
تواجه الباحثَ الساعيَ إلى فهم موضوعي لتراث أبي الحسن الأشعري (260-324) وإدراك دقيق لأفكاره وآرائه بما هي نسقٌ متماسك البناء-في أصوله ومسائله ومنهجه ومقتضياته-العديدُ من المشكلات التاريخية والصعوبات المنهجية التي يمكن إجمالها في الأمور الآتية.
1. هناك أولاً غموض وخلاف غير يسير بين القدامى والمحدثين حول الأسباب والدواعي التي أدت إلى “انخلاع” الأشعري عن الاعتزال و”تحوله” إلى “موقف السلف”، وانبرائه للدفاع عنه وإنشائه قولاً أو نهجًا جديدًا في الجدال مع أصحاب المقالات ومدافعتهم. ويطال هذا الغموضُ والخلاف ما يتعلق بأطوار حياته (بما في ذلك تاريخ ولادته) وبالمدة التي قضاها منضويًا في مدرسة المعتزلة ورافعًا لواءَها مع أعلامها ومقدَّميها، وخاصة أستاذه وشيخه أبي علي الجبائي، وكذلك طبيعة العلاقة بينه وبين هذا الأخير: أهي مجردُ علاقةِ تلمذة وطلب، أم هي أيضًا علاقةٌ أسرية من نوع صلة الربيب بزوج أمه. ويزيد الأمرَ غموضًا وتعقيدًا ما نجم بين الدارسين قديمًا وحديثًا من تباين كبير قد يبلغ حدَّ التناقض في تفسير ما رُوي من وقائع وحكايات بشأن ذلك كله، وما إذا كان تحوُّلُه قد حصل فجأة أم تدريجا[1].
2. والأمر الثاني هو أن ما وصل إلينا مما نُسب للأشعري من مصنفات عديدة تتناول- كما يلوح من عناوينها- موضوعاتٍ متعددة وقضايا متنوعة قليلٌ جدًّا، بحيث إنه يغدو من غير اليسير التعويلُ عليه لاستخلاص صورة متكاملة وقاطعة عن فكره وموقفه ومنهجه[2]. ومهما أمكن اللجوءُ في سبيل استكمال النقص والفراغ الناجمين عن ذلك إلى تتبع ما نُقل عنه من أقوال وإلى حمل كلامه في تآليفه التي بين أيدينا على ما تسمح به من محامل التأويل، فإن ذلك لن يجاوز كونه مجرد وجوه في التقريب لا تبلغ درجة الجزم واليقين.
3. أما الأمر الثالث والأخير-وهو في الواقع نتيجة لما سبق ذكره-فهو أن مؤلفات الأشعري القليلة التي وصلت إلينا قد نشب اختلافُ الباحثين بشأنها من أكثر من وجه. فمع الاتفاق على انتماء تلك المؤلفات إلى المرحلة الجديدة من حياته الفكرية: (أي ما بعد تحوله عن الاعتزال من سنة 300 حتى وفاته عام 324)، هناك اختلاف حول ما يمكن أن يُعدَّ منها انعكاسًا للطور الأول من تلك المرحلة فيكون ما فيها من أفكار وآراء أمرًا انتقاليًّا أو مؤقتًا، وما يندرج منها في الطور الأخير من تلك المرحلة بحيث يعبر عن آراء نهائية ومواقف قاطعة انتهى إليها الأشعري في تجربته الفكرية[3]. ولا يقف الاختلاف حول تلك المؤلفات عند هذا الحد، فهناك من الباحثين والنقاد مَنِ انتهى إلى إنكار نسبة بعضها إلى الأشعري، كما هو الحال بالنسبة لرسالة “الحث على البحث” أو “استحسان الخوض في علم الكلام”[4].
  وأيًّا ما كان الأمر، فإن مما يثير العجب حقًّا عند النظر فيما كُتب في العصر الحديث عن مدارس الفكر العقدي الإسلامي وأعلامه؛ تلك الندرة الكبيرة في الكتابات الخاصة بأبي الحسن الأشعري وخاصة في اللغة العربية، على الرغم من كونه يقف على رأس إحدى أهم تلك المدارس من حيث عمق الأثر وسعة الانتشار في الفكر والثقافة الإسلاميين في الماضي والحاضر. فباستثناء دراسة الدكتور حمودة غرابة عليه -رحمه الله- على تطاول العهد بها، لا يكاد المرء يعثر على دراسة مستقلة شاملة ورصينة ممحضة لتحليل آرائه ودراسة منهجه وبناء نسقه الفكري[5]. وإنما يغلب أن يأتي تناولُه في سياق دراسة المدرسة الأشعرية والكيفيات التي جرى بها تطوير مقولات الأشعري ومنهجه على أيدي عدد من أعلامها كالباقلاني، والجويني، والغزالي، والرازي، والآمدي ومن جاء بعدهم. وإن المرء ليسوؤه أن يلاحظ أن أحد أهم الأعمال الرائدة وذات الطابع الشمولي في دراسة مرحلة النشأة والتكون للفكر الفلسفي عند المسلمين لم يخصص صاحبُه الدكتور علي سامي النشار عليه -رحمه الله- ولو مبحثًا من فصل لعرض فكر الأشعري ومنهجه وموقفه بشأن المسائل الكلامية التي ناقشها في الجزء الأول من كتابه، مع أنه خص واصل بن عطاء وأبا الهذيل العلاف والنظام ومعمر بن عباد السلمي كلاًّ منهم بفصل مستقل[6].
  ومهما تكن الصعوبات التي تواجه الدارس لفكر الأشعري على النحو الذي عرضناه؛ فإن لدينا مصدرًا مهمًّا جمع فيه مصنفه أبو بكر بن فورك- على حد قوله- ما تفرق في كتب الأشعري من أصول مذهبه: (وما تُبنى عليه أدلته وحججه على المخالفين) مما (يوجد منها منصوصًا له، وما لا يوجد منصوصًا له)، مما أجاب فيه صاحب المصدر المشار إليه: (على حسب ما يليق) بأصول الأشعري وقواعده[7]. وبانضمام ما عرضه ابن فورك من أقوال الأشعري منقولة من كتبه وما خرجه على أصوله إلى مصنفاته القليلة الموجودة بين أيدينا؛ فإنه يمكن التغلب على تلك الصعوبات على نحو يمكن الاطمئنان إليه.
  وعلى الرغم من أنه ليس غرضنا هنا إجراء بحث شامل في المناحي المختلفة لفكر أبي الحسن الأشعري، فإن ما سبق قوله في هذا التمهيد ضروريٌّ حتى نطامن أيَّ شعور أو ادعاء يمكن أن يراود المرءَ بإمكان بلوغ نتائج قطعية أو إصدار أحكام نهائية في هذا الجانب أو ذاك من ذلكم الفكر. على أنه مما يخفف من أثر العقبات المذكورة بالنسبة لموضوع هذا البحث؛ أنه لا يتجشم دراسة تلك الجوانب الدقيقة من فكر الأشعري التي تحتاج إلى غزارة المادة التي يتطلب التعامل معها فحصًا نقديًّا وتحليلاً تاريخيًّا صارمين، فالذي يروم هذا البحثُ الإسهامَ به هو تصويب النظر إلى الناظم المنهجي الكلي لفكر الأشعري بغية استجلاء إسهامه في تأسيس قواعد الحوار مع المخالف، وإرساء منهج المراجعة والنقد والتقويم في الفكر الإسلامي، مما يمثل سعيًا قاصدًا للبحث عن مهاد ييسر تجاوز أوضاع التوتر والاستقطاب والتنافي إلى حالة من التواصل والتفاهم والتكامل.
     ويحسن في مثل هذا التمشي أن نسلك موضوع نظرنا هذا في سياق يسمح لنا أن نتبصر بمغزى ما قام به الأشعري من أفق المسيرة التاريخية للفكر الإسلامي في تعاطيه مع مشكلات الفكر وقضايا الحياة ونوازل الواقع، قدحًا لزناد العقل، واستهداءً ببصائر الوحي، وصدورًا عن مرجعية التوحيد، بحسبان أن ما نهض له الأشعري-مما سنحاول الوقوف عليه فيما يأتي- إنما هو تعبير أو تجسيد لإحدى خصائص الفكر الإسلامي في سنن فعله، وتشعبات حركته وقاصد وجهته، قيامًا بمنطق الاستيعاب والتأليف والتجاوز، وهي خصلة تستمد روحها ونهجها ووظيفيتها من قاعدة الهيمنة والتصديق التي أصَّلها القرآن الكريم بمحكم آياته، وفاقًا لقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)[المائدة: 48].
      وقد تراءى لنا أن ما أنجزه الشافعي من قبل على صعيد أصول الفقه ومنهجية التشريع، يندرج هو وما سيقوم به الأشعري من بعد، في سياق واحد من هذه النزعة الأصيلة الراسخة في الفكر الإسلامي. ولذلك اقتضى منهجُ البحث هنا التعريجَ على طرف من عمل الشافعي ليستوي مساقُ الكلام نظمًا متواشج العناصر متصل الحجة غير غافل أو متجانف عن منطق التاريخ الذي انصهر به “المجال الدلالي” والتفكير الأصولي الكلي أو الرؤية الأصولية الإسلامية ذات الطابع التوليدي وما تستند إليه من “مبدإ استغراق الشمول المعرفي” الذي نشأت في سياقه ونمت متواشجةً سائرُ العلوم التي عرفها المجال الحضاري العربي الإسلامي[8].
من الشافعي إلى الأشعري: في أفق التأسيس العقلي لمرجعية الوحي العليا:
يحتل محمد بن إدريس الشافعي – في النطاق السني على الأقل – موقعًا مرموقًا في الحركة العلمية التي شهدها القرن الهجري الثاني على مستوى التأسيس المنهجي للفكر التشريعي الإسلامي فروعًا وأصولاً، فهو بلا شك صاحب “مقاربة جديدة لمسألة العقل والنقل التي اختلفت بشأنها الأنظار مطالعَ القرن الثاني إبان اشتداد الدعوات وصراعات الاتجاهات والأحزاب”[9].
      فعندما كان الشافعي- في كتاب “الرسالة” وفي غيره من تآليفه- يمهد القواعدَ ويوطد الأصولَ للفهم عن كتاب الله وسنة نبيه من أجل ضبط منهج استنباط الأحكام منهما، فإنه في الواقع كان ينهض بعملية منهجية تركيبية شاملة، غرضها تجاوز حالة التناظر والاستقطاب التي كادت أن تستفحل بين مَنْ سُمُّوا أهلَ الحديث ومَنْ سُمُّوا أهلَ الرأي[10]. ومن ثم فإن المغزى التاريخي والمنهجي والفكري/المعرفي لما قام به، لا يكمن في كونه تعبيرًا عن منزَع تلفيقي إيديولوجي يهدف إلى تكبيل القياس عن “طريق التوسيع من دائرة النصوص” بتوسيع نطاق السنة كما زعم بعض الكتاب،[11] ولا في كونه مجردَ “انتصار للرسول العربي القرشي الهاشمي” كما تخرص آخر[12].
     إن مغزى ما نهض له الشافعي وأنجزه أهمُّ شأنًا وأبعد خطرًا من مثل هذه التفسيرات القاصرة، وذلك إذا ما نظرنا إليه في سياق تاريخ المسلمين في عهده وقبله وبعده وفي ضوء نظرة معاصريه إليه. لقد شهد مجتمع المسلمين في النصف الثاني من القرن الأول وخلال القرنين الثاني والثالث للهجرة من الانقسامات ما شاء الله له أن يشهد، وتلك سنةٌ لا يبدو أن المجتمعات الإنسانية يمكن أن تفلت منها بأي حال من الأحوال، حتى ولو تأسست على مرجعية الوحي العليا، فهي وجه من وجوه الابتلاء التي قدرها الله سبحانه امتحانًا واختبارًا لعباده. كما أن ممارسات المسلمين وما توطد في حياتهم من سنن وأعراف مهما استندت إلى أصل من سنن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إلا أنه مصيبُها ما تجري به صروفُ الزمن وما يحمله تيارُ التاريخ وتفاعل أوضاع المجتمع من تبدل وتحول. وليس هناك من شكٍّ في أن هذه الأمور كانت حاضرةً في وعي الشافعي وهو يقرأ تاريخَ المسلمين الممتد على مدى قرنين من الزمان أو أقل قليلاً، ويتنقل بين أمصارهم ويلتقي بعلمائهم ويناظرهم[13].
     وبقطع عن مدى الوضوح في إدراك ذلك عند الشافعي وعند معاصريه، إلا أنه يبقى حقيقةً ألقت بظلالها فيما بين أيدينا من تراثه العلمي، مما ليس من غرض هذا المقال الكلام عليه. وإنما غايتنا هنا – تمهيدًا للحديث عن إسهام أبي الحسن الأشعري في مجال آخر من مجالات الفكر الإسلامي- أن نبرز المغزى الفكري التاريخي والأهمية العلمية المنهجية لجهد الشافعي كما نضح وتكامل في سائر كتبه وخاصة تلك التي يمثل الهم المنهجي والمنحى التأصيلي الغرضَ الرئيس فيها، وذلك من خلال رؤية عدد من العلماء المعاصرين له من أهل الحديث خاصة، فأثبتوها شهادةً لا شك في أنها صادرةٌ عن إدراك عميق للأبعاد والآثار التي كان ينطوي عليها جهدُ الشافعي والنهج الذي اجترحه في التعامل مع قضايا السنة وفقه الشريعة. ودون الاستطراد بعرض ما يمكن عدُّه منهجًا جدليًّا حدد طبيعة ما قام به الإمام الشافعي من عمل تركيبي مما سبق لنا تناولُه في مكان آخر[14] ومما لا يفوت فطنةَ الدارس لتراثه الفقهي والأصولي إدراكُه، فإن ما سنسوقه من شهادات كفيلٌ بأن يوقفنا على ما نريد   التنبيهَ إليه في مقامنا هذا.
     رُوي عن أحمد بن حنبل أنه قال: «قدم علينا نعيم بن حماد وحثنا على طلب المسند، فلما قدم علينا الشافعي وضعنا على المحجة البيضاء»،[15] وكأنما يشير بذلك إلى ما أدخله الشافعي من أساليب في فهم السنة وما سلكه من طرق في الدفاع عنها قوامها قدح زناد الفكر وشحذ طاقة العقل نظرًا وتفهمًا واحتجاجًا واستدلالاً، كما يلاحظ أي قارئ لكتاب الرسالة أو كتاب اختلاف الحديث مثلا. وهو ما يبدو أكثر وضوحًا في كلام وراق الْحُميدي حيث يقول: «كنا نريد أن نرد على أصحاب الرأي، فلم نُحْسِن كيف نردُّ عليهم حتى جاءنا الشافعي ففتح لنا»[16].
     ولقد شهد بعضُهم لمقدرة الشافعي العالية على الجدل والمناظرة فقال: «لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب لغلب في اقتداره على المناظرة»[17]. وقال ابن عبد الحكم: «ما رأيتُ الشافعي يناظر أحدًا إلا رحمتُه، ولو رأيتَ الشافعي يُناظرك لظننت أنه سبعٌ يأكلك، وهو الذي علم الناسَ الحجج»[18]. وعبر موسى بن أبي الجارود[19] عن الأهمية المنهجية التركيبية لما قام به الشافعي بصورة أكثر دقة فقال: «كنا نتحدث نحن وأصحابُنا من أهل مكة أن الشافعي أخذ كتبَ ابن جريج (فقيه مكة) عن أربعة أنفس… وانتهت رياسةُ الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس فرحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسةُ الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن جملاً… فاجتمع له علمُ أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصَّل الأصول وقَعَّد القواعد»[20].
     إن الشافعي الذي نهض لتأصيل الأصول وتقعيد القواعد كان بدون شك يدرك منزلةَ النص الإسلامي، قرآنًا وسنة نبوية (أحاديث وأخبارًا)، في تاريخ المسلمين. فهذا النص هو (الجذر الذي قامت عليه الجماعة الإسلامية وتأسست في رحابه الأمة)،[21] مهما كانت الاختلافاتُ والصراعات والثورات التي كانت تجري بين المسلمين. وإذ هو (يؤصل ويركب)، فإنما كان من مقاصده الأساسية أن تستوي منظومةُ أصول الأحكام ومصادرها متراتبة متواشجة، بحيث تكون الأمةُ على بصيرة من أسس المشروعية التي تستند إليها أفعالها وأنماط سلوكها وعلاقاتها في التاريخ. فإن في تأسيس الشافعي لحجية الحديث عامة وخبر الآحاد خاصة تأسيسًا لحاكمية النص على التاريخ، مهما كان هذا التاريخ حافلاً بالصور الرائعة المضيئة من سيرة الأئمة الأولين من الصحابة والخلفاء الراشدين وغيرهم من صالحي المسلمين.
     فالنموذج القياسي الملزم هو النموذج النبوي كما نتبين ملامِحَه وتوجهاته وأبعاده من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه وأخباره. وهكذا فإن “رسالة” الشافعي إلى من ناظرهم وجادلهم من العلماء و”أهل الكلام” (الذين يتواتر ذكره لهم في الرسالة وفي غيرها من تصانيفه) وإلى غيرهم من أجيال الأمة، هي أن ذلك النموذج هو وحده العيار على عملهم وسننهم وأعرافهم واجتهاداتهم، ومن ثم فهو الحاكم على تاريخهم مهما استقامت وجهتُه، ناهيك به حين ينحرف ويزيغ عن الجادة.
ذلكم باختصار هو المغزى الكبير الذي يكتنف العمل التركيبي الذي قام به الشافعي على مستوى التأسيس لمنهج النظر في الأحكام الشرعية العملية أو الفقه الأصغر، وسيجد ذلك المغزى اتصالَه واكتماله فيما سينتهض له في نهاية القرن الثالث والربع الأول من الرابع الهجريين الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري بالنسبة لأصول النظر في مسائل العقيدة أو الفقه الأكبر. ولذلك يمكن – وفاقًا لما ذهب إليه النشار عليه رحمة الله – أن يعد الأشعري نتاجًا للنهج الأصولي الذي بدأه الشافعي[22]، ولكنه نتاج ذو طابع منهجي خاص، وسمات فكرية أصيلة، تنأى به عن أن يكون مجرد نسخة باهتة لسابقيه.
الأشعري والتأسيس الفكري والخلقي للحوار والمراجعة والنقد:
في كنف مدرسة المعتزلة بالبصرة سطع نجم أبي الحسن الأشعري نظارًا جدِلاً وتلميذًا مقدمًا من تلاميذ شيخها المبرز أبي علي الجبائي، فكان حاملاً للوائها ومنافحًا عن نهجها ومقررًا لمقولاتها أمدًا طويلاً من الدهر. وبالبصرة كذلك انتصب ثائرًا على أهل الاعتزال، ناقضًا لأصولهم، مفسدًا لحججهم، ومعلنًا ولاءه ونصرته لنهج أهل السنة والجماعة كما عبر عنه وقرر أصوله الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل[23]. وإلى بغداد حيث كانت السيادة للحنابلة وأهل الحديث جاء الأشعري مبشرًا بنهجه الجديد وواضعًا ما سبق أن اكتسبه من مهارات في الجدل والمناظرة سلاحًا لخدمة عقائد السلف ومناضلة مناوئيهم.
      روى ابن أبي يعلى بسنده قال: «لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري، فجعل يقول: رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم، ونقضتُ عليهم، وعلى اليهود والنصارى والمجوس، وقلت لهم وقالوا، وأكثر الكلام في ذلك. فلما سكت، قال البربهاري: ما أدري مما قلت قليلاً ولا كثيرًا، ولا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل. قال: [الراوي أبو عبد الله الْحُمراني]  فخرج من عنده، وصنف الإبانة، فلم يقبله منه!»[24].
     ولا بدعَ في هذا الموقف الذي وقفه من الأشعري شيخ الحنابلة ببغداد البربهاري، فهو ليس إلا استعادة لموقف الإمام أحمد الذي هجر الحارث بن أسد المحاسبي على الرغم من بكائه عند سماع بعض مواعظه؛ لأنه (تكلم في شيء من الكلام)، فاختفى المحاسبي (في دار ببغداد ومات فيها، ولم يُصلِّ عليه إلا أربعة نفر)[25]. وموقف البربهاري هذا يتسق مع ما يبدو أنه كان موقفًا عامًّا من الحنابلة تجاه أبي الحسن الأشعري، بل ربما كان هو الأصل لذلك الموقف العام الذي نستشفه من كلام ابن الجوزي الذي يقول: «وتشاغل [الأشعري] بالكلام، وكان على مذهب المعتزلة زمانًا طويلاً، ثم عنَّ له مخالفتُهم، وأظهر مقالةً خبطت عقائدَ الناس وأوجبت الفتنَ المتصلة… وما زال منذ أظهر هذا خائفًا على نفسه لخلافه أهلَ السنة، حتى إنه استجار بدار أبي الحسن التميمي حذرًا من القتل»[26].
     لقد وصلت الأوضاعُ العامة للمسلمين في زمن الأشعري إلى حالة من الضعف والاختلال أصابت في العمق سلطة الخلافة العباسية في بغداد، فنجم عن ذلك ظهور دويلات عديدة كلٌّ منها يسعى إلى ترسيخ سلطانه واستغلال رمزية الخلافة قدر مستطاعه[27]. وصاحب ذلك بل سبقه- وربما عضده أيضًا- انقسامٌ عقدي وتفرقٌ فكري ساده تنازع حاد وتطاحن شديد بين أصحاب المقالات والمذاهب المختلفة[28]، مما صوره تصويرًا دقيقًا الأشعريُّ في كتاب “المقالات” والملطيُّ في كتاب “التنبيه”[29]. وقد أدى ذلك التفرق والتنازع إلى حالة من الاستقطاب، وخاصة في تقرير مسائل الاعتقاد، استقطابًا بلغ مداه ما بين نهجٍ تأويليٍّ جانح أسرف في التعويل على العقل والركون إلى أحكامه؛ وكان المعتزلة هم دعاته وحاملي رايته، ونهج ظاهري جامد أوغل في التمسك بحرفية النصوص وظاهرها وكان حداته ومتوليه مَنْ انتسبوا إلى مذهب السلف من الحنابلة ومَنْ نحا نحوهم من أصحاب الحديث. وما بين النهجين مواقفُ تتفاوت قربًا وبعدًا من هذا الطرف أو ذاك. وربما كانت مسألةُ خلق القرآن وما اتصل بها أو انبنى عليها من قول في صفة الكلام وغيرها من الصفات أكبرَ مظهر تجسدت فيه تلك الحالةُ من التدابر والاستقطاب[30].
     وليس من شك في أن ذلك الانقسام على مستوى العقد والنظر كانت له آثارٌ ومظاهرُ على مستوى الواقع في سلوك الأفراد والمجموعات وعلاقاتهم مما يمكن عدُّه حالة من التترس أو “التمترس” ينغلق فيها كلُّ فريق أو مذهب على مقرراته، ويسد كل منافذ التواصل مع مخالفيه، وإن فُتحت تلكم المنافذُ فإنما تُفتح من أجل دعاية كل طرف لما هو عليه، بوصفه هو الحق الذي لا مندوحةَ من الخضوع إليه، وما سواه إنما هو الباطل الذي لا نجاةَ بالبقاء عليه. وليس من شك أيضًا في أن مثل هذا الوضع لم يكن الأشعري ولا غيره ممن يهمهم حال الأمة ويشغلهم مستقبل جامعتها الإسلامية ليستريح إليه؛ فطريقة المعتزلة وما راموه من تأويل بلغ حدَّ التعطيل قد تؤدي إلى الدمار، وطريقة الظاهرية والحشوية وما أسرفوا به من حرفية ورطوا بها في التشبيه قد تؤدي إلى الجمود والانهيار. وحرصًا على الملة وإشفاقًا على الأمة انبرى الأشعري بحثًا عن سبيل يزول بها البين، ونهج يرتفع به الشقاق، و«مذهب وسط يوحِّد القلوبَ ويعيد الوحدةَ إلى الصفوف مع احترام النص والعقل معا».[31]ولم يكن هناك من طريق لبلوغ ذلك المقصد الكبير إلا السعي لإرساء قواعد تُيَسِّرُ التواصلَ والتحاورَ والتفاهم، فيتحرر الجميع من آصار التقليد، وتنفتح الأذهانُ والقلوب على بصائر الوحي الهادي المسدِّد، ونوافح العقل المهتدي المسدَّد، فلا يُضرب هذا بذاك ولا يُستغنى بذاك عن هذا. وإنما هو نهج عدل؛ يتلازم فيه الوحي والعقل، ويتساند فيه النظرُ والسمع، ويتعاضد فيه التأويلُ والتسليم، وتتكامل فيه وتتضافر منافذُ الفهم ومسالكُ الإدراك ومداركُ العلم ومصادرُ المعرفة.
     وكأنما أدرك الأشعري- بعد نظر عميق في مناشئ الاختلاف بين المذاهب والفرق التي قامت في مجتمع المسلمين وفي عوامل تشعب الآراء وأسباب استفحال الشقاق والنزاع بين أتباعها- أن أنسب المداخل إلى ذلك إنما هو أولاً أن يحصل التواضعُ بين المختلفين على أنه مهما كان من أمر صيرورتهم (فرقًا متباينين وأحزابًا متشتتين)، فإن هناك إطارًا واحدًا (يجمعهم ويشتمل عليهم) هو الإسلام[32].
     فإذا سلموا بذلك واطمأنوا إليه-وهو ما يجب عليهم بحكم انتسابهم إلى الإسلام- اقتضاهم الواجبُ التزامَ الدقة في معرفة المذاهب والمقالات والإنصاف في التمييز بينها والعدل في الحكم عليها، ذلك أن من الآفات التي أدت بالمسلمين إلى ما صاروا إليه؛ الضعف في هذه الخصال المنهجية والخلقية أو انعدامها في حياتهم عن غفلة أو عن هوى، وهو ما عبر عنه الأشعري بقوله: «ورأيت الناسَ في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات، ويصنفون في النحل والديانات، من بين مقصِّرٍ فيما يحكيه، وغالطٍ فيما يذكره من قول مخالفيه، ومن بين معتمِّدٍ الكذبَ في الحكاية إرادةَ التشنيع على مَنْ يخالفه، ومن تارك للتقصي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين، ومن بين مَن يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به. وليس هذا سبيل الربانيين، ولا سبيل الفطناء المميزين»[33]، وهي الخصال ذاتها التي يُعبَّر عنها تعبيرًا جامعًا في عرفنا الحاضر بالموضوعية والنزاهة، وهي مما لا بد منه لكل طالب أو مستشكل أو معترض، طالما كان توخي الحق هو غاية الجميع.
     وبقطع النظر عما إذا كان الأشعري فيما ألف من كتب ورسائل قد فعل ذلك من منطلق الجدل مع مخالفيه والرد عليهم أو من منطلق الدعوة والدعاية لما كان يؤمن به، وبصرف النظر أيضًا عن كون بعض رسائله موجَّهًا إلى أفراد أو مجموعات معينين أو غير معينين، فإن ذلك كله لا يعدو كونه أسبابًا ومناسبات أتاحت له أن يعبر عما كان يعتمل في نفسه من رؤى وينضج في عقله من أفكار في مواجهة الأوضاع الفكرية والعقدية والاجتماعية وحتى السياسية التي كانت سائدة في عصره، كما لا يعدو كونَه حوافزَ له لأن يصوغ ما كان يراه حلولاً مناسبة لما كانت تموج به تلك الأوضاع من تحديات وتثيره من مشكلات تمس وحدةَ المسلمين في عقيدتهم ومرجعية حياتهم، وذلك هو الموقف ذاته- أو قريب منه- الذي وقفه الشافعي يوم أن نهض لردم- أو على الأقل تضييق- الفجوة التي كانت تشق المسلمين في خصوص مدارك أحكام الشريعة ومنهج الاجتهاد فيها، كما سبق أن ذكرنا.
     وربما كان هذا المسلك الذي اتبعه الأشعري والمقصد الذي توخاه في التأليف بين مذاهب متدابرة وتيارات متنازعة هو الذي مكنه من أن يمد علم الكلام ودرس العقائد الإسلامية بمنطلقات وآفاق جديدة للتطور مادة ومنهجا[34]. ولكن مسلك الأشعري التأليفي هذا كان- فيما نحسب- أكثرَ حرجًا وأدعى للإشفاق من موقف الشافعي، فقد كانت الأوضاع في عهده أكثر تعقيدًا والاستقطاب أشدَّ حدة، والخرق أكثر اتساعا[35].
     ولكن بعض الباحثين المحدثين قد رأى أو تراءى له- كما ذكرنا في هامش سابق- أن للأشعري صورتين متقابلتين أو متعارضتين: الأولى صورة الأشعري ذي النزعة الظاهرية الجامدة والمتنسب إلى الإمام أحمد بن حنبل وأهل الحديث والحريص على التقيد بفهم النصوص حسب ظواهرها دون تأويل، وهي الصورة التي يعكسها – في نظرهم – كتاب “الإبانة”، أما الثانية فهي صورةٌ رسمها له أتباعه من بعد – ومنهم الجويني- وفيها يقابلنا الأشعري لا مجرد تابع لابن حنبل، وإنما بوصفه صاحبَ نهج عقلي خاص يروم التوفيق أو التأليف بين طرفين متقابلين في أمهات المسائل العقدية على نحو وسط يتجنب إفراطَ المعتزلة وتفريطَ الحشوية[36]. وهذا الاستنتاج أو الحكم خطأ وقع فيه أصحابه بسبب اقتصارهم على كتاب “الإبانة”، وعدم اطلاعهم على مؤلفات الأشعري الأخرى ومنها “اللمع” و”رسالة الحث على البحث”[37]، وكذلك عدم اطلاعهم على ما سطره ابن فورك في كتاب “المجرد” الذي سبق الكلام عليه. وفضلاً عن ذلك؛ فإن أصحاب هذا التقدير وقعوا في خطإ منهجي وعلمي آخر، وهو عدم أخذهم بعين الاعتبار للسياق الذي جرى فيه تأليفُ كتاب “الإبانة” كما نستشفه من حكاية البربهاري شيخ الحنابلة في بغداد وما جرى للأشعري معه كما رأينا[38].
     وإذ ليس من غرضنا في هذا البحث الغوص في تفاصيل القضايا الكلامية التي تناولها الأشعري تصحيحًا وتفريعًا ونقضًا وإبرامًا في هذا أو ذاك من مصنفاته، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن أفكاره وآراءه ومواقفه التي بثها وشرحها في تلك المصنفات تنضوي جميعًا في إطار منهجي وناظم معرفي موحد، وإنما يتفاوت الإعرابُ عن عناصر ذلك الإطار ومعالم ذلك الناظم وضوحًا وخفاءً حسب السياق الذي كتب فيه كل واحد من تلك المصنفات.

                                      —————————————————

[بحث مقدم إلى الملتقى الدولى الخامس للرابطة العالمية لخريجى الأزهر حول:
“الإمام أبو الحسن الأشعرى إمام أهل السنة والجماعة: نحو وسطية إسلامية تواجه الغلو  والتطرف” القاهرة: 5-8 أبريل 2010].
المصدر: موقع الحوار نت: 13- 05-2010

 

 


الهوامش:

[1] انظر في هذا على سبيل التمثيل لا الحصر:
ابن عساكر الدمشقي، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله:( تبيين كذب المفتري فيما نسب الإمام أبي الحسن الأشعري)، نشرة بعناية حسام الدين القدسي (دمشق:مطبعة التوفيق/1347)-ص:38-45؛ وكذلك نشر بعناية أحمد حجازي السقا (بيروت:دار الجيل ط1/1995)-ص:49-54 (وبعيدًا عن أي تحيز للأشعري أو ضد المعتزلة، فإن هذه النشرة ليس فيها- للأسف- من التحقيق سوى اللفظ، فضلاً عن نقد غير موضوعي وتحامل موتور ولا مساغ له كلاهما “المحقق”في تقديمه للكتاب ضد الأشعري باسم الدفاع عن العقلانية التي أسس لها المعتزلة وأجهضها الأشعري وتلاميذه فأغرقوا المسلمين في وهدة التخلف والانحطاط! (ص10-22)
 الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان:سير أعلام النبلاء، تحقيق جماعة من العلماء بإشراف شعيب الأرناؤوط(بيروت/مؤسسة الرسالة-ط/11-1996)- ج15- ص:89
 السبكي، تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي: طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود محمد الطناحي(القاهرة:مطبعة عيسى الحلبي وشركاه، ط/1-1964)- ج3/ص:347-349 و356-358
 غرابة، حمودة:أبو الحسن الأشعري(القاهرة:مجمع البحوث الإسلامية-1393/1973 [1953])-ص:60-66
 موسى، جلال محمد:نشأة الأشعرية وتطورها(بيروت:دار الكتاب اللبناني-ط1 /1975)- ص:165-175
 محمود، فوقية حسين:الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري-تقديم وتحقيق وتعليق(القاهرة-دار الأنصار، ط1/1977)-ص9:-37
 الأشعري، الإمام أبو الحسن:أصول أهل السنة والجماعة المسماة برسالة الثغر-تحقيق: محمد السيد الجليند (الرياض/ دار اللواء- ط2 /1989)-ص:7-11. وانظر كذلك:
M. Abdul Hye, M. A.: “Ash‘arism”, in M. A. Sharif: A History of Muslim Philosophy (Karachi: Royal Book Company, 1984 [1963]) vol. 1p. 223.
[2] راجع بشأن ما نسب للأشعري من مصنفات وما هناك من اختلاف حول عددها المصادرَ والمراجع الآتية:
 ابن عساكر: تبيين كذب المفتري-ص:128-140 (نشرة القدسي)- ص:129-139 (نشرة حجازي)
 السبكي: طبقات الشافعية الكبرى- ج3- ص:359-361
 غرابة: أبو الحسن الأشعري-ص:60-66
 محمود:الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري-ص:38-91
 Michel, Allard: Le Problème des attributs divins dans la doctrine d’al-Aš‘ari et de ses premiers grands disciples (Beyrouth: Editions de l’Imprimerie Catholique, 1965), p. 48-72.
[3] وقد أدى عدم القطع في هذا الشأن ببعض الباحثين إلى اعتقاد أن الأشعري كان ذا وجهين: وجه عقلاني منجذب إلى المعتزلة ونهجه النظر والتأويل والنقد والجدل، ووجه منجذب إلى الحنابلة وأهل الحديث ونهجه التمسك بحرفية النص والتحامي عن التأويل، وذلك بناءً على ما رأوه من اختلاف في الطريقة التي اتبعها في بعض مصنفاته كالإبانة والمقالات وما قرره أتباعه بشأن مذهبه ومنهجه. انظر في ذلك مثلاً: Wensinck, A.J.: The Muslim Creed: Its Genesis and Historical Development (Cambridge: Cambridge University Press, 1965 [1932] p. 91-94. . وقارن بالمقدسي: Makdisi, George: “Ash‘ari and the Ash‘arites in Islamic religious history” (Part I), Studia Islamica XVIII (Paris, 1963), pp. 42-44. . وسنعود إلى هذه المسألة لاحقًا بإذن الله تعالى.
[4] يذهب كل من عبد الرحمن بدوي وجرجس المقدسي إلى أن هذه الرسالة من وضع بعض متأخري الأشاعرة بزعم أن الإشكالية التي تعالجها وهي الدفاع عن علم وإثبات مشروعيته إشكالية متأخرة عن زمان الأشعري. وترى فوقية حسين أنها لا يمكن أن تكون من تأليف الأشعري بناءً على “تحليل الرسالة”. بدوي، عبد الرحمن: مذاهب الإسلاميين (بيروت/ دار العلم للملايين-2005 [ط1/1996])-ص:521 وما قبلها؛ محمود: الإبانة، ص72-74 (حيث تحيل على كتاب لها بعنوان “كتب منسوبة للأشعري” لم يتيسر لنا الاطلاع عليه لندرك طبيعة الحجج التي استندت إليها)؛ Makdisi: “Ash‘ari and the Ash‘arites in Islamic religious history” (Part I), pp. 23-26.. أما ميشال ألاَّر فقد ساير الأب مكارثي McCarthy في القبول بكون الرسالة المذكورة من تأليف الأشعري. Allard: Le Problème, p. 51 .
[5] تقتضي الدقة والأمانة العلمية هنا الإشارة إلى ما كتبته الدكتورة في المقدمة الطويلة التي مهدت بها لتحقيقها لكتاب “الإبانة”، كما لا بد من التنبيه إلى أن الدكتور محمد إبراهيم الفيومي قد خصص الكتاب (الجزء) الخامس من مجموعته ذات الأجزاء الستة عن “تاريخ الفرق الإسلامية السياسي والديني” للأشعري تحت عنوان: “شيخ أهل السنة والجماعة الإمام أبو الحسن الأشعري: فحص نقدي لعلم الكلام الإسلامي”. إلا أنه من المؤسف أن نلاحظ أنه على الرغم من المادة الغزيرة التي يحتوي عليها هذا الكتاب، إلا أنه عري عن أي نهج تحليلي ونقدي كما يوحي عنوانه، فهو لا يعدو كونه تلخيصًا لكلام الأشعري (وخاصة في كتابه مقالات الإسلاميين) ونقولاً مطولة تبلغ عدة صفحات في بعض الأحيان كما هو الحال مع النقول المأخوذة من مقدمة الدكتورة فوقية حسين لكتاب الإبانة. وفضلاً عن ذلك، يشكو الكتاب من فوضى منهجية لا تليق بالكتابة العلمية الجدية من حيث ترتيب أبوابه وفصوله، فمثلاً ترجم المؤلف الفصل الثاني من الباب الخامس بعنوان “منهج الإمام الأشعري”، ثم أتبع ذلك بباب كامل سماه كذلك “منهج الإمام الأشعري”! انظر الفيومي، محمد إبراهيم: تاريخ الفرق الإسلامية السياسي والديني، الكتاب الخامس: شيخ أهل السنة والجماعة الإمام أبو الحسن الأشعري (القاهرة: دار الفكر العربي- ط1/2003). وفي مقابل هذا العمل المبتسر والمشوش الذي قام به الفيومي، فإن المرء لا يملك إلا أن يشيد بالدراسة التحليلية والتركيبية الشاملة والعميقة التي أنجزها في أكثر من خمسمائة صفحة المستشرق الفرنسي جيماريه عن مذهب الأشعري ومنهجه في المسائل الرئيسة لعلم الكلام، كما تجب الإشارة إلى الدراسات المنهجية الرصينة التي قام بها خلال عدة عقود المستشرق الأمريكي فرانك حول جوانب مختلفة من فكر هذا العلم الكبير من أعلام الفكر الإسلامي. انظر:
Gimaret, Daniel: La Doctrine d’al-Ash‘ari (Paris: Les Editions du Cerf, 2007 [1990]); Frank, Richard M.: Early Islamic Theology: The Mu‘tazilites and al-Ash‘ari (Hampshire/Burlington: Ashgate, 2007) and Classical Islamic Theology: The Ash‘arites (Hampshire/Burlington: Ashgate, 2008).
[6] وفضلاً عن ذلك فقد خص النشار عددًا من رموز المدارس العقدية المختلفة كالجعد بن درهم وعمرو بن عبيد وغيلان الدمشقي ومقاتل بن سليمان ومحمد كرام ومعبد الجهني وغيرهم بأعداد متفاوتة من الصفحات، كما خص فرقًا عديدة بمثل ذلك. وقد تتبعتُ كلَّ المواضع التي ذُكر فيها أبو الحسن الأشعري في الجزء الأول من الكتاب الذي محضه المؤلف لعرض الآراء العقدية والمواقف الفكرية المختلفة لأصحاب المقالات فما تراءى لي الأشعري فيها إلا مجرد مؤرخ أمد النشار بمادة غزيرة لبحثه حتى إنه وصفه بأنه “مؤرخ العقائد الإسلامية” و”مؤرخ المعتزلة”. النشار، علي سامي: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (القاهرة/دار السلام-2008)-ج1-ص:369 و479. بل إن المؤلف في هذا الجزء الأساسي من كتابه لم يستخدم من مصنفات الأشعري التي وصلت إلينا إلا كتاب “مقالات الإسلاميين” بوصفه مصدرًا أساسيًّا لمعرفة المذاهب والمقالات للفرق المختلفة. وإذ نعلم أن كتاب “نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام” قد خضع لمراجعات وإضافات وتعديلات في عدد من طبعاته في حياة المؤلف، وحيث أنه لم يصل إلى علمنا أن للنشار دراسة مستقلة ولو موجزة عن الأشعري، فإننا نقف في حيرة بالغة إزاء أسباب هذا الخلل الكبير في مثل هذا العمل الرائد.
[7] ابن فورك، أبو بكر محمد بن الحسن: مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري- تحقيق دانيال جيماريه (بيروت: دار المشرق/1987)-ص:9.
[8] المسدي، عبد السلام: “الأسس الاختبارية في نظرية المعرفة عند ابن خلدون”، ضمن كتاب ابن خلدون والفكر العربي المعاصر (تونس:الدار العربية للكتاب-1982)- ص:107-118.(والكتاب يشتمل على ما قدم بحوث ودار من مناقشات في ندوة ابن خلدون التي نظمتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتونس ما بين 29 جمادى الأولى و3 جمادى الثانية 1400 الموافق 14-18 أفريل [أبريل] 1980). وانظر في مفهوم “المجال الدلالي” وأبعاده المعرفية والمنهجية وأهميته في دراسة الفكر الإسلامي بمدارسه وأعلامه وقضاياه:عبد الرحمن، طه:تجديد المنهج في تقويم التراث (بيروت/الدار البيضاء:المركز الثقافي العربي- ط2/ بدون تاريخ)- ص:237-420.
[9] السيد، رضوان: “الشافعي والرسالة: دراسة في تكون النظام الفقهي في الإسلام” (القسم الأول)، مجلة الاجتهاد- العدد:8- السنة الثالثة (بيروت: دار الاجتهاد/1990)- ص:67. وقارن بما جاء في مقال وائل حلاق: “هل كان الشافعي المهندس الرئيس لعلم أصول الفقه؟” (باللغة الإنجليزية) ضمن كتابه:
Hallaq, Wael B.: Law and Legal Theory in Classical and Medieval Islam (Hampshire/Burlington: Ashgate, 1994).
[10] السيد، مرجع سابق- ص: 74.
[11] أبو زيد، نصر حامد: “الإيديولوجية الوسطية التلفيقية في فكر الشافعي”-مجلة الاجتهاد- العدد: 9- السنة الثالثة (بيروت: دار الاجتهاد-1990)-ص:87.
[12] ذويب، حمادي: السنة بين الأصول والتاريخ (الدار البيضاء/بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1/2005)-ص:78. وانظر مراجعة علمية لهذا الكتاب في حسن إبراهيم الهنداوي، “السنة بين الأصول والتاريخ”، التجديد (مجلة نصف سنوية محكمة تصدرها الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا)-العدد:19-السنة:10-1427/2006)-ص:207-226. وانظر نمطًا آخر من هذه التمحلات في زكريا أوزون، جناية الشافعي: تخليص الأمة من فقه الأئمة (بيروت/رياض الريس للكتب والنشر- 2005)-ص:61-101.
[13] انظر مثلاً مناظراته لمحمد بن الحسن الشيباني ولبشر المريسي (بين يدي هارون الرشيد) في: الأصفهاني، أبو نعيم: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية- 1423/2002) ج9-ص:80-81؛ ص90-98 على التوالِي.
[14] انظر في تحليل ما جرت الإشارة إليه: الميساوي، محمد الطاهر: “منهجية الإمام الشافعي الكلامية في إثبات حجية خبر الواحد: قراءة معرفية تاريخية” (قيد النشر)، مجلة العلوم الإنسانية، كلية الآداب بجامعة البحرين.
[15] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج9، ص108.
[16] المرجع نفسه، ص103.
[17] المرجع نفسه، ص110-111. وقائل هذا الكلام هو هارون بن سعيد.
[18] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان: سير أعلام النبلاء (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1422/2001) ج10 (بتحقيق محمد نعيم القرقسوسي)-ص:49-50 (والتسويد من عندنا).
[19] هو أبو الوليد موسى بن أبي الجارود المكي، كان فقيهًا من أصحاب الشافعي، وأقام بمكة يفتي الناس على مذهبه. روى كتاب الأمالى عن الشافعى، وكان المرجع إليه عند اختلاف الرواية عن الشافعي. روى عن يحيى بن معين وأبى يعقوب البويطي، وروى عنه الزعفراني والربيع بن سليمان وأبو حاتم الرازي.
[20] العسقلاني، ابن حجر: توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي (بيروت/دار الكتب العلمية- ط1/1986)-ص:72-73. وقد أورد الشيخ أحمد شاكر هذا النص في تقديمه المطول لكتاب الرسالة، تحقيق أحمد شاكر (القاهرة: دار التراث/1979)-ص:7. (والتسويد من عندنا).
[21] السيد، رضوان: الأمة والجماعة والسلطة (بيروت/دار اقرأ-ط1/1984)- ص: 11.
[22] النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام-ج1- ص:274.
[23] انظر في حكاية الصورة “الاستعراضية” التي أعلن بها الإمام الأشعري “انخلاعه” من عقائد الاعتزال ومقولاته كما ينخلع المرء من ثوبه، ابن عساكر: تبيين كذب المفتري، ص:39(نشرة القدسي)، وص:50 (نشرة حجازي)؛ السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، ج3- ص:347-348.
[24] الفراء، أبو الحسن محمد بن أبي يعلى: طبقات الحنابلة- تحقيق عبد الرحمن بن سليمان العثيمين (الرياض:الأمانة العامة للاحتفال بمائة عام على تأسيس المملكة- 1419/1999)-ج3-ص:37. والبربهاري هو أبو محمد الحسن بن علي، وهو – كما وصفه ابن أبي يعلى (ص36)- “شيخ الطائفة [الحنابلة] في وقته، ومتقدِّمُها في الإنكار على أهل البدع”. توفِّيَ سنة 329.
[25] الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن على بن ثابت: تاريخ مدينة السلام وأخبار محدثيها وذكر قطانها العلماء من غير أهلها ووارديها، تحقيق بشار عواد معروف (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1/2001)- ج9-ص:109-110.
[26] ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1412/1992)، ج14، ص29.
[27] محمود: الإبانة، ص:20.
[28] المرجع نفسه، ص:20-27. وقارن بذلك: غرابة: أبو الحسن الأشعري، ص:11-59؛ الفيومي: شيخ أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري، ص:11-49.
[29] الأشعري، الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (بيروت: المكتبة العصرية/1990)؛ الملطي، أبو الحسين محمد بن أحمد: كتاب التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، تحقيق ديد رينغ (بيروت: منشورات المعهد الألماني للأبحاث، ط1/2009).
[30] جدعان، فهمي:المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام (عمان/الأردن: دار الشروق للنشر والتوزيع- ط1/1989)- ص:19-20. هذا طبعًا إلى ما كان من وجود كبير لأصحاب الديانات والنحل الأخرى غير الإسلام بفرقها المختلفة وما كانوا يوردونه على المسلمين من اعتراضات وانتقادات تمس فروع الإسلام كما تمس أصوله. (المرجع نفسه، ص21-23).
[31] غرابة: أبو الحسن الأشعري، ص66.
[32] الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ج1، ص34.
[33] المصدر نفسه، ص33.
[34] قارن في هذا: Klein, Walter C.: Abu’l -Hasan ‘Ali ibn Ismail al-Aš‘ari’s al-Ibanah ‘An Usul al-Diyanah: The (Elucidation of Islam’s Foundation), translation with Introduction and Notes (New Haven, Connecticut: American Oriental Society, 1940), p. 25.
[35] قارن بغرابة: أبو الحسن الأشعري، ص:74-75.
[36] غرديه، لويس وقنواتي، جورج: فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، ترجمه عن الفرنسية صبحي الصالح وفريد جبر (بيروت: دار العلم للملايين، ط2/1978 [1967])، ج1- ص:101-102. وانظر المراجع المذكورة في الهامش المشار إليه.
[37] غرابة: أبو الحسن الأشعري، ص:131-133؛ Frank: “Al-Ash‘ari’s Conception of the Nature and Role of Speculative Theology”, in Proceedings of the VIth Congress of Arabic and Islamic Studies (Stockholm, 1972), p. 148 (note no. 2). . وقد نشرت هذه الدراسة بوصفها رقم 8 في كتابه السابق الذكر: Early Islamic Theology: The Mu‘tazilites and al-Ash‘ari.
[38] قارن ما قررناه بغرابة: أبو الحسن الأشعري-ص:73-74.

                                                                   إعداد الباحث: منتصر الخطيب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق