مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الحضور الصوفي عند العلامة المختار السوسي

د. طارق العلمي

    تعتبر شخصية المختار السوسي من أبرز الرجالات في العصر الحديث،  التي حافظت على توازنها الروحي والفكري، فلم تتنكر لما خلفه الأجداد منى تراث وحضارة، خصوصا إذا ظهر وجه منفعته، كما أنها لم تسدل حجاب النظر عن الاستفادة من الحضارة المدنية، بما لا يبطل حكما أو يصادم شرعا. “فقد حرصنا-كما يقول- أن لا ننكر إلا ما يستحق أن ينكر، وأن نحمد كل ما يمكن أن يحمد، واجتهدنا أن نساير العصر وأن نتفهمه، فلا ننكر أخذ ما لا بد من أخذه من أساليب الحضارة ونظمها وعلومها –لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها-“(1)، وهو مسلك انتقائي يفضي بالضرورة على الحفاظ على توابث الهوية كبنية راسخة في شعور المجتمع المغربي، والانفتاح فيما يتعلق بأسباب الرقي المادي المُؤَسَّس على الصلاح والإصلاح.

     الاستلاب: لاحظ المختار السوسي أن المغرب بدخول الاستعمار، وما عقب ذلك من أنواع الهدم الذي مارسه المستعمر على مستوى هيكلة الدولة، فهو بدأ تدريجيا في أفق سلب أي خصوصية محلية غير ما تفرضه السياسة الاستعمارية من نُظُم وقوانين، وكان الوجه التقني الذي حملته الحضارة المدنية الغربية قد أخفى المبادئ الأخلاقية التي صحبت هذا التقدم، فوقع الانبهار والاغترار الذي أخذ من شباب هذه الفترة التواق إلى مغرب الحداثة والتقدم.

     وهنا تظهر حكمة الشيوخ في إقامة التوازن الذي ينبغي أن يسود داخل المجتمع، بين الأصالة التي تحمل قيم الوفاء للأصول الشرعية وتراث الأمة الذي هو عنوان كينونتها الثقافية والحضارية، ومظاهر الحداثة الخَلاَّقة التي تحقق للإنسان حاجياته المتجددة عالم التقدم، محاولا كما يقول: الجمع “بين محاسن أمس واليوم، ناصبين ميزان القسط”(2). وأخوف ما كان يخشى منه صاحبنا، أن يؤدي الانفتاح إلى اختراق جدار الخصوصيات التي هي محل تميز الأمة، والمعبرة على وجه استقلاليتها، والتي بموجبها يصبح للأمة كيانها الخاص الذي اختارته وفق قناعتها الحرة، إلا أن تعاقب الأحداث وسرعة التطور، والانسياق نحو التقليد غير المتبصر من طرف أولئك المتغربين، أفضى إلى اضطراب ميزان النظر في الأخذ من مقومات الآخر دون إفراط أو تفريط.

وهذا الاستلاب الذي بدأ يدب إلى شعور بعض أصحاب الحركة الوطنية تجلى في شيئين:

     أحدهما: التفريط في المثل العليا التي لا ترسخ في الشعوب إلا بعد جهود قرون، ومتى اجتثت من أي شعب بمثل هذه الاندفاعات العمياء، فإن أبناء ذلك الشعب سرعان ما ينحرفون عن الصراط المستقيم في الحياة.

     ثانيا: التفريط في المحافظة على اللغة العربية وآدابها التي هي شعار المغرب وكنزه الموروث، المحافَظ عليه كلغة رسمية حتى يوم عمت تركيا لغتها في جميع أنحاء بلاد العرب منذ القرن العاشر الهجري.

     ومن ثمة فإن مشروع صاحبنا كان يدور على تقويم المسار الإصلاحي المغربي، بما يحفظ قيم هويتنا الدينية والثقافية..وبما لا يعطل ركب التقدم والاستشراف نحو حداثة خَلاَّقة(3).

     التوفيق: اللافت للانتباه في شخصية المختار السوسي أنه رغم ما أقبل عليه من فكر سلفي، وما قامت به الحركة الوطنية من نقد لاذع للطرق الصوفية، إلا أن الأثر الصوفي ظل حاضرا في وجدان صاحبنا، ونظن أن انسياقه في نقد صوفية أهل زمانه كان نتيجة دوافع سياسية، تشكلت من خلال ما وصلت إليه الممارسة الصوفية من مرحلة خاصة نسميها بمرحلة “التبرك”، و”تتميز هذه المرحلة بعدم وجود “الشيخ المربي”، وفي غيابه، لا يسع المنتسبين إلى طريقته والمتبركين بها إلا الوفاء بالشروط التالية:

أ_ المحافظة على تطبيق التوجيهات التربوية التي تركها فيهم المربي.

     ب- نقل هذه التوجيهات نقل رواية والمقال لا نقل المعاينة والتجربة إلى غيرهم ممن رغب في الالتحاق بهم”(4)، وفي هذه المرحلة قد تتعرض الطريق إلى مظاهر من الانحرافات، التي تزيد حدة كلما بعد العهد بينها وبين المربي، باعتبار أن الشيخ هو قوام الطريق الصوفي في الأخذ بالمريد إلى التسنن الأكمل، ورعايته وفق نهج السلف الأقوم. وهو يقول في كتابه معتقل الصحراء: “إلى متى نهدم الطرقيين والعلماء بحجة أنهم يتعسفون ثم لا يبرز منا من يسد ذلك المسد…إلى متى ونحن نلوك السلفية أقوالا فارغة تحوم حول تنطعات ومهاجمات ثم لا نرى أثرا للسلفية الحق”(5)، ويأتي هذا النص ضمن مراجعات لحقت أقطاب الحركة السلفية الذين تراجعوا كليا عن معاداتهم للطرق الصوفية. باعتبار أن العمل الصوفي كان يشكل عقلية وثقافة المجتمع المغربي، بالإضافة إلى ما كان يقوم به من أدوار فاعلة على مستويات عدة دينية واجتماعية وثقافية وسياسية… الخ. حتى أنه لا يمكن فصل الممارسة الصوفية عن وجدان أهل المغرب، وهم الذين جعلوا التصوف أحد معالم هويتهم الأساسية إلى جانب الفقه المالكي، وهو ما يؤكده العلامة علال الفاسي بقوله: “التصوف المغربي إلى جانب الفقه المالكي، له الأثر الفعال في توجيه كل الأفكار والسياسات التي جرت في بلادنا، فالفقه والتصوف عنصران أساسيان في تكييف المجتمع المغربي وتسييره”(6).

    ولاننسى أن الزاوية هي مجال تكوين صاحبنا، في أخذ العلوم الضرورية التي هي قوام العمل التعبدي، والاغتراف من معين الطريق الصوفي التي هي مجال الرقي الروحي، فظل هذا الأساس حاضرا في شعور المختار السوسي، مُعبِّرا عنه بقوله: “ثم إنني ابن زاوية وابن بيئة أمس، مؤمن بالروحانيات الصادقة، قأقبل خرق العادة إن صح أن ذلك واقع، ولذلك يعذرني مَن ليس له هذا الإيمان إن وجد في بعض التراجم من الكتاب مثل ذلك، فله دينه ولي دين”(7)، وهو يرد بلا شك على وجوه الانتقاد التي كانت محل خلاف بين رجال الحركة السلفية والطرق الصوفية، باعتبار أن السلوك التربوي الذي يخضع له الصوفي، يصحبه فتوحات قلبية ومعاني ربانية شريفة نتيجة الاستغراق في التعبد، وهو مقتضى قوله تعالى: “واتقوا الله ويعلمكم الله”[البقرة282]، وهي كرامات معنوية تزيد السالك ترغيبا على مواصلة المسير، وقد تكون بجانب ذلك كرامات حسية هي في حكم الرخصة عند أهل الولاية كما يذكر ذلك الإمام الشاطبي.

     ولذلك فإن التصوف هو بناء للشخصية المسلمة على أسس أخلاقية متينة، لا تأخذ منها تقلبات الحياة وشدائد الأيام مأخذها، لتعلقها بمصدر الأفعال التي هي أثر للإرادة الإلهية، “فإن الفقير هو الذي لا يزال مراقبا لربه لا تزعزعه العواصف، ولا تستميله الأقوال ولا يستفزه دنيوي كيفما كان، بل يحوله بهمته إلى أخروي، فيشاهد رضا الله في حرثه وفي غرسه وفي كل ما يزاول”(8)

    فإذا أردنا البحث عن مدلول الممارسة الصوفية الخالصة كما هي متمثلة عند المختار السوسي، فسنجدها حتما هي ممارسة دينية إسلامية صادقة كما عمل بها السلف الصالح، “فالتصوف الصافي والدين الإسلامي البحث، مدلولان على شيء واحد، فمن اعتنق التصوف الخالص كما هو، ونجاه الله مما ألصق عن عمد أو جهل من البدع، فإنه ما اعتنق إلا الإسلام الخالص نفسه”(9)، بحيث إن الإنزلاقات التي وقعت فيها بعض الطرق الصوفية، لا تعتبر من صميم التصوف، وإنما سادات القوم الذين تمثلوا أخلاق التصوف على الكمال هم الحجة في الطريق. ويَعتبِر المختار السوسي نفسه أنه محب للقوم، ويرجو أن تسوقه هذه المحبة لأن يحظى بمعيتهم، مصداقا لقول الصادق المصدوق: “المرء مع من أحب”(10)، فيقول: “وإنما أنا محب للقوم وأرجو بهذه المحبة أن أحشر معهم، والمرء مع من أحب”.(11)

     ومجمل القول أن الأثر الصوفي ظل حاضرا في شخصية المختار السوسي، رغم دخوله في الحركة السلفية الوطنية، وما كان لهذه الأخيرة من موقف اتجاه الطرق الصوفية، فإن صاحبنا ظل مقتنعا بدور التصوف وفعاليته الكبرى على المستوى الداخلي للإنسان أو فيما يتعلق بمحيطه الخارجي.

 الهوامش

[1] المختار السوسي: المعسول، 1/ج بدون تاريخ.

[2] نفس المرجع، 1/ج.

[3] نفسه، 1/ج.د.

[4] طه عبد الرحمن: العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، ص91-92.

[5] المختار السوسي: معتقل الصحراء، نقلا عن كتاب العمل الديني وتجديد العقل لطه عبد الرحمن، ص96.

[6] علال الفاسي: التصوف الإسلامي في المغرب، إعداد عبد الرحمن بن العربي الحريشي،مطبعة الرسالة، ص21.

[7] المختار السوسي: المعسول، 1/و.

[8] المختار السوسي: منية المتطلعين إلى من في الزاوية الألغية من الفقراء المنقطعين، المطبعة المهدية 1961، ص6.

[9] المختار السوسي: المعسول، 5/17.

[10] سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب في فضل التوبة ة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، رقم 3535، دار الحديث القاهرة.

[11] المختار السوسي: منية المتطلعين، ص4. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق