مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التصوف عند علماء القرويين المفهوم، التأصيل، التنزيل

مدخـــل

منذ أن بنيت القرويين من لدن المرأة الصالحة فاطمة أم البنين  بنت محمد بن عبد الله الفهري القروي ـ نسبة إلى القيروان ـ سنة:245هـ[1]، وهي تشهد قبولا وإقبالا عبر التاريخ، فنجد فيها الفاسي، والسوسي، والريفي، والصحراوي، والشنقطي، والدكالي، والوجدي، والمكناسي، والتلمساني.. فلم تكن منحصرة في المغرب خاصة بل كانت جامعا لمختلف الوافدين من مختلف البلدان والآفاق. كما زارها كبار العلماء والفقهاء والفلاسفة المسلمين؛ فقد زارها ابن رشد الجد وابن باجة وعبد الرحمان ابن خلدون وابن الخطيب….

لقد قام جامع القرويين عبر تاريخه العلمي والعملي ببناء العقلية المعرفية الإسلامية وتثقيفها، وتصحيح التمثلات والتصورات غير السليمة، والتأطير العلمي والفكري لمختلف المستويات الاجتماعية. فقد خدم شيوخ القرويين الإسلام خدمة جليلة، وقدموا تضحيات عظيمة في سبيل التمكين لدين الإسلام، فيسروا منهج التعليم وسهلوا مسلك التدريس، وأسسوا كراسي العلم، وأقاموا مجالس الوعظ والإرشاد، فوصلوا بين العلم والعمل، وربوا الأجيال على فضيلة التعلم وأخلاق التأدب. كما ألفوا مصنفات في مختلف العلوم والمعارف من علوم شرعية، وتراجم وفهارس، وطب، وهندسة، وأدب ورحلات ونحوها.

كما انكب شيوخ القرويين على خدمة الهوية الدينية للمغرب منذ زمن سالف، وقرون مضت، فخدموا المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية والتصوف، وفي هذا يقول الناظم:

                   وجامع مــنذ زمن ســـــالف       فهــــــرية بنتـــه للمعارف

                   فعاش منذ الألـــف بل ونيف       وزيد قـــرن بعد ذاك النيف

                   مشتغلا بالدرس والـتصوف       متزيــــــنا بالعلم والتعــرف

                  والحلقات في الصباح والمسا      معقــــــودة لبحر علم درسا

                   وفقه مــــــــالك هو المعتمد      وكلـــــهم فيه فقه مرشــــد

                   والأشعـــــري عندهم عقيدة      وسنــــــة متبوعة محمودة

                   وفي تـــــلاوة الكتاب المنزل     فضل مذهـب لورش منجلي[2]

ومن تجليات جهود علماء القرويين في خدمة التصوف، إعمالهم للكراسي العلمية واشتغالهم بالتصنيف والتأليف.

ولنشرع في تقديم نماذج وأمثلة على ذلك:

1-الكراسي العلمية:

إذا كانت الطرق البيداغوجية والمناهج التدريسية تتجدد في كل عصر ومصر، فإن شيوخ القرويين قد قاموا بتنزيل منهج بيداغوجي تواصلي فعَّال محقق للإثمار النافع، ويتمثل في الكراسي العلمية الذي أحيوا بها سنة المجالسة التي كان من مقاصدها إسماع الناس خصوصا إذا كثر عددهم، ومنهج المجالسة العلمية وإن كانت لها خصوصية فهي تستمد من مسلك الكراسي العلمية لأن المجالس العلمية تعني وجود كرسي يصعد عليه الأستاذ ليتمكن من تبليغ رسالته، وخاصة منها المجالس التي يناهز عدد الحضور فيها المائتين والثلاث مئة من الطلبة[3]

لذلك فإن شكل المجلس كان يتخذ صورة طبق الأصل للمجالس العلمية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،تلك الصورة التي ردد وصفها الإمام البخاري، تتميز بالجلوس أمام الشيخ حلقة حلقة، تبعا للسلوك الفطري عند الإنسان في التحليق. نجباء الطلبة يحتلون الحلقة الأولى، ويليهم من يأتي بعدهم ثم من يليهم، ويتوسط طلبة الحلقة الأولى قارئ يتلى تلاوة الآية المراد تفسيرها أو سرد الحديث المقصود شرحه، ويعرف باسم “السارد”[4]                                                      

ومن الكراسي العلمية التي تلقى فيها الدروس الخاصة بالتصوف نذكر:

-كرسي ظهر الصومعة:

“ويعد هذا الكرسي من أهم الكراسي العلمية التي تعاقب عليها علية القوم بالقرويين، وهو المعني بقولهمكرسي مابين باب الشماعين وباب الموثقينوكانت الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري مما يدرس فيه” [5].

كرسي الونشريسي:

كانت تدرس فيه حكم ابن عطاء الله السكندري.

-كرسي مسجد الأرازين:

كان شرح الحكم العطائية لابن عباد يدرس فيه.

ويمكن القول إن الكراسي العلمية كانت منتشرة انتشارا كبيرا في مدينة فاس، فقد كانت “موزعة في المساجد الكبرى والصغرى والمدارس بالإضافة إلى جامع القرويين. فقد كانت بهذه المدارس كراسي للدروس يجلس عليها علماء متخصصون وبذلك كانت بمثابة فروع لجامع القرويين مكملة لبرامج التكوين العلمي أو لبرامج التوعية والتوجيه الديني. وكانت أهم المواد العلمية المكونة لتلك البرامج هي العلوم الدينية والعلوم اللغوية ثم تأتي العلوم العقلية بعدها”[6] .

2- التصنيف والتأليف:

أما فيما يخص اشتغال علماء القرويين بالتصنيف والتأليف المتصل بالمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف، فإن علماء القرويين قد اشتغلوا به اشتغالا تجلى في المشاركة العلمية والمعرفية الصوفية، ومن نماذج ما أُلِّف في التصوف نذكر:

– تنبيه ذوي الهمم على معاني ألفاظ الحكم.

– شرح الحكم العطائية: لشهاب الدين أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى زروق البرنسي الفاسي(899هـ). 

– الدر الثمين والمورد المعين في شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين: لمحمد بن أحمد ميارة الفاسي(1072هـ)[7]، وهو شرحه الكبير على أرجوزة شيخه عبد الواحد بن عاشر(1040 هـ)[8]، وهي أرجوزة بسط فيها عقيدة الأشعري وفقه الإمام مالك , وطريقة الصوفية للجنيد، وهي مما كان يحفظه الخاص والعام.

-شرح الحكم العطائية: محمد بن عبد الرحمن بن زكري الفاسي (ت1144هـ) 

-شرح الحكم العطائية.

-شرح تصوف ابن عاشر.

تكميل الدرة الشريفة في الكلام على أصول الطريقة: للشيخ محمد بن قاسم بن محمد جسوس (1182هـ). 

– شرح الحكم العطائية.

–شرح تصوف ابن عاشر: للشيخ الطيب بن عبد المجيد بن كيران (1227هـ).

أولا: المفهوم

إن النظر من الزاوية الاشتقاقية للفظ التصوف، يستدعي استحضار جملة من الحدود والتعاريف المنبثقة والمتفرعة عن هذه الزاوية؛ وذلك لما لها من دور أساسي في تقريب الحد المفهومي للتصوف؛ وذلك من جهتين:

الأولى: كونها لا تخرج عن المعاني الشرعية التي أثبتها الشارع، إضافة إلى تعلق مضامينها بمصادر التشريع كتابا وسنة.

الثانية: إفادتها لمعاني روحية، وتخلقات ربانية، وتحقيقات قلبية وجدانية، تندرج تحت مقام الإحسان من الدين الإسلامي.

فقد قيل  في اشتقاق التصوف إنه مشتق:

– من الصوف؛ لأنه غالب لباس القوم،أو لأنهم يرون أنفسهم كصوفة ملقاة في الأرض والرياح تحركها، فلا يشهدون الأفعال من أنفسهم، وإنما يشهدونها من ربهم.

–  وقيل: من صُفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نسب إليها أهل الصفة، وهو نسب على غير قياس.

– وقيل: من الصّفة؛ لأنه اتصاف بالفضائل وتخل عن الرذائل[9].

– وقيل: من الصفاء، قال أبو الفتح البستي[10]:

             تخالف الناس في الصوفي واختلفوا       فيه وظنـوه مشـــتقا من الصوف

             ولست أنحل هذا الاسـم غير فــــتى       صافا فصوفي حتى سمي الصوفي[11]

وقيل: سمي بذلك؛ لأنه يصفي القلوب، قال ابن زكري:

              علم به تصــــــــــــفية البواطــن        من كــــــدرات النفس في الموطن[12]

وكدرات النفس عيوبها وصفاتها المذمومة، وقال غيره:

              ليس التصوف لبس الصوف ترقعه     ولا بـكــــــــاؤك إن غنى المـغنونا

              ولا قيام ولا رقــــــــص ولا طـرب      ولا تغاش كأن قـــد صرت مجنونا

              بل التصوف أن تصــــفـوا بلا كـدر      وتتبع الحـــــق و القـرآن والديـنا

              وأن ترى خاشـــــــعـا لله مكتـئبــا      على ذنوبـك طول الدهر محـزونا[13]

وإذا كانت الأقوال متنوعة من حيث حد التصوف من زاوية الاشتقاق،إلا أنها تندرج تحت نقطة تضمها وتحت معنى واحد يجمعها؛فمردها إلى صدق التوجه إلى الله،هذا التوجه الذي ينبعث من قلب المريد المتوجه.

ومن حدود وتعريفات التصوف نذكر:

– الموافقة للحق، في مخالفة الخلق.

– التماس الذريعة، إلى الدرجة الرفيعة.

– الانفراد بالحق، عن ملابسة الخلق.

– الأخذ بالأصول، والترك للفضول، والتشمر للوصول.

– التصوف تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية.

– الصوفي من صفت سرائره، واستقامت على الكتاب والسنة ظواهره[14].

يقول الشيخ زروق:”واعلم أنه اختلف في حقيقة التصوف على نحو ألفي قول، كلها راجعة لصدق التوجه إلى الله سبحانه من حيث يرضى بما يرضى ، وإنما تنوعت الأقوال بحسب تنوع الأحوال فافهم، وفائدته إفراد القلب لله سبحانه، فكل علم حي تبع له، ونسبته من الدين، كنسبة الروح من الجسد؛ لأنه مقام الإحسان، إذ مداره على مراقبة بعد مشاهدة، أو مشاهدة بعد مراقبة، وعليه تدور مقاصد الصوفية، وهو المبدأ والمنتهى، وشرف كل علم بحسب متعلقه، وهو دال، فأوله على خشية الله تعالى، وبوسطه على معاملته، وبآخره على معرفته والانقطاع إليه، فهو أشرف العلوم، إذ كلها وسائل إليه”[15]

وبالتأمل فيما تقدم نرى أن التصوف يرسخ التخلق ويعمق التحقق ويقوي التعلق.

فرسوخ التخلق بتدريب النفس على العبودية واستقامة الظاهر على الكتاب والسنة،والتلبس بآداب العبودية بين يدي الربوبية،فمن الإحسان أن تعبد الله؛لذلك اختص رسوخ التخلق بالأخلاق.

وعمق التحقق بصفاء السريرة ودوام المشاهدة والمراقبة والتلبس بغيرها من الأحوال والمقامات،واستمداد صنوف الإمدادات الذوقية.فمن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛لذلك اختص عمق التحقق بالأذواق.

أما سمو التعلق فيعني أن الصوفي يسمو ويقوى تعلقه بالله كما يزداد شوقه إليه،إذ يدخل ميدان التعرف والمعرفة والعلم بالله.ويتعلق بالإحسان من جهة المقصود الذي يقصده الصوفي في تعلقه وتوجهه،وهو الله سبحانه وتعالى؛لذلك اختص سمو التعلق بالأشواق.

وذهب الشيخ الطيب ابن كيران إلى أن المقبل على التصوف تحصل له جملة من الفوائد العظيمة وإن لم يكن مخلصا في إقباله على هذا العلم لجملة أمور استمداد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “المرء مع من أحب”[16]، وقوله عليه الصلاة والسلام “هم القوم لا يشقى بهم جليسهم”[17].

يقول ابن كيران: واعلم أنه يحصل للمكبين على علم التصوف وإن كانوا مخلطين،فوائد عظيمة منها: تقوية أنوار الإيمان واليقين؛لأن لكلام القوم صولة تحق الحق وتبطل الباطل، ونورا تاما،لبروزه من قلوب منورة، وكل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي برز منه. ومنها:معرفة آداب العبودية اللائقة بين يدي الربوبية؛إذ التصوف كله آداب (….).

ومنها: ما يحصل لمن سمع آدابهم وأخلاقهم الكريمة، ونظر في أوصاف نفسه الذميمة من علمه أنه بمعزل عن الاستقامة، فيستصغر نفسه ويحتقرها فيتواضع وينتفي عنه الكبر والعجب ويرى أنه مفلس من كل خير فيقف بباب مولاه بالاضطرار، ومن فتح له باب الاضطرار فتحت له أبواب الإجابة.

ومنها: ما تنتجه معرفة خصائصهم ومحاسنهم من جذب القلب لتعظيمهم ومحبتهم في الله، ومن أحب المحبين لله التحق بهم وكان معهم.[18].

 ثانيا: التأصيل:

نقرر ابتداء في الممارسة التأصيلية أن التصوف في كلياته وجزئياته قائم على الكتاب والسنة؛إذ كل ما لا ينبني على مصدري التشريع الإسلامي فباطل مردود،فهما أصل الاستمداد وأساس الاستنباط وركن الاستدلال، فما قبله ميزان الكتاب والسنة قبلناه وما لفظه لفظناه؛ لذلك قال الإمام الجنيد : « كل الطرق مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر رسول الله عليه الصلاة والسلام»[19]. ويقول ابن تيمية: «وأما أئمة الصوفية والمشايخ المشهورون من القدماء مثل الجنيد بن محمد وأتباعه، ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزوما للأمر والنهي وتوصية باتباع ذلك، وتحذيرا من المشي مع القدر »[20].فالطريق الصوفي طريق سني أساسه ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))[21] وما لا يتقيد بالكتاب والسنة اهتداء وتأسيا واستمدادا واستدلالا واستنباطا ومنهاجا فليس تصوفا،يقول محمد بن إبراهيم الملالي تلميذ السنوسي “ومذهب الفقراء والصوفية مذهب أهل القرءان والحديث وعلومهم مكارم الأخلاق”[22].

والتصوف في الممارسة التأصيلية عند علماء القرويين يختص بمقام الإحسان من الدين الإسلامي.فالدين الإسلامي إسلام و إيمان وإحسان بمعنى انحصاره في مقامات ثلاث حسب حديث جبريل[23] المشهور، ويقتضي هذا حصول التكامل والتداخل بين هذه المقامات الدينية الثلاث من إسلام وإيمان وإحسان واجتماعها جميعا بعلاقة اتصالية دائمة ؛ حتى إن المسلم المتحقق بمضامين الدين الإسلامي يوصف بأنه مؤمن ومحسن أي أنه في طلب دائم  للترقي في تلك المقامات؛لأنها من الدين لا أنه منعكف على مقام دون مقام ولا على تحقيق الإسلام والإيمان دون طلب الإحسان.

يقول الشيخ محمد بن قاسم جسوس:”اعلم أولا أن الدين ثلاثي حسبما دل عليه حديث جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام. الجزء الأول،إيمان: وهو ما يرجع إلى الاعتقادات. الثاني، إسلام: وهو ما يرجع إلى الأعمال. الثالث، إحسان: وهو ما يليق من الأدب بين يدي الله تعالى حال العبادة، والإنسان مكلف بجميعه، ولا يمكنه ذلك إلا بمعرفة ما يعتقد والجزم به، والعلم بما يعمل حكما وكيفية والعمل به، وعلم الآداب المطلوب في الإحسان والتخلق به.

فقام المتكلمون ببيان علم المقدمات المعتقدات، والفقهاء ببيان العمليات، والمتصوفة ببيان الأدبيات.(….) وبهذا تعلم أن علوم الدين منها ما يتعلق بظاهر العبد وحواسه، من طاعة أو معصية، وهو المسمى في الاصطلاح فقها، ومنها ما يتعلق بباطنه وقلبه، وهو علم المعتقدات، ويسمى إيمانا وتوحيدا، وعلم الأدبيات ويسمى تصوفا، والإحسان هو الإتقان، وتفسيره في الحديث بقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[24]، من باب تفسير الشيء بسببه توسعا، لأن من عمل وهو يشاهد الرقيب أو يعلم أن عليه في عمله رقيبا فإنه لا يدع شيئا من وجوه الأدب والإجادة والإتقان”[25].

ويقول الشيخ ابن كيران في شرحه على توحيد ابن عاشر فالحاصل أن هذا النظم اشتمل على فنون ثلاثة: العقائد؛ ويسمى علم الكلام، والفقه، والتصوف. وهي متعلقة بأقسام الدين الثلاثة على الترتيب: الإيمان والإسلام والإحسان.”[26]

إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بيَّن ” لجبريل عليه السلام الأقسام الثلاثة:”هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم“. قال أبو عبد الله البخاري “فجعل ذلك كله دينا“. وكما يُطلب العبد  بالتصديق بالله ورسله وبما جاءوا به عن الله وهو المسمى بالإيمان، وبالأعمال المتعبد بها قولية وفعلية ومركبة منهما كالصلاة بدنية وحالية ومركبة منهما كالحج والجهاد وهو المسمى بالإسلام، يُطلب أيضا بالآداب اللائقة بالعبد بين يدي مولاه سبحانه وتعالى وهي أخلاقه صلى الله عليه وسلم التي كان يتخلق بها مع الخالق تعالى ومخلوقاته،حتى قال تعالى: ((وإنك لعلى خلق عظيم))[27]،والعلم المتكفل ببيان المعتقدات هو علم أصول الدين، والعلم المتكفل ببيان العمليات هو علم الفقه، والعلم المتكفل ببيان الآداب هو علم التصوف، فلا غنى للمكلف عن هذه العلوم الثلاثة، ولا يكمل دين العبد إلا بالجري على مقتضاها، فبان من هذا أن علم التصوف هو العلم الباحث عن الآداب، اللائقة بالعبد بين يدي رب الأرباب.[28].

ثالثا: التنزيل:

يقصد بالتنزيل المسلك الذي تطبق من خلاله الممارسة الصوفية ويسلك من خلالها الطالب ميدان التجربة الصوفية،فهل يمكن لمن أراد السلوك والسير إلى الله أن يسلك بنفسه؟ أم لابد له ممن يسير به في قطع عقبات الطريق، ويرشده في سلوك أنواع الأحوال والمقامات،والسير في أنواع الدرجات النورانية.

يرى الشيخ ابن زكري أن المريد لابد له”أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه على نفسه وليتبع إشارته في مجاهرته”[29]

لكنه رأى أن هذا مما يعز وجوده حسب نظره في عصره؛لذلك بين طرقا أخرى قد تفيد من أراد السلوك فيقول”الثاني أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا وينصبه رقيبا على نفسه ليراقب أحواله وأفعاله فينبهه على سببها (….)الثالث أن يستفيد عيوب نفسه من لسان عدوه فإن عن السخط تبدي المساوئ (….)  الرابع أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموما عندهم طالب نفسه به ونسبه إليها فإن المؤمن مرآة المؤمن فيرى في عيوب غيره عيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك الآخرون عن أصله أو أعظم منه(…)بقي طريق خامس وهو اليوم أنفذ وأنفع وذلك النظر في كتب عيوب النفس وعلاجاتها فينظرها واحدا واحدا وينزلها على نفسه فما وجد فيها من ذلك نطر في علاجه واستعمله فإن النفوس اليوم لا تنقاد للنصحاء ولا تقبل نصحكم كما سبق وتنظر في كتب الكتب المنصوبة للمشايخ بعين القبول والتعظيم فتنتفع بذلك ككتاب المحاسبي وأبي عبد الرحمان السلمي”[30].

وهذه الطرق عدا صحبة الشيخ المرشد المحقق،غير موصلة إلى تحصيل علم التصوف والاستمداد من مقام الإحسان،بقدر ما يحصل سالك سبيلها بعضا من ألوان المجاهدات كمجاهدة التقوى مثلا أما السلوك والسير الروحي فلابد له من شيخ خبير محقق.

يقول الشيخ أحمد زروق “وقد تشاجر فقراء الأندلس من المتأخرين، في الاكتفاء بالكتب عن المشايخ، ثم كتبوا للبلاد، فكل أجاب على حسب فتحه، وجملة الأجوبة دائرة على ثلاث:أولها: النظر للمشايخ، فشيخ التعليم تكفي عنه الكتب للبيب حاذق، يعرف موارد العلم. وشيخ التربية تكفي عنه الصحبة لذي دين عاقل ناصح. وشيخ الترقية يكفي عنه اللقاء والتبرك. الثاني: النظر لحال الطالب، فالبليد لابد له من شيخ يربيه، واللبيب تكفيه الكتب في ترقيه؛ لكنه لا يسلم من رعونة نفسه وإن وصل. الثالث: النظر للمجاهدات.

فالتقوى لا تحتاج إلى شيخ لبيانها وعمومها، والاستقامة تحتاج للشيخ في تمييز الأصلح منها، وقد يكتفي دونه اللبيب بالكتب، ومجاهدة الكشف، والترقية لابد فيها من شيخ يرجع إليه في فتوحها”[31].

ويفيد قول عبد الواحد ابن عاشر:

                    يصحب شيخا عارف المسالك     يقيه في طريقه المهالك

                    يــــذكـــــــــــــره الله إذا رآه     ويوصل العبد إلى مـولاه 

ثلاث فوائد، إحداها: أن مما يطلب من السالك صحبة المشايخ:

الفائدة الثانية: أنه إنما يصحب من توفرت فيها شروط المشيخة، وكانت فيه الأهلية لها؛ بأن يكون عارفا بالطرق الموصلة إلى الله تعالى، قد فرغ من تهذيب نفسه، وتخلص من هواه، وذلك أن الأصل في باب المشيخة والاقتداء، قوله تعالى: ((وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ )) [32].

ومفهوم قول الناظم: شيخا عارف المسالك؛ أن من ليس كذلك، لا تطلب صحبته، بل تجب مجانبته وهجرته، لسريان دائه للصاحب، ومشاركته له في سوء العواقب، ولا عبرة بما شاع وذاع في هذا الزمان من ابتذال لفظ الشيخ، وإطلاقه على من لم يشم أدنى رائحة لهذا الشأن.

الفائدة الثالثة: بيان فائدة الصحبة، فأشار بقوله: يقيه في طريقه المهالك، إلى أن من شأن الشيخ؛ لكونه عارفا بطريق السلوك، أن يحميَ المريد من كل ما يمنعه الوصول إلى الله تعالى من أنواع الجهل والغرور، ودواعي الهوى الموقعة في ظلمة القلب، وإطفاء النور.”[33]. وعند ميارة في شرح التصوفولا بد للمريد في هذه الطريق من صحبة شيخ محقق مرشد “[34].وإلى هذا يذهب الإمام الغزالي الذي يرى أن” المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل ،فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة،فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان لا محالة، فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها،ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبث بنفسها فإنها تجف على القرب،وإن بقيت مدة وأورقت فإنها لا تثمر”[35].

خاتمة

– إن العطاء العلمي الزاخر لعلماء القرويين في التصوف يبين مدى الاهتمام الكبير الذي أولوه لمقام الإحسان من الدين الإسلامي من حيث التقريب والتسهيل والتيسير سواء من حيث التصنيف والتأليف أو من حيث التعليم والتدريس أو من حيث الوعظ والإرشاد؛إذ توسلوا بمختلف المناهج والوسائل قصد تقريب علم التصوف للمسلمين،على اختلاف مستوياتهم التمثلية،واستعداداتهم الذهنية،وسلوكاتهم الروحية.

-إن النظر في الحدود المتنوعة لمفهوم التصوف التي أوردها علماء القرويين في مصنفاتهم،يجلي ماهية التصوف المتجلية في أمور ثلاثة:

الأول: رسوخ التخلق المختص بالأخلاق.والقائم على تدريب النفس على العبودية واستقامة الظاهر على الكتاب والسنة، والتلبس بآداب العبودية بين يدي الربوبية، فمن الإحسان أن تعبد الله.

الثاني: عمق التحقق المختص بالأذواق. والقائم على صفاء السريرة، ودوام المشاهدة والمراقبة، والتلبس بغيرها من الأحوال والمقامات، واستمداد صنوف الإمدادات الذوقية. فمن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك

الثالث:سمو التعلق المختص بالأشواق الذي يبحث فيه الصوفي على أن يسمو وقوى تعلقه بالله،ويزداد شوقه إليه. إذ يدخل ميدان التعرف والمعرفة والعلم بالله.ويتعلق بالإحسان من جهة المقصود الذي يقصده الصوفي في تعلقه وتوجهه، وهو الله سبحانه وتعالى.

-إن الممارسة العلمية التأصيلية لعلم التصوف عند علماء القرويين انبنت بالأساس على اعتبار الدين الإسلامي مراتب ثلاثة: إسلام وإيمان وإحسان؛فالإسلام يختص بالعمليات،والإيمان يختص بالاعتقاديات،والإحسان يختص بالأخلاقيات والروحيات.

فعلم التصوف يختص بمقام الإحسان من الدين الإسلامي،مستندين في تأصيل ذلك إلى حديث جبريل المشهور. ويمكن القول بأن الآيات والأحاديث النبوية الآمرة بالتزكية القلبية وتخلية الباطن من الآفات والعيوب والإثم،تعتبر أدلة ضافية على مشروعية علم التصوف،لتنضاف إلى التأصيل المبني على النظر الكلي للتصوف لعلماء القرويين.

-تواردت أقوال علماء القرويين على اعتبار الشيخ المربي –المحصل لشروط التربية ومنها السند الصوفي المسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إضافة إلى إجازة الشيخ الذي تولى تربيته- ضرورة في تحصيل علم التصوف والتربية الصوفية.

-يظهر أن أقوال علماء القرويين في علم التصوف يشاركهم فيها أو يشاركون فيها علماء المسلمين الذين تصدوا لتبيان هذا العلم من أمثال أبي حامد الغزالي.

[1] – سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس:1/91.

[2] – أنظر أرجوزة من زهر الآس عن جامع القرويين بفاس عبر القرون تأليف الحاج أحمد ابن شقرون.ص3.

[3] – جامع القرويين،عبد الهادي التازي2/272.

[4]– جامع القرويين 1/172.[4]

[5]– جامع القرويين 2/376.[5]

[6] – أنظر جامعة القرويين وآفاق إشعاعها الديني والثقافي ضمن أعمال الندوة التكريمية لعبد الوهاب التازي سعود : 139.

[7] ـ سلوة الأنفاس : 1/167  ـ  شجرة النور الزكية : 309[7]

[8] – صفوة من انتشر : 59 , نشر المثاني : 1/283

[9] – انظر الدر الثمين والمورد المعين شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين لابن عاشر،للشيخ محمد بن أحمد ميارة المالكي، دار الرشاد الحديثة،الطبعة الأولى،2007م-1428هـ.ص509.

[10]  ـ أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي الشاعر المشهور، توفي سنة أربعمائة، وقيل سنة إحدى وأربعمائة ببخارى ،انظر “وفيات الأعيان” لابن خلكان، 1/88.

[11]  ـ انظرالدر الثمين”، ص:510.

[12]  ـ الدر الثمين، ص:510.

[13]– شرح تصوف ابن عاشر لمحمد بن قاسم جسوس،الطبعة الحجرية، نسخة القرويين،رقم:16731،تاريخ الطبع 1315هـ،ص4.[13]

[14] – شرح الحكم العطائية للشيخ الطيب ابن كيران مخطوط القرويين،رقم:1696،الورقة الثانية.

[15]ـ انظر  قواعد التصوف، لأحمد زروق، تحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط1، 2002م. ص:23، فما بعدها. وشرح الحكم العطائية لأحمد زروق، تحقيق: رمضان محمد بن علي البدري، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط 3، 2008م. ص: 19.

[16] -رواه البخاري،كتاب الأدب،باب علامة حب الله عز وجل،رقم 6196.

[17] -روامسلم واللفظ له في كتلب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار،باب فضل مجالس الذكر.وعند البخاري بلفظ “هم الجلساء لايشقى بهم جليسهم”،كتاب الدعوات،باب فضل ذكر الله عز وجل،رقم 6408.

[18] – شرح الحكم العطائية للشيخ الطيب ابن كيران مخطوط القرويين، رقم:1696،الورقة الثانية.

[19]– الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 2000م. ص 76.

[20] – مجموع الفتاوى جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية: 1425 – 2004. 8/369.

[21]– سورة الحشر الآية 7.

[22]– المواهب القدوسية في المواهب السنوسية، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الملالي،مخطوط القرويين،رقم:564، ص 7.

[23] – عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال: صدقت قال فأخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ثم انطلق فلبث مليا ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، ح ر:50.

[24]  – صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، ح ر:50.

[25] – شرح تصوف ابن عاشر لمحمد بن قاسم جسوس،الطبعة الحجرية،نسخة القرويين،رقم 16731،تاريخ الطبع 1315هـ،ص 1-2.

[26] -النشر الطيب على شرح الشيخ الطيب لإدريس بن أحمد الوزاني،المطبعة المصرية بالأزهر،الطبعة الأولى،1348هـ،1/225.

[27] -سورة القلم الآية :4.

[28] – شرح الحكم العطائية للشيخ الطيب ابن كيران مخطوط القرويين، رقم:1696،الورقة الثالثة.

[29] – شرح الحكم العطائية لمحمد بن عبد الرحمن بن زكري الفاسي،الطبعة الحجرية،1/118.

[30] – شرح الحكم العطائية لمحمد بن عبد الرحمن بن زكري الفاسي،الطبعة الحجرية،1/118-119.

[31] – “قواعد التصوف” لأحمد زروق، ص: 54-55.

[32]  ـ  سورة لقمان، الآية: 15.

[33] – شرح تصوف ابن عاشر لمحمد بن قاسم جسوس،الطبعة الحجرية،نسخة القرويين،رقم 16731،تاريخ الطبع 1315هـ،ص 139-146-152.

[34] -الدر الثمين والمورد المعين،ص540.

[35] -إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، المكتبة العصرية،الطبعة الرابعة،1999م-1420هـ،3/100.

 • من أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمها مركز الإمام الجنيد، أيام 04-05-06 أكتوبر2012، في موضوع: «جهود علماء الأمة في خدمة التصوف الإسلامي: الأصول والامتداد».

د. جمال بوشما

جامعة القرويين – كلية الشريعة، أكادير   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق