مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

الإخلاص

في اللغة:

الإخلاص في اللغة من الخالص وهو الصافي، إلا أن الخالص ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه. وأخلص لله أو لصاحبه: كان ذا علاقة نقية به، وترك الرياء في معاملته. وأخلص في عمله: أداه على الوجه الأمثل. وأخلص الشيء: صفاه ونقاه من شوبه[1]. 

في القرآن الكريم:

والإخلاص في القرآن الكريم يرد أحيانا بنفس الدلالة اللغوية كقول اللَّه تعالى:  ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾[2]، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾[3]؛ أي انفردوا خالصين عن غيرهم، وأحيانا أخرى يرد الإخلاص في البلاغ القرآني بمعنى أخص وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، وعدم الإشراك به، والتبرؤ مما يدعيه اليهود من التشبيه، والنصارى من التثليث، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾[4]. وقال: ﴿إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدّينَ﴾[5].

في الحديث الشريف:

وفى الحديث النبوي ورد لفظ الإخلاص أيضا بالمعنيين اللذين ورد بهما في القرآن الكريم، ومن ذلك حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أربع من كن فيه، كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها… »[6]، وما روي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا اللَّه، خالصا من قبل نفسه»[7].

 فحقيقة الإخلاص بمقتضى هذا الحديث؛ التبري من كل ما سوى اللَّه تعالى، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم، من حديث عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه: «وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الإخلاص في الرضا والغضب»[8]، و«ركب عكرمة بن  أبي جهل رضي الله عنه البحر،  فأصابتهم  عاصفة فقال أصحاب السفينة: أخلصوا، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا، فقال عكرمة: واللَّه لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره»[9].

في الاصطلاح الصوفي:

والإخلاص في اصطلاح الصوفية، يتوافق في معظم أقوالهم مع المعنى الوارد في الأصول القرآنية والنبوية، وكلٌّ اجتهد في شرح معناه، فمن ذلك ما روي عن حاتم الأصم (ت:237هـ) أنه قال: «الإخلاص  يعرف  بالاستقامة»[10] وكأنه يعني؛ أن الباعث على دوام الاستقامة هو الإخلاص، ولكن ذلك لا يحترز من النفاق، فالمنافق قد يدعي الاستقامة في الظاهر، وقلبه خلو من الإخلاص[11].

وبيّن الحارث المحاسبي (ت:243هـ) دقائق الإخلاص في القول والعمل، ووضعه في مقابل الرياء، وأفاض في ضرب الأمثلة التي تكشف المعاني القرآنية والنبوية وتوضحها، يقول بشأن ذلك: «إن الإخلاص منزلة الأقوياء، والخاصة من العابدين.. ووصف اللَّه عز وجل قلوب المخلصين، وأن الرياء إرادة لغير اللَّه عز وجل فرفضوه لله، فقال:﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ [الإنسان/9]»[12]. وروي عن أبى حفص النيسابورى (ت:270هـ)، أنه سئل عن العاقل؟ فقال: «المطالب نفسه بالإخلاص»[13]، وينسب إلى الجنيد (ت:297هـ) قوله: «الإخلاص ما أريد به اللَّه، من أي عمل كان»[14]، وعن رويم بن أحمد البغدادي (ت:303هـ) قال: «الإخلاص، ارتفاع رؤيتك من الفعل»[15] وتكلم القشيري (ت:465هـ) في وصف الإخلاص شارحا  ما  ورد  في الأصول القرآنية والنبوية فقال: «الإخلاص: ألا يكون شيء من حركاتك وسكناتك إلا لله»[16]، واستدل له بقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُد اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[17]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾[18] ويفسر الدين الخالص؛ بأنه ما تكون جملته لله،  فما  للعبد  فيه  نصيب،  فهو  من الإخلاص بعيد، اللَّهم إلا أن يكون بأمره تعالى، فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته، فإطاعته لا تخرجه عن الإخلاص باحتسابه ما أمره به، ولولا هذا لما صح أن يكون في العالم مخلص، ومعنى مخلصين له الدين؛ أي موحدين لا يشركون باللَّه شيئا، ومن السنة يستدل للإخلاص بقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة»[19].

وفيما يلي ذكر لأهم أقوال الصوفية حول الإخلاص:

من ذلك قولهم: «الإخلاص: هو صدق النية مع الله تعالى»[20].

وقيل: «هو أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن »([21]) .

وقيل:«هو أن يميز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من الفرث
والدم»([22]) .

وقيل: «الإخلاص هو أن يكون ظاهر الإنسان وباطنه وسكونه وحركاته خالصاً لله تعالى ، لا يشوبه نفس ولا هوى، ولا خلق ولا طمع »([23]) .

وقيل: «الإخلاص هو إفراد القصد إلى الله تعالى ، وإخراج الخلق من  معاملة الله جل جلاله بترك الحول والقوة مع الله جل جلاله»([24]) .

وقيل: «هو دوام المراقبة، ونسيان الحظوظ كلها»([25]) .

وقيل: «هو أن لا يشهد عملك غيره »([26]) .

وقيل: «هو ما أريد به الحق سبحانه وقصد به الصدق»([27]) .

وقال الحارث المحاسبي: «الإخلاص هو خروج الخلق من معاملة الرب، وقصد القلب بالعمل لله تعالى، والنظر إلى ثواب الله تعالى، لا يريد بذلك حب محمدة ولا كراهية ذم»([28]) .

وقال الشيخ أبو حفص الحداد: «الإخلاص هو إفراد الله بالعمل »([29]) .

وقال الشيخ سهل بن عبد الله التستري: «نظر الأكياس في الإخلاص فلم يجدوا شيئاً غير هذا: وهو أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله وحده، لا يمازجه هوى ولا نفس»([30]).

وقال الإمام الجنيد: «الإخلاص: هو ما أريد الله به من أي عمل كان »([31]).

وقال: «الإخلاص هو إخراج الخلق من معاملة الله، والنفس أول الخلق»([32]).

وقال الشيخ رويم بن أحمد البغدادي: «الإخلاص في العمل: هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضاً في الدارين »([33]) .

وقال الشيخ أبو طالب المكي: «الإخلاص هو التصفية من أكدار الهوى والشهوة»([34]).

وقال: «الإخلاص عند الموحدين هو خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال، وترك السكون والاستراحة بهم في الأحوال»([35]).

وقال الإمام القشيري: «الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد »([36]) .

وقال الشيخ عبد الله الهروي: «الإخلاص هو تصفية العمل من كل شوب»([37]).

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: “الإخلاص هو نور من نور الله يستودعه قلب عبده المؤمن فيقطعه به عن غيره، لا يطلع عليه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله”([38]) .

وقيل: «هو مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه»([39]).

من خلال ما تقدم من أقوال الصوفية بخصوص مصطلح الإخلاص نتبين جوهريته وقيمته في الطريق السلوكي الصوفي، ومجمل ما يمكن استخلاصه من تلك الأقوال أن الإخلاص نور يقذفه الله تعالى في قلب من شاء من عباده فهو عمل من أعمال القلب، وقبول جميع الأعمال الظاهرة متوقف عليه، إذ الغاية منه هو تحقيق الإخلاص والعبودية لله تعالى وحده. لأن قبول الأعمال لا يتم إلا بإرادة وجه الله تعالى بجميع الأعمال، وتصفية القصد فيها من جميع الشوائب والحظوظ.. فالإخلاص هو حالة روحية، شعورية لا يتحصّل منذ الوهلة الأولى وإنما يأتي بعد جهد كبير عبر تزكية النفس ومجاهدتها. وبحسب توغل العبد وتحصيله لهذه التزكية يتعمق إخلاصه، ومن علاماته كما يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني: «علامة إخلاصك أنك لا تلتفت إلى حمد الخلق، ولا إلى ذمهم، ولا تطمع فيما في أيديهم، بل تعطي الربوبية حقها، تعمل للمنعم لا للنعمة، للمالك لا للملك، للحق لا للباطل»([40]). وقيل: «علامة الإخلاص ثلاثة:

أحدها : أن يخاف المحمدة ، لئلا يبطل عمله ، ويضيع عمره في الأعمال الرديئة.

والثاني : لا يخاف ملامة الناس ، لأن من خاف ملامة الناس ترك كثيرا من أعمال الخير وكلام الحق .

والثالث: لا يحب المعذرة، لأن صاحب المعذرة لا يكون مخلصا»([41]).

الهوامش:


[1]  ـ المفردات، لسان العرب، القاموس المحيط، مادة “خلص”.

[2]  ـ سورة: النحل، آية: 66.

[3]  ـ سورة: يوسف، آية: 80.

[4]  ـ سورة: البيّنة، آية: 5.

[5]  ـ سورة: الزمر، آية: 2.

[6]  ـ أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (34).

[7]  ـ أخرجه البخاري في كتاب الرقائق (6570).

[8]  ـ أخرجه النسائى فى كتاب السهو  (1306)،  وأحمد فى المسند (18351)، وابن حبان في صحيحه (1971).

[9]  ـ أخرجه النسائى فى كتاب تحريم الدم  (4067).

[10]  ـ طبقات الصوفية، للسلمي، ص: 183، وقد صرح الشعرانى، أيضا أن المريد لا يكون صادقا مخلصا إلا إذا كان صادقا فى الاستقامة على حدود الشرع، انظر كشف الغمة عن جميع الأمة لعبد الوهاب الشعرانى، طبعة الكستيلية سنة 1281هـ، 1/10، وانظر أيضا فى هذا المعنى، شذرات الذهب لابن العماد، 8/374.

[11]  ـ ولذا كان تعبيره صلى الله عليه وسلم بقوله: «ألا إن فى الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله» تعبيرا دقيقا في هذا المعنى، الحديث رواه البخارى  (52).

[12]  ـ الرعاية لحقوق الله، ص: 129ـ132، ويعتبر كتاب الرعاية للمحاسبي من أدق ما كتب فى معرفة دقائق الإخلاص، والوقوف على خطرات النفس، وينظر أيضا للمحاسبي رسالة المسترشدين، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، طبعة مكتبة دار السلام الطبعة الرابعة، القاهرة سنة1982م، ص: 113.

[13]  ـ طبقات الصوفية، ص: 121، وانظر: الأخلاق بين العقل والنقل، للدكتور أبى اليزيد العجمي، في بيان علاقة الأخلاق بالعقل، وأثرها في النمو الحضاري، ص: 164 وما بعدها.

[14]  ـ التعرف لمذهب أهل التصوف، الكلاباذي، ص:118.

[15]  ـ نفسه.

[16]  ـ الرسالة القشيرية، ص: 443.

[17]  ـ سورة: الزمر، آية: 2ـ3.

[18]  ـ سورة: البيّنة، آية: 9.

[19]  ـ انظر المرجع السابق، والحديث صحيح أخرجه الترمذي في كتاب العلم (2658)، وابن ماجة في المقدمة (230)، وأحمد في المسند (13374)، والدارمي في المقدمة (227)، وغيرهم.

[20]  ـ إحياء علوم الدين، الإمام الغزالي، ج 4، ص: 351.

[21] – الإمام القشيري – الرسالة القشيرية – ص 163 .

[22] – الإمام الغزالي – إحياء علوم الدين – ج 4 ص 348.

[23] – الشيخ أبو طالب المكي – علم القلوب – ص 160 .

[24] – الشيخ السراج الطوسي – اللمع في التصوف – ص 218 .

[25] – الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي – حقائق التفسير – ص 377 .

[26] – الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي – زيادات حقائق التفسير – ص 226 – 227 .

[27] – الإمام القشيري – الرسالة القشيرية – ص 163 .

[28] – الشيخ عبد الله اليافعي – نشر المحاسن الغالية – ص 260 .

[29] – الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي – زيادات حقائق التفسير – ص 227 .

[30] – الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي – حقائق التفسير – ص 1189 .

[31] – الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي – حقائق التفسير – ص 1183 .

[32] – المصدر نفسه – ص 1189 .

[33] – المصدر نفسه – ج 4 ص 351 .

[34] – الشيخ أبو طالب المكي – قوت القلوب – ج 1ص 81 .

[35] – المصدر نفسه – ج 2 ص 73 .

[36] – الشيخ عبد الله اليافعي – نشر المحاسن الغالية – ص 261 .

[37] – الشيخ عبد الله الهروي – منازل السائرين – ص 40 .

[38] – د . عبد الحليم محمود – أبو الحسن الشاذلي الصوفي المجاهد والعارف بالله – ص 119 ( بتصرف ) .

[39] – الشيخ أحمد بن عجيبة – إيقاظ الهمم في شرح الحكم – ج 1 ص 25 .

[40] – الشيخ عبد القادر الكيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص 190 – 191 0

[41] – الشيخ عماد الدين الأموي – حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب ( بهامش قوت القلوب لأبي طالب المكي ) – ج 2 ص 215 .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق