مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

ندوة«صناعة الأمن والسلم في الفكر الصوفي»


نظمت جمعيةُ «فتح الغفار» بالمملكة المغربيةِ التابعةُ للطريقة المريدية بالسنغال، والتي أسسها أبو المحامد الشيخ الخديم – قدس الله سره – ندوةً علميةً بعنوان «صناعة الأمن والسلم في الفكر الصوفي»، وذلك يوم السبت فاتح شهر رجب الفرد سنةَ سبع وثلاثين وأربعمائة بعد الألف للهجرة (1437هـ)، الموافق للتاسع من شهر أبريل سنة ستة عشر بعد الألفين (2016م)، واحتضنتها قاعة المحاضرات بدار الثقافة في مراكش.

وقد شارك فيها فضلاءُ من الباحثين والدارسين كالدكتور إريك روس، أستاذ الجغرافيا المقدسة بجامعة الأخوين، والدكتور خالد التوزاني الباحث المتخصص في الأدب المغربي والأندلسي ونقد الإبداع، والدكتور محمد اليوسفي، وهو أستاذ بكلية اللغة العربية بمراكش، وعضو المجلس العلمي المحلي بها وغيرهمْ.

وقد شارك في هذه الندوةِ أيضاً الباحث أبو مدين شعيب تياو الأزهري الطوبوي، ممثِّلًا لمركز ابن أبي الربيع السبتيّ للدراسات اللغوية والأدبية، وألقى فيها ورقةً بعنوان:«المنهج السلميّ عندَ أبي المحامد الشيخ الخديم رضي الله عنه [ت:1927م]».

وقد تطرق الباحث في مقدِّمة ورقتهِ إلى قيمة الأمن والسلام في الإسلام، وإلى المنهج الذي سلكه الإمامُ العارف بالله الشيخ الخديم – قدس الله سره – في دعوته التجديدية والإصلاحية، والقائمِ على نبذ العنف بالعراء؛ فقد ظهر – قدس الله سره – في عصر مدَّ فيه العلوج المستعمرون أطنابَهم، وطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفَساد، وأدرك بذكائه وعبقريته أن شن الجهاد عليهم لا يجدي، وأن مواجهتهم بالأسلحة من الغرر، بل هو – بلا شكٍّ – من إلقاء النفس إلى التهلكة، فضلا عما فيه من الخسائر المادية، وإهلاك الحرث والنسل.

ومن أجل ذلك آثَرَ منهج التعليم والتزكية، بالاعتزال مع طائفة من مريديه يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويحملون من بعدهِ مشاعل الهدى ورايَاتِ التجديد والإصلاح، وصرّح بهذا المنهج بقوله:[من الرجز]

أُجَاهِدُ الكُفَّارَ بِالْآيَاتِ  ///  وَبِالأَحَادِيثِ بِلَا الْتِفَاتِ

وأبيَنُ من ذلك قوله:[من الكامل]

     إِنِّي أُجَاهِدُ بِالْعُلُومِ وَبِالتُّقَى  ///  عَبْدًا خَدِيمًا وَالْمُهَيْمِنُ شَاهِدُ

سَيْفِي الَّذِي يَفْرِي طُلَى مَنْ ثَلَّثُوا  ///   تَوْحِيدُهُ فَهُوَ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ

    وَمَدَافِعِي اللَّاتِي بِهَا أَنْفِي الْعِدَى ///   وَبِهَا يُفَارِقُنِي عَنِيدٌ قَاصِدُ

              ذِكْرٌ حَكِيمٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ   ///   مِمَّنْ يُزَحْزِحُ مَا يُرِيدُ الْمَارِدُ

               أَمَّا رِمَاحي فَالْأَحَادِيثُ الَّتِي ///  وَرَدَتْ عَنِ الْمَاحي وَنِعْمَ الْوَارِدُ

وَبِهَا أُزَحْزِحُ بِدْعَةً قَدْ أَحْدَثُوا ///  وَبِهَا يُلَازِمُنِي سَعِيدٌ عَابِدُ

أَمَّا الْفُرُوعُ فَأَسْهُمٌ قَدْ حُدِّدَتْ ///  لحديثِهِ، إِنَّ الْفُرُوعَ ذَوَائِدُ

وَبِهَا أُزَحْزِحُ صَائِلًا مِنْ شُبْهَةٍ  ///  عَنْ جَانِبِي إِنَّ السِّهَامَ طَوَارِدُ

أَمَّا الَّذِي يَتَجَسَّسُ الْأَسْرَارَ لِي  ///  فَتَصَوُّفٌ صَافٍ جَلَاهُ أَمَاجِدُ

وقد كان البحث على مبحثين:

أما المبحثُ الأولُ – وكان بعنوان: نزعُ بذور النزاع، والقضاء على دواعي الصراع – فقد تناول فيه الباحث كيفَ سعى الشيخ الإمام إلى مداواة بعض الأمراض التي أنهكت المجتمع الذي كان يعيش فيه، وجعلته على شفا حفرة من النار، وأعضلُها:

1- التعصب الطرقيّ؛ فقد جرّ سوءُ فهم التصوف بعضَ المنتمين إلى الطرق الصوفية إلى التحجر والتضييق، وجعل كلَّ حزبٍ فرحًا بما لديه، وكلَّ متصوّفٍ ـ إلا من رحم ربُّك ـ متبذخًا بطريقته، مُتباهيًا بشيخه، معتقدًا أنه الفَرَى، وأنَّ في جوفه صيدَ السابقين واللاحقينَ، فضلا عن اعتقاد بعضهم منهم أن تارك وردهم شقي، وطريد من رحمة الله.

وهذا الداء العضالُ عالجه الشيخ بدعوة المريدين مثنَى وفرادى إلى ملازمة حب جميع الأولياء والصالحين، وقال:

ولازِمُوا حُبَّ جَميعِ الأَنبيَا  ///  وَ الاَوْليَا وَمنْ يُطيع رَبِّيَا

وبيَّن أنَّ المشايخ كلَّهم على هدًى من ربهم، وأن نصوصهم وإن اختلفت ظواهرُه فهي من مشكاةٍ واحدةٍ، وأنَّ أورادهم كلَّها مُوصلة إلى حضرة الحقّ، وقال:

فَكُلُّ وِرْدٍ يُورِدُ الْـمُرِيدَا  ///  لحضرَةِ اللهِ وَلَنْ يَحِيدَا

سَوَاءٌ انتَمَى إِلَى الْجِيلَانِي  ///  أَوِ انتَمَى لِأَحْمَدَ التِّجَّانِي

أَوْ لِسِوَاهُمَا مِنَ الْأَقْطَابِ  ///  إِذْ كُلُّهُمْ قَطْعًا عَلَى الصَّوَابِ

فَكُلُّهُمْ يَدْعُو الْـمُرِيدِينَ إِلَى  ///  طَاعَةِ رَبِّ الْعَرْشِ حَيْثُمَا جَلَا

بِالِاسْتِقَامَةِ، فَلَا تَسْخَرْ أَحَدْ   ///  مِنْهُمْ وَلَا تُنكِرْ عَلَيْهِمُ أَبَدْ

2- الظلم، فقد كان فاشياً في المجتمع، إما مادياً كأكل أموال الناس بالباطل، وإما معنوياّ كالوقيعة في أعراض الناس والغيبة والنميمة، وكل أولئك ندد به الشيخُ الإمام – قدس الله سره -، وقدّم فيه المثل الخالدَ؛ فقد وطئت مرّة دابته قصبة من حرثٍ على حافّة طريقه، فوقف ينتظر صاحب الحرث حتى أتى واستحلَّه. وقال محذرا من الظلم: وقال:”ولا تظلموا ربكم ولا تظَّالموا في أنفسكم”، وقال:

وَاجْتَنِبِ الْغِيبَةَ وَاجْعَلْ ذِكْرَا  ///  رَبِّكَ مِنْهُ بَدَلًا وَشُكْرَا

*** 

وأكلُ مال الناسِ دُونَ طِيبِ  ///  نفسٍ يُؤدِّي النَّفْسَ للتَّعذيبِ

كالأكلِ بالدِّينِ والشَّفَاعَهْ   ///  وهكذَا تأخيرُ فِعلِ طَاعَهْ

أمّا المبحث الثاني – وكان بعنوان: نشر مكارم الأخلاق، وبثُّ التسامح والوِفاق – فقد تناول فيه الباحث الأخلاقَ التي سعى الشيخ الإمام – قدس الله سره – في بثها، وغرسها في المجتمع، وجِماعُها – كما قال – في ثلاثة أشياء: نية الخير، وقول الخير، وفعل الخير، والملازمة على ذلك، كما أن تلك الأخلاق الراقية قوامُها: احترامُ الكبير، وتوقيرُ الصغير، وأن يحبُّ المرءُ لمن في سنِّه ما يحبُّه لنفسِه، وقال:

طَرِيقَةُ الأَدَبِ رَحْمَةُ الصَّغِيرْ  ///  كَالْأَبِ وَالأُمِّ وَتَوْقِيرُ الكَبِيرْ

وَجَعْلُ مِثْلِكَ كَنَفْسِكَ سَوَا  ///  لِوَجْهِ خَالِقٍ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى

وكان من أرقى الأخلاق التي بثها وزرعها في النفوس:

1- العفو، وهو من خصال المؤمنين، وخلال المحسنين، ويعني التجاوز والصفحَ وترك الانتقام، وكان الشيخ الإمام – قدس الله سره – قدوةً حسنة في نقاوة السريرة وسخاوة النفس، وإقالة العثرة والعفو عن الظالم؛ فقد تألب عليه الأعداء ونفوه عن أرضه بغير حق، وحين أظهره الله عليهم، عفا عنهم جميعا، وقال:

وقال:

عفوت عن الأعداء طرا لوجه من  ///   نفاهم لغيري سرمدًا لستُ أدفع

وقال:”ليعلمْ كلُّ من وقف على هذا الرسم أن كاتبَ هذه الورقة عفا عن كلِّ من ظلمه وأنه لا يدعو على ظالم، وأنه يستغفر لكل مؤمن تعلق به، وأنه يحب لكل مؤمن لم يتعلق به ما يحبُّ لمن تعلقوا به”.

ووصَّى بكظم الغيط والعفو عن الناس، وقال:

وَاعْفُ عَنِ الَّذِي جَنَى لِلْحِلْمِ  ///   وَاجْتَهِدَنَّ فِي الْتِمَاسِ الْعِلْمِ

وقال:

إنْ لدغتْكَ عقربُ الخِصامِ  ///  فرَقِّها بالعفوِ والسّلامِ

إِنْ أسكرتْكَ خمرُ غَيْظٍ وحسَدْ  ///  فاشربْ مياهَ الصبرِ والزهدِ تُفَدْ

وأعلى من ذلك كلِّه أنْ حذَّر كلَّ ما يؤدّى إلى الهرج والمرْج كالخروج على الأمراء، وقال:”السّلام عليْكمْ، أمّا بعد: فإنّي أمرْت كلّ منْ يدّعي التعلق بي بطاعة الله وطاعة رسوله ـ صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وصحْبه وسلّم وبارك ـ والتّأدّب مع رؤساء أهْل الْأرْض بأنْ يجْتنبوا معًا كلّ ما يؤدّي إلى مفسدةٍ في الحال والمآل، وأنْ يجْتنبوا كلّ ما يؤدّي إلى تزلْزلٍ أوْ فسادٍ في الأرْض. فمنْ رأى خطّي هذا أوْ رأى خطًّا نقل منْه ولو بوسائط ممّنْ ينْتسبون إليّ أوْ سمعه وخالفه فلا يلومنّ إلّا نفْسه، الْحمْد لله ربّ الْعالـمين”.

2- التعددية، بمعنى الإيمان بالتعدد وَالانفتاح على الغَير وتقبُّل المخَالِف، والتخلص من كل أشكال التحجير والتضييق، وكان – قدس الله سره – قدوة حسنةً في ذلك، وتشمّر للتأليف بين القلوب، وجمع كلمةِ المسلمين وتوحيد صفوفهم كالبنيان المرصوص، فدعَا إلى مُوالاةِ كلّ مُؤمنٍ ناطقٍ بالشهادتين أيّا كان اتجاهُه الكلاميّ ومذهبه الفقهيّ ومشربه الصوفيّ، فقال:[من الرجز]

فَلَا تُعَادُوا مَنْ رَأَيْتُمْ فَاهُ  ///  يُخْرِجُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ

وقال:

أَئِمَّتِي فِي الفِقْهِ مَالِكُ العَلِي  ///  وَالشَّافِعِي والحَنَفِي وَالحَنْبَلِي

وقال:

مَشَايِخِي سَيِّدُنَا الجِيلَانِي  ///  وَالشَّاذَلِيُّ مَعَهُ التِّجَّانِي

وذكر أن اختلاف العلماء رحمة، وقال:”واختلافهم في المسائل تعلم وتعليم لا عداوة ولا تحاسد”.

*   *   *

وبهذا المنهج السِّلمي النير استطاع الشيخ الإمام – قدس الله سره – أن ينقذ بني جلدته من براثن الاستعمار، ويضع عنهم الإصر والأغلال التي كانت عليهم، ويؤسس طريقة صوفية، تكونُ ثغرا من ثغور الإسلام، معتنيةً بجميع جوانب الفرد المسلم روحيا وعقليا وجسديا، قائمة على ابتغاء الدار الآخرة، بالتزود بالدنيا، لقوله تعالى:(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[القصص:77].

وهذا المنهج ملخّص في قول الشيخ – قدس الله سره – وهو البيت الجامع -:

صَلاحِي بِإِصْلاحٍ وَعَفْوٍ بِلَا ظُلْمِ /// دَعَا مَنْ قَلَوْنِي لِلتَّبَرُّئِ وَالسَّـِلْمِ

ومعنى “الصلاح” الأهليةُ بأن يحصّل المرء قبل الاندفاعِ إلى الدعوة الأدواتِ التي تسعفه على أداء رسالته، والتوقيع عن الله تعالى، كالعلم النافع، وفقه الواقع.

أما “الإصلاح” فهو البدارُ إلى إرشاد الأمة وهدايتهم والنصح لهم، والجدّ في مواصلة رسالة الدعوة والإصلاح التي حمل رايتها سيد الوجود – صلى الله عليه وسلم – .

وهذا الإصلاح يقوم على مبدأي “العفو بلا ظلم” بمعنى الكف عن ظلم الناس أولا، والتجاوز والصفح ثانياً.

وهذا المنهج صالح لهذا العصر، وقادر على مواجهة التحدّيات التي يعانيها المسلمون في شتى بقاع العالم، وجديرٌ بهم أن يتمسكوا بعروته الوثقى، بتجنّب كل دواعي العنف، وبذل السلام للعالم.

‫2 تعليقات

  1. بحث علمي دقيق استطاع الباحث أن يبزر أهم ماتميز به التراث القديمي في سعيه نحو صناعة السلم، الله يحفظ الباحث

  2. بحث علمي دقيق، استطاع الباحث من خلاله أن يبرز أهم ما تميز به التراث الخديمي في سعيه نحو صناعة السلم. حفظ الله الباحث

اترك رداً على علي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق