ندوة علمية بعنوان: النص القرائي؛ أنظار في المنهج والتعليل
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلى الله وسلم على نبيه الكريم محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين
وبعد؛ ففي سياق الأنشطة العلمية والتثقيفية التي يرعاها مركز الإمام أبي عمرو الداني برحبة مراكش الحمراء والمنضوي تحت لواء الرابطة المحمدية للعلماء، الْتأَم شمْل فريق البحث بالمركز وهيئة الإشراف العلمي به على نظْم أشغال ندوة علمية وطنية بمدينة أكادير وذلك يومي الجمعة 09 والسبت 10 ذي القعدة 1440 ه الموافق ل 12و 13يوليوز 2019م ، تُعنى بالنظر في أوضاع النص القرائي القديم، برصد ظواهره التصويرية، وقَرْو أنماطه المنهجية، ومحاولة السَّير بها على جَدد التعليل والتوجيه أو التأويل ... بغية إسعاف بحثة أقطار العالم الإسلامي - مغربا ومشـرقا - من أهل القراءات المتخصصين بفسحة النظر الجاد الرصين، ومثافنة القضايا القرائية ومثاراتها الأدائية مما يضمن حسن التفهم للمراد، ويدرأ خطْب الإشكال عن اصطلاح النص القرائي ومفاده (أداء ورسما وضبطا ...).
ولقد دُعي لإعلاء مراسم هذه الندوة المباركة ثلة طيبة من فتيان صنعة القراءات وفنونها النُّجب، لمَّا اضطلع كل واحد منهم بقضية معتاصة تبغي كشفا أو تعليقا أو فسْـرا أو ما شابه.
ولقد وزّعت محاور الندوة على النظام الآتي:
اليوم الأول، وقد تخلّلته أربع جلسات نَاءَ بها أساتذة متخصصون قُرّاء، وقام بتسيير فقراتها وضبط زمام قيادها الدكتور محمد صالح المتنوسي، الباحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني مراكش، ثم تولّى مهمَّة التقرير فيها والاقتناص لأهم مثاراتها العلمية الأستاذ الباحث بالمركز مولاي المصطفى بوهلال، إذ همَّت موضوعات هذه المحاضرات جانب التعليل اللغوي لمرسوم المصحف الإمام وضبطه ونقطه، ثم تبيين فواضل الشاهد الشعري في ضبط علوم الكتاب العزيز وفوائده (رسما وضبطا وأوجها أدائية) بشـرائطه، مع الإسهاب في الكشف عن فقه المقارئ المشتهرة واكتناه مكنونات أوجه أداءاتها، ثم دفع الشبهة عن جانب ظواهر رسم الكتاب العزيز ونقطه وضبطه، وذلك لمّا نبغ في الأعصر المتأخرة من يدعو إلى التحرُّر من قيود الرسم القرآني وقواعد ضبطه وزعْمه تدميث الطريق على المتعلم بكتب نص القرآن الكريم على غير صورته الأولى ووضعه القديم وما يتصل بذلك.
الجلسة الأولى: عُنْوِنَتْ ب (تعليل أوضاع الضبط المصحفي، كشفا لعبقرية النقاط المتقدّمين ودفعا لإرجافات دعاة التجديد المحْدثين)، إلقاء الدكتور حسن حميتو، الأستاذ بجامعة ابن زهر أكادير.
يرى الأستاذ حسن حميتو أن في تعليل ظواهر الرسم المصحفي ونقطه مندوحة للمطّلع تفسح الباب أمامه للخروج من دائرة التقليد والاقتصار على مجرد الحفظ غَيباً، والتَّرداد ظَهراً غير الواعي والأخذ لظواهر الضبط عن طريق محض التلقين إلى سلوك سبيل التعليل لهيئات الرسم القرآني والتوجيه لظواهره التصويرية، وذلك حتى يصير الناظر على بيّنة في مكتوبه ومتلوّه،كما تعرّض الباحث لنشأة فن الضبط والنقط وعبقرية الرواد الأقدمين في خدمة الكتاب العزيز صورة وأداء كابرا عن كابر، على الوجه الذي يضمن للنص المنزّل حرمته وقدسيته وما إليه،ولا اعتبار بمن زعم التجديد لمرسوم المصحف والتحرر من وضعه القديم رسما وضبطا، ثم الاستعاضة عن ذلك بمصاحف اتخذت ألوانا من الحمرة والصفرة والزرقة ... تغني عن الظواهر القديمة في كتْب النص القرآني لمن أعياه تصوير هيئات النص المنزل وَفق قواعد محررة وضوابط مقررة حَفِظها التُّلاَّء منذ عهود التنزيل الأولى حتى هذا الأوان.
ولقد ذيَّل الباحث كلمته بدعوته إلى ضرورة ضبط مرسوم المصحف وَفق الوضع القديم مع تعليل ظواهره وأنماطه بجملة مصنفات منها المطول والمختصـر والمقتصد، كالمقنع للداني، والهجاء للمهدوي ، والتبيين لابن نجاح، وكذا من أعقبهم من الشراح والمُختصِرين كالتُّجيبي والخراز والمجاصي والشباني المنبهي والتّنسي وغيرهم ممن نظم أو نثر، كما ساق الباحث بعض النماذج على سبيل التمثيل للقاعدة الرسمية أو الضبطية القائمة على أوجه للأداء والمعاني النحوية والصرفية المطّردة في الغالب، لا على مجرد المعنى كما الحال في تعليل ألف (المْيعَاد) حذفا وإثباتا، وكذلك لام التعريف الداخلة على اللام الأخرى في (الَّتي، الَّذي) وكذلك (اللاَّتي) الدال على جماعة الإناث، لأن المصاحف إنما كتبت على لام واحدة، ولذلك وقع الخلاف في أي اللامين ثابت مرسوم.
الجلسة الثانية: وُسمتْ ب (التعليل اللغوي لمرسوم الإمام)، إلقاء الدكتور عادل فائز، الأستاذ بجامعة ابن زهر أكادير.
ألمع الأستاذ فائز إلى أنه ينبغي للدارس المختبر أن يجعل جلّ وُكده منصبّا على تتبّع القضايا الخطية المتفرّدة والمخالفة للرسم القياسي ومحاولة تعليلها وتفسيرها، كما أنه حصر أنظار التفسير لظواهر الحرف القرآني وهيئاته التصويرية في اتجاهات ثلاث هي:
التعليل المعنوي أو الفلسفي (نموذج ابن البنّاء العددي)، وذلك ما توسّع فيه المحدثون من الدارسين، وهو غير منضبط لنهوضه على محض التأملات الذاتية أوالفتوحات الشخصانية، مما لا يخضع لقانون معين أو ضابط مطّرد أو ما شابه، فمثله يشمّ ولا يفرك كما يقال، لعدم جريان القياس عليه أو الحمل.
التعليل التاريخي (نموذج غانم قدوري الحمد)، وهو محاولة للتفسير للظواهر الخطية، قائمة على الموازنة بين الرسم العثماني والرمز النبطي، ثم هو معتمد على نظرية التطور التاريخي للخط القديم الذي بقي الرسم العثماني دالاًّ على رسومه بعد توالي الحقب وتعاقب الأعصر، فالرسم العثماني في مجمله قد روعي فيه صور الخط السائد في العصر القديم السابق لزمن الرسم العثماني.
التعليل اللغوي: وذلك ما تؤكده مقالة الداني أبي عمرو في المقنع، ثم المهدوي في الهجاء، وغاية ما هنالك أن اعتبار القواعد الصرفية وتقلبات الصيغ النحوية وانتصابها السبيل الأهدى وما إليه قد لا يضمن النجاعة المرجوة في الوقوف على الوجه المراد في التفسير والتعليل أو ما شابه، خاصة وأن هذا النوع من التعليل لم يؤثر عن الرعيل الأول كالخليل بن أحمد، ثم زد على ذلك أن الرسام إنما أخذوا عن اللغويين الذين كانوا يعللون المنطوق لا المكتوب، فعلة الحذف لكثرة الاستعمال والدوران ثم الحذف طلبا للخفة إنما هما علتان نطقيتان لا يتعلقان بالمكتوب أو المرسوم، وهذا منحى سيبويه ومن لفّ لِفّه.
الجلسة الثالثة: تُرجمتْ ب (المآخذ الكلامية في فقه المقارئ، تثوير ومدارسة)، إلقاء الدكتور عبد الهادي السلي، الباحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني مراكش.
لقد علّق الأستاذ عبد الهادي السلي نياط كلمته على ما روي في المقارئ خلفا ووفاقا، ثم إنه أمهد لكلمته بمدخل مفاهيمي فسر فيه أجزاء العنونة جزءا جزءا حتى يضع السامعين إزاء إشكالات علمية تتعلق بمدى تأثير مباحث علم الكلام (الإلهيات، الغيبيات، النبوات، مبادئ علم المنطق) في العلوم الشرعية خاصة علم المقارئ والتفسير وما يتصل بهما، ثم حصر الباحث كلمته في الحديث عن مسائل تتعلق بعلوم المقارئ السبعة من الوقف والابتداء وعلم اللغة من حيث تصريفها وتركيبها وإعرابها وفقهها ودلالتها ...، فشرع أولا في إفاضة القول عن الجملة الأولى: (الخلف الآيل إلى بنية الكلمة) ومثَّل لذلك بمسألة خلق القرآن بين الكسبية والقدرية والجبرية، نظرا لحضور ذلك في الخلف القرائي خاصة في كتب التفسير التي عني بعضها بالنظر الكلامي والعقلاني دون التفسير بالمأثور ثم ساق لذلك آية (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا) [الأنعام/149] وعيَّن ما في كلمة (كَذَبَ) المخففة الشاذة من الحجّية، خاصة عند المعتزلة في مسألة خلق الأفعال وساق آية أخرى متعلقة بعصمة النبوة وهي قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُواْ) [يوسف/110] إذ لا حجة في قراءة التثقيل واتخاذها سبيلا للطعن في عصمة الأنبياء، وإنما الكلام مسوق لقراءة التخفيف في (كَذَبُواْ) التي يتبدَّى من ظاهرها أن الله قد أخلف وعده رسله، وهو ظن قبيح تعالى الله عنه، ولذلك أنكرت عائشة رضي الله عنها هذا الحرف ولم تَرَه أبدا ...، الجملة الثانية: (إعراب الكلمة حال تركيبها) وساق الباحث لذلك مثالا وهو قوله تعالى: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات/ 95]، فهذا مستمسك القدرية في أن الله تعالى قد خلق الأفعال باعتبار (ما) موصولية، وكذلك ساق تأويل الكسبية والمعتزلة في تعليل الحرف الشاذ ...، الجملة الثالثة: (معجمية الكلمة فقها ودلالة) ساق لها للتمثيل قوله تعالى: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) [الإسراء/16] قرئت (آمَرْنا) وفي الشاذ (أَمَّرْنا)، فبين أن المتكلمين على أن الله لا يأمر بالفحشاء، وساق قول الكسبية والقدرية وكذا المعتزلة وتأويلاتهم، الجملة الرابعة (المرسوم تنزلا) ومثاله قوله تعالى: (لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً) [مريم/18] قرئت بالهمز وبالياء على الحقيقة، إذ الواهب هو الله سبحانه وبالهمز على المجاز، فينبغي حمل قراءة الهمز على قراءة الياء، الجملة الخامسة (ضبط السواد تنزلا) وساق له قوله تعالى: (قَالَ عَذَابِي أُصيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ) [الأعراف/156] وقرئت (مَنْ أَسَاءَ) من الإساءة، فبيَّن مناط الجزاء وفق القراءتين عند الجمهور وعند القدرية والمعتزلة والكسبية، وهذه القراءة موافقة للمرسوم ومخالفة للضبط المعلوم، الجملة السادسة (الوقوف) وساق لها شاهدا قوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران/7] والمتشابه الحقيقي، ثم قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص/68]، وتغاير المعاني والحجية وقفا وابتداء عند القدرية والجبرية والمعتزلة، ... ثم انتهى الباحث في خاتمة الكلمة إلى تقرير جملة ملاحظ تتعلق بمدى الأثر الذي أحدثه علم الكلام في كتب التفسير وعلوم المقارئ خاصة، وأن للتمذهب أثره في اختيار المقرأ والحرف القرآني والاحتجاج له، وكذا تأثر علم الوقف والابتداء وعلم الإعراب وما أشبه.
الجلسة الرابعة: سُمّيت ب (توظيف الشاهد الشعري في التوجيه القرائي)، إلقاء الدكتور الطيب شطاب، الأستاذ بجامعة ابن زهر أكادير.
نبّه الأستاذ شطاب في بدء كلمته على طبيعة علم القراءات وما يعتريه من الاختلاف والتنوع في أوجه النص المنزل، الأمر الذي يضطرُّ مكتمل الأهلية للنظر والسعي في ترجيح أحد المختلفات خاصة وأن لها اتصالا وثيقا بالعدد السبعة الذي يُضيّق من دائرة الخلف ويحصره في هذا النطاق خلافا لسائر المعارف الأخرى، ثم إنه مهما قيل في تفسير المراد بالعدد السبعة فإن الاختلاف في القراءات وتعيينها يبقى منضبطا بمعايير قد تطّرد ويسهل بها حصر أوجه القراءة المقبولة (صحة السند، موافقة الرسم، موافقة العربية ولو بوجه)، إلا أن أكثر هذه الضوابط تشعبا وأوسعها تفرعا هو الضابط اللغوي، ولأجله أتى الشاهد الشعري لضبط منازع العربية فيه والتوجيه لأضرب الخلاف القرائي والاحتجاج لها طلبا لترجيح الأقوى معنى والأصح وجها، ثم شرع الباحث في تعريف الشاهد الشعري وخصائصه ثم نشأة الاحتجاج بالشاهد ومراتبه في توجيه القراءات خاصة ومناهج المصنفين فيه وما إلى ذلك.
والشاهد عموما يكتسي صبغة الحضور والظهور والإعلان، فلا يلجأ إليه إلى لحاجة البيان والإثبات والحجة وما شابه، فحاجة التوجيه لأوجه القراءة وثيقة بعلم الشعر وفنونه، فهو لذلك (أي الشعر) أصح متن يعتمد عليه في معرفة عربي اللغة من معرّبه أودخيله من أصيله وقويّه من ضعيفه ...، ثم الشعر طبقات في الاحتجاج به والاعتماد عليه، ولأن التوجيه نوع تفسير وبحث عن الجهة المرادة في المقروء كثر الاهتمام به في كتب الاحتجاج والمعاني كما الشأن بالنسبة لابن خالوية وأبي علي الفارسي في حجتيهما ... وكذلك المحتسب لابن جني وصنعه في الاحتجاج للشاذ وما شاكل، ولذلك كثر الانتصار لبعض الأوجه في المقروء على مقابلها المتروك حتى اشتهرت الأولى وخملت الأخرى، ثم الموجهون منازل وطبقات رتّبها ابن مجاهد في مقدمة كتاب السبعة، ولقد أورد البغدادي في خزانة الأدب أحوال الشاهد الذي يصح اعتماده في التوجيه فجعل مراتب الشعراء على أربع طبقات (الجاهليين، المخضـرمين، الإسلاميين، المولّدين)، فالأوليان يستشهد بكلامهما إجماعا، والأخريان يستشهد بشعرهما على تفصيل، ... ثم ساق الباحث بعض الأمثلة من الأوجه التي ردّت القراءة بها لعدم قوة وجهها في العربية وتأخّر فصاحتها أو رَكَّتْ في معناها أو ما شابه، كما بين الباحث أن نشأة الشاهد وطريانه ارتبطت ببروز ظاهرة الاختيار والانفرادات في المقروء المنبنية على أساس من الصحة في السند أو القوة في الوجه، ولعل أبرز من جَلَّى هذا المنحى في التوجيه والحجة أبو جعفر الطبري في تفسيره، فجاء لذلك كتابا ثرّاً جامعا للأوجه ومنازلها واختيار العالي منها المستجمع لشـرائط الاحتجاج به والإشارة إلى المتروك النازل من الأوجه وما إليه.
وفي الختم انتهى الباحث إلى أن للشعر العربي القديم مزية في علوم القرآن الخادمة له، ودليل ذلك الحملة الكبرى التي أقيمت على الطعن في الموروث الشعري القديم والتي تولى كبرها طه حسين ومن سار على نهجه، لوعيهم العميق بأهمية الشعر القديم في الدراسات القرآنية، ليفسح الباحث مجالا تساؤلا يبغي فيه جوابا مقنعا عن مدى اتصال الدارسين المهتمين بعلم القراءة خاصة بتراثهم الشعري القديم وإعماله في التوجيه والاحتجاج لكثير من الأوجه المتروكة من هذا الجانب.
وفي الختْم فتح رئيس الجلسة ومسيّرها المجال للنقاش والمطارحة، إذ أسهم المشاركون في أشغال الندوة بآرائهم وأبدوا أنظارهم تتميما للّذي بُثّ أو أُلقي وتكميلا، ثم قبل رفع الجلسة جدّد القائمون على أعمال هذه الندوة التّرحاب بالأساتذة المشاركين – قاطنين ومتغرّبين - وقدموا توصيات في صبغة مشاريع علمية تربط حاضر البحث في قضايا القراءات وفنونها بمستقبل بعيد مطارح النظر مستجيب لحاجة المهتمين من المبتدئين والمتناهين، والحمد لله رب العالمين.
فبعد اليوم الأول الذي كان حافلا، استأنفت الندوة عشية يوم السبت، وكان مبرمجا فيها أربع مداخلات يدور قطب رحاها حول مناهج المؤلفين في التصنيف، وترأس الجلسة الأستاذ عبد الجليل الحوريشي الباحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني الذي افتتح كلمته بكلمة شكر لكل من أسهم في إنجاح هذا المحفل البهيج، تلاها قراءة آيات بينات من أواخر سورة النحل حبرها القارئ الشيخ عبد الرزاق أعويش.
أول مداخلة في هذه الجلسة كانت بعنوان: البارع في مقرإ الإمام نافع للإمام ابن آجروم (ت723ه): مدارسة في المنهج من إلقاء د. محمد صالح المتنوسي الباحث بالمركز.
افتتح الباحث كلمته بمدخل بيّن فيه اهتمام المغاربة وتفننَهم في التأليف في علم القراءات خصوصا في مقرأ الإمام نافع، والعشر النافعية، والحطيات، والرمزيات ..
وكان من بين هؤلاء؛ الإمام العَلمُ محمد بنُ محمد بنِ داود ابن آجروم مصنفُ البارع وغيرها من المصنفات الماتعة.
ذكر الباحث سيرة ابن آجروم؛ فذكر اسمه ونسبه وأصله وكنيته الذي اشتهر بها «ابن آجروم» وهي تعني بالأمازيغية الفقير الصوفي. كما ذكر أن مولده كان سنة 672ه وذكر اختلاف المترجِمين له في مكان ولادته.
كان بيت ابن آجروم بيتَ علم وفضل كما في أبيات لابنه منديل مطلعها:
نحن الألى فرعوا للمجد ذروته وفي ظلال تلاع العز قد نزلوا
رحل المترجم له رحلة واحدة وذلك لتأدية حجة الإسلام، والتقى أثناء رحلته بشيوخ أبرزهم: أبو حيان الغرناطي، التقاه بمصر واستجازه لنفسه.
ومن شيوخه أيضا والده، وابن القصاب، وأبو القاسم محمد بن عبد الرحيم القيسي الضرير وغيرهم كثير.
كما أنه تتلمذ عليه غير واحد: أبرزهم ولداه منديل وأبو محمد عبد الله، والخراز شارح الدرر وغيرهم.
من مؤلفات ابن آجروم: المقدمة في النحو وهي أشهر كتبه، وفرائد المعاني في شرح حرز الأماني، وروض المنافع في مقرإ الإمام نافع، والتبصير، والبارع.
كان رحمه الله زاهدا في الدنيا فكانت وظيفته تأديب الصبيان، ولم يعمّر كثيرا فقد عاش 51 سنة ودفن بمدينة فاس.
ثم انتقل الباحث إلى الكلام حول كتاب البارع فذكر الاختلاف الوارد في تسميته، وذكر تاريخ نظمه وعدد أبياته. وموضوع هذا النظم هو قراءة نافع من روايتي ورش وقالون، سلك فيه الناظم طريق الداني، وقسمه كما جرت عادة المصنفين إلى أصول وفرش للحروف.
ثم ذكر المحاضر منهج الناظم حال اتفاق الراويين عن نافع وحال اختلافهما. وذكر أن السمة البارزة في النظم هو الاختصار، كما أنه لا يعلل الأحكام، ولا يذكر الاختيار عند قراء أهل فاس، وأحيانا قليلة يذكر ما يراه راجحا.
أشاع نظم البارع عن مؤلفه تلميذه أبو عبد الله محمد بن عمر اللخمي، وأسنده عنه السراج والمنتوري وابن غازي، فكتب له الشيوع والذيوع، ولا يعرف له شرح مطبوع إلى يومنا هذا.
أما المحاضرة الثانية فكانت بعنوان: منهج الشيخ محمد بن عيسى الوارتني في تقييده جمع المعاني الدرية والمباحث السنية في تقييد البرية؛ تعريف وتوصيف من إعداد د. أحمد فاضل أستاذ بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة.
بعد شكر الأستاذ الباحث للقائمين على مركز الإمام أبي عمرو الداني وعلى اللجنة التنظيمية لهذه الندوة العلمية بدأ مداخلته، وكانت منقسمة إلى ثلاث نقاط هامة:
الأولى: التعريف بالشارح الأصل، وهو أبو الحسن علي بن عبد الكريم الأغصاوي عاش في نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الهجري، لم يجد الباحث له ترجمة وافية، فذكر من شيوخه: أبو الحسن الصغير علي بن عبد الحق الزرويلي ت719ه، و أبو عمران موسى بن محمد بن أحمد الصلحي الشهير بابن حدادة كان حيا بفاس سنة 723ه، وذكر من تلامذته الوارتني صاحب التقييد، وعبد القوي بن أحمد بن عمران المجاصي. وذكر آثاره وأن وفاته في أواخر القرن الثامن الهجري.
الثانية: التعريف بالمقيد وهو أبو عبد الله محمد بن عيسى الوارتني وهو من علماء القرن التاسع، لم يجد الباحث معلومات كثيرة، كل ما هنالك أنه وجد أنه قرأ أنه قرأ على أبي عبد الله القيسي الكفيف صاحب الميمونة الفريدة المتوفى سنة 810ه.
الثالثة: التعريف بالشرح وفي ضمنه الكلام على المنهج، ذكر أن اسم الشرح لم يختلف فيه، ثم ذكر منهج المؤلف في الشرح، فهو يأتي ببيت أو بيتين أو ثلاثة فيأتي بحل معانيها والتمثيل والاستشهاد لها من المصادر المتقدمة ثم يعرب الأبيات كلمة كلمة بشكل مختصر. كما أن يعنى ببيان مسائل الخلاف الدقيقة وترجيح ما يراه مرجحا بالأدلة. ومن السمات أيضا استشعاره للأسئلة والإجابة عنها.
أما المحاضرة الثالثة فكانت بعنوان مباحثات في منهج العلامة مسعود جموع الفاسي في معونة الذكر في الطرق العشر ت1119ه من إلقاء د. أسامة سليم باحث في علم القراءات.
بعد شكر القائمين على مركز أبي عمرو الداني، عرّف الباحث بالمؤلف، وهو مسعود بن محمد بن علي جموع السجلماسي الأصل الفاسي الدار السلوي الوفاة أبو سرحان (ت1119ه).
من أبرز شيوخه ابن القاضي العلامة المعروف، وأبو عبد الله بن أبي المحاسن الفاسي، وأبو عبد الله محمد بن سيدي إدريس وهذا الأخير هو شيخه في العشر النافعية.
وأبرز تلامذته: أبو العباس الدرعي، وأبو العلاء ادريس المنجرة، وأبو عبد الله ابن أبي الطيب الوزاني.
آثاره كثيرة جدا؛ ألف في السيرة، والنحو، والمنطق، والحديث، والرسم، والقراءات، وذكر بعض مؤلفاته في القراءات. وقد أثنى عليه كثير من العلماء.
منهج المؤلف
عنون المؤلف كتابه بأكثر من اسم، أشهرها معونة الذكر في الطرق العشر، وذكر في صدر كتابِه أنه قصد بتأليفه العشر النافعية، متبعا ترتيب المصحف، ومكتفيا بذكر الخلف عند الموضع الأول، ومنبها على مسائل الخلاف، وما جرى عليه العمل، والمدني والمكي، وغيرها من المسائل.
ومنهجه أنه يذكر الكلمة المتضمنة للحكم ثم يورد الشاهد عليها من الدرر اللوامع فإن وافق ما في الدرر العشر النافعية يكتفي بقول ابن غازي:
فالكل إن سكتُّ فيما أطلقا أو عم أو عزا له كاتفقا
وإن كان في بعض الطرق تشريك أو تخصيص في الحكم يذكر بيت الدرر ثم يأتي بالبيت الدال على التشريك أو التخصيص من التفصيل. ثم مثل لذلك بكلمة «البيوت».
وإن كان الحكم زائدا على ما في الدرر ذكره وذكر الشاهد عليه من التفصيل.
وقد جزأ كتابه على الأرباع؛ يفتتح كل ربع بذكر الغنة في اللام والراء، ويذكر الإخفاء عند الخاء والغين، ويختمه بذكر رؤوس الآي التي تضم عندها ميم الجمع عند الواسطي إن وجدت في الربع.
كما أنه استعمل رموزا حرفية للدلالة على بعض المصادر التي يكثر دورها في الكتاب، كما تضمن الكتاب مسائل تجويدية، وكذلك مسائل في الضبط.
ثم رفعت الجلسة لأداء صلاة المغرب، وبعد استراحة شاي قصيرة استأنفت المحاضرة الرابعة، وهي بعنوان فن التصدير عند المغاربة بين التشهير والتنظير: قراءة في المنهج من إعداد د. يوسف الشهب أستاذ الثانوي التأهيلي بمراكش.
بعد خطبة المحاضرة التي أومأ فيها إلى موضوعها وشكر القائمين على هذه الندوة، ذكر الباحث أن التصدير اصطلاح أو استعمال مغربي، وبيَّن الفرق الدقيق بينه وبين مصطلح المشارقة. وهذا التصدير يكون لمعان علمها من علم، وخفيت عن آخرين كما ذكر الفاسي، وذكر أمثلة للتصدير كترتيب مخارج الحروف، وترتيب القراء ..
مادة التصدير تجدها منثورة في شتى كتب القراءات الروائية على الخصوص، وذكر المؤلفات التي وجد فيها ذكر التصدير تضميناكإتقان الصنعة في التجويد للسبعة لأحمد بن علي بن شعيب، والفجر الساطع لابن القاضي وغيرها. ثم ذكر المؤلفات التي محضت لموضوع التصدير وألف فيها استقلالا كأرجوزة التبصرة للشيخ البشير بن مرزاق مصدرة للعشر النافعية، وتكميل المنافع في الطرق العشر عن نافع للرحماني، وغيرها من المؤلفات دون إغفال مؤلفات الفاسي الأربعة.
أما توجيه التصدير فقد عرف به الفاسي دون غيره مع سمة واضحة في مؤلفاته من التفريق بين التصدير في وقف حمزة وهشام على الهمز، والتصدير في مسائل الخلف الأخرى.
وبعد ما ذكر السمة الجامعة للمصدِّرين، والسمة الفارقة لهم، نبه أن الفاسي خالف ما جرى عليه العمل من زمن ابن القاضي إلى زمنه من عدم متابعته لهم فيما اقتصروا فيه على وجه واحد، وفي إفراده للمصدَّر في وقف حمزة وهشام على الهمز مع إضافة مذهب المشارقة في ذلك.
ثم ختم الباحث بأمثلة للفاسي في التصدير لمسائل التيسير والشاطبية بنى فيها تصديره على النظر قبل أن يعتمد الترتيب المعتمد على التشهير وما به الأخذ. معتمدا في ذلك على موجبات تسع لا تخرج عن الداني فذكرها، وختم بحثه بذكر خلاصات ست.
وبعد انتهاء المداخلات بدأت المناقشة، فتدخل كل من: د. حسن حميتو، ود. أحمد فاضل، ود. محمد صالح، ود. توفيق العبقري، وذ. سمير بلعشية، وذ. النجم التهداوي.
وختمت الجلسة بالدعاء لمولانا أمير المؤمنين.