مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

ملتقى علمي حول التحريرات القرائية والوقف الهبطي

يوليو 4, 2019

انعقد بمركز أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة التابع لللرابطة المحمدية للعلماء. بمراكش. ملتقى علمي يوم الخميس فاتح شهر ذي القعدة سنة 1440هـــ الموافق لـــــ04 يوليوز 2019م. وقد انتظمت أشغاله في جلستين علميتين تخللتهما مذاكرات ومحاورات في قضايا قرائية  تشغل بال المركز.

خصص موضوع الجلسة الأولى للتحريرات القرائية: دراسة نقدية.  وقد ترأس أعمالها الأستاذ الباحث سمير بلعشية (باحث بالمركز) وأطر محورها الدكتور محمد نافع (أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية. بني ملال) الذي ألقى محاضرته بعد افتتاح الدكتور محمدصالح (باحث بالمركز) إياها بتلاوة ما تيسر من الذكر الحكيم.

استهل المحاضر مداخلته بأهمية فن التحريرات من جهة ما يثيره من إشكالات علمية شغلت وما تزال الباحثين المتخصصين، مما جعلهم أوزاعا في الرؤى حول التعامل معها: بين مغال في الالتزام بها لدرجة الإلزام، وموسع بابها من غير تضييق، ومحاول الأخذ بطرفي الموضوع من بُعد أفضت إليه قناعته. وبين هذه الرؤى حاول المحاضر أن يثير تساؤلات نقدية تصل البحث في التحريرات إلى أصولها الأولى قبل أن تنالها ضروب من الحصر تنهج بها نحو الاحتمالات العقلية النظرية التي يعسر ضبطها. مجمِلا مباني النظر في الموضوع في سبع مسائل:

  1.  ففي محاولة نقدية لواقع هذا الفن، ألمع الباحث المحاضر إلى أن المعاني الكامنة في مفهوم التحريرات الآيلة إلى الضبط والتمحيص والتخليص ما فتئت تنفك عن علم القراءات منذ الصدر الأول، إلا أن المتأخرين ألبسوها لبوسا خاصا من التضييق في أوجه من الحرف المتلو، كان ينبغي أن تبقى خادمة لعملية الاختيار المصاحبة لتاريخ القراءات منذ عصر الصحابة والتابعين، الذين تسامحوا في إشاعة المروي متلوا بين القرأة دون تشنيع يفضي إلى خصومة أو جدال، ونتيجة لذلك اقترح الباحث درس التحريرات في دائرة الاختيار.

2- كما ألح المحاضر على قضية الإلزام الملحوظة في هذه التحريرات، فمع ما فيها من عسر على التالين للكتاب، تقدح في جهود جُمَّاع القراءات وأوجهِها المعتبرة، كابن الجزري، فضلا عن إيجابها وجوها تُلزم القارئين وإن لم تتلق بالمشافهة، وفي هذا ما فيه من توهين السند الذي هوالعيار الأمثل في القراءة. وتمحيصا لهذه المثارات وتفاديا لوهَنها دعا المحاضر إلى النظر في واقع القراءات في العصور الزاهرة، ولا سيما عصر ابن الجزري الذي تمر عليه جملة أسانيد القراءات، في تساءلات تستدعي البحث وسعة المباحثة؛ منها: كيف كان جمع القراءات قبل ابن الجزري وفي عهده؟ وكيف تلقاها تلامذة ابن الجزري عنه؟ ما سبب الاختلاف بين عصر ابن الجزري والعصور بعده في موضوع التحريرات؟ كيف أقرأ ابن الجزري تلامذته وكيف قرأ هو على شيوخه؟..

3- ولعل الظاهرة الملفتة في فن التحريرات -يقول المحاضر- الاختلافات الحاصلة بين المحررين، والاحتمالات التي توسعوا فيها، ومصدرها تخمين ونظر عقلي آلت بهم إلى اضطراب  وتعسف، لو لا أنهم ألزموا بها حتى من سبقهم كابن الجزري ما رأينا في نهجهم إلا خيرا واجتهادا.

4- ومن ذلك الاضطراب تولدت مناهج في التحريرات، تبين منها الباحث ثلاثة: منهج يقتصر على ما في نشر ابن الجزري دون زيادة أونقصان، وذلك أفضلها، ومنهج يعود إلى أصول النشر ما وجد منها بالأساس، وإلا اقتصر على ما بين يديه، ونهج آخر يعتمد ما في  تلك الأصول ولا يلتفت لرأي ابن الجزري موافقة أو مخالفة.

5- وانتبه الباحث إلى آفة أخرى لدى رواد هذا الفن وهي تشددهم في التزام ما التزموا، ومنع التوسع الذي يترتب عليه في نظرهم ارتكاب المحظور في القراءة. وهو أمر لا يعدو إفراطا في التحريرات؛ سيما وأنها في الغالب لا تعلق لها إلا بالأصول، وشأن الفرش منها نادر لا ينبني عليه ما تخوفوا منه من وجوه تركيبية.

6- وفضلا عن مثارات التعسف المذكورة في هذا الفن، لاحظ المحاضر آفة التعقيد في تقعيد مسائله، بتركيب الأوجه والتكثير منها، مما يعسر معه حصرها وتحصيلها إلا بجهد متعب للقارئ، وذللك خلاف المعهود لدى الرواد الأول المحصلين أصول هذا الفن بطريقة قريبة المنال..واستعرض الباحث لذلك نماذج مما يوردونه في رواية ورش مثلا من وجوه  بالغوا في تكثيرها مع إمكان حصرها في عدد أقل..

7- وبعد أن تفضل المحاضر بقراءته النقدية لفن التحريرات ارتأى أن تُقترح حلول لتجاوز مكامن الخلل في هذه الصناعة، ركز منها بعد مذاكرة السادة الباحثين على القراءة بما في النشر لا بن الجزري، أو الاقتصار على وجه واحد من الوجوه المقروء بها.. هذا، وقد ذيلت هذه المحاضرة بنقاش علمي توسع في تساءلات الدكتور المحاضر، اتجهت جل المداخلات فيه إلى استشكال التحريرات مع سنية القراءة، والتنبيه على عدم تهويل أمرها بما يفضي إلى التنازع، وأن هذه التحريرات أشبه ما تكون بعملية التزام منهج للقارئ يلتزم به لنفسه ولا يلزم به غيره، وإنما ينبغي أن يفرق بين مستوى القراءة التي هي سنة متبعة، ومستوى العلم بما هو عملية صناعية للنظر العقلي والاجتهاد الفكري بما تحتمله مباني القراءة؛ والعلمُ سمتُه التجدد والتطور وإنما المعضلة في تحجيره والتنازع بسببه . والله الموفق والهادي لا إله إلا هو.

أما الجلسة الثانية فقد احتفلت بالوقف الهبطي ــــ بعنوان: «وقوف الإمام الهبطي أصولها وأسباب اعتمادها في القراءة المغربية وتوجيه بعض مطاعنها» للدكتور حسن حميتو، برئاسة يوسف الشهب ــــ من خلال مقدمة ومحاور:

أما المقدمة فقد احتفت بعناية المغاربة بوقوف الهبطي، مبرزة ولوعهم عبر التاريخ  بالتميز في شتى الفنون والعلوم انطلاقا من تميزهم بالمقرإ النافعي، والمذهب المالكي في الفقه، والأشعري في المعتقد، والجنيد في الطريقة والسلوك، فلا غضاضة أن يتميز أهل المغرب كذلك بالوقوف من خلال هذا التقييد الشهير المتداول المعروف.

والمحور الأول كان في الإبانة عن أسباب اختيار واعتماد هذه الوقوف، وقد رجعها الدكتور إلى أسباب عدة نجملها فيما يلي:

1-انتشار الأخذ بالقراءة الجماعية من لدن الموحدين إلى يومنا هذا، في المساجد والزوايا والمحاضر، فاعتمد الناس بادئ الأمر ابتغاء الوفاق وتوحيد القراءة الوقفَ على رؤوس الآي، على طول بعضها، وانقطاع نفس الكثرة الكاثرة من قرأة الحزب الراتب، ثم مال بعضهم إلى مطلق الوصل؛ إذ القرآن برمته كالسورة الواحدة، بيد أن ذات المحظور ما انفك يلازمهم. فكان الرأي تقييد وقف موحد يوحد القراءة، ويبعد قرأتها عن الخلف إلى الوفاق.

2- ظهور صناعة الجمع والإرداف لدى طالبي القراءات القرآنية، وهو فن بحاجة إلى هذه الوقوف الموحدة المساعدة.

3- والسب الثالث ما سطره الدكتور المحاضر في ضعف الملكة اللغوية وسائر أوجه العلوم للقراء المغاربة في ذلك الوقت، فكان الاجتهاد في وضع تقييد للوقوف؛ صونا لكتاب الله مما قد يشينه من أهله وصلا ووقفا.

وقد بين الدكتور أن هذا الضعف آيل إلى سببين: أولهما المنهج التعليمي للمغاربة حينها؛ إذ يقدمون في التلقي والتعليم الحفظ والقراءات على تفهم لسان العرب ولغتها، فينشأ الطالب جاهلا بخطاب القرآن رغم حفظه وإتقان رواياته. وثانيهما ما درجت عليه مشيخة الإقراء بالمغرب من الإقبال التام على القراءات وعلومها من رسم وضبط وروايات دون التهمم بسائر الفنون من اللغة والفقه والأصول..

4-ورابع الأسباب ما سطر في المقدمة من ولوع المغاربة بالتميز عن المشارقة في المقرإ والمذهب والوقوف وسواها من الفنون.

المحور الثاني: ترجمة ابن أبي جمعة الهبطي (ت 930) وفي الترجمة الإبانة عن مقرئ كبير ذي نحو غزير، عالم بالفرائض مع زهد وولاية. ينتمي إلى قبيلة سماتة من جبال الهبط. ومن أبرز شيوخه: الصغير، وابن غازي، ومن أحدق تلاميذه: السنوسي وأبي القاسم المشترائي صهره على ابنته، وإليه آلت خزانته بعد وفاته.

المحور الثالث: تقييد الهبطي في الوقوف: وقد تلخص المحور في نسخ التقييد، وسنده، والحفاوة به:

أما نسخ التقييد فهي عديدة جدا، لا توجد مكتبة من مكاتب المغرب العتيقة إلا وفيها نسخة منه؛ وذلك لذائع صيته، وتلقيه من قبل القرأة بالقبول، وهـهنا وجب التنبيه إلى اختلاف هذه النسخ في عدة مواضع، وفي ذلك الإشارة إلى أن التقييد أصابه من التنقيح والتهذيب ما بدا في تعدد نسخه واختلافها.

وذاك ما يسلمنا إلى النقطة الثانية وهي سنده: ذلك أن الإمام الهبطي وإن اشتهر بالتقييد، فقد سبقه شيوخ فاس في تقييد الوقوف وإبانتها؛ تيسيرا للطلبة والمقرئين:

فأول محاولة كانت للإمام الصغير حيث وضع تقييدات للوقوف، أعقبه تنقيح وتهذيب لشيخ الجماعة ابن غازي، تلاه جمع وتحرير للإمام الهبطي، ولذلك قيل: البداءة في الوقوف للشيخ الصغير، ولابن غازي فضل التنقيح، وللهبطي فضل الجمع، وللترغي فضل التسويق والتشهير حيث أذاعه في تلاميذه دراسة وإقراء، وللشيخ محمد المرابط البعقيلي السوسي فضل التقييد والتوثيق؛ حيث قيده عن شيخه الترغي وبإذن منه.

وبهذا يظهر السند الواصل لهذا لتقييد؛ إذ بداءتُه من شيخ الجماعة الصغير، وغاية ذيوعه وانتشاره مجموعا منقحا كانت على يد المرابط، بيد أنه بين الشيخ الهبطي والترغي واسطة انتهى البحث والتنقيب عنها إلى أبي القاسم المشترائي شيخ الترغي وتلميذ الهبطي، الذي لا يمر سند قرائي مغربي إلا من خلاله.

إذا ثبت ذلك كان التقييد إسنادا على هذه الشاكلة: الشيخ المرابط عن الترغي عن المشترائي عن الهبطي عن ابن غازي عن شيخ الجماعة الصغير.

أما النقطة الثالثة المتمثلة في الحفاوة به، فقد بدأت مع ظهوره واستوت على سوقها ــ رغم المناوأة له من قبل الزوايا الناصرية سيما في قطر سوس ــ مع الشيخ الفذ النحرير محمد بن عبد السلام الفاسي من خلال ذوده عن التقييد ورد المطاعن عنه، مع خدمته له بالتوجيه والتأصيل؛ ردا لغالب وقوفه إلى شيخ المقرإ الإمام نافع، وحافظه الإمام أبي عمرو الداني من خلال كتابه الأقراط والشنوف وسواه من كتبه ناهيك عن درسه وإقرائه.

فذاع التقييد وكتب له من تمام القبول، وكمال الإعمال ما به يشهد كل مقرئ وقارئ وطالب علم ومريد، حتى عد في شروط الحفظ، وكمال الإتقان لكتاب الله.

ثم كانت المناقشة العلمية متسائلة تارة، ومتعقبة أخرى، وجلها تمحور في مسائل ثلاث:

الأولى في تقييدات الإمام الهبطي المخطوطة، وهل ثمة من سبيل للعناية بها، والاحتفاء بشأنها؟

والثانية في مطاعن العلماء على التقييد قديما وحديثا، وضرورة جمعها والإجابة عنها، سيما ما كان لابن الصديق رحمه الله.

والثالثة: العناية بكتاب الأقراط والشنوف؛ إذ كان الأهم بعد التقييد في شأن التقييد مفاتشة ومدارسة، توجيها وتعليلا، منافحة ومدافعة.وبعدها رفعت أكف الضراعة إلى المولى سبحانه بأن ينصر أمير المومنين الراعي لأمر العلم والعلماء، ملكنا ومولانا محمدا السادس النصر المؤزر، ويحفظه في ولي عهده وسائر أفراد أسرته. وأن يديم علينا في هذا البلد الآمن الأمن والأمان والسلامة والإسلام، ويوفقنا لكل خير إنه نعم المولى ونعم النصير.

د.الطيب شطاب

  • باحث متعاون بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق