ملتقى الإحياء 21: قراءات وتأملات في “وثيقة الرباط” المنبثقة عن المؤتمر الدولي: “الإيمان في عالم متغير”

استجابة لدعوة مؤتمر "الإيمان في عالم متغير لـ"الاحتفاء بمضامين هذه الوثيقة، والاهتمام بتعزيزها في صروحهم العلمية ومنابرهم الإعلامية.."، خاصة في ظل ما تتميز به من بعد استراتيجي يستدعي مجهودا بيداغوجيا وتواصليا وإعلاميا كبيرا ومتواصلا، نظمت الوحدة البحثية للإحياء ملتقاها 21 قراءات وتأملات في "وثيقة الرباط" المنبثقة عن المؤتمر الدولي: "الإيمان في عالم متغير" الذي نظمته الرابطة المحمدية للعلماء بشراكة مع رابطة العالم الإسلامي يومي 15-16 أكتوبر 2024 بعاصمة المملكة المغربية الرباط. وذلك بمشاركة السادة الأساتذة:
د. عبدالعالي بلياس، ود. محمد إقبال عروي، ود. محمد الناصري، ود. عبدالسلام طويل، ود. الحنفي المراد.
وذلك يوم الاثنين 8 جمادى الأولى 1446ﻫ الموافق لـ 11 نونبر 2024م بمقر الرابطة الرئيسي بالرباط.
وقد تم تأطير هذا الملتقى بالتأكيد على أن الأهمية والقيمة الكبرى لهذه الوثيقة لا تنبع من أهمية وخطورة القضايا الحارقة التي تطرحها، والتصورات والبدائل التي تقترحها، وإنما كذلك من خطورة وتعقد المنعطف التاريخي والحضاري الذي تمر منه البشرية وتمر منه، على وجه الخصوص، أمتنا العربية الإسلامية.
وذلك في سياق أزمة كونية مركبة وشاملة بدت الصياغات المابعدية عاجزة عن تفسيرها واستشراف سبل عقلها وتجاوزها؛ بدءًا بالأزمة الإيكولوجية في ظل الاختلال العميق والمزمن للنظام البيئي، الذي لم يكتف بتهديد التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبرى عبر العالم، وإنما بات يهدد أصل الوجود البشري، وأصل الحياة على ظهر هذا الكويكب شديد الاضطراب.
مرورا بالعودة المحمومة لسباق التسلح وسياسات الأحلاف العسكرية؛ وما ينتج عنها من اختلال في الموازنات العامة للدول، سيما النامية منها، واختلال في سلم أولوياتها واحتياجاتها الوطنية الحيوية من رعاية صحية وعدالة اجتماعية تستجيب أساسا لمتطلبات التشغيل والتعليم.. تحقيقا للاستقرار الاجتماعي والأمن الأهلي..
وكذا العودة لحالة التوتر والصراع في العلاقات بين الأمم؛ وهو التوتر والصراع الذي يغديه انبعاث الحركات الشعبوية وما يرتبط بها من مشاعر العنصرية وكراهية الأجانب كرد على واقع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي بدت مخيبة لوعود سردية الرأسمالية الليبرالية والعولمة، لدرجة الإرتداد على مجمل قيمها ومبادئها، في ظل تصاعد متنام لنزعات وطنية قوية لدول كبرى تجمع، في مفارقة صارخة، بين القوة الاقتصادية القائمة على اقتصاد السوق من جهة، وعلى الشمولية السياسية من جهة أخرى..
وهو ما من شأنه أن يكرس حدة الاستقطاب الدولي بين التكتل المتنامي لتجمع (البريكس) بزعامة الصين والهند وروسيا أساسا في مواجهة الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وكأننا بصدد حرب باردة جديدة تقوم على النزعات الوطنية بدل الإيديولوجيا.. وهي الحرب الباردة التي باتت على شفا جرف حرب عالمية ثالثة مدمرة..
فضلا عن الثورات العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية وما باتت تطرحه من قضايا أخلاقية تتصل بالهندسة الوراثية من خلال التحكم في الجينوم البشري، وهو التحكم الذي وصل إلى درجة الاستنساخ؛ الأمر الذي أسهم في زعزعة عقيدة الخلق الإلهي في نفوس الكثير من المؤمنين..
في ظل هذا السياق العالمي المتأزم، وفي ظل سيادة القيم الاستهلاكية والنزعات المادية/الإحادية تولدت الحاجة أولا؛ إلى حفظ الإيمان على مستوى الحياة الخاصة والعامة، وفي هذا المقام أجمع المشاركون على أن هذه الوثيقة أجادت حينما شددت على "أهمية الدين ودوره المحوري في توجيه الحياة العامة" في مواجهة كل دعاوى إقصاء هدي الدين من الفضاء العام، مبرزة دوره الحاسم والمحدد في قيام الحضارات الإنسانية وإضفاء المعنى على الوجود الإنساني الفردي والجماعي في هذا العالم، بل ودوره الوظيفي الحافز في عملية التطوير والإنتاج والإبداع، وكذا تعزيز قيم ومشاعر التآخي والسلام في العالم.. كما تولدت الحاجة ثانيا؛ إلى الرهان على دور الإيمان في الحد من الآثار الوخيمة لهذا السياق المتأزم، وإعادة التوازن والمعنى لنظام العالم والسكينة والطمأنينة إلى نفوس الناس وقلوبهم.. وكذا خلق الشروط المعززة للحياة الطيبة..
كما أجادت الوثيقة في سعيها لمواجهة "انحرافات الإلحاد العدمي والفكر المادي الذي يقصي الروحانيات والقيم عن دورها المركزي" إلى اعتماد "رؤية متوازنة تبرز مكانة الإنسان ودوره في الكون، وتضع الطبيعة في سياقها الصحيح.." وبذلك تجاوزت منطق الاستقطاب وما قد ينتج عنه من إقصاء لبعد من أبعاد الوجود الإنساني، ولذلك لم تتجاوز الدعوة إلى ترشيد وتخليق البعد المادي الطبيعي وإعادته إلى حالة السواء.
وتلافيا للآثار السلبية للصراع الإيديولوجي للتأويلات حول النصوص الدينية، داخل نفس الدين وبين مختلف الأديان، فقد أبرز الملتقى الأهمية القصوى لاعتماد والتزام المنهجية العلمية في التفسير والفهم والتأويل وصولا إلى التنزيل الأمثل والأوفق لقيم الدين ومقاصده الكلية في دنيا الناس..
وبعد أن عرض الملتقى إلى المبادرات الدولية الأممية العديدة، وكذا المبادرات الصادرة عن المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني العالمي التي حاولت التصدي لمختلف هذه الأزمات، ووقفوا على أثرها المحدود بفعل قوة الصد والممانعة التي تبديها بنية النظام الرأسمالي وإيديولوجيته النيوليبرالية في سعيها الشره إلى تحقيق المزيد من الأرباح ومراكمة الثروات وتركيزها بغض النظر عن آثارها المدمرة للنظام البيئي من خلال التمسك بالطاقة الأحفورية، على سبيل المثال، وعدم الاستجابة اللازمة لمقتضيات التحول الطاقي في اتجاه استبدالها بالطاقات المتجددة..
وهو ما يعززه احتكام النظام الدولي القائم، منذ الحرب العالمية الثانية، لمنطق البطش والغطرسة والقوة واستخفافه بمنطق الحق والعدل والقانون.
وفي هذا الإطار اعتبر الملتقى وثيقة الرباط بمثابة "نداء تحذيري" من مغبة الإمعان في هذا المسار المدمر للحضارة والعمران والإنسان. وهو المسار الذي لا يمكن الحد من آثاره المدمرة إلا من خلال الرهان على جملة من القيم والتدابير في مقدمتها التضامن بين الشعوب الذي راهنت عليه الوثيقة واعتبرته بمثابة "السبيل الأمثل لمواجهة التحديات العالمية الكبرى". وكذا الرقي بالعمل الإنساني والنأي به عن كل مظاهر التحيز والتعصب والتسييس ليكون "عملا صالحا ينفع الناس بلا تمييز"، وتعزيز العلاقة بين الدين والعلم تحقيقا للتكامل بين الإيمان والحياة.. وتعميق الحوار بين الأديان والثقافات من خلال المؤمنين بها والمنتمين إليها وكذا من خلال هيئاتها التمثيلية الشرعية، إرساء للإخوة الإنسانية، والتوظيف الأمثل للتكنولوجيا والتقدم العلمي والذكاء الاصطناعي..
كما نوه الملتقى بشجاعة واضعي الوثيقة في التشديد على دور المرأة المركزي ضمن المرجعية الإيمانية في "غرس ثوابت الدين ومكارم الخلق الحميد"، وإيمانهم بضرورة ووجوب الدفاع والحرص على "دورها الرئيس في الأسرة ورعايتها وتربية الناشئة والعناية بها"..
ورغم أن الحديث يجري في الوثيقة عن الإيمان وعن الدين بالأصالة، إلا أنها مثلما آمنت بشرعية التنوع والاختلاف بحثا عن العيش المشترك والقيم الجامعة واعتبرته حتمية، لم تحصر المسؤولية في السعي إلى فهم وتفسير وتغيير وإصلاح مسار الحضارة الإنسانية وما اعتراها من تأزم وفساد، على القيادات الدينية، وإنما أوكلت ذلك إلى مختلف القيادات الفكرية والمجتمعية..
كما خلص الملتقى إلى أن القيم لا تستمد دلالتها وقيمتها من ذاتها فحسب، وإنما من السياقات التي تتنزل فيها ومن مدى الحاجة إليها؛ بحيث أن نفس القيمة تتغير قيمتها وأهميتها بتغير السياقات؛ فقيمة التضامن استشعارا للمسؤولية المشتركة تجاه التحديات العالمية التي أمسى بعضها يهدد أصل الوجود الإنساني كأسلحة الدمار الشامل والأزمة الإيكولوجية.. تجعل لمغزى وقيمة التضامن دلالة غير مسبوقة في تاريخ البشرية..
نظريات الصراع في العلوم الاجتماعية والعلاقات الدولية رغم أبعادها الإيديولوجية إلا أن لها قدر معتبر من الصدقية باعتبار أن الصراع والتدافع مكون ومحرك أساسي للطبيعة والتاريخ والحضارة، وباعتبار أن الصراعات الدولية والاجتماعية على أساس الهوية والدين والثقافة حقيقة لا يمكن إنكارها.. وبالتالي لا يتعين الرهان على إلغاء الصراع وإنما على عقلنته وضبطه وتقنينه وتخليقه وأنسنته..
لاحظ المشاركون في الملتقى كيف أن الوثيقة أبت إلا أن تندرج وتحترم مبدأ الشرعية حينما أطرت نفسها ضمن مرجعيتين؛ مرجعية قانونية أممية تتمثل في المواثيق والمعاهدات الدولية، ومرجعية علمية دينية مدنية تتمثل في وثيقة مكة المكرمة التي تعد بدورها خلاصة نوعية للعديد من الإعلانات والبيانات والوثائق السابقة..
ومع تثمين الملتقى لمبادرة إنشاء "المرصد الدولي لدلائل الإيمان ومواجهة الشبهات"، ومع الوعي بأن السياق يستلزم ذلك ويقتضيه إلا أنه دعا إلى عدم الانحصار ضمن منطق الرد على الشبهات وتجاوز ذلك إلى منطق المبادرة الإيجابية من خلال مشاريع وبرامج وهو ما يقتضي التفكير مليا في فلسفة المرصد ومقاصده ومجالات وآليات اشتغاله وتقييم أدائه وتحيين وظائفه..
كما جرت الدعوة إلى تجاوز الجهات المشتغلة في مجال الفكر الإسلامي، استجابة لروح هذه الوثيقة، للأطر الصلبة التي شكلت مرجعيتها الفكرية..