ملتقى الإحياء 9: “قراءة في التجربة الإبداعية للأستاذ الشاعر محمد بن يعقوب انطلاقا من ديوان “بشائر وذخائر”
دأبت الرابطة المحمدية للعلماء، ممثلة في وحدتها العلمية "الإحياء"، على عقد سلسلة من الملتقيات في إطار الأنشطة العلمية التي تشرف عليها. وبمناسبة اليوم العالمي للشعر، ووعيا بأهمية الشعر في حياة المجتمعات المعاصرة الحديثة التي طغت فيها مظاهر التشيء والاغتراب والحروب والدمار.. كما جاء في مداخلة الأستاذ عبد السلام طويل، عمد الملتقى التاسع للإحياء، إلى الاحتفاء بالتجربة الإبداعية للشاعر الأستاذ "محمد بن يعقوب" انطلاقا من ديوانه الأخير "بشائر وذخائر".
وقد عرف اللقاء مشاركة كل من الدكتور "محمد إقبال عروي"، باعتباره من أول من اشتغلوا على الجمالية في الحقل المعرفي المغربي، والأديب والأكاديمي الدكتور "تاج الدين مصطفى"، والأستاذ "محمد الفهري"، والأستاذ "عبد الله حرملي"، المهتم بالشأن الفني والإبداعي، إضافة إلى كونه فنانا تشكيليا.
ومما جاء في الورقة التقديمية للأستاذ عبد السلام طويل، أن النص موضوع الاحتفاء لا يشكل معيارية الإنتاج الفني والشعري لدى صاحب الديوان، وأنه، مع ذلك، لا يخلو من أهمية إبداعية، ولا من نفس شعري، إلا أن النصوص الأخرى، حسب رأي طويل، تحضر فيها عناصر التخييل والتصوير الفني والإيقاع والموسيقى، والتي تعد مكونا أساسيا في التجربة الإبداعية، أكثر من حضورها في هذا النص، وهو ما اعتبره مرتبطا بتيمة الديوان.
مضيفا أن كل تجربة إبداعية تعد في المقام الأول تجربة ذاتية نسبية، وأن التجارب حالات إنسانية ووجدانية تؤخذ في كليتها، علما أن كل تجربة وجدانية شعورية، في مجالات الأدب والفن، عادة ما يتم التعبير عنها بأدوات فنية مختلفة ومتنوعة، وهو ما يعبر عنه شعر الأستاذ "محمد بن يعقوب" استنادا إلى تجربته الوجدانية والشعورية الخاصة في تفاعلها مع تجربته الاجتماعية العامة.
وردا على ما جاء في مداخلة عبد السلام طويل، أشار الأستاذ محمد إقبال عروي إلى أن المغاربة لهم هامش من الحرية ومن الإبداع في علاقتهم بالدين، وبالرؤية الإسلامية، وبالعادات والتقاليد الإسلامية أكثر من بيئات أخرى (في إشارة منه إلى البيئات الخليجية).
ولتوضيح ما جاء في بداية مداخلته، تحدث الأستاذ عروي عن تجربته في الإشراف على مشروع "روافد"، بوزارة الأوقاف بدولة الكويت، خلال سنة 2005، وكذا مساهمته في إنجاز إصدارات دورية ترتبط بالفكر الإسلامي وبالأدب والفنون، وهي السلسلة التي بلغت 140 إصدارا، والتي عرفت حينها مشاركة العديد من المغاربة.
ولتفسير فكرة نعت نصوص ديوان " بشائر وذخائر" بالمتواضعة، من حيث القوة الجمالية والقوة الحداثية، أوضح الأستاذ عروي أنه خلال إشرافه على سلسلة تصدرها هيئة دينية تعنى بالتوجيه الديني، اعتمد، باتفاق مع صاحب الديوان، على نشر القصائد ذات البعد الديني، والنمط التقليدي من حيث الشكل (قصائد عمودية)، انسجاما مع البيئة التقليدية المحافظة لدول الخليج، مع حذف تواريخ كتابتها، وهو ما يعني حسب رأيه أنها تنتمي إلى مرحلة أسبق من النضج الذي حضر في الدواوين الأخيرة.
ورغم ما سبق، فهو يعتبر أن الديوان موضوع اللقاء في عمومه يمثل غنى من نوع آخر، وأول مظهر من مظاهر غناه أنه يتيح لك مداخل متعددة، استنادا إلى القاعدة النقدية التي تقول إن غنى النص بغنى مداخله.
ومن المداخل المهمة لقراءة هذا العمل الشعري، ركز الأستاذ عروي على المدخل النفسي الوجداني، المتمثل في الحب الفياض اتجاه شخصية الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهي القيمة النفسية الوجدانية والتي أصبحت مفتقدة في المجتمعات الإسلامية، والتي كانت (مثل البَرَكة) الخلفية التي تحرك المجتمع نحو الصلاح، الهداية، السكينة، والتوافق المجتمعي، والتي تجعل شخصية الرسول، صلى الله عليه وسلم، حاضرة في كل دقيقة لدى الإنسان.
وإضافة إلى المدخل النفسي الوجداني، هناك مدخل التأثر والتأثير، المرتبط بالنقد الأدبي، حيث بدا للأستاذ عروي في هذا الديوان، أن الشاعر متأثر إلى أبعد الحدود بالاتجاه الرومانسي، كون أن أساليب قصائده، والصورة التشبيهية أو الصورة الاستعارية تنتمي إلى مدرسة إليا أبي ماضي، ميخائيل نعيمة، خليل مطران، أبو شادي ..
إلا أن الخلفية الفكرية للشاعر والرؤية الوجودية تراه يحوّل ذلك الصراع الوجودي الذي شعر به شعراء الرومانسية، كونه لا يعاني من هذه المشكلة، إلى صراع مجتمعي/حضاري، فتطغى على العديد من قصائد ديوانه هذه الثنائية بين النور والظلام، بين الهداية والضلال، بين الخير والشر، بين أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، جاء ليكون مفترق الطريق بين حياة قائمة على الذل والعبودية والشرك، إلى حياة أخرى قائمة على قيم إيجابية.
ويأتي التطرق إلى المدخل التربوي في نهاية مداخلة الأستاذ عروي، من منطلق أن قصائد هذا الديوان قابلة لكي تندرج ضمن مقررات دراسية تَحُت الأبناء على حب الرسول، حب الوطن، التحلي بالقيم الإيجابية في إطار ما يمكن تسميته بالشعر التربوي التعليمي.
ولم يفته في مداخلته أن يشير إلى أن الحضور الذي يريده الشاعر في هذا الديوان هو حضور نوعي، يختلف عن الحضور الفقهي المتمثل في اتباع سنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، مفعم بالقيم التي بشر بها الرسول، صلى الله عليه وسلم، مثل قيمة المحبة، السلام، التسامح،.. وهي القيم التي تناثرت في العديد من قصائد الشاعر، وهو ما يفتقد في التطبيق الحرفي للسنة النبوية، حسب رأي عروي دائما.
أما الدكتور محمد الفهري فقد أسهم بمداخلة جاء فيها: "نلاحظ أن الشاعر محمد بن يعقوب عنون هذا الديوان بكلمتين اثنتين هما "البشائر" و"الذخائر"، وهما صفتان ترتبطان بما يضمه هذا المجموع بين دفتيه من قصائد، فالبشائر صفة للبشارة والبِشْر والحسن والجمال التي تنماز بها هذه الدرر الشعرية، أما الذخائر فهي علامة على ما تزخر به قصائد الديوان من معان شريفة ونبيلة يمكن للمرء أن يدّخرها لدنياه وآخرته. ووجدت ابن الفارض قد جمع هاتين الكلمتين في بيت يقول فيه:
بشائر إقرار بصائر عبرة سرائر آثار ذخائر دعوة
وتتشكل هذه الضميمة التي نحتفل اليوم بصدورها من سبع وأربعين قصيدة عمودية، نظمت على الأبحر الخليلية، وقد قمت بعملية كشف للبحور التي وردت عليها، وذلك من خلال إجراء تحليل إحصائي شامل، فوجدت عدد القصائد التي جاءت على وزن بحر الخفيف عشرين قصيدة، وهو الأمر الذي كشف لي مدى ميول الشاعر محمد بن يعقوب نحو هذا البحر الذي يعد من أكثر البحور سلاسةً وخفّة، ومن أجمل بحور الشعر العربي إيقاعا، كما ألفيت ست قصائد على وزن بحر البسيط، وخمسا على وزن الكامل، وثلاثا على وزن كل من الطويل والرجز والرمل والمتقارب، وقصيدتين من الوافر، وقصيدة واحدة على وزن المديد والمتدارك.
هذا وقد لاحظت بعض المظاهر التجديدية داخل الإيقاع الخليلي الكلاسي، بحيث نلفي الشاعر محمد بن يعقوب ينظم قصيدة على نمط المزدوجة التي تعتمد بناء يتشكل من شطرين يُعمَد فيهما إلى تقفيتهما بقافية واحدة مخالفة لقافية الشطرين السابقين أو اللاحقين، وهذا المظهر التجديدي كان قد اخترعه، كما هو معلوم، بشر بن عامر مثلما يذكر الجاحظ، كما يعزوه بعضهم إلى غيره. والمظهر الجديد عند محمد بن يعقوب يكمن في مستويين:
1. المستوى الدلالي، بحيث إن الشاعر محمد بن يعقوب فتح المزدوجة على غرض المديح النبوي في نصه المعنون بـ"أشرف الخلق"، عكس شعراء هذا النمط الذين كانوا يقصرونه -في الأغلب الأعم- على موضوعات مثل القصص والحكم والأمثال ومسائل العلم ونظم الكتب، وهو الأمر الذي جعل القدماء لا يلحقون المزدوجة بالقصيدة ولا يسمونها بها.
2. المستوى الشكلي، بحيث نجد الشاعر محمد بن يعقوب يختار لهذه المزدوجة وزن بحر المديد علما أن هذا الشكل يأتي، في الأغلب، على وزن بحر الرجز أو في بعض الأحيان على وزن بحر المتقارب.
ومن المظاهر التجديدية في الديوان استعمال الشاعر محمد بن يعقوب الكامل مخمسا كما في قصيدة (استفهامات)، ووجهه أنه استعمل المصراع الأول تاما والثاني مجزوءا. وقد وجدت مثل هذا الصنيع بيتا من الرمل لأبي الحسن اللحام الحراني تذكره بعض كتب العروض نقلا عن الثعالبي في "يتيمته" و"خاص الخاص" بحيث يقول فيه:
كُنْتَ مِنْ فَرْطِ ذَكَاءٍ كَاشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْجَزْلِ الْيَبِسِ
فإنه بيت مخمس، ووجهه أنه استعمل الجَزء في العروض دون الضرب، بينما استعمل الشاعر محمد بن يعقوب الجَزء في الضرب دون العروض كالعلل، حيث يقول:
مَـاذَا إِذَا ابْتَسَـمَ الضِّيَـاءُ لِنَغْمَـةٍ حَـيْـرَى لِعُصْـفُورٍ شَـرِيـدْ
بَيْـنَ الْخَمَائِلِ تَائِهـاً فِـي ظُلْـمَـةٍ يَجْتَازُ فِي عَـزْمٍ وَطِـيدْ
لَيْـلاَ بِــلاَ هَمْـسٍ وَ لاَ نَجْــمٍ وَلاَ سَـارٍ قَـرِيــبٍ أَوْ بَـعِـيـدْ
يَسْعَـى إِلَــى فَجْــرٍ لِيَمْـلأَهُ أَنَــا شِـيــداً تُـغَـنَّــى لِـلْـوُجُـودْ؟
كما نجده في قصيدة (جموح) التي أتت على وزن بحر المتقارب يؤثر تقفية الصدور بقافية النون والأعجاز بقافية الدال مستفيدا من الإبدالات التي أتاحتها لنا بعض الأنماط الشعرية المستحدثة مثل فن التوشيح، وقد مال بعض المهجريين أيضا إلى هذا التنويع -وإن بشكل محدود- مثل ندرة حجاج موظفا إياه في قصيدة (أغنية الخريف) التي يقول في مطلعها:
يمر ذكر الصبا | أنغام مزمار |
أو نفح زهر الربا | في شهر أيار |
ما قيل لي مرحبا | في كل أسفاري |
إلا وقلبي صبا | للأهل والدار |
إذا كان الشاعر ندرة حداد سيعمد إلى تغيير قافية الصدور بعد هذا المقطع، فإن الشاعر محمد بن يعقوب سيلتزم قافية موحدة في جميع الصدور، بحيث يقول مفتتحا قصيدته:
حَبيبـــي وَقَلْبِــــي وَمُقْلَةَ عَيْنِي وأَنْفَاسَ رُوحِــي وَسَعْدَ سُعُودِي
فَمِنْــــــكَ أنَا وَإِلَيْـــكَ أُثَنِّي إِذَا مَا بَلَغْــتُ بِسَيْـرِي حُـدُودِي
أُحِبُّــــكَ حُبّاً يُجـَــادِلُ عَنِّي لَدُوداً بِعَهْدٍ سَمَا فِـــي الْعُهُــود
إلى أن يقول في نهايتها:
وَكُنْ لِي إِلَهِـــي بِحِفْظٍ وعَوْنٍ وَدَفْــعٍ إِلَى كُـلِّ قَصْـــدٍ مُفِيدِ
كما نجد في الديوان نموذجا للرباعيات وهو شكل مستحدث أيضا، غير أنه سيعتمد فيه العروض الخليلي وليس الدوبيتي، يتمثل ذلك في اعتماده وزن مجزوء الوافر، كما هو الشأن في القصيدة المعنونة بـ (المولد النبوي الشريف) بحيث سترد الأشطر الأولى والثانية والرابعة متناظرة القافية أو الروي، بينما سيأتي الشطر الثالث مختلفا عنها. ولننظر إلى هذه الأبيات التي يستهل بها قصيدته: [ مجزوء الوافر]
أُحَيِّـــي مَوْلِدَ الْهَــادِي تَحِيَّةَ طَــائِرٍ شَـــادِي
بِأَنْغَـامٍ يَمُـوجُ لَــهَا صَدىً بِجَوَانِبِ الْـــوَادِي
ثم يُتبعها بقوله:
أُرَدِّدُهَــا بِأَشْـــوَاقٍ مُغَلْغَلَةً بِأَعْمَــــاقِي
وَأَكْرَعُ رَوْحَهَــا كَأْساً يَتُوهُ بِرِيحِــهَا السَّاقِي
وفي قصيدة ثانية منظومة على وزن بحر الرمل بـعنوان (مرحبا بالصباح) نجده يعتمد، أيضا، معمارية الرباعية أو ما يسمى بالدوبيت، حيث يستهلها في المفتتح بقوله معتمدا قافية الباء:
فِي ثَنَايَا الضَّبَــابْ عَيْشُنَا كَالسَّــــرَابْ
ذَائِقُــونَ الْعَـــذَابْ عِنْدَ عَدْنٍ خَــرَابْ
ويختمها بقوله معتمدا قافية الحاء:
وَإِذَا النُّـــورُ لاَحْ فِي الذُّرَى وَالْبِطَاحْ
هَلَّلَ الْكُلُّ صَاحْ مَرْحَـبــاً بِالصَّــبَاحْ
ونلاحظ أن الشاعر عمد إلى تقفية الصدور والأعجاز وتوحيد القافية في كل أربعة أشطر، وهو في صنيعه هذا يشبه صنيع شعراء فن المواليا الذين يلتزمون فيه بنظم مقطوعات من بيتين يكونان غالبا على وزن بحر البسيط، واعتمادِ قافية موحدة تكون ساكنة الآخر.
وقصد الإبانة عن جودة طبعه وسعة مادته نهج الشاعر محمد بن يعقوب في قصيدة (عذرا حبيبي) مهيع المعري وصفي الدين الحلي وغيرهما في لزوم ما لا يلزم، بحيث يأخذ الشاعر نفسه بالتزام حروف وحركات في القافية لا تتطلبها قواعد علم القافية، وإنما يفعل ذلك لزيادة الإيقاع الموسيقي، وللدلالة على مهارته اللغوية.
وفي نص محمد بن يعقوب نلفي بعض نفحات قصيدة تأبط شرا الشهيرة التي يقول فيها:
طاف يبغى نجوة من هـــلاك فهلك
ليت شعري ضلة أي شــــيء قتلك
أمريض لم تعد أم عــــدوّ ختلــك
أم تولى بك ما غال في الدهر السلك
كل شيء قاتل حين تلقى أجلك
والمنايا رصَد للفتى حيث سلك
وسوف يعيد الشاعر من جديد تشكيل هذه التجربة التي يبدو أنه تشرّبها على نحو جيد، واستطاع أن يفرغها في قالب روحاني رائق وإن كانت بعض الآثار ظلت ظاهرة على مستوى اللغة والقافية، حيث يقول:
يَــا رَبِّ مَا أَكْرَمَكْ! فِي الْفَضْلِ مَا أَكْمَلَكْ!
وَمَا أَجَلَّــكَ مِنْ مَوْلـــىً عَلَا وَمَلَكْ!
خَلَقْتَنِـــي فَأَنَا فِيمَا أَنَــــا مُمْتَلَكْ
وَجَاهُكَ الْمُرْتَجَـى لِلْعَبْـــدِ إِذْ وَصَلَكْ
أَحْيَا بِجُـــودِكَ ذَا تاً وَالْحَيَـاةُ هَلَكْ
تَحُفُّهَــا أَمَلاً يُهْــدَاهُ مَنْ أَمَلَكْ
فَأَنْتَ نُــورٌ بِدَرْ بٍ فِي الْوُجـُودِ حَلَكْ
وَعِشْــقُ مَوْلَايَ عِنْــدِي إِنْ سَلَكْــتُ سَلَكْ
أَسْعَــى بِذُلِّي لَهُ سَعْيَ السُّهَـى بِفَلَكْ
عُذْراً حَبِيبِـي فَمَا أَبْهَـاكَ! مَا أَجْمَلَكْ!
مُنَى سُجُودِي رِضاً وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَـكْ
بعد هذا حاولت أن أقوم بتتبع تردد إيقاع حقل النور والضياء من خلال قصائد المديح النبوي الواردة في هذا الديوان، وكشف إبدالات معانيها وتحول دلالاتها، وهذا إيقاع ذو مظهر دلالي وليس شكلي، فلننظر إلى هذا المقطع الذي اقتطفناه من قصيدة (محمدٌ رسولُ الله) والذي يقول فيه الشاعر:
(هُوَ فِينَا مِصْبَاحُهُ وَهُـــدَاهُ وَمَدَاهُ الَّذِي بِوَصْلِهِ نَــثـْرَى)
يَسْتَضِيءُ الْجَمِيعُ مِنْهُ عَدَا مَنْ آثَرَ اللَّيْلَ فِي غِمَارِهِ مَــسْرَى
خَاتِمُ الرُّسْلِ لَمْ يَزَلْ فِي سَنَـاهُ لاَ يَنِي سَابِحاً بِمَرْقَـاهُ بَــدْرَا
غَابَ عَنَّا وَنُورُهُ ظَلَّ فِيــنَا غَامِراً أَبْيَضَ الْمَحَجَّةِ خَــيْرَا
سنلاحظ أن دلالة الضياء تتردد في كل بيت من هذه الأبيات الأربعة، من خلال مجموعة من الدوال نظير: مصباحُه - يستضيئ - سناه - بدرا – نورُه. ويسعى الشاعر من خلال الدال الأول إلى تشبيه الرسول الكريم به، أي المصباح لكونه ينير للناس الطريق، فمحمد، صلى الله عليه وسلم، هو خاتم الرسل ونوره سيظل منتشرا في الأفق كالبدر، وسيظل يغمرنا على الرغم من غيابه محققا الخير للعباد.
ونجده في المزدوجة (أشرف الخلق) يستهلها بقوله:
(أَشْرَفُ الْخَلْقِ جَمِيعاً أَحْـمَدُ مَنْبَعُ الرِّفْقِ وَغَيْثٌ مَـدَدُ)
(وَسِرَاجُ اللهِ مِنْ كُـــلٍّ دَنَا يَقْتَنِي مِنْ نُورِهِ كُلُّ سَـنَا)
فهو يخبر أن الرسول هو أفضل الخلق لما اجتمع فيه من صفات، مثل الرفق والخير والهداية التي شبهها الشاعر بالسراج في البيت الثاني بجامع ما بين اللفظين من إرشاد قصد تجنب كل ما هو قبيح أو خبيث، كما أن الرسول يعدّ مصدر النور الذي يقتني منه كل ضياء.
أما في قصيدة (في مدحه صلى الله عليه وسلم) فيذكر أنه بمقدم الرسول، عليه السلام، حل الخير بالدنيا، التي أصبحت فلة بهية كالسنا، وهذا الملمح الجمالي الجديد يرتكز في إشارته على فعل الإيماض والسطوع واللمعان والجدة، ونستشف هذا من خلال قوله:
أَتَيْـتَ غَيْثاً إِلَى الدُّنْيَـا تُرَوِّيهَا فَأَصْبَحَـتْ فُلَّةً مِنْ خِيرَةِ الْفُلّ
نَدِيَّـةَ الْعِطْرِ بَسَّامـاً مُحَيَّاهَا بَهِيَّةً كَالسَّنَـا مَوْفُورَةَ الطَّلِّ
وإلى نفس الدلالة سينزع الشاعر في البيت الموالي، غير أنه سيجعل في هذه الصورة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، نفسه نورا يضيء مساري الأرض بالخصب والحياة بعد العقم والجذب، حيث يقول:
يَا مَنْ أَضَاءَ مَسَارِي الأَرْضِ فَاهْتَزَّتْ وَأَنْبَتـــتْ بَعْدَ عُقْمٍ غَابَةَ النَّخْلِ
عِنْدَ الْفَلاَةِ الَّتِـــي لَمْ تَمْتَخِضْ إِلاَّ لِتُنْبِتَ الْحَنْضَلَ الْمَدْفُونَ فِي الرَّمْلِ
ثم سيذكر عقِب هذا مجموعة من الصفات الحميدة الأخرى التي كان يتصف بها الرسول، صلى الله عليه وسلم، مشيرا فيما بعد إلى أن هديه الأسمى سيظل ساطعا دوما، وقد استعار من أجل ذلك لفظ النجم الذي ينشر أنواره على الدنيا، فيكسوها ضياء. كما أنه توقف عند حركة تلكم الضياء، فشبهها بأنثى مدلّلة تمشي الخيلاء دلالة على الزهو والعزة، يقول:
وَلَمْ يَغِبْ نَجْمُــــكَ الأَجْلَى مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى كَسَاهَا سَنَا يَخْتَالُ فِـــي دَلِّ
أضْحَـتْ بِهِ كَنَهَارٍ دَائِمٍ يَمْضِي عَلَـى هُدىً مُسْتَقِيمِ الأَصْــلِ وَالْفَصْــــل
ويقول في قصيدة "كَمْ علينا لأحمد من أيادٍ" التي يمتدح فيها الرسول المصطفى الكريم:
أُغْذِقُ الْمَدَحَ لِلنَّبِــي خَيْرِ هَـادٍ خَيْرِ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَالرَّشَادِ
مَنْ بِمَا حَثَّـــنَا بِهِ مِنْ عِظاتٍ مِنَّةُ اللهِ أُرْسِلَـــــتْ لِلْعِبَادِ
اِجْتَبَـــاهُ فَاخْتَصَّـــهُ وَهَدَاهُ فَاهْتَدَى وَانْبَـرَى كَأَصْدَقِ هَادِ
وَبَدَا النُّورُ لاَئِحاً فِــي ظَــلاَمٍ حَالِكٍ فَاحْتَفَـــى بِـهِ كُلُّ نَادِ
وانْتَشَـى مِنْ سَنَاه مَنْ كَانَ يَحْيَا فــي ظَلاَمٍ عَلَـــى مَدىً مُتَمَادِ
حيث يشبه لنا الرسول بالنور الذي بزغ داخل الظلام الحالك الذي ما قصد به الشاعر سوى الشرك والوثنية، وسوف ينتشي بضيائه التي هي ضياء الرسالة التي كان يحملها كل من كان يحف الظلام به من كل جانب.
وفي قصيدة (المولد النبوي الشريف) وبمناسبة طلوع بشائر نور مولد خير البرية وحلولها يتقدم الشاعر بتحية هذا الحدث العظيم الذي سينتشر ضياء نوره في كل سماء، وعلى امتداد المدى الذي يمكنها أن تسطع فيه. وهذان البيتان يشعان نورا بمولد النور حيث يقول فيهما الشاعر:
أُحَيِّــــــي مَوْلِداً طَلَعَــتْ بَشَائِرُ نُورِهِ وَسَعَـــــــتْ
فَعَمَّ سَنَــــــاهُ كُلَّ سَــمَا وَكُلَّ مَدىً بِهِ سَطَعَــــــتْ
وبتلوين مباين يتردد النور أيضا في قصيدة (من وحي ذكرى مولده عليه السلام) حيث نجد الشاعر يفتتح كلامه في هذين البيتين بالنداء على أشرف الخلق أخلاقا، وأمضاهم في مواجهة كل وهن أو ضعف أو فعل مشين، ليقر بعد ذلك، مؤكدا، بأن الرسول هو سناء على اعتبار أنه أتى لينير الطريق للبشرية من زيغ النفس وضعفها، وهو غيث تنمو به النفوس وتترعرع على حب الخير حيث يذكر قائلا:
أَلاَ يَا خَيْــرَ خَلْــقِ اللهِ خُلْـــقاً وَأَزْكَاهُمْ وَأَمْضَـــاهُمْ سِنَـــانَا
لَأَنْتَ لَنَا سَناءٌ، أَنْتَ غَيْـــــثٌ بِمَا أَمْسَى وَمَا أَضْحَى هَـوَانَا
هذه بعض مظاهر إيقاعات النور التي يطفح بها ديوان "بشائر وذخائر" للشاعر محمد بن يعقوب، وأظن أنها وسمت هذه التجربة الشعرية بميسم خاص ينماز به عن ديوان الشعر المغربي المعاصر الذي خاض في مغامرات شكلية ودلالية متباينة."
ويأتي الدور على الفنان التشكيلي أستاذ الأدب العربي عبد الله حرملي، ليرتكز في مداخلته على دراسة ما جاء في الغلاف، مستهلا كلامه بكون أن غلاف الديوان يوحي بالنور، شأنه شأن قصائده، وأن ألوانه الحارة، تتدرج نحو الصفاء والبهاء، منتقلا بعدها إلى الحديث عن ما جاء في ديوان "بشائر وذخائر" من ذكر وكشف للمشاعر والأحاسيس والسمو الروحي الذي يجعل من الذات بكل حمولتها محور الكتابة الشعرية في تفاعلها مع شخصية النبي الكريم. واعتبر حرملي أن "الأنا" حاضرة بما تملكه من ذاكرة غارقة في الماضي، ومن قدرة على السفر والتيه في عوالم الغيب وإشراقاته هروبا من قيود المعيشي اليومي، باعتماد الذاكرة لإعادة إحياء قيم آمن بها الشاعر، واعتماد الخيال والحلم لمعانقة بريق الحياة ونورها المتجلي في الشمس ورموز الخصب، الغيمة، والجدول، في مواطن أخرى.
واستنادا إلى التنشئة الاجتماعية والثقافية المحافظة، التي تستمد مرجعيتها من الإرث الديني والتاريخي والثقافي، خاصة القرآن والسنة، أوضح حرملي أن الطقوس الدينية والتمثلات المسبقة تهيمن على ديوان الشاعر، وهو ما جعله في معظم نصوصه، يرتدي عباءة رجل الدين الواعظ المرشد الذي يختزل الحياة في بعدها الديني والقيمي والروحي، كونه مسكون بالحب الإلهي وعشق النبي بغنائية زهدية روحية طاهرة حيث الروح تفارق ذاتها لتسبح في فضاءات وعوالم روحانية، مشبها الإبحار في قصائد ديوانه برحلة في الزمان بدون جوازات سفر، لكن بوعي وذاكرة مشدودة إلى الوراء، تغلب عليها النزعة الإحيائية المتمثلة في تفاعل الشاعر مع سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، وما صاحب الوقائع والمواقف باعتبارها حدثا متميزا في مسار تاريخ الإنسانية. وهي العودة إلى الماضي، حسب تعبير حرملي لإعادة إحياء الموروث الشعري القديم بأغراضه المعروفة، خاصة المدح، الوصف، الرثاء، الفخر، وهو رجوع إلى مرحلة زمنية تأخذ طابع القدسية مادام كل ما في الوجود هو محض سراب بلغة الشاعر.
ويستطرد حرملي أن رحلة صاحب ديوان "بشائر وذخائر" لم تتوقف عند الزمن الماضي؛ بل امتدت إلى السفر عبر الأمكنة بحمولتها التاريخية والدينية والجمالية (يثرب/ شفشاون/ المدينة/ تطوان) وهي الأمكنة التي أحبها الشاعر وارتبط بها وجدانيا وثقافيا وروحيا لما لها من رمزية ودلالة، ولم يتوقف الديوان على المديح النبوي فحسب، بل أثار موضوعات أخرى تحيل على الطبيعة والرومانسية الحالمة والوطن.
ورغم اعتماد ديوان" بشائر وذخائر"، البناء الشعري التقليدي، كما جاء في مداخلة بعض المشاركين، إلا أن الأستاذ حرملي، يرى أن الشاعر ابن يعقوب بنى قصيدته بأدوات قديمة بعيدا عن منطق الحداثة، مستخلصا ذلك من خلال تركيزه على بعض المكونات الداخلية للمتن الشعري، والتي استشهد ببعض منها، كالمكون اللغوي والايقاعي والاستعاري. ومن هنا يكشف حرملي عن هيمنة معجم وقاموس لغوي مستمد من جذور الموروث اللغوي الديني، تحولت فيه اللغة إلى وعاء أفرغت فيه الشحنة الدينية الجاهزة، كون أن اللغة لها سياق نفسي يمنحها حياة وروحا وحرارة ودينامية.
وبعدها ينتقل إلى موضوع اللغة، ليوضح للحضور أن اللغة المهيمنة في الديوان الشعري هي لغة وصف وتعبير، في حين يطمح الشعر الجديد إلى أن يؤسس لغة التساؤل والتغيير، لأن الشاعر لا يكتسب هويته إلا من قدرته على الرفض وطرح الأسئلة وفتق الجروح، إنه لا يسكن بقدر ما يتألم ويعاني ويرفض، وعلى اللغة المعتمدة في الشعر أن تكون لغة إشارة عكس اللغة العادية التي هي لغة الإيضاح..
أما بالنسبة لمقاربة البنية الإيقاعية للقصيدة، لاحظ حرملي حفاظ الشاعر على الإيقاع القديم بمختلف تشكلاته رغم بعض ملامح التجديد، وهو الإيقاع الذي تحول إلى قوانين شكلية جاهزة وصارمة، أهم قانون فيها هو وحدة البيت واستقلاله نظميا وعروضيا ودلاليا.
ولتحقيق هذا الشرط التزم الشاعر بتوفير الوقفة الثلاثية للبيت؛ أي الوقفة العروضية المتحقق بوجود القافية الموحدة، والوقفة النظمية؛ أي تمام البيت من الناحية النحوية وعدم تعلقه بالبيت الذي يليه، ثم الوقفة الدلالية والتي تعني اكتمال المعنى.
وبالنسبة للبنية المكانية، كمكون من مكونات شعرية النص، يتابع حرملي أن بلاغة المكان في ديوان "بشائر وذخائر" جاءت محددة سلفا، حيث مارس الشاعر كتابة الشعر في إطار جاهز مفروض عليه، وهو الفضاء المكاني الثابت، استنادا إلى فكرة أن الشعر لا يصنع من الكلمات فقط؛ بل من الأشكال أيضا.
وإيمانا منه بفكرة الدكتور جابر عصفور "إن أي مفهوم للصورة الشعرية لا يمكن أن يقوم إلا على أساس متين من مفهوم متماسك للخيال الشعري نفسه" جاء في مداخلة حرملي أن الشاعر بن يعقوب ظل أسير البلاغة القديمة بقواعدها ومعايرها دون القدرة على تخطيها وتجاوزها، مما جعل عنصر الخيال يفتقر إلى خرق الثوابت البلاغية.
وفي ختام مداخلته، خلص حرملي إلى أنه في ظل موت القيم وتلاشيها، جاء ديوان ابن يعقوب ليذكر بها، وأنه صالح لأن تكون بعض نصوصه مجالا للتعليم وللتربية، وهو ما جعل من وظيفة الشعر عند ابن يعقوب رسالة طاهرة وصادقة.
وتعقيبا على المقاربة البيداغوجية والمضمونية السياقية للدكتور إقبال عروي، والمقاربة العروضية اللغوية النحوية للدكتور الفهري، والمقاربة الحداثية الفنية والجمالية للفنان التشكيلي عبد الله حرملي، يستشهد الأستاذ عبد السلام بنصوص قصيدة "من عناوين حروفي" من ديوان قديم، والتي تبين من خلالها بأن لغة الشعر عند الأستاذ "محمد بن يعقوب" موظفة جماليا، وأن شعره يتحدد من خلال علاقة حميمية بين الدال والمدلول، وأن الأبعاد الحداثية حاضرة في شعره، وأنه يستوعب الأنماط الحديثة وأضرب الإبداع الجمالية المستحدثة في حقل الشعرية العربية المعاصرة.
وفيما يتعلق بـ"برودة" لغة بعض نصوص الديوان المشار إليها في المداخلات السابقة، أرجعها الأستاذ تاج الدين مصطفى، إلى فلسفة الشعر الديني، رغم أن الديوان يوحي بتجربة شعرية حقيقية، فهو لا يرى من فرق بين تجربة الدين الحقيقية وتجربة الشعر، رغم أن هناك من يفهم أن تجربة الدين تعد تجربة محكومة باليقين، خلافا لمفهوم التجربة الإنسانية في أبعادها التلقائية..
وتبقى تجربة الدين في عمقها، حسب الأستاذ تاج الدين، تجربة مطبوعة بالقلق؛ إذ لا يمكن الحديث عن تجربة دينية حقيقية بمنأى عن أي قلق وجودي.. ورغم التصور السائد أن النبي موئل خلاصة الدين، أي أنه موئل الجواب الكامل، وموئل اليقين، إلا أنه بالنبش في حيواة/سيرة الأنبياء، يتبين أن حياتهم كانت تستبطن قلقا حقيقيا، مبرزا أن مفهوم الاصطفاء القرآني مرتبط بمفهوم القلق قبل البعثة، موردا أمثلة بعض الأنبياء (محمد عليه الصلاة والسلام، موسى، ابراهيم، عيسى )، وما عاشوه من قلق وجودي في التجربة النبوية، مما يؤكد أن التجربة الدينية الحقيقية هي تجربة قلق يرنو ويتشوف إلى اليقين..
ومن هذا المنطلق، استخلص الأستاذ تاج الدين أنه لا يمكن الحديث عن تجربة شعرية حقيقية للمؤمن بعيدة عن قلق وجودي، مؤكدا على ضرورة أن تعكس اللغة الشعرية هذا القلق، لأن الشعر لا يترجم حالة اكتمال، بل يترجم حياة، والحياة فيها يقين وشك، وقرب وبع،د فصل ووصل، وعملية الزوغان والتأرجح هذه، هي التي تعطي للشعر نكهته، وهي التي تضخ فيه التساؤل، ومحاولة ملامسة الحقيقة من خلال السؤال..
والنقطة الثانية التي قد يعانيها الشعر الديني، حسب تاج الدين دائما، هو أن مفهوم اليقين يخلق تجربة شعرية جماعية وليست فردية، لأن اليقين الديني هو عبارة عن مقولات محددة الإيمان بكذا وكذا.. أي أن هذا الإيمان المشترك هو الذي قد يخلق تجربة شعرية مشتركة.
ليختم مداخلته باستخلاص أن التجربة الدينية نفسها تعد تجربة شعرية، لهذا يتعين أن تكون تجربة فردية على غرار التجربة الدينية، لأن هوية التدين هي هوية فردية، وكذلك هوية الشعر. ومن هذه الخلاصة، تبين له أن الشعر دين بدون رسل، وأن الأديان شعر برسالات، لأنها تربط بين النسبي والمطلق، وهي الوظيفة التي ينبغي للشعر أن يقوم بها، والإطار العام لكل تجربة شعرية حقيقية.
وبعد هذه المداخلة التأملية حول العلاقة بين التجربة الدينية والتجربة الإبداعية للأستاذ تاج الدين، تدخل الأستاذ اطويل للتعقيب على جزئية اعتبرها أساسية، تنبني على أن التجربة الدينية لا تستمد قيمتها ونسغها وحرارتها وقيمتها في التاريخ، وعند الله، إلا إذا كانت تجربة ذاتية، لكن البعد الذاتي للتجربة الدينية لا يلغي حقيقة التجلي الجماعي للتجربة الدينية في التاريخ.
فكرة الربط بين التجربة الفردية والتجربة الجماعية، جعلت الأستاذ طويل يثير جملة من الإشكاليات التي تمحورت حول الكيفية التي يمكن للتجربة الجماعية للدين، باعتباره مرجعية حاكمة وكلية، أن توجه خطابها للفرد بالأصالة رغم توجيهه للجماعة، مستشهدا بصيغة النداء القرآني: "يا أيها الذين آمنوا..."، "يا أيها الناس.."، التي جاءت بصيغة الجمع، مع إمكانية بل وضرورة مراعاة التوفيق والجمع بين البعد الفردي للتجربة الجوانية الخاصة التي تشكل روح الحقيقة الدينية، وبين البعد الجماعي، وعن مدى قدرة "الأنا العليا" على اغتيال أو تفريغ حقيقة التمثل الديني باعتباره علاقة مباشرة بين الإنسان وربه بعيدا عن كل الوسائط الكهنوتية، لأنه يؤمن أن المبدع والمؤمن لا يعيش، في نهاية المطاف، بمفرده في هذا العالم، بل يعيش في علاقة مع الجماعة وفي كنفها.
وبعدها يوضح الأستاذ تاج الدين، أنه يقصد بالتجربة الدينية الجانب الصوفي، وبالتجربة الشعرية معناها الفلسفي، مستبعدا الحديث عن التدين بوصفه ممارسة اجتماعية، لأنه ليس بالضرورة أن تكون التجربة الفردية مصدرا للشعر أو مصدرا للدين إنكارا لممارسة التدين في الجماعة، حسب رأيه.
وفي ختام اللقاء، وبعد تدخل المشاركين والمهتمين، كانت الكلمة لصاحب ديوان "بشائر وذخائر" الأستاذ محمد بن يعقوب، ليضع النقاط على الحروف، ويوضح بعض ما قيل في حق ديوانه، مستهلا حديثه بالتأكيد على ضرورة الفصل بين ما هو موجود في الديوان، موضوع المناقشة، وبين ما جاء في باقي الدواوين الأخرى، عند الحديث عن التجربة الإبداعية للشاعر، موضحا أن الكثير من قصائد هذا الديوان، كانت في بداياته الشعرية، وهو ما يزال تلميذا في المرحلة الثانوية، وهو ما دفعه إلى تأريخ النصوص الشعرية لهذا الديوان، حتى يتمكن المتتبع والقارئ من مواكبة تطور تجربته الشعرية، وكذا تقييمها.
وبخصوص موضوع لغة الديوان وما أثارته من انتقادات، أرجع الأستاذ بن يعقوب هذا التساهل اللغوي الشعري، وخاصة فيما يتعلق بنصوص مدح الرسول، صلى الله عليه وسلم، والتي كانت عبارة عن مولديات، كان ينظمها سنويا، ويلقيها في حضور كل فئات المدينة، ومعظمهم محدودي الثقافة، أرجعها إلى حرصه على عنصر التبليغ وعنصر مراعاة المتلقي القصائد المولدية، إلا أن الوضع يختلف بالنسبة للقصائد الأخرى، باختلاف أسباب النزول التي أوحت بها، وكذا الوضع الذي كان يعيشه الشاعر عند نضمه لقصائده.
وأمام ما يعيشه الشعر المغربي الحديث من أوضاع، على مستوى اللغة والمعنى ونوعية الجمهور المهتم به، يرى أنه لا بد من التضحية ببعض المقومات وبعض المكونات، حتى يتمكن الشعر من الاستمرار، دون إغفال إعادة الإشراق له وكذا الترويج له، مع مراعاة المتلقي.
ولاعتماده البحر الخفيف أو البسيط، يربط الأمر بمرجعيته الدينية وتأثره بالزاوية كنادي، حيث الزجل الصوفي والزجل الفصيح، مستشهدا بالإمام البوصيري في بردته في البسيط وفي همزيته في الخفيف، مبرزا كيف أن البحر الخفيف يساعد على النظم وعلى اقتفاء وتتبع المعاني والتمكن منها بدقة أكثر، وكذا تأثره بالموسيقى الأندلسية، ذلك الفن الأصيل لمدينة شفشاون..
ولتوضيح النقطة التي أثيرت حول دعوى أن "الجانب الديني يفقد النص الشعري الكثير من جماليته وإبداعه"، اعتمد على مقارنة أثارها بين النصوص الشعرية لحسان ابن ثابت، رضي الله عنه، المنظومة قبل دخوله للإسلام، وبين قصائده التي قالها في الإسلام، حيث وجد بونا شاسعا على مستوى الشاعرية.
ويخلص بن يعقوب إلى أن مقومات الشعر وخصائصه الفنية هي الجمال والتصوير والخيال، إضافة إلى الدور الإعلامي، رغم تقدم وسائل الإعلام في الوقت الحاضر، مع السعي إلى الارتقاء بالنفس وخاصة فيما يتعلق بالتوجه الديني للشعر، مع مراعاة عنصرين هامين: الشاعر والقصيدة.
تجدر الإشارة إلى أن ديوان محمد ين يعقوب "بشائر وذخائر" الصادر عن سلسلة روافد الكوتية" جاء لينضاف إلى إبداعاته الشعرية السابقة "ملح في عيون وغيوم"، "يوميات من كتاب أبيض"، "لم ينطفئ الثلج"، "عندما يكذب السكون"، "قليلا ويستيقظ القمر"، "خبز ومقام في الرف".