مصادر التكوين العلمي المنهجي في حياة الطالب تأطير: الدكتور إدريس نغش الجابري الجزء الأول
نظم مركز ابن البنا المراكشي للدراسات والبحوث في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية التابع للرابطة المحمدية للعلماء دورة تكوينية بتاريخ 09 ماي 2016 الموافق لــ 02 شعبان1437 من تأطير رئيس المركز الدكتور إدريس نغش الجابري تحت عنوان "مصادر التكوين العلمي المنهجي في حياة الطالب". وتشكل هذه الدورة بداية لسلسلة من الدورات التكوينية في علم المناهج، خصص الدكتور إدريس نغش الجزء الأول منها لمصادر التكوين العلمي المنهجي في حياة الطالب، لأن المشكلة في نظره تكمن في السؤال التالي: من أين نستمد هذا التكوين الذي هو عبارة عن مهارات معينة ينبغي أن تنمى وتطور وتستثمر؟ لذا فالطالب الذي يسعى إلى تحصيل قدر من المعرفة ينبغي له أن يعرف طرائق تحصيل هذه المعرفة وكيفيات اقتناصها وسُبل استثمارها في البحث العلمي.
تطرق الأستاذ المحاضر في الجزء الأول من هذه السلسلة الخاصة بالدورات التكوينية في علم المناهج إلى دلالة بعض المفاهيم والثمار التي يمكن استفادتها منها، ويتعلق الأمر هنا بالمفاهيم التي ترد في العنوان، وهي: أ. مفهوم مصادر التكوين ب. مفهوم العلم ج. مفهوم المنهج وعلم المناهج د. أخيرا مفهوم صور التلمذة.
أ. أما المصادر فلها معنيان؛ أولها معنى عام وتشير إلى المنابع والأصول التي بفضلها يحصل تكوين الطالب والكتاب واحد من هذه المصادر، ويشكل في الآن نفسه المعنى الخاص لكلمة المصادر، حيث أن العلاقة بين المصادر والكتاب هي علاقة خصوص بعموم نظرا لأن منابع العلم عديدة وليس الكتاب إلا جزء منها. أما التكوين فمعناه التحصيل العلمي الذي يُشغل المهارات ويعلمك كيف تصل إلى المعلومة، أي أنه لا يعطيك معلومات وإنما يعلمك طرائق الوصول إليها واكتسابها. ومن بين هذه المهارات: التحليل والتركيب والفهم والتفكر والمقارنة وغيرها من المهارات الضرورية في البحث العلمي.
ب. مفهوم العلم الذي يتحدد مفهومه بالسياق الذي يستعمل فيه، وهنا نجد سياقين كبيرين: السياق الإسلامي الذي نجد فيه تعريفين أحدهما تعريف صوري لأنه يهتم بشكل المعرفة دون مضمونها وكيفية تحصيلها، ويقول بأن العلم هو معرفة ماهية المعلوم. وثانيهما تعريف تداولي- أي إن المعرفة مرتبطة بالمقام الذي تُتداول فيه- يقول بأن العلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع. أما فيما يتعلق بالسياق الغربي الحديث فالعلم هو ذلك الفرع من الدراسة الذي يتعلق بجسد مترابط من الحقائق الثابتة المصنعة التي تحكمها قوانين عامة وتحتوي على طرق ومناهج موثوق بها لاكتشاف الحقائق الجديدة في خطاب هذه الدراسة. إذن، فالعلم يحتاج إلى موضوع ومنهج ونظريات؛ موضوع يتخصص فيه، منهج يناسب هذا الموضوع فيسلكه بأصوله وقواعده وتفصيلاته ونظريات يُتوصل إليها بعد تطبيق المنهج على الموضوع.
كما أشار الأستاذ إلى وجود مصطلح آخر في الاستعمال المعاصر هو مصطلح حقل العلم، وهو عبارة عن مجموع النظريات والمناهج العلمية الممارسة من قبل قلد العلماء أو جماعة العلماء في مجتمع علمي يعيش فيه الباحثون. وحقل العلم يرتكز على عناصر ثلاث: أ. لابد من بناء العلم ب. ركيزة الجماعة لأن النشاط العلمي ليس نشاطا فرديا بل يتم ضمن جماعة علمية ما. ج. ركيزة الممارسة العلمية للعلم نفسه، نظرا لأن الجماعة لا قيمة لها دون ممارسة علمية واقعية توجد في مؤسسات أو حتى على شكل كراريس أو كتيبات تنقل من جيل إلى جيل على شكل محاضرات كل هذا يندرج تحت مفهوم حقل العلم، فهنا نتحدث عن العلم كنشاط وعن حقل العلم كواقع لهذا النشاط.
طرح الأستاذ المحاضر أيضا إشكالية تتعلق بواقع البحث العلمي في العالم العربي متسائلا عن وجود حقول علمية أم لا، ومجيبا في الآن نفسه بالنفي ومشيرا إلى أن التاريخ الإسلامي يؤكد أن المجتمع العربي المسلم آنذاك لم يكن خلوا من هذه الحقول العلمية، حيث نلحظ جماعات علماء الأصول وجماعات المحدثين إضافة إلى العلوم الإنسانية...أما الآن فلا نتوفر للأسف على مجتمع علمي رغم وجود علماء أفذاذ، وغني عن البيان أنه لا يمكن الحديث عن حقل علمي في غياب مجتمع علمي.
ج. أما مفهوم المنهج في السياق الإسلامي فيشير على المستوى اللغوي إلى السبيل الواضح والسنة أي الطريقة، ثم انتقلت من هذا المجال الحسي إلى مجال العقلي إذ أصبحت كلمة المنهج تدل على مسالك النظر في العلوم. وكان لهذه الأخيرة معياران عند القدماء من علماء المسلمين: أولا المعيار الصوري القديم الذي يقسم العلماء أو المشتغلين بالمعارف إلى ثلاث مراتب بحسب أهليتهم الفطرية، نجد مثلا عند ابن رشد في فصل المقال إن هناك ثلاث مراتب: أولا مرتبة أهل البرهان وهم الحكماء والعارفين والفلاسفة وهو منهم، ثانيا أهل الجدل وهم المشتغلين بأمور العقائد، وأخيرا أهل الخطابة وهم الفقهاء وجمهور الناس. أما المعيار التداولي فيقسم مسالك النظر العلمي بحسب موضوعات والمسائل التي يهتم بها العلم؛ نتكلم مثلا عن العلوم الطبيعية التي تنقسم بدورها إلى علوم متفاوتة ومتعددة بحسب موضوعاتها وعن العلوم الرياضية... ومن هنا فإن مفهوم العلم يختلف عن غيره بالموضوعات التي يختص بها والمسائل التي يناقشها. الخاصية الثانية للمعيار التداولي هي المناسبة إذ يجب أن يناسب المنهج موضوعه فتتفاوت المناهج بذلك حسب تفاوت موضوعاتها، فما يناسب مثلا الرياضيات لا يناسب الفيزياء وما يناسب الفيزياء لا يناسب علم النفس وما يناسب علم النفس لا يناسب علم الاجتماع... ففي كل علم نختار آليات منهجية تناسب الموضوع المدروس، كما نختار منهجا معينا بناء على الحاجة، أي حاجة العالم إلى هذه المسالك المنهجية، إضافة إلى ما يمليه الواقع من تبني لمناهج معينة. وهكذا يفرق على سبيل المثال بين مناهج دراسة الإنسان ومناهج دراسة اللغة... ولا شك في أن المعيار التداولي هذا يَفضل غيره من المعايير.
تعني كلمة منهج Méthode في السياق الغربي طريقا نصل من خلالها وبها إلى نتيجة معينة حتى وإن كانت هذه الطريق لم تتحدد من قبل تحديدا إراديا ومترويا. ويعني ثانيا برنامجا ينظم مسبقا سلسلة عمليات ينبغي إكمالها، وتدل على بعض الأخطاء الواجب تجنبها بغية بلوغ نتيجة معينة. أما علم المناهج فهو وصف المناهج المستعملة في العلم من حيث أصولها وقواعدها وأساليبها التفصيلية في كل علم على حدة ليخلص إلى خطة محكمة لاستيعاب مبادئ العلوم وغاياتها.
إن مهمة مناهج العلوم هي وصف المعاني العلمية انطلاقا من كل مكوناتها، أما فقه العلوم أو الابستمولوجيا فتهتم بالعلوم من هذه الجهة الوصفية وتضيف لها الجانب النقدي، حيث تبين مثلا المشكلات والعوائق النفسية والموضوعية التي تقف بين العلماء وبين الابتكارات العلمية وكذلك الأخطاء التي تقع في العلوم...
كما بين الدكتور إدريس نغش أن علم المناهج يكتفي بوصف المناهج من حيث أصولها وقواعدها وأساليبها التفصيلية في كل علم، بغرض استيعاب مبادئ العلوم وغاياتها بينما يدرس فقه العلوم مناهج العلم من حيث عدة مراتب: صلتها بموضوعاتها التي وضعت لها، ثم صلتها بمناهج العلوم المناظرة لها حتى في إطار العلوم الطبيعية، فيتساءل مثلا هل المناهج المستعملة في البيولوجيا هي نفسها المستعملة في الفيزياء. إضافة إلى دراسة المفاهيم والعمليات المنهجية بخلفياتها الفلسفية وكيفية اشتغالها في العلم، فدور فقيه العلم هو الوقوف على الآراء الفلسفية والفيلسوف النائم داخل عقل العالم. إضافة إلى دراسة تطور الطريقة العلمية ذاتها ونقد هذه الطريقة، كدراسة الاستقراء ودراسة المراحل التي مر بها عبر التاريخ، فدور فقيه العلم هو أن يدرس التطور الذي مرت به الطرائق عبر التاريخ ثم ربط هذه الطرائق المنهجية بمفهوم التقليد العلمي السائد. وهكذا يتضح الفرق الكبير بين الممارسة العلمية كما هي في علم المناهج ونظيرتها كما هي في فقه العلوم.
كما أبرز الأستاذ ثمار هذه التعريفات (التعريف الصوري والتعريف التداولي والتعريف الحديث)، إذ لكل واحد منها ثماره الخاصة، فأول مشكلة تُثار في التعريف الصوري هي مشكلة الماهية، فهل نستطع فعلا معرفة ماهية الشيء؟ إن هذا الأمر يكاد يكون مستحيلا. لذا يبدو التعريف التداولي أكثر إقناعا لما يتسم به من طابع واقعي. ومن ثماره أنه يؤدي إلى تنوع في المعارف العلمية حيث تتنوع صور المعرفة النظرية بتنويع الموضوعات والمناهج، إذ كلما ظهر علم جديد يبتكر العلماء منهجا جديدا ملائما له ويتوصلون بذلك إلى نظرية جديدة ويولد علم جديد بهذه الطريقة. كما أن التعريف الحديث له دور إيجابي أيضا لما له من دور في تطوير علم المناهج وكذا تطوير فقه العلوم/الابستمولوجيا.
د. أما فيما يتعلق بالمفهوم الرابع الذي هو مفهوم الطلب صورة التلمذة فقد بين الأستاذ المحاضر أن طلب العلم هو عبارة عن نوع من التلمذة. وصور التلمذة في تاريخ الفكر الإنساني ثلاث: أولا إما أن يكون التلميذ/الطالب مرددا للمعرفة، أي الناقل الذي لا يجدد ويكتفي بالإتباع والتقليد دون أدنى تجديد. ثانيا التلميذ الفوضى الجاحد للمعرفة والغافل عن أهمية العلم المستمد من المُوَجه ومهمته هو أن يَقلب المفاهيم ويجحدها جحودا، ثالثا تلميذ مجدد للمعرفة ومخلص الفاعل، أي مخلص للقدماء إخلاصا فاعلا منتجا. فالغاية القصوى لهذا الطالب المجدد هي أن يُحصل عقلا جامعا لعلم نافع بفهم ساطع وألا يكون مجرد وعاء سلبي، أما العلم النافع في الوعاء السلبي فلا ينفع حينئذ حتى صاحبه. إذن فلابد من عنصر الفهم، لأنك إذا أخذت العلم عن فهم استطعت أن تولد فيه وتضيف فيه وتبنيه بناءا عظيما. والوسيلة الواجبة لهاته الغاية القصوى هي ثلاث أمور: موجه سابق وكتاب جليس و ذات مبدعة.
أما المصدر الأول وهو الموجه فقد قُسم إلى أربع محاور: الأول منها عن ضرورة الموجه، والثاني عن صفاته والثالث عن شروط الاستفادة منه والرابع عن بعض المكدرات والمحذرات التي تقع أثناء عملية التوجيه ذاتها.
تنقسم ضرورة الموجه إلى نوعين: هناك ضرورة معرفية وضرورة منهجية، وتقتضيان أن يكون الموجه مصدرا أوليا أساسيا ضروريا في عملية التكوين المنهجي في حياة الطالب. أما الضرورة المعرفية فمردها إلى أمرين اثنين لا يتحصلان للطالب بغير وجود الموجه، أولها تراكم العلوم إذ العلم هو نتاج تراكم تاريخي طويل، يصل إليك هذا التراكم عبر سلسلة من الأعلام والمثقفين المفكرين والشيوخ والعلماء، ولكي تكون سائرا في نظمهم تابعا قويا لهذا التراكم لابد أن يصلك تراكم علمهم عبر هذه العالم نفسه، إذن فمن الضروري أن تنتسب إلى هذا القلد من العلماء أو ذاك لكي تستفيد منهم في تحصيل العلم من الجانب الصحيح. وبما أن أي كتاب يحتوي مُلحا وعقدا على حد تعبير الأستاذ المحاضر فإن الموجه وحده من يستطيع مساعدتك في الإمساك بهذه المُلح والعقد. كما يعينك الموجه على اختيار ما يقرأ في العلم، ويرشدك أيضا إلى كيفية قراءته وما ما يجب أن تبدأ به وكيف تفهمه...
أما الصفات التي تشترط في الموجه فهي صفات علمية وأخرى خلقية، فالموجه الحق هو الذي يعلمك شمول فعل التبصير، أي أن تحصل شمولية في التكوين العلمي، بدل أن تقتصر على ضيق التخصص وضيق التمذهب، ويعلمك منهجية التفكير، أي كيف تفكر وليس فقط بماذا تفكر أي ليس مجرد تخزين للمعلومات. أما الصفات النفسية التي يجب أن تتوفر في الموجه، فأولها هو تحقيق تحتية وجدانية أي علاقة وجدانية عميقة أو نسب علمي بينه وبين من يوجهه وهذا يجعل بينهما نسبا علميا، وله مبدأ هو التقوى وله شروط هي المحبة والمشاركة والعمل الجاد. كما يجب على الموجه أن يعطي قدوة حسنة في عملية التوجيه وهذا شرط التقوى. ونشير من بين الصفات النفسية إلى صفة التواضع أو مجانبة العجب (الإعجاب بالنفس)، وتجنب فتنة القول وبذل العلم لطالبه، وحسن الأداء وتبديل الطرائق.
كما أشار الأستاذ إلى شروط الاستفادة من الموجه التي تنقسم إلى نوعين: أولها شروط التخلية من العوائق الخمسة، وهي العجز والكسل والخجل والتكبر والشهوة المستعبدة ومجالسة السفهاء وحب الشهرة. وثانيها التحلية بالخصائص الثلاث، وهي: تقديس الدرس نية وعملا والملازمة الصابرة أو الجندية وحسن السؤال.
أما مكدرات التوجيه فهي: غياب صفاء النبع، أي لا يجب أن يكتفي بالاعتماد على الكتب المترجمة مثلا دون الرجوع النصوص في لغاتها الأصلية أو الاكتفاء بالمراجع والمداخل العامة دون العودة إلى المصادر، وثاني هذه المكدرات الحزبية والتمذهب، إذ لا ينبغي للعلم أن يكون مذهبا، فعلى الموجه أن يعلم الباحثين كيف أن يكونوا منفتحين لا منغلقين.
أما محذرات التوجيه فتنقسم إلى قسمين: المشيخة السالبة والتلمذة السالبة، المشيخة السالبة تتجلى في رغبة الموجه في أن يجعل من الطالب نُسخة مشابهة له، بينما يجب على الموجه أن يصنع من تلاميذه موجهين مجددين ومبدعين، ذلك أن العباقرة هم الذين صنعوا من تلاميذهم من هم مخالفين لهم وأحسن منهم أي أحسن من أساتذتهم وموجهين أنفسهم. أما التلمذة السالبة فمثالها ذاك التلميذ الذي لا يرى في الشيخ إلا معبراً إلى شهادة التزكية.