الرابطة المحمدية للعلماء

مصادر التكوين العلمي المنهجي في حياة الطالب: تأطير الدكتور ادريس نغش الجابري (الجزء الثاني)

مايو 30, 2016

بعد أن خصص الأستاذ إدريس نغش الجابري الجزء الأول من هذه الدورة التكوينية لتفصيل القول في مجموعة من المفاهيم الأساسية المُكوِنة لعنوان الدورة، إضافة إلى التطرق لأهمية المُوجه ودوره في عملية التكوين لدى الطالب، وكذا الشروط الأخلاقية والعلمية الواجب توفرها في هذا الموجه، ها هو الأستاذ المحاضر يخصص الجزء الثاني لأهمية الكتاب وكيفية استثماره في عملية التكوين، مقسما المحاضرة إلى أربعة محاور رئيسية:

أ‌. تعريف مفهوم الكتاب والغاية منه.
ب‌. منهجية قراءة الكتاب.
ج. الآفات التي تعترض القراءة العلمية المنهجية للكتاب.
د. كيفية توظيف الكتاب

أ‌. أُعطيت للكتاب العديد من التعريفات والحدود، وبعد عملية استقرائية لجلها يمكن إجمالها – كما أشار الأستاذ – في عبارة جامعة تقول: “الكتاب نص لغوي بشري يتعالى على الزمن بقدر ما يرتبط به”. ويتجلى مفهوم التعالي في أننا نعيش مع أناس عاشوا في زمن قديم، لكنهم كانوا يحملون هموما وآمالا للأزمنة اللاحقة عليهم، إننا نعيش مع أناس لم يموتوا إلا أجسادا، لكنهم يعيشون بين ظهرانينا فكرا وروحا. كما يشكل النص نوعا من التعالي على الزمان نظرا لأنه عبارة عن عملية تناص، أي تراكب وتراكم مجموعة من النصوص، فعندما نقرأ لكاتب معين، فنحن لا نقرأ له حصرا، ذلك أن أسلوبه وأفكاره تشكل زبدة قراءات كثيرة جدا وقد اندمجت وتراكمت وتناصت، لتُنتج في النهاية ذلك النص الذي بين أيدينا، وهذا بدوره (أي النص) يشكل بداية سلسلة أخرى من عمليات التناص وهكذا دواليك. لكن لا يعني هذا أن الكتاب ينفصل كليا عن واقعه وزمنه، بل إنه مرتبط بالزمان نظرا لأن له سياقا تداوليا يوجهه، فالفكر ثمرة عصره دون شك، نظرا لأنه –رغم ارتفاعه عن زمنه من خلال تناصه- يظل يناقش قضايا العصر الذي كتب فيه.

كما أشار الأستاذ إلى ثلاث عناصر في تعريف الكتاب، أولها أن الكتاب بناء منظم، أي منظم من وحدات دلالية، وهذه الأخيرة تعني في علم اللغة أصغر لفظ ممكن، وهو ما يسمى في اللسانيات بالعلامة، وتتكون هذه بدورها من ثلاثة جوانب:

1.    الدال: هو الصورة الصوتية للحروف، أي ما يسمع مثلا عند نطق كلمة شجرة، فنسمع حروفا معينة كالشين والجيم والراء…
2.    المدلول: هو المضمون أو المحتوى، أي ما يسبق إلى الذهن عند سماع كلمة “شجرة” من تصور معين لهذا المفهوم.
3.    المرجع: ما قد تحيل إليه العلامة في الواقع، أي الواقع المحسوس الطبيعي.

يتشكل النص من هذه الوحدات بطريقة تحترم القواعد المتداولة، إذ لا يتم الانتظام اعتباطا وإنما طبقا لقواعد محلية، وهو ما يسمح للجملة أن تأخذ معنى ما. والكتاب يشكل  مجموعة من التنظيمات الصغيرة التي تسمى بالجمل وقد رتبت في سياق مركب يعطينا في الأخير رسالة معينة، وتتضمن مستويات الدلالة تراتبا بحسب مقاصد صاحب النص. ولا يعني احترام قواعد تنظيم الوحدات تطابقا في أساليب الكتابة، إذ لا يخفى أن أساليب الكتابة تتنوع بتنوع الناس أنفسهم، وكل كتاب يحمل بصمة صاحبه، وتعد مسألة الإلمام بأسلوب كاتب معين مسألة مهمة في الإدراك الجيد لمقاصده.

أما فيما يخص الغاية من الكتاب فقد أشار الأستاذ المحاضر إلى أن الكتاب يعلمنا ثلاثة أشياء أساسية:

1-  . كيف نفكر: أي مناهج وطرائق تفكيرنا.
2-  . بماذا نفكر: أي ما يوفره لنا من مواد علمية ومحتويات معرفية.
3-  . كيف نعبر: أي اللغة التي نعبر من خلالها من أفكارنا وآرائنا.

ب. أشار الأستاذ بخصوص منهجية القراءة إلى تقسيمات القراءة المتداولة، واختار أن يركز من بينها على القراءة العلمية نظرا لأهميتها، وحصرها في مستويين: القراءة التحصيلية والقراءة النقدية. أما التقسيمات المشار إليها أعلاه فقد يُعتمد في وضعها على معايير مختلفة: كأن تقسم وفق الغاية منها إلى: قراءة استطلاع وقراءة تحصيلة علمية (وهي الأكثر أهمية في حياة الطالب). أو تقسم من حيث الوقت الذي تتطلبه إلى: قراءة تصفحية وقراءة تدبرية، إضافة إلى معايير أخرى كأن تقسم إلى قراءة صامتة وأخرى صائتة…

تهدف القراءة التحصيلية إلى أن يُكون الطالب دائرة معارف علمية شخصية، بينما تهدف القراءة النقدية إلى أن يُظهر فيها الطالب شخصيته كقارئ ناقد لا كمتلقي سلبي فقط. وتقسم القراءة التحصيلية بدورها إلى قسمين: قراءة المباني وقراءة المعاني. تتعلق الأولى بلغة الكتاب، ذلك أنه إذا أردت أن تفهم الكاتب جيدا فابحث عن رموزه المستعملة في متنه، فلكل كاتب رموزه الخاصة، ويُعد الوقوف عند الأعلام والرموز المستعملة في الكتب مدخلا مهما جدا لفهمها، سواء تعلق الأمر باستعمالهم من باب الإثبات أو من باب الاعتراض (أي الأعلام).

كما يجب على القارئ أن يركز على مصطلحات الكتاب، إذ لكل كاتب مصطلحاته التي يستوحيها من علمه، أي أنها من ابتكاراه الخاص، أو يستوحيها من مذهبه إذا كان له مذهب، فلكل مذهب مفاتيحه المصطلحية. ويمكن للقارئ بعد الوقوف على كل المصطلحات المتضمنة في الكتاب (سواء تلك التي ابتكرها الكاتب أو استند إليها أو ناقشها) أن يضعها في مذكرة خاصة ويقسمها ثلاثة أقسام: 1- مصطلحات اعترض عليها الكاتب. 2- مصطلحات أيدها. 3- مصطلحات ابتكرها.

تتعلق قراءة المعاني بمضامين الكتاب، ويجب على القارئ أن يوزعها إلى ثلاثة أقسام: تلخيص كلي، وتلخيص تفصيلي وآخر تفاعلي يعمل فيه القارئ على تقويم محتويات الكتاب إيجابا وسلبا.

تطرق بعد ذلك الأستاذ إلى تبيان الكيفية التي يتم وفقها تلخيص كتاب ما، مشيرا إلى أن ذلك ينجز عبر أربع خطوات أساسية:

1- إسقاط الشواهد (الاستشهادات) والنقول (الأقوال التي نقلها الكاتب) والأمثلة والتشبيهات.

2- إسقاط الانتقادات والاعتراضات على المذاهب والأفكار.

3- اختيار العبارات المفتاحية عما فضل وإثباتها.

4- تجميع ما تبقى من عبارات والربط بين تلك العبارات المفتاحية مع الإبقاء على هيكل النص العام.

يُحصل الطالب بفعل قراءاته المختلفة ومطالعاته المتباينة دائرة معارف شخصية، لذا يجب أن يرتبها ترتيبا يفيده في عملية تحصيله العلمي مستقبلا، ويمكن أن تُرتَب من حيث الشكل في مُرتباتٍ أو في سِجلات أو دفاتر أو ملفات أو جُذاذات صغرى، وتعد هذه الأخيرة أضعف  تلك الطرق، نظرا لقابليتها للضياع بحكم حجمها. كما يمكن تصنيف تلك المعطيات حسب فروع العلوم كعلم النفس، علم الاجتماع…. أو حسب الموضوعات كموضوع الحرية، موضوع المرأة…

أما فيما يتعلق بالخطوات المنهجية في القراءة الفاهمة للكتاب، فتحتاج لمجموعة من المهارات التي يمكن إجمالها كالتالي: أولا: الملاحظة وهي المعاينة المباشرة للكتاب، عنوانه وفقراته ومعجمه ومجاله ومؤلفه، ثانيا: التصنيف أي الترتيب والتدرج والتنظيم إعدادا وتحريرا، ثالثا، التحليل أي كيف تفكك العام إلى ما هو خاص والكلي إلى جزئياته، ورابعا: التركيب والتلخيص، أي التخلص من الجزئيات وتركيب المضامين في معانيها العامة الكلية.

  أما الخطوات المنهجية فأولها ضبط الكلمات المفتاحية في نصوص الكتاب، ويتم ذلك بمراعاة شرطين: الشرط الأول هو جردها مع مراعاة قاعدة الأحوط، إذ إن القراءة الأولى لا تساعدك على معرفة الكلمات المفتاحية، أما الشرط الثاني فهو ضبط العلاقات السياقية في النص للتقليص من عددها، إذ إن العلاقات السياقية تساعدك على اختزال عدد الكلمات المفتاحية التي يحتويها الكتاب، ثانيا تحديد النسيج المفهومي للنص من خلال ترابطاته وثنائياته. وهذه المسألة مهمة جدا، وهي مستعارة من علم اللسانيات، إذ يركز هذا العلم على الثنائيات المفهومية ويتحصل ذلك ببيان شبكة المفاهيم وتصنيفها إلى عائلات دلالية أولا، وبجرد الثنائيات التي يتضمنها النص ثانيا، أي المفاهيم المتعارضة في النص ثم جمعها في ثنائية تعارضية أساسية تؤول إليها كل التعارضات الموجودة.

أشار بعد كل ذلك الأستاذ إلى التحليل الوصفي، وهو تفكيك النص إلى أدق عناصره الجزئية، وينقسم إلى خطوتين كبيرتين: أ. النظر الوصفي نفسه، حيث يتم استثمار المعطيات التي شرحت في عملية الفهم، أي الكلمات المفتاحية والثنائيات المتعارضة مع التوسع في ملاحظة ما يجليها في النص من تفاصيل، وهنا تختلف النصوص الفكرية عن النصوص الأدبية بسبب اختلاف وظائفهما. وبخصوص النصوص الفكرية الثقافية ينبغي إنجاز أمور عديدة من بينها تحليل معجم النص المستخرج عن طريق تحديد الكلمات المفاتيح. وذلك بذكر معانيها استرشادا بالسياقين الدلالي داخل النص والتداولي خارجه مع ترتيب المعجم بحسب ترتيب عناصر الأطروحة داخله. أي شرح الكلمات المفتاحية من خلال أمرين اثنين: أولا بالنظر إلى سياقها داخل النص، وبالنظر إلى استعمالها التداولي خارجه، أي في كتب أخرى أو في  العلم الذي ينتمي إليه النص أو المذهب الذي ينتمي إليه الكاتب.

يأتي بعد ذلك استخراج البنية الحجاجية للنص من خلال وقوف القارئ على ما يثبته هذا النص، أي الأفكار التي يدافع عنها الكاتب وتلك التي ينفيها ويعترض عليها صراحة أو لا يوافقها ضمنا، وكيفية إثبات النفي لها مستويان: الأول لغوي والثاني استدلالي. أما اللغوي فهو دراسة الأسلوب والروابط اللغوية لمعرفة التراكيب الحوارية والتخاطبية فيه، أما المستوى الاستدلالي فيتجلى في استخراج الأدلة المستعملة، مع بيان نوعها هل هي عقلية أم نقلية أم واقعية، وبيان أسمائها وترتيبها ووظيفتها الاستدلالية، أي إبراز الغرض الذي يهدف الكاتب التدليل عليه.

القراءة النقدية:

المقصود بمفهوم النقد هو امتحان شيء ما بالنظر في قيمته، يقول الفيلسوف كانط أن النقد هو إبراز إمكانات الشيء، أي ما يمكن أن يتضمنه من سلبيات وإيجابيات. فالنقد تقويم وعملية تقريبية تريد أن تثمن العناصر الإيجابية وتبين وجه الخطأ في العناصر السلبية، ونقد النصوص المقروءة هو إعطاء تقويم شخصي يبرز فيه القارئ عناصر النص الإيجابية والسلبية. وكيفية النقد تتم بمعرفة أنواعه وخصائصه، وقد ميز أصحاب التفكير النقدي بين نوعين من الأدلة: أولا: الدليل الخارجي، حيث تكون النتيجة فيه متوقفة على مقدمة واقعية ووقائع جديدة، فالفكرة يستدل عليها أحيانا بالواقع وهذا الواقع يجب أن يُنظر في مدى مصداقيته وتقويم مدى إمكانية الاستدلال به على الموضوع المدروس، فليست كل الوقائع صالحة للاستدلال بها نظرا لتحولها السريع. وذلك عكس الأفكار التي تتحول في زمن بطيء، لكنه ذو جذور عميقة. أما الدليل الداخلي فهو شرح البراهين والإثباتات التي يستدل بها على قضية ما.

ويكون النقد الداخلي المحكم بتمحيص الفكرة القوية حيث يتم ترتيب أفكار النص من أقواها إلى أدناها مع تمحيص الدليل القوي ثم الكشف عن الاختلالات ببيان ما يمكن أن يكون قد وقع فيه الكاتب من تناقضات -إذ لا يخلو نص من تناقضات إلا كتاب الله عز وجل، أما الذي يقرأ ولا يصل إلى أي اختلال فيجب عليه أن يعيد القراءة- ثم بيان الفراغات، أي ما أغفله الكاتب من أفكار ذات صلة بالموضوع. إضافة إلى تصحيح النقول ببيان مدى صدقيتها ومناسبتها لما جيء بها لتشهد له، والكشف عن المغالطات التي قد تطال الأدلة المنطقية، حيث تجعل المغالطات الكلام في الكتاب يبدو قويا منطقيا ولكن إن تعمقت فيه سينكشف لك أنها مجرد استدلالات فاسدة، وتمثل مغالطات التلبيس التي تكون في المعاني ومغالطات التدليس التي تتعلق بالمباني شاهدين بارزين في هذا السياق.

أثار الأستاذ في المحور ما قبل الأخير مسألة تتعلق بموضوع تطوير مهارة القراءة السريعة نظرا لما آل إليه المجتمع من تدني في مستوى القراءة، ومشيرا إلى تسع وسائل لتطوير هذه المهارة،

1- التدريب على القراءة السريعة أو القراءة الكرونوميترية.

2- التدريب على القراءة الذكية وتتضمن ثلاث طرق استراتيجية، أولها: زيادة سرعة الأفكار في الدقيقة الواحدة بدل زيادة سرعة الكلمات، ثانيا استخدام خريطة القراءة وذلك باستخدام الطرق المختصرة المُوفِرة للوقت، فتُميزَ بين الفكرة الرئيسية والفكرة المساندة والفكرة الجانبية. ثالثا: التصفح السريع للكلمات.

3- توفير المناخ المناسب للقراءة.

4- استخدام العينين بفعالية (أي الرؤية المقطعية).

5 – حركة العودة السريعة للسطر.

6- الاستمرار في تنمية الثروة اللغوية.

7- تكييف سرعة القراءة مع الفهم.

8- إلغاء الارتداد (النكوص القِرائي) بمعنى أنك إذا شردت في فقرة من الفقرات فلا تعد لقراءتها.

9- ممارسة القراءة بانتظام بمقدار 15 دقيقة إلى 30 دقيقة يوميا.

أشار الأستاذ في النقطة الأخيرة من هذه المحاضرة التكوينية إلى آفات القراءة ومعوقاتها.

من أبرز هذه الآفات نجد: قلة الصبر على مداومة القراءة بسبب الانشغالات وسرعة الملل، ضعف التركيز بسبب غلبة القراءة التصفحية على القراءة المنهجية التحصيلية، غياب بعض قواعد القراءة التي تتلخص في قاعدتين اثنتين: أولا: قاعدة فكرية مفادها أنه من اعتنى بمهارة دون أخرى أضر بهما معا. ثانيا: قاعدة منهجية لها ثلاثة ضوابط: أ. التدرج والبداية بالأهم قبل المهم وبالقراءة التأسيسية قبل القراءة الاستطلاعية ب. معرفة مذهب المؤلف ومنهجه في التأليف ج. معرفة عادة المؤلف في اصطلاحاته وأسلوبه.

إعداد: كنزة فتحي
باحثة بمركز ابن البنا المراكشي

ذة. كنزة فتحي

حاصلة على الإجازة في الفلسفة

باحثة سابقة بمركز ابن البنا المراكشي

مهتمة بدراسة تاريخ النساء العالمات في الحضارة العربية الإسلامية

ترجمت عدة مقالات من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق