مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

محاضرة حول كتاب «المعنى المتعدد بحث في مراتب لَبْسِ الخطاب» للدكتور عبد الإله الكريبص

 

نظم مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية بتطوان التابع للرابطة المحمدية للعلماء قراءة لكتاب الدكتور عبد الإله الكريبص الموسوم ب «المعنى المتعدد بحث في مراتب لَبْسِ الخطاب»، وذلك يوم الإثنين 20 شعبان 1444هـ الموافق ل 13 مارس 2023م، بمقر المركز.

وقد افتتحت المحاضرة بكلمة باسم مركز ابن أبي الربيع السبتي ألقاها رئيس المركز فضيلة الدكتور محمد الحافظ الروسي رحب فيها بضيف المركز الدكتور عبد الإله الكريبص وبالحضور الكرام، كما ذكر موضوع المحاضرة، وعرف بالكتاب المقدَّم.

ثم انتقلت الكلمة للأستاذ المحاضر الدكتور عبد الإله الكريبص الذي بين أن عمله هذا عبارة عن تجربة متواضعة مكنته من البحث في ظاهرة المعاني الملتبسة، وقد أشار في هذا السياق إلى ورود كلمة «اللبس» في القواميس العربية بحمولتها اللغوية المعجمية قبل أن يصير مفهوما واصفا مفسرا لظواهر مطردة.

وبين أيضا أن مصطلح اللبس لم يكن المُعَيِّنَ الوحيد لهذه الظاهرة وإنما وازته مصطلحات أخرى ترددت عند المشتغلين بالعلوم اللغوية وتشترك جميعها في الدلالة على ظهور المعنى وخفائه من ذلك: الإبهام، والإلغاز، والخفاء والعموم والإجمال والغموض، والتي شكلت جانبا من الجهاز الواصف لدى بعض العقول المعرفية التي كانت تبحث عن شروط تضمن وضوح الملفوظات بإقصاء العناصر المتعارضة مع الوظيفة الأصلية للغة، وهي الفهم والإفهام، وكان ذلك شأن علماء الأصول والتفسير وهم يقرؤون النص القرآني وفيه المشكل والمتشابه إلى غير ذلك.

وقد أشار في هذا السياق إلى ورود اللبس في الدراسات الغربية كما أشار إلى بعض الأعمال التنظيرية التي اهتمت بقضية اللبس ومنها كتاب «اللبس خمس دراسات لسانية» سنة: 1988، وكتاب «سبعة أنماط من اللبس» سنة: 1930.

ووضح المحاضر أن اللبس خصيصة نسقية ملازمة للنظام اللغوي في مقابل الغموض لأجل ذلك كان تحقيق الوظيفة التواصلية للغة لا يتم إلا بعد وضع الضوابط التي تسمح بأمن اللبس ورفعه وصفاء المعنى، والنظرية اللسانية معنية بحل هذه الإشكالية ووضع الآليات التي تضمن الإجابة عن سؤالها المركزي، لماذا يلتبس الملفوظ؟ وما هي الطرائق الممكنة لرفع اللبس التركيبي والتداولي والدلالي؟.

وبين المحاضر أن المباحث الدلالية في التراث العربي متعددة الأوجه عظيمة الأثر منها: إشكالية اللفظ اللفظ والمعنى والدليل في علاقته بالمرجع، وتقسيم علماء الأصول للدلالات بحسب درجات الخفاء والوضوح وهذا يدخل في إطار نظرية المعنى في التصور التراثي على حد تعبيره، وقد ظل المعنى في العصر الحديث فاقدا شرعية الانتماء إلى الأنساق التراثية الحديثة بدعوى صعوبة بناء نظرية دلالية وهو ما يفسر تأخر ظهور علم الدلالة إلى القرن التاسع عشر، مما أتاح إمكانية دراسة المعنى من منظور لساني صرف بعد أن ظل أمدا بعيدا ينتمي إلى فلسفة اللغة والمنطق.

وبعد هذا التمهيد النظري انتقل الدكتور عبد الإله الكريبص إلى الحديث عن دور الظاهرة اللسانية الملتبسة دلاليا وتركيبيا؛ ففي المستوى الدلالي حرص على أن تكون الظواهر المعالجة ممثلة للمفهوم تسعف في بناء تصور قادر على قراءة البنيات الملتبسة بسبب لفظ مشترك أو تضاد أو تركيب مجازي، وفي المستوى التركيبي تتبع الظواهر التركيبية التي تعرض الخطاب للالتباس حاصرا إياها في ثلاثة مستويات، منها: ما سماه باللبس الاصطناعي، أو ما يسمى بالمقولات النحوية الملتبسة، ومنها: البنيات الإضافية الملتبسة.

وفي هذا السياق ميز بين اللبس والغموض من حيث إن الأول سمة ملازمة للغة العادية بقوة النسق بينما الغموض سمة جمالية طارئة عن قصد أو عن غير قصد، ثم انتقل إلى الحديث عن المعنى في الموروث النقدي وكيف تلقى النقاد جرأة الشعراء على إفساد الشعر وخرق مطلب الوضوح الذي ميز التصور النقدي عند النقاد اللغويين البلاغيين كالآمدي وأبي هلال العسكري، وفي النقد الحديث عرض المحاضر للتصور النقدي للغة الشعر من منظور الللسانيات الحديثة التي استثمرت المقولات اللسانية في النظر إلى لغة الشعر، ولأن القاسم المشترك بين كل ما سبق هو المعنى فإن الحديث عن المعنى الدلالي في الشعر العربي الحديث لا يكتمل إلا بتحديد روافده والعناصر المؤثرة في تشكله وظيفةً ومحتوىً، وقد عمل المحاضر على استقصاء ذلك من خلال رصد ما يجمع بين القول الصوفي والقول الشعري.

وفي نهاية مداخلته اقترح الدكتور عبد الإله الكريبص منظورين يسمحان بضبط العناصر المحددة للغموض الشعري هما: الغموض المسقط، والغموض المحايث، كما اتخذ من نصوص الشعر العربي الحديث مجالا للتحليل غير مقيد بقطر معين ولا بجيل دون غيره.

وبعد كلمة الدكتور عبد الإله الكريبص جاءت كلمة فضيلة الدكتور عبد الرحمن بودرع الذي بين أن هذا الكتاب يعد من الكتب القليلة النادرة التي كتبت في ظاهرة معقدة وهي: اللبس، بوصفه محورا تدور في فلكه مفاهيم أخرى تلازم النص اللغوي وهي: الغموض والإبهام والإلغاز. كما بين أن هذا الكتاب يعالج إشكالية متصلة بعلاقة اللغة بعالم المعنى والدلالات والبيان وكيف تجند اللغة وسائلها وقوانينها ومستوياتها لاقتناص المعنى المطلوب وبيانه وإيضاحه.

وأشار الدكتور عبد الرحمن بودرع إلى أن هذا الكتاب ركز على فترة من فترات النشاط الأدبي والعلمي واللساني والتداولي خاصة، والأمر يحتاج إلى تطوير لملاحقة ما أصاب مصطلح الغموض واللبس من تطورات حديثة، وبين أيضا ان ظاهرة اللبس أسهمت في نشأة العلوم والمعارف كعلم النقد والبلاغة والنحو.

ووضح أن هذا الكتاب جمع بين مباحث الدلالة عند العرب الذين أسهموا إسهاما وافرا في بيان دلالات النصوص وبين الدرس الدلالي اللساني الحديث، وهو إشكال كبير لأن له جذورا في الفلسفة اليونانية، وايضا لأن اللسانيات تشعبت وتفرعت بحسب منازع الفلسفة ومصادرها.

وبين أن اللبس منه ما يعد ظاهرة عضوية من ظواهر اللغة ومنه ما يلقى على الكلام إلقاء وسماه الدكتور عبد الإله الكريبص إسقاطا، وهذا الإلقاء هو إلقاء لأغراض تتعلق بمقاصد المتكلم وغاياته ومنه ما يسمى بالإسقاط الرمزي؛ فالكتاب عالج كل هذه الأشياء وهو ذو ثقافة واسعة متنوعة بمعنيين: معنى الدرس العربي القديم والدرس اللغوي الفلسفي واللساني الحديث إلى حد زمني معين في معالجة قضايا اللبس والغموض، ومن مواد الكتاب أيضا الفرق بين اللبس اللغوي النابع من طبيعة الدلالات اللغوية ثم اللبس في النص؛ فنحن أمام ثلاث محاور كبرى متفاعلة، أولها: اللغة الطبيعية وما ابتليت به من محنة اللبس، ثم المحور الثاني: وهو اللغة الفكرية والإبداعية وما يعتريها من غموض سببه طرق التعبير والمناهج التي تستخدمها اللغة في ميادين الأدب والتصوف وغيرهما حتى غدا الغموض جزءا من اللغة الإبداعية، ثم المحور الثالث: وهو العلوم والمعارف المصطنعة لرفع اللبس عن اللغة الطبيعية ولأن الخواطر الفردية لا تكفي لفهم النص.

وأكد في ختام مداخلته على أن اللبس ليس ظاهرة مرضية بل هو ظاهرة صحية طبيعية تعتري اللغات، كما أنها ظاهرة عضوية نسقية ملازمة لنظام الدلالات.

ثم انتقلت الكلمة إلى فضيلة الدكتور محمد الحافظ الروسي الذي وقف عند حديث المؤلف الدكتور عبد الإله الكريبص عن الإغماض والغموض المزدوج، وأشار إلى أن حازما يعبر عن ذلك بالانبهام أيضا، ولكنه وزع حديثه عن ذلك في الكتاب كله ويحتاج من القارئ أن يقرأ الكتاب كله ويأخذ من هنا ومن هناك ليركب المقصود، فالرجل دقيق العبارة خفي المقاصد. وبين أيضا أن بحثه في الإغماض من أوسع البحوث في بلاغة العربية وحاول الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بالإغماض أو الابنهام منها: كيف يقع؟ وكيف يرفع؟ كيف تسلم المعاني منه وما هي وجوهه؟ كيف يكون الانبهام في نفسه؟ وكيف يكون من حيث المقصود منه والمقصود به؟ وما هي علاقته بكمال المعاني ونقصانها وبالتلاؤم؟.

ووضح الدكتور محمد الحافظ الروسي أنه إذا أردنا أن نرجعها إلى أصول فتكون في سلامة المعاني من الاستحالة الواقعة من الإفراط في المبالغة أو بفساد التقابل والانبهام الحاصل بالخطإ في الوضع وانبهام المقصود بالمعنى، والكمال والنقص وانبهام التلاؤم والانبهام المتعلق بمعرفة المعاني الأصيلة في المدح والذم والانبهام من جهة عدم توجه الكلام نحو الأمر المقصود، وغير ذلك، ولهذا كان الباب واسعا، وقد حاول المؤلف أن يذكر ما اعتقده مهما في الباب فقط واختصر ذلك اختصارا.

كما وقف الدكتور محمد الحافظ الروسي عند بعض المواضع التي استشكلها، كما شرح المقصود ببعض عبارات حازم مثل قوله: «ما يقصد أن تكون في غاية من البيان وما يقصد أن تكون في غاية من الإغماض» مبينا أنه يقصد بذلك الإلغاز، وقول حازم أيضا: «ما يقصد أن يكون فيه بعض غموض» مبينا أنه يقصد بذلك الإرداف.

كما وقف عند قول حازم: «فالذي يرجع إلى المعاني ينتج عن كون …» مشيرا إلى أن المؤلف ذكر منها ستة، وقد تتبعها الدكتور محمد الحافظ الروسي فوجدها أكثر من ذلك، وأضاف أمرين هما: أن يكون المعنى مشتملا على ما يجعله قابلا لأنواع من الاحتمالات، والأمر الثاني أن يكون المعنى قد اقتصر في تعريف بعض أجزائه أو تخييلها على الإشارة إليه بأوصاف تشترك فيها بعض أشياء غير أنها لا توجد مجتمعة إلا فيه، وقد ذكرها حازم على سبيل التفصيل والتبيين لا على سبيل التكثير، وفي ختام قراءة الكتاب نوه المتدخل بالمجهود الذي بذله المؤلف في كتابه وصبره الشديد على البحث العلمي وأضاف أيضا أن الكتاب فيه إفادة وفيه إضافة.

وختمت هذه المحاضرة بمناقشة علمية جادة طرحت فيها عدة إشكالات أجاب عن الشق اللغوي فيها فضيلة الدكتور عبد الرحمن بودرع، ثم صاحب الكتاب المقروء الدكتور عبد الإله الكريبص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق