مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية

محاضرة الدكتور محمد أبطوي

“متن المظفر الإسفزاري في علمي الأثقال والحيل: تقديم المتن وتحليله وتحديد دلالته في تاريخ العلوم العربية”

     احتضن مركز ابن البنا المراكشي للدراسات والبحوث في تاريخ العلوم الإسلامية يوم الخميس 2017/01/19 في إطار أنشطته العلمية محاضرة لمؤرخ العلوم العربية الأستاذ د. محمد أبطُوي الذي يُعد من أهم الباحثين المتخصصين في الميكانيكا العربية، حيث وقَف جُل مجهوداته على هذا المبحث تحقيقاً ودراسةً وترجمةً. ويشتغل الدكتور أبطُوي حاليا أستاذا لفلسفة العلوم وتاريخها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، كما شغل العديد من المناصب العلمية الرفيعة دوليا. ونشير هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن الأستاذ كان كبير الباحثين بمؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة بمانشستر، كما أنجز في إطار شراكة مع معهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم ببرلين مجموعة من الدراسات والترجمات والتحقيقات المتعلقة بمُعظم المتن الميكانيكي العربي. هذا فضلا عن مشاركاته ومساهماته العديدة في مجموعة من الملتقيات العلمية المحلية والدولية.

    نود أن نشير بداية إلى أن المحاضرة كانت مرفقة بعرض مجموعة من الوثائق والمعطيات القيمة التي تبرز مجهودا كبيرا للأستاذ الباحث، ينضاف إلى هذا أن الأستاذ المحاضر لجأ في أحيان كثيرة إلى مجموعة من التفصيلات والاستدراكات والتوضيحات الدقيقة التي تنم عن خبرة وسعة اطلاع بهذا المبحث العلمي. في المقابل، جعل هذان العاملان من عملية استجلاء تفاصيل وحيثيات المحاضرة أمرا عزيز المنال. لذا فإننا سنحاول ما أمكننا الوُسع في ذلك أن نرسم الخطوط العامة لهذه المحاضرة دونما إخلال بتراتبها وتناسقها المُحكمين، آملين أن نوفق في تقديم نظرة عامة تقرب القارئ الكريم من جُل مضامينها وأفكارها.

    عمل الأستاذ المحاضر في البداية على توضيح الترسيمة العامة التي ستقتفي خطاها المحاضرة، حيث سيتم التركيز على عالم ميكانيكي ظل منسيا ومجهولا، ولن يتم الكشف عنه إلا في حدود السنوات الأخيرة من خلال مجموعة من الدراسات والتحقيقات الجادة. وتتميز طبيعة العمل حول متن الإسفزاري بكونها ذات تشعبات وتداخلات تقتضي الانفتاح على مجموعة من الأبعاد، من بينها البعد التاريخي، أي ضرورة موقعة عمله ضمن سياق تاريخ الميكانيكا العام قصد تحديد دلالته الحقيقية، وإلا فإن الأمر لن يعدو كونه مجرد عملية نشر عادية لمخطوطات معينة. تنتمي أعمال الإسفزاري إلى علم الأثقال الذي ظل مجهولا من قِبل الباحثين مدة غير يسيرة من الزمن، وشكل هذا العلم أساسا لعلم الأثقال اللاتيني الذي شكل بدوره رافدا مهما من روافد العلم الحديث.

    ارتأى الأستاذ أن الحديث عن الإسفزاري ومتنه لا يمكن أن يستقيم دون استحضار المبحث الذي تندرج ضمنه هذه الدراسات، أي مبحث تاريخ العلوم، لذا سيُعَرج على تقديم عام حول هذا المبحث كي يكون بمثابة أرضية تسنِدُ الأفكار والآراء التي سيتم بثها وتفصيل القول فيها فيما بعد. مؤكدا أن ممارسة تاريخ العلوم اليوم لا تحيل على مجرد ممارسة تقنية إمبيريقية تعتمد جمع المعلومات وعرضها، بل أضحت تمثل مبحثا راشدا ومستقلا ذا مناهج ونظريات مستمدة من برنامج عام يُعرف بين عموم الباحثين بـ”الإبستمولوجيا التاريخية” أو “التاريخ الإبستمولوجي“، ويتجلى ذلك في دراسة المؤلفات والمتون العلمية انطلاقا من بعض المبادئ والمعطيات النظرية التي تكون بمثابة موجه لعملية البحث التاريخي. ويضفي هذا الأمر طابع الازدواج على مهمة مؤرخ العلوم: إذ يشتغل من جهة -كجميع المؤرخين- اعتمادا على وثائق معينة، ومن جهة أخرى يحاول أن يؤول تلك الوثائق ويحللها داخليا قصد استخراج كنهها ومحتوياتها بهدف الكشف عن المحددات العامة لتطور العلوم، وذلك باستحضار كيفية نمو العلم: هل هي كيفية اتصالية وتراكمية أم أنها تعتمد الانفصال والقطائع؟

     من هنا فقد أكد الأستاذ أبطوي أن فهم أطروحة الإسفزاري وتقديرها حق قدرها يكون بالعودة إلى الأطروحة التقليدية لعلم الأثقال، وذلك باستحضار الأعمال العربية المنجزة في هذا المبحث منذ القرن الثالث الهجري/العاشر الميلادي، خصوصا مع ثابت بن قرة الذي وضع أسس هذا المبحث داخل الحضارة العربية. يتكون متن علم الأثقال المعني بالأمر هنا من خمسين نصا، ويمكن تصنيفها إلى ثلاث أقسام رئيسة: أ. نصوص عربية لأصول إغريقية ضاع بعضها ولم يبق منها إلا هذه النسخ العربية، ب. نصوص عربية مؤسِسة وضعت القواعد والنماذج للأعمال التي ستليها، وتنتمي هذه النصوص إلى المرحلة الممتدة من القرن التاسع الميلادي إلى القرن الثاني عشر، ج. نصوص ذات طبيعة عملية تستند إلى التأسيس النظري السابق وتشتغل في إطار ما يسمى اليوم بالعلم العادي.

    كما أشار الأستاذ إلى أن وضعية تاريخ العلوم العربية في الوقت الراهن مفرحة جدا نظرا لأن الدراسات المنجزة حول التراث العلمي الإسلامي المكتوب باللغة العربية تقدمت كثيرا إلى درجة يمكن القول معها أن الميدان قد تمت إعادة كتابته من جديد خلال العقود القليلة الماضية، ولا يتعلق الأمر بمجهودات معزولة لبعض المؤرخين بقدر ما يتعلق بتضافر مجهودات أجيال عديدة تربو على نصف قرن من الزمن. كما شمل هذا التطور مختلف المباحث العلمية التي شهدتها الحضارة الإسلامية مع أفضلية واضحة للعلوم الرياضية التي تتميز بصعوبتها ودقتها، وترجع هذه الأفضلية بالأساس إلى أن التيار الغالب في تاريخ العلوم عامة يبقى هو التيار المهتم بالعلوم الرياضية. ويُحسب لمجمل هذه الدراسات العميقة والرصينة كونها صححت مكانة العلوم العربية ضمن التاريخ العام للعلوم معيدة لها الاعتبار بعدما كان يُنظر إليها كمجرد قنطرة مرت خلالها العلوم الإغريقية إلى الحضارة الغربية الحديثة عن طريق الترجمات اللاتينية التي تمت بالأندلس في القرن الثالث عشر الميلادي.

     ونبه المحاضر إلى أن البحث العلمي المتعلق بتاريخ العلوم العربية داخل البلدان العربية والإسلامية يتسم بضعف ملحوظ إذا ما قُورن بنظيره داخل البلدان الغربية، وأشار في هذا السياق إلى بعض المجهودات المحمودة داخل البلدان العربية، كصدور بعض المجلات المتخصصة في هذا المجال، من قبيل مجلة تاريخ العلوم العربية الصادرة عن معهد التراث العلمي العربي بحلب ومجلة سهيل الفتية التي تصدر بمدينة برشلونة الإسبانية، إضافة إلى بعض المجلات الإيرانية والتركية المعنية بهذا التخصص. أما بالنسبة للمؤسسات العربية المتخصصة في تاريخ العلوم فتتسم بالقلة، ويأتي في مقدمتها معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب الذي تأسس في سبعينيات القرن الماضي وأنجز أعمالا مهمة في هذا المجال، إضافة إلى بعض المراكز العربية الأخرى كمركز التراث العلمي العربي بالقاهرة ومركز التراث العلمي العربي ببغداد. كما أشار الأستاذ المحاضر إلى أن أمله كبير في دعم عمل المركز المغربي الوحيد في هذا الميدان، وهو مركز ابن البنا المراكشي الذي يعد مركزا واعدا ذو تجربة وتراكم، ويتوفر على شروط العمل من قبيل المجلة الورقية والموقع الإلكتروني الخاصين به… كما تطرق أيضا لبعض الشخصيات العلمية المرموقة التي أسهمت أيما إسهام في هذا التخصص، كالمرحوم عبد الحميد إبراهيم صبرة ومؤرخ العلوم الرياضية رشدي راشد ومؤرخ علم الفلك العربي جورج صليبا.

   كما اغتنم الأستاذ الفرصة للإشارة إلى أن أهمية تاريخ العلوم لا تنحصر في كونه مصدرا تاريخيا للمعرفة فحسب، بل يمكن أن يمثل مصدرا للأبحاث العلمية المعاصرة نفسها، ويعطي الأستاذ بعض الأمثلة على ذلك من خلال الإحالة إلى بعض الظواهر العلمية المعاصرة التي تفيد فيها كثيرا الشواهد التاريخية، خصوصا بعض الأعمال العربية التي أفادت الباحثين المعاصرين في الدراسات الفلكية والمناخية. فقد صدرت سنة 1972 في مجلتين بريطانيتين مرموقتين دراسة لعالم بريطاني يُدعى روبرت نيوتن الذي وضح كيف أنه استقى من معطيات أوردها البيروني نتائج تفيد في حساب حركة تسارع الأرض حول نفسها. كما أعطى المحاضر مثالا آخر بدراسة سبق أن نشر هو نفسه ملخصا حولها بإحدى المجلات الإلكترونية، وتتعلق بملاحظات كتبها عالم مصري في بداية القرن الحادي عشر حول حدث فلكي مثير لم يُفهم على حقيقته آنذاك، ويتمثل هذا الحدث في انفجار نجم ما في السماء، وتعرف هذه الظاهرة اليوم باسم “المستعر الأعظم” Supernova. وقد أشار علي بن رضوان العالم المصري المعروف في إحدى كتاباته أنه رأى ضوءا يفوق بريقه بريق الزُهرة ثلاث مرات واصفا ما رآه آنئذ، وسيركز العلماء فيما بعد على هذا الوصف قصد فهم جيد لهذه الظاهرة، خصوصا بعد أن استقوا حولها مجموعة من الشهادات المتنوعة من مصادر تاريخية قديمة، مصادر صينية ويابانية وعربية وأوربية…

     أكد المحاضر من جهة أخرى أن التقليد العلمي الإسلامي تميز بكونه امتد في الزمن طيلة سبعة قرون مغطيا جميع مناطق العالم الإسلامي، إذ لا فضل لمنطقة على أخرى في هذا المجال، ويكفي دلالة على ذلك الإشارة إلى أن منطقة إفريقيا تعد من أهم الأماكن الحالية التي تضم مخطوطات علمية عربية، ويُبرز هذا المدى الشاسع والدلالة العميقة التي ميزت الإسهام العربي في العلوم. حيث لم يكن إسهاما جزئيا محدودا في الزمان والمكان، بل يمكن القول إنه لا وجود في التاريخ المكتوب عامة لأي تقليد أطول زمنيا من التقليد الإسلامي الذي بلغ  سبعة قرون، فين حين لم  يتجاوز بعدُ التقليدُ العلمي الحديث هذه الفترة الزمنية. كما اهتم هذا التقليد الإسلامي بجميع ميادين المعرفة المتداولة في العصرين القديم والوسيط وأسهم في معظمها بإسهامات جليلة، بل إنه تعدى ذلك إلى تأسيس فروع علمية جديدة لم تكن معروفة من قبل، ويمثل علم الجبر خير شاهد على ذلك. من ناحية أخرى تبين الدراسات الحالية أنه إلى حدود النصف الثاني من القرن السابع عشر كانت المخطوطات العربية لا تزال تُقرأ في الأوساط العلمية اللُندنية (إنجلترا) بلغتها الأصلية، والدليل على ذلك هو إدموند هالي Edmond Halley  زميل وصديق نيوتن الذي تعلم اللغة العربية ليقرأ بها الرياضيات العربية، ينضاف إلى هذا تلك المعطيات العديدة التي تؤكد مدى انتشار المخطوطات العلمية العربية في فرنسا وإيطاليا، بينما ظلت الترجمات اللاتينية محدودة نسبيا رغم أهميتها. بناء على ما سبق، خَلُص الأستاذ المحاضر إلى أن التقليد العربي الإسلامي كان محركا رئيسيا لانطلاق البحث العلمي بأوربا “قبل الحديثة“، وقد اختار الأستاذ هذه العبارة الأخيرة تفاديا لمسايرة بعض الأطروحات الاختزالية التي ترى في العلم العربي محركا مباشرا للبحوث الحديثة مع جاليلو وكبلر ونيوتن، فرؤية كهذه لا تعدو كونها تجاوزا للحقيقة التاريخية كما أكد الأستاذ أبطُوي.

     يرى العديد من المؤرخين أن تأسيس مدينة بغداد سنة 150 هجرية يمثل التاريخ الرمزي لانطلاق التقليد العلمي الإسلامي، والشواهد التاريخية على هذا المسألة كثيرة، يروي مثلا المسعودي في كتابه “مروج الذهب ومعادن الجوهر” زيارة وفدٍ هندي ووفدٍ بيزنطي رفيع إلى بغداد حيث حملوا معهم مجموعة من المخطوطات العلمية في مجالي الفلك والهندسة وأهدوها إلى الخليفة، ويوري لنا كيف أن الخليفة أخذها وأمر بترجمتها، ولا شك أن هذا يفترض وجود علماء متضلعين في اللغة المترجم منها ويقتضي أيضا إلماما بالمجلات التي تعالجها محتويات هذه المخطوطات. ويعني هذا أن ما تم في بغداد آنذاك لم يكن البداية الفعلية للتقليد العلمي الإسلامي بقدر ما كان تتمة واستكمالا لما حدث في العهد الأموي. إذ تشكلت آنذاك وفيما بعد جماعة علمية سيكون لها فضل كبير في تأسيس هذا التقليد العلمي، ويكفي هنا الاطلاع مثلا على كتاب الفهرست للنديم لمعرفة أسماء هؤلاء العلماء وتفاصيل عن حياتهم… لم يكن الاهتمام بالعلم ومخطوطاته مجرد عمل دبلوماسي، بل كان جزءا من سياسة الدولة العباسية، حيث نرى حاكما كالمأمون يطلب من حاكم الروم مجموعة من المخطوطات عن طريق اتصالات رسمية بينهما.

    يرى الأستاذ أبطُوي أيضا أن من مهام مؤرخ العلوم الأساسية تصحيح الأفكار والتصورات الخاطئة الرائجة بين الأوساط الثقافية، ويمكن التمثيل على هذه المسألة بالدور الكبير الذي يُعزى لبيت الحكمة، والذي كان في الواقع مؤسسة غامضة ذات دور مبهم في هذه العملية العلمية الكبيرة، لذا لا يمكن حصر أسباب نشوء التقليد العلمي الإسلامي في الدور الذي أُنيط بهذه المؤسسة، وذلك نظرا لأن نشوء هذا التقليد كان بالأحرى نتيجة عملية دينامية تضافرت فيها مجموعة من العوامل، كسياسة الدولة العباسية والنهوض المجتمعي آنذاك والانطلاقة الحضارية الواسعة التي شهدها العرب والمسلمون في تلك الفترة… تبين بعض الدراسات المعاصرة القليلة (وقلتها وعدم اهتمام المؤرخين المحترفين بهذا الموضوع دليل كاف على عدم أهميته الكبيرة) أن بيت الحكمة لم يكن أكاديمية بالمعنى المعاصر للكلمة، إذ ذُكر في مجموعة من المصادر التاريخية بسرعة واقتضاب لا يسمحان بمعرفة دوره الحقيقي في عملية الترجمة والبحث العلمي. من جهة أخرى، يسمح هذا بالقول أنه لم يكن مؤسسة كبيرة كما يُصور البعض، إذ لو كان الأمر كذلك لما أحجم المؤرخون الأوائل عن ذكره وتفصيل القول فيه. كما يُلاحَظ أيضا غياب تام لكل معطى يتعلق بمآله أو ما انتهى إليه أمره بعد عهد الخليفة المتوكل. لذا يَخلُص الأستاذ المُحاضر إلى أن الرأي الرائج لدى البعض بخصوص المكانة الجوهرية لبيت الحكمة في تأسيس التقليد العلمي الإسلامي أمرٌ مبالغٌ فيه كثيرا.

     أما فيما يتعلق بالعوامل الفعلية لنشأة هذا التقليد فإننا نجدها في بعض المصادر التاريخية العامة، وأهم هذه العوامل هو عملية تعريب الديوان التي تمت في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، كما أشار الأستاذ إلى ضرورة الانتباه إلى عملية أخرى مهمة جدا في تأسيس هذا التقليد، وهي ظاهرة الدعم والرعاية التي حظي بها العلماء والمترجمون داخل البيئة الإسلامية، ولم يكن دعما من النخبة أو من عدد محصور من الأفراد، بل يُوصف بأنه كان دعما من المجتمع ككل. كما لا يمكن أن نغفل بعض العوامل الأخرى المتعلقة بالحاجات العملية للمجتمع الإسلامي التي تضافرت مع عملية الترجمة نفسها. بالتالي، فإن فهم الأسباب الكامنة وراء نشوء هذا التقليد لن يتأتى إلا باستحضار العوامل المُشار إليها أعلاه في مستويات ترابطاتها وتداخلاتها فيما بينها.

     بالعودة إلى موضوعنا المتعلق بالإسفزاري يمكن القول -إن صحت العبارة- أن شهادة ميلاده في الدراسات المعاصرة  كانت ضمن مجلة Science in Context ، حيث أصدر الأستاذ المحاضر رفقة باحثيَن ألمانيين مقالا عن هذا العالِم المتميز الذي ظل مغمورا حتى ذلك الحين، مؤكدين (أي هؤلاء الباحثون الثلاثة) أن ما يميز الميكانيكا العربية هو أنها شهدت تأسيس علم جديد هو علم الأثقال. سيتم تطوير هذه الأطروحة فيما بعد لتشكل مفتاحا للبحث في جل الأعمال التي أنجزها الأستاذ أبطُوي حول الميكانيكا العربية، أي إن هذه الأطروحة صارت أداة عمل لفهم مجموعة من الأمور الأخرى في تاريخ الميكانيكا. يجب أن نميز في هذه الأخيرة –الميكانيكا- بين علمين: علم الحيل وعلم الأثقال، اشتهر الأول وانتشر بين عموم الباحثين بينما بقي الثاني في الظل، وذلك لسبب بسيط: هو أن متنه لم ينشر بين هؤلاء الباحثين في حين دُرست ونُشرت المؤلفات الأساسية في علم الحيل، كتلك الأعمال التي نشرها الأستاذ يوسف الحسن: كتاب الحيل لبني موسى، كتاب العلم والعمل النافع للجزري، ورسالة تقي الدين بن معروف المسمى الطرق السنية في الآلات الروحانية، إضافة إلى أعمال أخرى أقل أهمية وسعة. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن العمل الأندلسي الوحيد في هذا الميدان هو عمل علي بن خلف المرادي المعنون بكتاب الأسرار في نتائج الأفكار الذي اكتشفت مخطوطته الفريدة بفلورنسا… كما تجدر الإشارة إلى عمل آخر مهم لتقي الدين بن معروف وهو المسمى بـ “الكواكب الدرية في البنكامات الدورية“، وتتجلى أهمية هذا العمل مضافا إلى كتاب “الطرق السنية في الآلات الروحانية” في كونهما يبرزان بكل وضوح أن أصالة التكنولوجيا الإسلامية استمرت إلى حدود نهاية القرن السادس عشر.

    تطلب الحديث عن علم الأثقال الوقوف قليلا عند إحدى الآلات النموذجية، وهي الميزان القباني (الذي أُطلقت عليه أسماء عديدة كالقرسطون والقفان) وهو ميزان لازال متداولا حتى يومنا هذا، ورغم البساطة التي يبدو عليها إلا أنه يتميز بصعوبة نظريته، إذ يتطلب تفسير خصائصه جهدا علميا كبيرا يقتضي متطلبات فيزيائية ورياضية ليست في متناول الجميع. وقد تفضل الأستاذ المحاضر بتقديم بعض التفصيلات التقنية الدقيقة المتعلقة بهذا الميزان، مشيرا بعد ذلك إلى الدلالة الخاصة التي يكتسيها الميزان داخل الثقافة الإسلامية، وقد شجعت هذه الخصوصية على الاهتمام بعلم الأثقال، وكانت بمثابة حاضنة ثقافية للاهتمام بمختلف أنواع الموازين. ونجد هذه الخلفية الثقافية معروضة في العديد من المؤلفات الإسلامية وفق كيفية مفصلة، بدءا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية… التي تحث كلها على عدم الغش في الميزان وضرورة التدقيق فيه، حتى صار الميزان رمزا من رموز العدل والعدالة. يضاف إلى هذا عنصر مادي يتمثل في ارتباط الميزان بالعمليات التجارية، إذ شجعت مسألة عدم وجود وحدات مضبوطة على عملية البحث في الموازين والأثقال قصد الوصول إلى طرائق ووحدات أكثر ضبطا ودقة. وهذا ما أثمر لنا تقليدا نصيا مهما في علم الأثقال والموازين.

     انتقل الأستاذ أبطُوي بعد ذلك إلى مسألة أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها، وتتعلق بذاك التمييز بالغ الأهمية الذي قام به الفارابي بين علمي الأثقال والحيل أثناء وضعه لخريطته التصنيفية في العلوم، ويعد هذا التمييز أمرا غير مسبوق حتى داخل التصنيفات الإغريقية. ويشير الفارابي في هذا السياق إلى أعمالٍ محددةٍ لبعض معاصريه أو سابقيه، كنصوص الرازي وثابت بن قرة والقوهي وقسطا بن لوقا… والنقطة المحورية هنا تتمثل في أنه لا ينبغي لنا قراءة قول الفارابي هذا على أنه مجرد محاولة فلسفية، بل إنه مثل عن حق رصدا إبستمولوجيا لخريطة المعرفة، والجدير بالذكر أنه لن يشذ عن هذا التمييز أي عالم أو فليسوف أو مؤرخ من الذين أتوا بعد الفارابي.

     لعب علم الأثقال دورا بالغا في توحيد الميكانيكا قبل الحديثة كلها، أي الميكانيكا الإغريقية والعربية واللاتينية، فقد شكل علم الأثقال العربي أساس ما سمي عند اللاتينيين في القرن الثالث عشر بــ scientia de ponderibus، وشكل هذا الأخير بدوره أحد الأسس الجوهرية التي قامت عليها الفيزياء الحديثة. اعتبرت بعض الدراسات خطأ أن علم الأثقال قد نشأ في القرن الثالث عشر مع جوردانوس، في حين أن هذا الأخير لم يقم إلا باستكمال ما بدأه العلماء العرب في علم الأثقال، فحتى التسمية نفسها استمدها من المؤلفات العلمية العربية، إضافة إلى المحتوى بطبيعة الحال، والمطلع على كتابات جوردانوس سيلاحظ قضايا رياضية مستقاة بشكل مباشر من أحد أعمال ثابت بن قرة –بالضبط من كتاب “في القرسطون“- المترجمة إلى اللاتينية.

     تتلخص آثار الإسفزاري المتعلقة بالميكانيكا في مجموعتين من المؤلفات: مجموعة أولى عبارة عن رسالة في الميزان القباني الذي سماه هو آنذاك بالقفان، وعنوانها إرشاد ذوي العرفان إلى صناعة القفان، وهي رسالة نظرية تضم دراسة رياضية لمجموعة من القضايا الخاصة بعلم الأثقال، نجد من بين هذه القضايا مبدأ مهما جدا كان يُعرف بقانون الرافعة، ويخترق هذا القانون تاريخ الميكانيكا منذ القديم إلى القرن الثامن عشر. أما القسم الثاني من متنه فهو عبارة مجموع يتكون من ثلاث مخطوطات، وهو غير معنون، لذا سماه الأستاذ أبطوي بمجموع في الحيل، ويعرض الإسفزاري في هذا المجموع ما عُرف في التقليد الإسلامي بعملية التحرير، ولهذه العبارة معنيان: تعني نوعا من التدقيق والتحقيق، وتعني أيضا تحرير النص من صعوباته ومواقع الإشكال فيه، وهذا الأخير هو المعنى العربي الأصيل. إذن، فقد جمع الإسفزاري مجموع مؤلفات الميكانيكا العملية الإغريقية والعربية الداخلة في نطاق علم الحيل وقام بتحريرها، حيث اختصر وشرح ووضح ما بدا له غامضا أو مستغلقا. يقول مثلا في مقدمة إحدى أعماله موضحا منهجه في العمل: “وبعد أن وجدناها في غاية الاختلاف من جهة تقصير الناسخين في تصوير أشكالها والتصحيفات الواقعة في الحروف الدالة على مقصودهم، تكلفنا تسهيل ما قصدوه وتصوير ما أتوا به على ما رتبوه من غير نقصان يقع في عدد تلك الحيل“.

     هذا وقد ختم الأستاذ أبطوي محاضرته الغنية بالإشارة إلى ما يتسم به تاريخ العلوم العربية من صعوبة، إذ يتطلب دُربة وتكوينا متينا في مجالات متعددة، إضافة إلى ضرورة التحلي بالصبر، ومؤكدا في الآن نفسه أنه يُعد مجالا متميزا نظرا لما يطبعه من غنى معرفي. كما أكد أيضا على الأهمية البالغة التي يضطلع بها هذا المبحث في عملية غرس بذور ثقافة علمية داخل بيئتنا العربية.

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق