مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مجلس البلاغة الثامن

انعقد يوم الثلاثاء خامس جمادى الآخرة لسنة  1440هـ, الموافق للثالث عشر من فبراير لسنة 2019م، المجلسُ الثامن من مجالس البلاغة التي يعقدها الأستاذ محمد الحافظ الروسي بمركز ابن أبي الربيع السبتي.

وكان قد فرغ في المجلس الأخير من الحديث عن اللفظة تَقَعُ حشوا في الكلام، أَلَهَا معنى تفيده أم لا؟

وكل ذلك داخل في مبحث وضع الألفاظ موضعَها، لأن من ذلك ألا تقع الكلمة حشوا غيرَ مفيدةٍ فائدةً مختارة. وفي هذا المجلس تحدث عن الألفاظ التي تقع في غير موضعها، ليَنْماز كلُّ ما مَرَّ بضده، ومن ذلك أن تعبر في المدح بالألفاظ التي وُضعت للهجاء، وفي الهجاء بالألفاظ التي وُضعت للمدح، لأن الأغراض الشعرية  إنما يُستعمل فيها من الألفاظ ما خاصا بها لا يُداخله غيرُه من ألفاظ غرض آخر، فلكل غرض معجمه الخاص به. وقد استشهد على ذلك ببيتٍ لأبي تمام عِيبَ عليه الذي نحن فيه، وهو قولُه:

مَا زَالَ يَهْذِي بِالمَكَارِمِ دَائِبًا /// حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ مَحْمُومُ

فإن قوله “يَهْذِي” و”مَحْمُومُ” من الألفاظ التي لا توضع في موضع مدح ، وإنما يستعملها الناس فيما يُذم به.

وقد عقب الأستاذ على ذلك بأنه يُستثنى من ذلك ما ذكره حازم القرطاجني في منهاج البلغاء وسمّاه تأنيس المعاني بعضها ببعض، وهو مذهب في الانتحاء بالأساليب نحو جهة ما يقصد حسن موقعها من النفوس، فقد يعبر الشاعر بألفاظ وأساليب في غرض ما وهي مما لم يوضع لذلك الغرض، وفيه يكمن حسن تصرف الشاعر في المقام الذي هو فيه. قال حازم في المنهاج 1/360: “ومن ذلك تصوير الشريف الرضي ما يبسط النفس من ذكر الكون والنشء والحمل والرضاع في مظنة ما يقبضها من حالَي البِلَى والهُمود، وذلك قوله:

أَرْسَى الَّنِسيُم بِوَادِيكُمْ وَلَا بَرَحَتْ /// حَوَامِلُ المُزْنِ فِي أَجْدَاثِكُمْ تَضَعُ

وَلَا يَزَالُ جَنِينُ النَّبْتِ تَرْضَعُهُ /// عَلَى قُبُورِكُمُ العَرَّاَصُة الهَمِعُ”

فاستعمل ألفاظا تدل على الحياة، في قصيدة يرثي بها بعضهم،و ذلك تأنيسا لحالة الانقباض بما يوجب الانبساط.

وضرب آخر من وضع الألفاظ في غير موضعها، ما ذكره من استعمال بعض ألفاظ العلوم والصناعات في الشعر، كألفاظ المتكلمين والنحاة والفقهاء وكل ما اختص به أهل علم أو صنعة، فأن هذا لا يحسُن في الشعر عند البلاغيين من جهة أنه ليس هذا موضعه. وقد مثّل له الأستاذ بما ورد في مقدمة ابن خلدون 3/1170، وهو أشبه بهذا الذي نحن فيه الساعةَ، قال ابن خلدون: “أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده، فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له، وهو هذا:

لَمْ أَدْرِ حِينَ وَقَفْتُ بِالأَطْلَالِ /// مَا الفَرْقُ بَيْنَ جَدِيدِهَا وَالبَالِي

فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له: ومن أين لك ذلك؟ قال من قوله: ما الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي”.

فأنت ترى كيف نَبَا بهذه العبارة مكانُها في نظر أبي العباس ابن شعيب، وكيف فطن لها، إذ حقها ألا تكون في الشعر ولكن في الفقه.

ولأجل هذا قدّم البُصَراءُ بلسان العرب كلامَ الجاحظ على غيره، فقد كان إذا خاض في علم لا يتكلم إلا بما وُضع له من الألفاظ ومسالك العبارات، حتى لتحسب أنه لا يحسن غير هذا العلم الذي يتكلم فيه.

بعد ذلك ذكر الأستاذ أمورا تتعلق بما نحن فيه، منها الخلاف الذي وقع في نسبة كتاب نهج البلاغة لسيدنا علي بن أبي طالب، فإن الذين وَقَفُوا نسبته على الشريف المرتضى احتجوا بأن فيه عباراتٍ وذكرًا لأشياء لم تكن معهودة في زمن الصحابة، وإنما استُحدثت بعد ذلك. ومن هذه الجهة أُتِيَتْ صحةُ نسبة ما في الكتاب له رضي الله عنه، فقيل: هو من وضع الشريف المرتضى، وليس لعليٍّ منه إلا خطب يسيرة جدا لا تعدو عشرا، تزيد أو تنقص. من ذلك ما قاله الذهبي في ترجمة الشريف المرتضى في ميزان الاعتدال 3/124: “هو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السب الصُّراح والحطُّ على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي مَن له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل”.

وقال عنه في سير أعلام النبلاء أيضا 17/589: “هو جامع كتاب نهج البلاغة المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه، ولا أسانيد لذلك، وبعضها باطل، وفيه حق، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن أين المُنصف؟! وقيل: بل جمعُ أخيه الشريف الرضي”.

فقد رد العلماء نسبة هذا الكتاب إلى الإمام علي من جهة انقطاع السند إليه، ومن جهة عبارات الكتاب التي لا يمكن أن تكون له كما تقدم معك، فقد اشتمل الكتاب على كثير من المصطلحات التي لم يكن يتداولها الناس في عهد علي رضي الله عنه، وإنما عُرفت بعد ذلك، كالأَيْنِ والكَيْفِ، وكذلك ما فيه من كلمات تجري على ألسنة المتكلمين كالمحسوسات، والكل والبعض، والصفات الذاتية والجسمانية. وللأستاذ محمود شاكر كلام في هذا يُرجع إليه في جمهرة مقالاته 2/1061، في مقالة بعنوان “مواقف”.

بعد ذلك انتقل الأستاذ إلى الحديث عما وقع في الشعر، وكيف رد العلماء نسبة القصيدة إلى بعض الشعراء لأنها وُضعت عليهم وليست من شعرهم، بعلة اختلاف معجمها وأساليبها عما درجَ عليه الشاعر، وما استقر عليه مذهبه في شعره. ولابن سلام الجمحي كلام في هذا كثيرٌ نقتصر منه على ما تقوم به الحاجة، قال في طبقاته 1/46: “فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقلَّ بعضُ العشائر شعرَ شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعُهم وأشعارُهم فأرادوا أن يلحَقوا بمَن له الوقائعُ والأشعارُ، فقالوا على ألسنة شعرائهم. ثم كانت الرواة بعدُ فزادوا في الأشعار التي قيلت. وليس يشكل على أهل العلم زيادةُ الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولّدون، وإنما عَضَّلَ بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الإشكال”.اهـ

وليس قول ابن سلام “فيشكل ذلك بعض الإشكال” يُتوهم منه أنه مَرَّ عليهم من ذلك الشيءُ الكثير، وإنما راجع أهل العلم ذلك كله فميزوا بينه ونسبوا كل شعر إلى قائله. وما ذكره ابن سلام في هذا الموضع من كتابه يتّصل بما نحن فيه من مبحث وضع الألفاظ في غير موضعها، فإن ذلك من جملة العلل التي وقف عليها أهلُ العلم وفطنوا بها إلى أن الشعر موضوع على صاحبه، وهو من قيلِ الرواة الذين جمعوا الشعر العربي.

وكان فراغ الأستاذ من هذا المجلس بحديثه عمّا ذُكر في الشعر من ألفاظ أهل الكلام، فمثّل له ببيتٍ لأبي تمام قال فيه:

مَوَدَّةٌ ذَهَبٌ أَثْمَارُهَا شَبَهٌ /// وَهِمَّةٌ جَوْهَرٌ مَعْرُوفُهَا عَرَضُ

فقال: لأن الجوهر والعرض من ألفاظ أهل الكلام . فالجوهر هو ما قام بنفسه ولم يحتج إلى غيره، والعرض ما قام بغيره واحتاج إليه.

تم المجلس بحمد الله وتوفيقه، وصلى الله على نبيه وآله وصحبه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق