مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مجالس الألفية (3)

في إطار المجالس التي تعقد في مركز ابن أبي الربيع السبتي لفائدة باحثي المركز، انعقد يومه الاثنين 3 ذو القعدة 1439هـ الموافق لـ 16 يوليوز 2018م، المجلس الثالث من مجالس الألفية، أطره الدكتور عبد الرحمن بودرع.

انتقل المحاضر في هذا المجلس إلى باب جديد من أبواب الألفية وهو باب «التنازع في العمل»، وأشار إلى أن هذا البابَ يتَّصلُ بمجموعة من الأبواب النحوية كباب الفاعل، وباب المفعول، وباب تعدي الفعل ولزومه…، كما يمكن عد هذا الباب من الأبواب المُشكلة في اللغة العربية،  كباب الاشتغال الذي سَبَق َالحديثُ عنه في الحلقَتَيْن السابقتَيْن. وقد اهتدى النحويون إلى هذه المشكلات وعقدوا لها بابا خاصا هو باب «التنازع». 

 وفي هذا الصدد ذكر أن مصدر الإعمال والإهمال هو الاستغناء عن المكرر لعلم المخاطب ومعرفته، ولأن ذلك المخاطب سيستدل بالمذكور على المحذوف ولو لم يُحمَل الكلامُ على الإعمال لكررنا. 

ووقف المحاضر على جملة من خصائص هذه التراكيب المشكلة:

– أولها: أن لكل فعل فاعلا، ولا يخلو فعل عن فاعل ومازاد عن ذلك فهو بدل. 

– ثانيها: أنه قد يخلو الفعل من مفعول فيحذف، ولا يخلو من فاعل، وقد مثل له المحاضر بقول الشاعر:

وَلَوْ أَنَّمَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ*** كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ المَالِ

فقد جعل القليل كافيا فرفعه، وهذا ضرب من اللفظ معلل بالمعنى من الخطاب. 

– ثالث هذه الخصائص أنه لابد من صلة وربط بين العاملين المتنازعين إما بعطف أو بإعمال الأول في الثاني. نحو قوله تعالى: ( وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطَا)، وكقوله تعالى: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرَا)، فالفعلان متنازعان ويكون الثاني مرجحا أن يعمل فيما بعده، وكقوله تعالى: ( تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ الله) فكلاهما [ تعالوا/ يستغفر]  يصلح أن يُسَلَّط على ما بعده، وقد يكون الثاني جوابا عن الأول، نحو قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلَالَة)، 

– الرابع: أنه لا يلزم استواء العاملين المتنازعين في جهة التعدي مطلقا، وهذا من باب تنازع اللازم والمتعدي، ومثال ذلك: «قام وضربت زيدا»، 

– الخامس إعمال الثاني أكثر في كلام العرب بالاستقراء.

– السادس أنه يجوز أن يكون العاملان المتنازعان فعلَيْن، كقوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ الله)، أو وصفين، كقوله تعالى: (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، أو فعلا ووصفا، كقوله تعالى: (فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَاب)، أو مَصْدَرَيْن، كقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين)، أو ثلاثةَ مصادرَ، كقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين)، وقد يجتمع اسمُ فعلٍ وفعلٌ، كقوله تعالى: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)، وقد يكون المتنازَع عليه الفاعلَ فقط، كقوله تعالى: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُون)، وقد يكون المتنازَعُ عليه المَفعولَ، كقوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

وبعد عرضه لهذه المقدمة التمهيدية لباب التنازع، انتقل إلى شرح أبيات الألفية في هذا الباب، وهي على النحو التالي:

إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ*** قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا العَمَلْ

وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ البَصْرَهْ*** وَاخْتَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ ذَا أُسْرَهْ

وفي شرحه لهذين البيتين ذكر المحاضرُ أن التنازعَ عبارةٌ عن توجه عاملين إلى معمول واحد، وأضاف أن قول الناظم « قَبْلُ» معناه أن العاملين يكونان قبلَ المعمول، ومقتضاه أنه لو تأخر العاملان لم تكن المسألة من باب التنازع، وأن قوله: «فللواحد منهما العمل» معناه أن أحدَ العاملين يعمل في ذلك الاسم الظاهر والآخر يُهْمَلُ ويَعملُ في ضميره. كما أشار إلى أنه لا خلاف بين البصريين والكوفيين في أنه يجوز إعمال كل واحد من العاملين في ذلك الاسم الظاهر، ولكن اختلفوا في الأَوْلَى منهما، فذهب البصريون إلى أن الثاني أولى به، لقربه منه، وذهب الكوفيون إلى أن الأول أولى به، لتقدمه.

ثم انتقل إلى شرح البيتين المواليين حيث يقول الناظم:

وَأَعْمِلِ المُهْمَلَ فِي ضَمِيرِ مَا*** تَنَازَعَاهُ، وَالْتَزِمْ مَا الْتُزِمَا

كَيُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَا*** وَقَدْ بَغَى وَاعْتَدَيَا عَبْدَاكَا

وفي تعليقه على هذين البيتين بَيَّنَ أنه إذا أعملت أحد العاملين في الظاهر وأهملت الآخر عنه، فأعمِلِ المُهملَ في ضمير الظاهر، والتزِمِ الإضمارَ إن كان المطلوبُ العاملَ مما يلزم ذكره ولا يجوز حذفه، وفي شرح أمثلة الناظم في البيت الثاني ذكر المحاضرُ أن قولنا «يُحْسِنُ وَيُسِيءُ ابْنَاكَا» فكل واحد من «يُحْسِنُ» و«يُسِيء» يطلب «ابناك» بالفاعلية، وبينَ أننا إذا أعملنا الثاني وجب أن نضمر في الأول فاعله فنقول: «يُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَ» وكذلك إذا أعملنا الأول وجب الإضمار في الثاني، فنقول:«يُحْسِنُ وَيُسِيئَانِ ابْنَاكَ»، ومثله قول الناظم: «بَغَى وَاعْتَدَيَا ابْنَاكَ»، وفي هذا السياق أشار إلى أنه لا يجوز ترك الإضمار لأن تركه يؤدي إلى حذف الفاعل والفاعل ملتزم الذكر، كما أشار إلى أن الكسائي أجاز ذلك على الحذف بناء على مذهبه في جواز حذف الفاعل، وأجازه الفراء أيضا على توجه العاملين إلى الاسم الظاهر.

وَلَا تَجِئْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلَا*** بِمُضْمَرٍ لِغَيْرِ رَفْعٍ أُوهِلَا

بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ*** وَأَخِّرَنْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ الخَبَرْ

وفي تعليقه على هذين البيتين بين المحاضر أنه إذا كان مطلوبُ الفعل المُهمَل غيرَ مرفوع فلا يخلو إما أن يكون عمدة في الأصل وهو مفعول «ظن» وأخواتها لأنه مبتدأ في الأصل أو خبر، فإن لم يكن كذلك فإما أن يكون الطالب له هو الأول أو الثاني، فإن كان الأول لم يجز الإضمار وقد جاء في الشعر، واستشهد المحاضر بقول الشاعر:

إِذَا كُنْتَ تُرْضِيهِ وَيُرْضِيكَ صَاحِبٌ*** جِهَارًا فَكُنْ فِي الغَيْبِ أَحْفَظَ لِلْعَهْدِ

وَأَلْغِ أَحَادِيثَ الوُشَاةِ؛ فَقَلَّمَا*** يُحَاوِلُ وَاشٍ غَيْرَ هِجْرَانِ ذِي وُدِّ

وإن كان الطالب له هو الثاني وجب الإضمار ولا يجوز الحذف وقد جاء في الشعر أيضا. وفي هذا المضمار استشهد المحاضر بالبيت الآتي:

بِعُكَاظَ يُعْشِي -النَّاظِرِينَ*** إِذَا هُمُ لَمَحُوا- شُعَاعُهْ

وذكر أن الأصل «لمحوه» فحذف الضمير ضرورة وهو شاذ، وهذا كله إذا كان غير المرفوع ليس بعمدة في الأصل؛ فإن كان عمدة في الأصل فلا يخلو: إما أن يكون الطالب له هو الأول أو الثاني، وأضاف أنه إن كان الطالب له هو الأول وجب إضماره مؤخرا، وإن كان الطالب له هو الثاني أُضمِر متصلا كان أو منفصلا. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق