قضايا البيان في كتب التفسير: نحو بناء مدخل منهجي لمقاربة قضايا البلاغة في المكتبة التفسيرية
في إطار أنشطته العلمية والفكرية، نظم مركز الدراسات القرآنية التابع للرابطة المحمدية للعلماء حلقة جديدة (6) من حلقات «منتدى الدراسات القرآنية» بمحاضرة علمية في موضوع: "قضايا البيان في كتب التفسير نحو بناء مدخل منهجي لمقاربة قضايا البلاغة في المكتبة التفسيرية" ألقاها فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الله الرشدي؛ أستاذ علم البلاغة والبيان بمؤسسة دار الحديث الحسنية، وذلك بعد زوال يوم الثلاثاء 06 ماي 2014م بمقر مركز الدراسات القرآنية، شارع فال ولد عمير، أكدال ـ الرباط.
افتُتِح هذا المنتدى العلمي بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، لتتلوها كلمة الدكتور محمد المنتار رئيس مركز الدراسات القرآنية الذي رحب فيها بالحضور الكرام وبالطلبة الضيوف طلبة معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية، وأشاد فيها بالمحاضر الدكتور عبد الله الرشدي، وإسهاماته العلمية القيمة في علم البلاغة والبيان، وبمشاركاته في أنشطة الرابطة المحمدية للعلماء، شاكرا له استجابة دعوة المركز لإلقاء هذه المحاضرة، كما بيّن فضيلته أهمية موضوع المحاضرة الذي يتمحور حول قضايا البيان بكتب التفسير نحو بناء مدخل منهجي لمقاربة قضايا البلاغة في المكتبة التفسيرية، ومحورية علم البيان أو محورية اللسان العربي باعتباره محور أساسي ومدخل أساسي من مداخل العروج إلى علياء القرآن الكريم، وأشار أنه عند تطرقنا لهذا الموضوع تثار معه عدة قضايا منها: علاقة البيان بالتأويل، علاقة البيان بالتفسير، علاقة البيان بالقراءة، علاقة البيان بالمعنى، وعلاقة البيان بالدرس القرآني عموما. ليفسح المجال للمحاضر الدكتور عبد الله الرشدي لإلقاء محاضرته.
استهل الأستاذ الدكتور عبد الله الرشدي محاضرته بتوجيه الشكر لمركز الدراسات القرآنية على دعوته، التي اعتبرها فرصة قيمة للتدارس والتباحث مع باحثي المركز وطلبة معهد محمد السادس للدراسات والقراءات القرآنية في موضوع قضايا البيان في كتب التفسير، معربا عن ما يكتنفه هذا الموضوع من أهمية وما مدى صلته بعلوم العربية إجمالا وعلوم البلاغة خصوصا، وقد كان مدخله لهذا الموضوع من مدخلين رئيسين:
أولها: المدخل النظري؛ وتحدث فيه عن الموجب العلمي بما يقتضي خدمة كتاب الله تعالى، والموجب المنهجي المقتضي إعادة قراءة التراث على اعتبار أن التفسير من التراث وفق ما يستجد من نظريات ومناهج لتقريبه وتفهيمه، شريطة أن تراعي خصوصية المجال، مبرزا أن العديد من الكتب الإسلامية تضمنت هذا الموضوع ذاكرا بعضها، ومؤكدا أن أصحاب هذه الكتب اعتمدوا المنهج الوصفي والمنهج التاريخي في قراءة المتن التفسيري، وذلك لأجل تقريب إشكالات الكثير من التراث، وقد أسس مدخله النظري من خلال منطلقات هي بمثابة أصول.
ثم تحدث عن منطلقات المدخل النظري، فعددها إلى ثلاثة أصول؛ الأصل الأول: أصالة مكون البيان في مصنفات التفسير، ومقصوده بالبيان هنا: «هو علوم البلاغة من معان وبيان وبديع؛ وهو من علوم اللسان العربي بالتقسيم الذي اعتمده عبد الرحمن بن خلدون (ت808ﻫ) في «المقدمة»: «وأركانه أربعة: اللغة والنحو والبيان والأدب ... ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة ... وتتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام»[1]، والبيان علم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة. وهو من العلوم اللسانية، لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده»[2]. وليبين لنا المراحل التي عرفها علم البيان في كتب التفسير قائلا: «وقد وجدت مباحث البيان طريقها إلى علم التفسير منذ مراحله الأولى؛ صحيح أن الأبحاث البيانية في هذه المرحلة كانت خافتة الأثر في نسيج النصوص التفسيرية، لا تتجاوز حدود رصد بعض الأساليب، وتناول بعض وجوه التراكيب وصورها، وما تفيده من معان ودلالات بنفس خافت؛ نظرا لغياب تصانيف نظرية بلاغية في هذه المرحلة.
ومع تشكل معالم التفسير اللغوي، بدءا من القرنين الهجريين الثاني والثالث، بدأت البحوث البيانية تأخذ موقعا متميزا في مصنفات معاني القرآن؛ وهناك كتابات تزخر بكثير من البحوث في التراكيب اللغوية، والإعراب، والأساليب العربية. وفيها أيضا بحوث في وجوه بلاغية كثيرة: (التشبيه، المثل، الاستعارة، المجاز، الكناية، الالتفات، التقديم، التأخير، الإخبار عن الواحد بالاثنين، الحذف ... الخ) وهذه الإشارات البلاغية ذات قيمة عظيمة، لأنها البذور الأولى التي نمت، وتطورت على امتداد الأجيال والقرون»[3].
موضحا أنه مع دخول التفسير مرحلة جديدة بدءا من القرن الرابع، مع ابن جرير الطبري، ومن جاء بعده من المفسرين، ستخصب البحوث البيانية بقوة مع توالي التصنيف في العلم، فانتقل هذا الثراء النظري إلى كتب التفسير، وصار حضور مكون البيان، القوي أو الخافت، رهين مقاصد المفسر من التفسير؛ لكن الوعي بجدواه محط إجماع المفسرين.
وفي خاتمة هذا الأصل يقول مستنتجا: «وبعد، فلسنا في حاجة إلى مزيد تأكيد على أصالة البيان في بحوث المفسرين؛ ولكننا نؤكد على أن حضوره يبقى في المقام الأول رهين مقتضيات سؤال التفسير، أو أسئلته».
الأصل الثاني: التفسير صنو عملية القراءة بالدلالة النقدية للمفهوم؛ أي اعتبار عملية القراءة صنو عملية التفسير، بمعنى أن مكون البيان يتفاوت حضوره في مصنفات المفسرين بين القوة حينا، والضعف حينا آخر، وأن هذا التفاوت تتحكم فيه طاقتان اثنتان ـ كما ذكرهما ـ: الأولى: سؤال القراءة، الذي يجيب عنه كل تفسير على حدة، الثانية: واقع البحث البلاغي زمن تأليف التفسير.
ويروم هذا المبحث لديه من جهة أولى: تحديد أسئلة القراءة في متن الدراسة، ويروم من جهة أخرى: تبين واقع البحث البلاغي زمن تأليف التفسير.
الأصل الثالث: مكون البيان في كتب التفسير تتحكم فيه طاقتان: سؤال القراءة وواقع بحث البلاغة زمن تأليف التفسير، ـ وهذا الأصل بالنسبة للمحاضر قناعة علمية حصلت له من خلال استصحابه كتب التفسير، بحيث لم تكن الأبحاث البيانية النظرية زمن تأليف ابن جرير الطبري تفسيره الموسوم بـ«جامع البيان» قد بلغت بعد مستوى من النضج والثراء؛ فحركة البيان العربي لن تكون قوية إلا في منتصف القرن الهجري الرابع؛ وهو نشاط تعددت روافده، والفئات التي أسهمت فيه.
وفي هذه المرحلة ظهرت مجموعة من الدراسات المنهجية البلاغية، والدراسات النقدية على الأسس البلاغية، والبحوث الأدبية، فضلا عن البحوث والدراسات التي أثارتها قضية إعجاز القرآن الكريم، على اختلاف مناهج التصنيف والتأليف.
وإن غياب هذه المعرفة النظرية أواخـر القرن الهجري الثالث هو بالذات ما جعل البحوث البيانية نزرة، محتشمة في مصنف «جامع البيان»؛ فالبلاغة العربية في هذه المرحلة لم تعرف بعد تحريرا، وضبطا، على مستوى المفاهيم، والصور، والوجوه، ثم إن البيان من حيث النشأة متأخر عن نشأة بقية علوم اللسان العربي».
لينتقل فيما بعد ويحدثنا عن نماذج من أعلام التفسير وعنون مبحثه هذا بالمدونة التمثيلية، وهو المدخل التطبيقي لدراسته ـ: ليحصرها في أربعة أعلام وهم: الفراء وكتابه معاني القرآن، الطبري وكتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الزمخشري وكتابه الكشاف، والألوسي وكتابه روح المعاني؛ وهي دراسة تطبيقية لما ورد في المدخل النظري.
النموذج الأول: كتاب «معاني القرآن» للفراء (ت207هـ) وقد وقع الاختيار على هذا النموذج نظرا لغزارة المادة اللغوية فيه والظرفية المعرفية التي كانت تعيشها الأمة. ولهذا فقد أوضح أن واقع البحث البلاغي زمن تأليف التفسير أواخر القرن الثاني يظهر من خلال كتاب معاني القرآن للفراء، وأن البحوث البلاغية رهينة سؤال الفهم. النموذج الثاني: كتاب «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» للطبري (ت 310هـ)؛ إن الجمع باعتباره سؤالا مؤطرا لتفسير الطبري له وظيفة سامية هي البيان والإفهام؛ وفي غياب الجمع يتعذر تحقيق هذا المطلب؛ لأن «جامع البيان» ليس نصا طبريا خالصا؛ بل تنصهر في نسيجه كثير من النصوص التفسيرية التي وضعت على القرآن الكريم؛ وهي هنا حاضرة، يدونها الطبري بأصوات أصحابها، ويؤلف بينها، ويعلق، ويفاضل، ويختار، تحقيقا لمقصد الإفهام.
إن البيان عند الطبري مـرادف للإفهام، وإن هم الطبري بالأساس هو البحث عن أقوال السلف في بيان معاني آي القرآن؛ وهذا مطلب يتحقق باستفراغ الجهد في عملية التقميش والجمع. ولا يأخذ ابن جرير إلا بالأقوال المتواترة؛ وهذا يعني أنه يبحث عما أجمع عليه السلف من معاني القرآن؛ إن الجمع هنا إذن ليس مطلبا لذاته، وإنما ينشد من خلاله الطبري البحث عن الإجماع: «الجمع تحقيقا لمقصد الإجماع».
النموذج الثالث: «الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل» لجار الله الزمخشري (ت: 538هـ)؛ وأما جار الله الزمخشري فاستفاد كثيرا من الثراء الذي حققته البحوث البلاغية بدءا من القرن الهجري الخامس، فانتقل صدى ذلك الغنى والثراء إلى تفسيره. ثم إن الزمخشري قد ضم إلى هذا الغنى معرفة ودراية واسعتين بكثير من علوم اللسان العربي؛ فقد ألف في المعجم كتاب: «أساس البلاغة»، وفي اللغة كتاب: «الفائق في تفسير غريب الحديث»، وفي النحو كتاب: «المفصل»، وكتاب: «شرح شواهد كتاب سيبويه»، وفي الأدب كتاب: «المستقصى في الأمثال»؛ هذا كله فضلا عن مقامه الكبير في العلوم الإسلامية، فهو إمام في الكلام، وفقيه من كبار فقهاء الحنفية؛ فالزمخشري قد اكتملت له في الواقع أدوات التفسير؛ وهو الذي لا يجد هذا العلم مباحا لكل الناس.
ولقد أشار أن السؤال الموجه لتفسير جار الله هو سؤال العقيدة بما يقتضيه ذلك السؤال من توجيه لمعاني كثير من آي القرآن حتى تستسيق مع اعتقاد المفسر، الذي تقرره أصول المذهب.وأما الطاقة الثانية فهي طاقة واقع البحث البلاغي؛ وقد حدثنا عن ثراء البحوث البيانية وغناها زمن الزمخشري؛ حتى إن جار الله اختار البيان مدخلا لتفسيره.
وفي هذا يقول: «يخيل لي أحيانا أن الزمخشري كان ينوي التأليف في البلاغة ـ كما صنف في بقية العلوم العربية ـ غير أنه وجد أن هذا العلم نضجت مباحثه بشكل كبير جدا، فبدل أن ينصرف إلى التنظير، عمد إلى التطبيق، فسخر معرفته الواسعة بالبيان لتفسير القرآن الكريم. ولم يكن الزمخشري بسلوكه هذا المسلك قد زاغ عن سبيل أهل عقيدته في التفسير؛ فسلاح المعتزلة في هذا العلم ـ على الجملة ـ يقوم على أصلين اثنين: أصل اللغة، وأصل الكلام».
ويقود النظر في المباحث البيانية في «الكشاف» إلى تسجيل خلاصة عامة مفادها تأرجح هذه المباحث من حيث قوة حضورها بين مقتضى سؤال العقيدة وواقع الدرس البلاغي في القرن الهجري السادس. ليعكس لنا صورة المباحث البيانية في تفسير الزمخشري، محددا إياها في صورتين إذ يقول: «وتأخذ هذه المباحث صورتين اثنتين في تفسير الزمخشري:
أ ـ التراكم النوعي/أو البيان لنصرة العقيدة:
وهو نواة هذا التفسير؛ إن تراكم البيان هنا له وظيفة سامية، هي تقرير آراء المعتزلة في العقيدة، وتثبيت مذهبهم بأصوله الخمسة. إن الزمخشري ينظر إلى القرآن نظرة عامة، فيجعل الآية المناصرة ظواهـرها للمذهب الاعتزالي محكمة، وتلك التي تخالفه متشابهة، ثم يـرد المتشابه إلى المحكم، ليخضع تفسيرها لرأي الاعتزال [4]؛ فهو يمارس التأويل متى اصطدم ظاهر النص مع أصل من أصول العقيدة، فيوجه، حتى يستسيق المعنى مع اعتقاده.
ب ـ التراكم الكمي/البيان من أجل البيان:
وهو الضرب الثاني من أضرب استثمار المعرفة البيانية في التفسير؛ إن مكون البيان في هذا المستوى يحضر في نسيج نص التفسير لغرض كشف بيان القرآن ووجوه بلاغته، وهو وجه من وجهي الإعجاز القرآني عند الزمخشري؛ وأما الوجه الآخر فهو الإخبار بالغيب. يقول الزمخشري: «إن صدق الإخبار عن الغيوب معجزة»[5] ». ولنكتفي بهذا القدر من النماذج في موجز تقريرنا عن هذه الحلقة العلمية المتميزة.
فلقد سعى جاهدا ـ موفقا إلى حد بعيد ـ على امتداد مباحث هذا العرض العلمي إلى الاستدلال على صحة الدعوى التي أرسلها في فاتحة البحث؛ ومؤداها أن مكون البيان أصيل في كتب التفسير على اختلاف الأطوار والاتجاهات، وأن حضوره القوي أو الخافت في نسيج النصوص التفسيرية تتحكم فيه طاقتان اثنتان هما: سؤال القراءة، وواقع الدرس البلاغي زمن التصنيف.
مشيرا في النهاية أنه وإن تم اختزال متن هذه الدراسة في النماذج السابق ذكرها، فإن دعواه تصلح أن تعمم على بقية التفاسير؛ لأن البيان خادم لعمل المفسر (المؤول)؛ وتبقى علقة هذا المكون المحوري بسؤال القراءة (قربا أو بعدا) حاسمة في صورة حضوره في نسيج مصنفات علم التفسير.
الهوامش
(1) مقدمة ابن خلدون (1/339).
(2) نفسه.
(3) مناهج بلاغية لأحمد مطلوب، (ص: 100).
(4) منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه (ص: 107).
(5) الكشاف (1/101).
إعداد: ذ. طه الراضي مركز الدراسات القرآنية