مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقدية

قراء في كتاب: “منطق الشرع: مسالك الاستدلال العملي عند الأصوليين” للدكتور أحمد مونة

أبريل 11, 2023

    نظمت الرابطة المحمدية للعلماء بتاريخ 11 أبريل 2023 بالتعاون مع مؤسسة داود للتاريخ والثقافة بتطوان (التي احتضن فضاؤها هذا النشاط) ومكتبة التواصل قراءة علمية في كتاب “منطق الشرع: مسالك الاستدلال  العملي عند الأصوليين” الذي أصدره مؤخرا الدكتور أحمد مونة (أستاذ المنطق والأصول بكلية أصول الدين بتطوان)، وشارك في القراءة كل من الأساتذة: د. عبد الواحد العسري (أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بمرتيل)، ود. خالد زهري (أستاذ العقيدة والأصول بكلية أصول الدين)، ود. جمال علال البختي(عن الرابطة المحمدية للعلماء).

   انطلق اللقاء بكلمة ترحيبية من منسق اللقاء جمال علال البختي، ثم بكلمة باسم مؤسسة داود ألقاها د. إسماعيل شارية، ثم وقف المنسق للتعريف بالكتاب وأهميته، فذكر أن عمل الدكتور مونة عمل رائد على مستوى الدراسات الأصولية المعاصرة، لكونه يعرض وبمنهج علمي أكاديمي رائع لإشكالية تتعلق بخصوصيات الاستدلال عند علماء الأصول، وفي نفس الوقت يقترح رؤى حصيفة لتطوير الدرس الأصولي والاستفادة من جملة علوم لغوية ولسانية وتداولية ومنطقية معاصرة لتقديم وتجديد البحث في علم الأصول الفقه.

  فالكتاب يدفع إلى الوقوف على حقيقة الاستدلال في الممارسة الأصولية، حيث يأخذ الاستدلال بوصفه علاقة بمفهوم اللزوم –الكثير المرونة والثراء- ويتقوم به في تحصيل المطالب الشرعية، مما يتيح للنظار إمكانيات هائلة للاستفادة من أقصى طاقات النص وإمكاناته الدلالية. وقد اعتبر المؤلف أن دور ابن تيمية وإسهاماته في بناء “مفهوم اللزوم” من أهم الإسهامات الحاصلة في الموضوع، خاصة وأنه كان يروم الاجتهاد في وضع “منطق للشرع” يفضل ما تقدمه من مساعي واجتهادات بهذا الصدد.مما أتاح للناظر اكتساب قدرة لا تضاهى على معاودة النظر في الكثير من القضايا الأصولية معاودة تجديدية مثمرة تنأى عن التكرار والاجترار.

     ثم أقام المؤلف الدليل على أن الاستدلال الأصولي ينتمي إلى صنف “الاستدلال الحجاجي”، نظرا لتغلغله في الجزئيات ومراعاته للظرفيات، وتقلبه وفق أحوال المستدل له. وتجلى ذلك واضحا في المسلك المعدول عنه في “الاستدلال الاستحساني”، لكون الآلية التي يشتغل بها “الاستدلال البرهاني” تجعل المستدل يصطدم بجزئيات متصلة بحياة الناس، ونظرا لضرورتها تأبى الدخول تحت المقتضى العام الذي يعتمده “الاستدلال البرهاني”.

    وبذلك أثبت أحمد مونة أن اتساق الاستدلال الشرعي ناشئ عن تبنيه لآليات الاستدلال التناظري في بناء الحجج وتقويمها، منتهيا بهذا الخصوص إلى أن أرقى ضروب الاستدلال هو ما كان مثبتا للحكم وناقضا للدليل الذي عليه تعويل الخصم، وهو الأمر الذي راكم الشواهد عليه أثناء تمثيله لطرق الاستدلال عند الأصوليين.

    وفي الأخير بين صاحب الكتاب أن الاستدلال الأصولي –من خلال ما ذكر- هو بطبيعته “استدلال عملي”، وذلك للواقعية المتأصلة التي ينطوي عليها، ولقدرته كذلك على متابعة الوقائع، وتوليد الأحكام، وهي تروم في نهاية المطاف تقويم حركة المكلف –ظاهرا وباطنا- في هذا الكون في علاقته بالخالق والمخلوق.

    وخلال مداخلته في قراءة الكتاب ذكر الدكتور عبد الواحد العسري أولا أنه سيعتني بصفة خاصة بالحديث عن مضامين الفصل المخصص لـ”الاستدلال بشرائع الماضين”. قبل ذلك أشار إلى أن الكتاب جاء في بابين تضمن أولهما ثلاثة فصول، وثانيهما خمسة فصول بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة. ثم بين أن الباحث مونة اعتمد على لائحة وافية من المصادر والمراجع في تأليفه للعمل. وإذا كان اعتماده للمكتوب بالعربية منها أمرا أساسيا نظرا لطبيعة الموضوع ولغته الأصلية، إلا أن الجديد في هاته المصادر والمراجع هو رجوع المؤلف فيها للمراجع المكتوبة باللغتين الفرنسية والإنجليزية، هذا الرجوع الذي اقتضاه منه رهانه على تلقيح البحث الأصولي المعهود بمستجدات منهجية ومنطقية معاصرة إلى جانب تطوير البحث المنطقي واللساني والتداولي والحجاجي المعاصر بالإسهامات المنطقية والمنهجية لبعض الأصوليين القدماء… هكذا نفهم سياقات استخدامه لبحوث ودراسات لـ”جون سورل”، ولـ”روبير بلانشي”، ولـ”طه عبد الرحمن”، و”محمد مفتاح” وغيرهم، إلى جانب استخدامه لأعمال جل الأصوليين المسلمين القدامى.

      وقد أرجع الأستاذ العسري اختياره لقراءة فصل “الاستدلال بشرائع الماضين” –وهو مصطلح على رأيه من نحت المؤلف- إلى ما تلقاه من أسئلة لطلبته في الجامعة عن كيفية تدبير المسلم لعلاقته العقدية والتشريعية بالرسائل والكتب السابقة، وهو –أي المسلم- مأمور في نفس الوقت بالإيمان بها، ثم اعتقاد أن أهلها قاموا بتحريفها…فكان –أي العسري- يكتفي بردود توضيحية منها: أنه لا يصح الاطمئنان إلى ما جاء في شرع من قبلنا قبل عرضه على القرآن والسنة الصحيحة بوصفهما الوسيلة الوحيدة لتمييز الصحيح من المحرف في الكتب السابقة. ولكن قراءة كتاب أحمد مونة –يذكر العسري- أمدته بأدوات جديدة لتحرير هذا الاستشكال. فبعد ضبطه لمفهوم “المقصدية”، ومفهوم “المماثلة”، ومفهوم “العلاقة” التي سيتوسل بها في بناء هذا الفصل، سينصرف إلى التماس علاقة المماثلة والمشابهة بين الخطاب القرآني ومحتويات الديانات والأعراف والعادات السابقة عنه للنظر في سؤال مدى امتدادها في الشريعة الإسلامية، وفي مدى إمكانية اعتبارها “مدركا من مدارك الأحكام، وطريقا صحيحا للاستدلال الشرعي”.

      في هذا المضمار –يقول العسري- تناول المؤلف انقسام الأصوليين إلى ثلاث فرق عند نظرهم في مدى التزام الرسول –صلى الله عليه وسلم- بشرائع من قبله: فريق يقول بـ”الثبوت”، وفريق يقول بـ”المنع”، وثالث يرى التوقف”. ثم تتبع حجج الفرق الثلاثة بآليات تحليل الخطاب الشرعي المستند إلى المخاطب (=الرسول)، والمخاطب (المكلف)، وظروف الخطاب والتنزيل (مختلف السياقات التي انتظمت عملية الخطاب) …وضمن نفس المضمار توقف المؤلف مع معنيي مفهوم “النسخ” بين الإسلام وشرائع الماضين عند الأصوليين؛ إذ النسخ إما “رفع الأحكام”، أو “عدم التعبد بالأحكام السابقة”، وذلك قبل معالجته لعلاقة المماثلة بين شريعتنا وشريعة الماضين المتفرعة إلى علاقة “التعضيد” (بمفاهيمها الفرعية: “التبجيل”، و”الاحترام”، و”التوقير”)، وعلاقة الرفع (بمفاهيمها الفرعية: “الاستهزاء”، و”السخرية”، و”الدعابة”).

      ومن القضايا التي تم الإجماع حولها بين الأصوليين على أنها لا تستجيب لعلاقة “الرفع” بتاتا وتوفي شرط “المماثلة التعضيدية” على نحو مطلق: “عقيدة التوحيد” وما يتفرع عنها من الإيمان بالله وطاعته…و”أمهات القيم الأخلاقية”…و”أصول العبادات والمعاملات”…و”مدلولات الأخبار المحضة”… ضمن هذه المماثلة حظيت حالة “التعضيد” بدراسة مفصلة قسمها إلى صنفين: صنف ما وقع التنصيص فيه على أنه “كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا”، وصنف لم يرد فيه نص صريح ….

أما حالات “الرفع” ضمن علاقة “الاستهزاء” بـ”ما خالف شرعنا فهو ليس شرعا لنا”، فمثل لها بـ”رفع المعتقدات اليهودية والنصرانية المنحرفة المتعلقة بالألوهية والأنبياء”…، وبـ”رفع بعض الأحكام التي كانت مفروضة على السابقين”…

    ثم بين العسري أن الكتاب درس وفسر ما تغياه الأصوليون بـ”التضييق من حجية الاستدلال بشرائع الماضين من جهة التعضيد” دفعا لتوهم تبعية الرسول للأنبياء السابقين، لكون شرائعهم صارت شريعته لما أوحى الله إليه، وليس عملا بشرائع الماضين. وبين أن الأصوليين  القائلين بالتوقف في شرائع الماضين قد رتبوا أحكامهم في الجانب العملي الفقهي على ما ثبت منها. منهيا  هذا الفصل بالمقارنة بين الاستدلال بـ”شرائع الماضين” و”الاستدلال الاستصحابي” الذي أفرد له فصلا خاصا، لينتهي إلى أن الاستدلال بـ”شرع من قبلنا” هو “استدلال استصحابي” لحكم الدلالة من جهة “التعضيد”.

   هذا بخصوص مداخلة الأستاذ عبد الواحد العسري، ومن  جهته أثار الدكتور خالد زهري الانتباه في مدخل قراءته للكتاب إلى أن أول ما يثير فيه هو عنوانه (=منطق الشرع)، لأنه يحيلنا إلى إشكال طالما ردد وسالت الأقلام مدادا غزيرا في محاولة الجواب عنه وهو: هل يمكن استغناء أصول الفقه عن المنطق؟ والمهم في المسألة هو الجواب الذي قدمه صاحب الكتاب من خلال طريقته في مناقشة القضايا الأصولية وحصيلة النتائج التي توصل إليها، والتي تنبئنا بمطلوب مفاده أن المنطق أصيل في علم أصول الفقه، والوشائج بينهما متداخلة جدا بحيث لا يمكن فك عقدها، لأن “علم أصول الفقه” منطق بنفسه؛ إلا أنه منطق في مجال تداولي مخصوص، وهو “علم الفقه”…

      أما العنوان الفرعي للكتاب (مسالك الاستدلال العملي عند الأصوليين)  فهو يفيد في نظر الدكتور زهري العناصر التالية: 1- الكشف عن العناصر العملية للاستدلال، خاصة الاستدلال “الاستصحابي”، و”الاستحساني”، و”الذرائعي”، و”الاستصلاحي”، و”شرائع الماضين”. 2- الكشف عن مبحث الأفعال الإنجازية كما هو مسطر في نظر أفعال الكلام. 3- استخلاص أن الاستدلال الأصولي هو استدلال حجاجي بمعنى أنه استدلال عملي.

   ثم اعتني زهري بالكلمة المفتاحية (الاستدلال) التي كشفت عن وجهي أصول الفقه: “الوجه الشرعي”، و”الوجه العقلي”، ودور ذلك في التقريب بين علم الأصول وعلم الكلام…كما وضح أن أحمد مونة رغم تركيزه على الاستدلال الحجاجي، إلا أنه مع ذلك كشف الخيوط التي تمتد إلى القسمين الآخرين: “الاستدلال البرهاني”، و”الاستدلال البياني”…

    ثم أوضح أن أبرز ملامح الإبداع عند المؤلف وهو يناقش هذا المصطلح ما يأتي: أ- التوسل بمصطلحات مبحث التداوليات…ب- اعتماد المنهجيات المعاصرة-ج- اتسام البحث بالصبغة المنطقية والصبغة اللسانية.

    وفي الأخير أشار المتدخل إلى أنه يقترح أربعة أمور يرى أن أجرأتها خادمة للكتاب وهي: 1- اقتراح عنوان آخر للكتاب هو: “علم أصول الفقه في ثوبه الأكاديمي الجديد”. 2- يمكن الاستفادة من هذا الكتاب لاقتراح بحوث وأطاريح جديدة للطلبة بالجامعات. -3- اقتراح الكتاب مقررا جامعيا للطلبة في مادة أصول الفقه.4- استحسانه نشر الكتاب في طبعة ثانية تكون دولية ليتسع انتشاره إبرازا لجانب العبقرية المغربية في التأليف الأصولي.

وقبل اختتام النشاط أعطيت الكلمة للمؤلف الذي تحدث باستفاضة عن سياقات إنجاز هذا العمل والصعوبات التي واجهت طبعه منذ سنوات، وناقش جملة من القضايا التي أثارها هذا العمل على مستوى الطرح العام وعلى مستوى بعض التفاصيل…كما قام بالرد والتعليق على الأسئلة الكثيرة التي أغنت اللقاء وزادت من قيمته العلمية والروحانية.

1

2

3

4

5

6

7

8

9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق