مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقدية

قراءات في كتابي “المتوسط في الاعتقاد” و”الكشف والتبيين”

 

التأم برحاب الخزانة الداودية بتطوان، يوم الأربعاء الموافق لـ 24 ماي، لقاءٌ علمي نظمه مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية بالشراكة مع مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة وتعاونا مع مكتبة التواصل، لتقديم قراءات في كتابين عقديين:
ـ أولهما كتاب “المتوسط في الاعتقاد والرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد” لمؤلفه القاضي أبي بكر بن العربي المعافري (ت. 543هـ)، وبتحقيق الدكتور عبد الله التوْراتي.
ـ وثانيهما كتاب “الكشف والتبيين في أن عبارات محمد بن عمر في تكفير أكثر طلبة عصره وغيرهم خارقة لإجماع المسلمين” من تأليف مبارك بن محمد العنبري السجلماسي (ت. 1090هـ)، وبعناية الأستاذ جمال زركي دراسةً وتحقيقا.
استهلَّ اللقاء مسيرُ الجلسة الأستاذ مصطفى بنسباع (أستاذ التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان) بكلمة شكرٍ في حق المنظمين والمتعاونين مرحّبا بالضيوف الكرام من السادة العلماء والأساتذة الجامعيين والطلبة الباحثين والمثقفين المهتمين، عارضا بعد ذلك لبرنامج هذا النشاط العلمي وكيفية توزيع القراءات للكتابين معا على المحاضرين المتدخلين مع التنصيص على الغلاف الزمني مدةِ كل قراءة.
ثم أحال الكلمة إلى الأستاذة حسناء داود (محافظة الخزانة الداودية) لإلقاء كلمة ترحيبية بهذه المناسبة عبّرت فيها عن وافر فخرها وعميق سعادتها باحتضان هذه المأدبة العلمية اليانعة، مجددةً ترحابها بالحضور الكرام، ومنوّهة بالشراكة المتميزة التي تجمع المؤسسة التي تسهر على تسييرها بمركز أبي الحسن الأشعري.
عقب ذلك، عطَف المسير، إلى أصحاب القراءات العلمية مبتدئا بالأستاذ يوسف احنانة (المتخصص في الفكر الأشعري بالغرب الإسلامي وعضو المجلس العلمي المحلي بمدينة تطوان). وقد افتتح الأستاذ احنانة مداخلته القارئة لكتاب “المتوسط في الاعتقاد” بـ”نوستالجيا” عاد بها إلى بداية الثمانينيات عندما اكتشف مخطوطة مهترئة لهذا الكتاب بالمكتبة العامة بالرباط  مذكّرا بصعوبة الحصول على نسخ للمخطوطات في ذلك الإبّان، ومع ذلك عمل على استخراج ما أمكنه من نصوص المتوسط الوظيفية لإبراز الحضور الأشعري في الغرب الإسلامي. ثم عاد المتدخل إلى الكتاب في نسخته المحققة فعرض لأٌقسامه وأبوابه الكبرى متمثلة في باب الإلهيات والطبيعيات والنبوات والسمعيات؛ فخص الباب الأول بتقريظه لإجماع الأشاعرة (أو شبه إجماعهم) على  ضرورة النظر وممارسته لمعرفة الله وصفاته وأفعاله، ثم عرض للتصور العقدي التنزيهي الذي يصدر عنه القاضي أبو بكر في باب التوحيد مع تخليص قول الأشاعرة “الله لا داخل العالم ولا خارجه” من مشابهة محتملة بالمقولة نفسها للفيلسوف اليوناني أرسطو مبينا أوجه الاختلاف والتمايز بين المضمونين الكلامي الأشعري والفلسفي المشائي. وبخصوص الباب الثاني توقف القارئ المحاضر عند مسألة “خلق الأفعال” عند الأشاعرة مبرزا مدار الاستدلال الكلامي فيها على إثبات الخالقية المطلقة للباري تعالى مع توضيح مقتضب لتوصيف الإنسان بـ”الخالق” والذي لا يعدو نسبةَ الخالقية له بالمجاز دون الحقيقة. أما الباب الثالث فقد نبّه بخصوصه، الأستاذ احنانة، إلى كون مبحث النبوات لم يكن محلَّ عناية كبيرة من طرف المغاربة لغياب أو انعدام النِّحَل والتيارات الفكرية المنكرة للنبوة بخلاف المشرق الإسلامي. وإن كان ابن العربي ندّ عن هذا الشِّرْع نظرا لملاقاته ـ أثناء رحلته إلى المشرق ـ “قضاة” يجحدون النبوة! فكان لزاما أن ينبري لدفع شبههم والاستدلال على جواز النبوة عقلا وضرورتها شرعا. ولم يفت المحاضرَ التمييزُ بين معجزة الأنبياء وكرامة الأولياء، معتبرا الثانية امتدادا للأولى يجريها الله على أيدي الصلحاء والفضلاء من عباده المتقين. ثم انتقل المحاضر مباشرة إلى استشكال غياب باب خامس يُفترض تضمينُه في الكتاب هو ما يتعلق بالإمامة والإمام، فتساءل: هل سقط منه سهوا أو قصدا، أو أسقِط منه لاحقا؟ وقد خمّن في كون واقعه السياسي آنذاك ـ زمن المرابطين والموحدين، والأمير أو الخليفة منهم عار عن شرط القرشية ــ ربما يكون سببا في إسقاط هذا المبحث من الكتاب. وبالجملة فقد عدّ المحاضرُ ابنَ العربي المعافري واحدا من أرباب الفكر الأشعري معتبرا إيّاه “غزاليَّ” الغرب الإسلامي، ومنوها بمحقق كتابه “المتوسط” الذي كانت له اليد الطولى في إخراج هذا العِلق النفيس موطأ محققا.
في مفتَتح القراءة الثانية لكتاب “المتوسط” استشكل الدكتور أحمد مونة (أستاذ مادة الأصول والمنطق في كلية أصول الدين بتطوان) غياب توصيف صنعة العمل على مخطوط الكتاب بلفظة “تحقيق” أو عبارة “حققه” على واجهته، والاستعاضة عنه بعبارة “ضبط نصه وخرّج أحاديثه ووثّق نقوله”، مفترضا “التواضع العلمي” سببا في هذه الاستعاضة إضافة إلى ما انتشب بمفهوم “التحقيق” من ابتذال وتشويه، ليؤكد أننا بصدد تحقيق متميز ومحقق متمكن يستغرق جميع ضوابط التحقيق العلمية وشروطه الأكاديمية المعتبرة. ثم عرّج القارئ على عقد مقارنة محتملة بين كتاب “التقريب لحد المنطق” لابن حزم الظاهري (ت. 456هـ) وبين كتاب المتوسط لابن العربي (ت. 543هـ) من خلال الحضور البارز للآلة المنطقية في الكتاب المقروء مذكِّرا ـ على هامش قراءته ـ بتتلمذ والد أبي بكر على يد ابن حزم وإعجابه الشديد به ما يشي بإمكانية انتقال هذا الإعجاب العلمي إلى نجله القاضي. وللتدليل على هذا الحضور المنطقي انتخب الدكتور مونة موضوع “النظر” باعتباره مفهوما وموضوعا ينزلان منزلة مركزية من الكتاب؛ حيث شدد على كون ابن العربي انتهج في استدلالاته، على ضرورة النظر، منهجا منطقيا يقوم على ترتيب المقدمات التي يلزم عنها نتيجةٌ يحصل بها علم قطعي، وذلك على طريقة المناطقة في الاستدلال؛ فالعلم بالله وصفاته هو “علم مكلَّف” لا يحصل لا ضرورة، ولا إلهاما، ولا تقليدا، ولا خبرا، وإنما الطريق إليه هو النظر. ولإثبات هذه الدعوى يسلك القاضي ابن العربي مسلك منطقيا يستعمل فيه أداة الشرط المنفصل مرتِّبا عليها ما ينتج عنها من إبطال لمقدَّم دعوى الخصم المفترض بناء على إبطال ما يليه، ونموذج ذلك إبطاله أن تكون “الضرورة” طريقا للعلم بالله إذ «لو كان العلم بالإله وصفاته يحصل ضرورة لكان قد حصل لجميع العقلاء، لكنه لم يحصل لجميعهم، إذن العلم بالله وصفاته لا يحصل ضرورة»، وعلى منوال هذا الاستدلال أبطل ابن العربي باقي الطرق المفترضة منتصرا للنظر العقلي  طريقا لمعرفة الباري تعالى. وأنهى المحاضر قراءته بدعوة عريضة إلى تقريب الفكر الأشعري، في زماننا هذا، بمقدمات تناسب مطلوب الاعتقاد وبأسلوب لا ينبو على مدارك الناس ومراتبهم في الفهم والتعقل.
 أما القراءة الثالثة فقد جعلها الدكتور خالد زهري قراءتين متضايفتين؛ أولاهما في كتاب المتوسط، وثانيهما في كتاب “الكشف والتبيين”، مستهلا القراءتين معا بتقدمة شدد فيها على ضرورة أخذ ثلاثة مقتضيات بعين الاعتبار؛ أولها وجوب استصحاب البعد الأكاديمي في التحقيق، وثانيها التمييز بين قراءة الأعمال على سبيل التبجيل والتقريظ وبين تفكيك مضامينها وافتحاص مداليلها لاستنباط النتائج وحصد الفوائد والتنبيه على المعايب والنقائص، وهذا هو المطلوب. والمقتضى الثالث يتعلق بالبعد الروحي الذي ينبغي أن يكتنف عملَ المحقق ليتميزَ عن تحقيقات المستشرقين؛ من خلال استحضار العلاقة الروحية والوجدانية التي تصل المؤلفَ بالمحقق فتجعله كلِفا بأسباب تأليفه متهمِّما بهمومه متقصدا لمقاصده. وبخصوص تحقيق كتاب “المتوسط” فقد نوّه الدكتور زهري على حيازته لشروط التحقيق بامتياز؛ تدقيقا في ضبط العنوان، وفي صحة النسبة لابن العربي، وفي المقابلة بين النسخ والنصوص، فضلا عن اجتهاد كبير في استخراج مصادر الكتاب المعرفية المصرّح بها والمضمرة. وبخصوص بعض المصادر المضمرة، وتعقيبا على اعتبار المحقق التوراتي كتاب “المتوسط” اختصارا لكتاب “الأوسط” لأبي المظفر الإسفراييني (ت. 471هـ)، يرى القارئ أن هذا الكتاب هو في الحقيقة اختصار لكتاب “التمهيد” للباقلاني (ت. 403هـ) مبرزا كيف أن المدرسة الأندلسية ظلت، وقتئذ، وفية للمدرسة الأشعرية الباقلانية. هذا، وقد أطاف الدكتور زهري بالكتاب المحقق من خلال الوقوف على ثلاثة موارد؛ مورد يتعلق بتعامل ابن العربي مع الدليل، وثان يهمُّ تعامله مع المصادر، ومورد ثالث يكشف عن منهج الرجل في استخدام المفاهيم والمصطلحات. بخصوص أولها يتميز منهج القاضي بنفس منطقي تحليلي لزومي يقوم على تفكيك عناصر الدليل سبرا وتقسيما إمعانا في إقامة الحجة والبرهان على المخالفين مكتفيا منها بما يناسب مقصود وضع الكتاب، أما تعامله مع المصادر فينبئ عن إلمام بالتوجهات الفكرية والعقدية والفلسفية الرائجة في زمانه أو قبيْله خصوصا مذاهب الفلاسفة. وأما المورد الثالث فيبِين عن قاموس مفاهيمي غني يمتح من مجالات معرفية وعلمية متعددة؛ منها علم الكلام، وعلم الأصول، وعلم المناظرة، وعلم الجدل، وعلم المنطق.. وهو قمين باستخراجه وضمه إلى باقي المصطلحات المستعملة من قبل المتكلمين قصدا إلى إفراد المفاهيم الكلامية بمعجم متخصص مستقل يكون مرجعا في بابه وعمدة في مجاله. وهذا أمل يدعو القارئ إلى تحقيقه من قبل أهل الهمة من الباحثين المتخصصين. في علم الكلام.   
وفي الشطر الثاني من مداخلته التي خصصها لقراءة كتاب “الكشف والتبيين” للشيخ مبارك العنبري، أشار الدكتور خالد زهري إلى أن وضع الكتاب في سياقه العام يجعله داخلا في باب ما يعرف بـ”علم الكتاب” أو “البيبليوغرام” والذي يتميز بخصيصة تجعل الكتاب يدور حول نص معين، وبجانبه يطرح النقاش والمناظرة أو المحاكمات حول موضوعه، وهذا صنف فريد من أنواع التصنيف يعد من أبدع ما أنتجته العقلية العربية، وقد مثل لهذا النوع بكتاب الغزالي “تهافت الفلاسفة” ورد ابن رشد عليه في “تهافت التهافت” وجاراهما علاء الدين الطوسي بكتابه “الذخيرة”، فالعنبري هنا يضع مقولات ابن أبي محلي في تكفير العوام محل النقاش والرد والمحاكمة، ثم يلقي خطابه ثانيا إلى شخص ثالث هو الشيخ أبي سالم العياشي ليرد هو الآخر بكتاب ثالث هو كتاب “الحكم بالعدل والإنصاف”، الذي مال فيه إلى نصرة العنبري في وجه خصمه المحلي. 
المداخلة التالية كانت للدكتور مصطفى أزرياح (دكتور في علم الحديث وأستاذ باحث)، شكر في بدايتها الجهة المنظمة، ثم بسط كلمته مبينا أنه سيقدم هذه القراءة من خلال محورين اثنين؛ خصص أولهما للجانب المنهجي فبين أن موضوع الكتاب جعل المؤلف يعتمد المنهجية الحوارية المعتمدة على الاستدلال والبرهنة، الأمر الذي مكن الكتاب من أن يصبح نصا فريدا في بابه، وذكر كذلك أن المحقق قسم عمله إلى قسمين اثنين خصص الأول منهما للدراسة والثاني للتحقيق؛ وعلى الرغم من أن الدراسة شملت عرضا للظروف التاريخية والسياسية لعصر (العنبري وابن أبي محلي)، إلا أن الملاحظ أن المحقق غفل عن إيراد مجموعة من النصوص المحققة الآن حول العقيدة الأشعرية التي تشتمل على رسائل ابن أبي محلي في الاعتقاد، والتي كانت ستفيده كثيرا في الوقوف على مدى عجز العنبري عن إيقاف حملة ابن أبي محلي وجعلته –بالتالي- يستنجد بالشيخ أبي سالم العياشي ليرد بدوره على ضلالات ابن أبي محلي وهي المتضمنة في كتابه “العدل والإنصاف” المحقق آنفا.. أما المحور الثاني لهذه القراءة فقد ركز فيها المتدخل على الجانب العلمي في التحقيق؛ وقد أشار فيها إلى أن المحقق لم يلتزم بمنهجية موحدة على طول هذا الكتاب؛ مما جعله يسقط في بعض النقائص التدقيقية… وفي ختام هذه المداخلة ذكر د. أزرياح أن هذه الملاحظات المنهجية لا يراد بها إلا تجويد عمل المحقق في القادم من الأعمال العلمية.
أما المداخلة الأخيرة فوسمتها الأستاذة حفصة البقالي (باحثة بمركز أبي الحسن الأشعري) بـ”نظرات في كتاب الشيخ العنبري” وقسمتها إلى شطرين: تطرقت في أولهما إلى قيمة الكتاب وعمل المحقق فيه؛ حيث أشارت إلى ما يعتور كتب العقيدة من تجريد وهو خلاف ما قام به العنبري في هذا الكتاب بحيث قام المؤلف أولا ببسط الحالة التاريخية والاجتماعية للناس، وثانيا بتقويم اعتقاد العوام، وثالثا بوضع آليات لحماية الأمن العقدي لهم، مما جعل من هذا الكتاب يتوفر على خصيصة طرح القضايا العقدية للعوام ومناقشتها. كما كشف الكتاب كذلك عن علم مغمور من أعلام سجلماسة، وبسط العلاقة الجامعة بين السلطة والعلماء في الصد لظاهرة الغلو في الدين أو التطرف في الاعتقاد أو ما يسمى بظاهرة (تكفير العوام) التي عرفها المغرب على مر تاريخه، والتي نجدها مدونة في المساجلات والمناظرات العقدية، ومنها كتابنا “الكشف والتبيين”، ثم انتقلت المتدخلة إلى التنبيه على بعض الخصائص المنهجية التي اعتمدها المحقق؛ حيث وقفت عند الفصل الرابع من الدراسة الذي تطرق فيه المحقق إلى بسط سبب الخلاف في مسألة وجوب النظر حيث اعتمد المحقق فقط على شواهد له من المشارقة دون المغاربة وكان حريا به وهو يحقق نصا مغربيا أن يشفعه بشواهد مناسبة له. بينما تطرقت في الشطر الثاني من المداخلة إلى عرض الطريقة التي سلكها العنبري في الإسهام في توفير آليات تحقيق الأمن العقدي لمواطني بلده في وجه فتنة الطلبة التي تزعمها ابن أبي محلى باعتبارها مسلكا مقصديا، راسمة خطوات مشروعه الإصلاحي في عرضه للمسألة والتماس المخارج لها، واضعا لها قواعد وضوابط وقاصدا من وراء ذلك تحقيق عنصر الأمن العقدي في مجتمعه.
وبعد هذه الجلسة فتح باب التعقيبات والمناقشة لجمهور الحاضرين والأساتذة المتدخلين؛ وقد كانت المناسبة سانحة للدكتور عبد المجيد الصغير الذي حضر اللقاء لكي يبدي بعض الملاحظات حول الجانب العلمي في هذه الندوة، فأشار بداية إلى ما يوحي به فضاء المكتبة الداودية من التذكير بالنصيحة التي وجهها له مؤرخ تطوان الفقيه محمد داود للبحث في مجال التصوف وبسببها ألف بعض كتبه في الموضوع، وأثنى في كلمته كذلك على محقق كتاب “المتوسط”، مذكرا بأن شخصية ابن العربي لا يمكن أن تفهم إلا في سياقها التاريخي وما يمثله القرن الخامس الهجري من تحولات فكرية كبرى مشرقا ومغربا مما يمكن أن نصطلح عليها بالثورة السنية في وجه البويهيين والفاطميين.
        ثم قام المحققان الدكتوران عبد الله التوراتي وجمال زركي – بعد ذلك-  بالحديث عن إنتاجيهما العلميين؛ فاستهل الدكتور عبد الله التوراتي محقق “المتوسط” كلمته بعبارات الشكر والتقدير في حق المنظمين والمحتضنين لهذا النشاط العلمي المتميز، وفي حق الأساتذة المحترمين أصحاب القراءات العلمية للكتابين موضوع اللقاء. ثم نبّه إلى أن القراءة العلمية لأي كتاب ينبغي أن تروم إبراز معاقده واستشفاف مظاهر التميز والشفوف فيه تحفيزا للمتتبع على قراءته وتشجيعا للمحقق ـ في حال الكتاب المحقق ـ على الإثخان في البذل والسعي والإنعام في التجويد والعطاء. بعد ذلك انعطف الدكتور التوراتي إلى بيان منزلة “الكتاب المتوسط” ضمن المنتوج العلمي للمؤلف؛ حيث ذكّر بالعقود الثلاثة التي اضطلع بها ابن العربي: أولها العقد الأصغر، ثم العقد الأوسط ـ موضوع التحقيق والقراءة ـ، ويليهما العقد الأكبر وهو “المقسط” شرحَ به كتاب المتوسط. بل واستطرد الدكتور في كلمته مبينا موضع هذه العقود ضمن مجموع مؤلفات الرجل؛ فإذا كان جنس من مصنفاته يندرج في باب “استصلاح الأحكام” (من قبيل “أحكام القرآن”)، وكان جنس آخر يهم “استصلاح التربية والسلوك” (كـ”سراج المريدين”)، فإن العقود الثلاثة ـ يتوسطها كتاب المتوسط ـ تتماهى مع رؤية ابن العربي في “استصلاح العقائد”. وهذه المراتب الثلاثة من “الاستصلاح” تنم عن نظرة علمية تكاملية شاخصة لواقع زمانه مُصلِحة لأحواله السلوكية وانحرافاته العقدية والسياسية. وفي مختتَم كلمته، بشّر الدكتور التوراتي جمهور القراء والمتتبعين بقرب صدور ثلاثة أعمال ذكر منها: “الدرة الوسطى في مشكل الموطأ” لمحمد بن خلف الإلبيري القرطبي، و”مجموعة رسائل في التلاوة والمتلو” لعدد من متكلمي الغرب الإسلامي.
فيما ركزت مداخلة الدكتور جمال زركي على الحديث عن البدايات الأولى لمشروعه في تحقيق هذا الكتاب، مبينا كيف أن الفكرة أشار عليه بها الدكتور عبد الله المرابط الترغي الذي وجهه لاقتحام هذه المغامرة العلمية، ثم تحدث بعد ذلك عن موضوع الكتاب الذي يتعلق برد فعل مؤلفه الشيخ العنبري أمام تكفير ابن أبي محلي لمجموعة من طلبة المغرب والذي سميت به هذه الحادثة وعُرفت بفتنة طلبة المغرب. 
وفي ختام هذا اللقاء العلمي تقدم الدكتور جمال علال البختي (رئيس مركز أبي الحسن الأشعري) بتجديد شكره لمسيري المكتبة الداودية ـ محتضِني هذا النشاط ـ ولجميع الأساتذة الكرام الذين شاركوا في إثراء القراءات العلمية للكتابين ولجميع الحاضرين، منوها بالجهود المتميزة للمحققيْن معا، وموضحا أن مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، يهتم في مجال تخصصه، بالكتاب العقدي كائنا ما كان مصدره، داعيا إلى التعاون بين كافة المتخصصين في ميدان علم الكلام والدرس العقدي لإخراج أعلاقه ونفائسه والسعاية عليها تحقيقا ودراسة وتوظيفا.
 

التأم برحاب الخزانة الداودية بتطوان، يوم الأربعاء الموافق لـ 24 ماي، لقاءٌ علمي نظمه مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية بالشراكة مع مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة وتعاونا مع مكتبة التواصل، لتقديم قراءات في كتابين عقديين:

ـ أولهما كتاب “المتوسط في الاعتقاد والرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد” لمؤلفه القاضي أبي بكر بن العربي المعافري (ت. 543هـ)، وبتحقيق الدكتور عبد الله التوْراتي.

ـ وثانيهما كتاب “الكشف والتبيين في أن عبارات محمد بن عمر في تكفير أكثر طلبة عصره وغيرهم خارقة لإجماع المسلمين” من تأليف مبارك بن محمد العنبري السجلماسي (ت. 1090هـ)، وبعناية الأستاذ جمال زركي دراسةً وتحقيقا.

استهلَّ اللقاء مسيرُ الجلسة الأستاذ مصطفى بنسباع (أستاذ التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان) بكلمة شكرٍ في حق المنظمين والمتعاونين مرحّبا بالضيوف الكرام من السادة العلماء والأساتذة الجامعيين والطلبة الباحثين والمثقفين المهتمين، عارضا بعد ذلك لبرنامج هذا النشاط العلمي وكيفية توزيع القراءات للكتابين معا على المحاضرين المتدخلين مع التنصيص على الغلاف الزمني مدةِ كل قراءة.

ثم أحال الكلمة إلى الأستاذة حسناء داود (محافظة الخزانة الداودية) لإلقاء كلمة ترحيبية بهذه المناسبة عبّرت فيها عن وافر فخرها وعميق سعادتها باحتضان هذه المأدبة العلمية اليانعة، مجددةً ترحابها بالحضور الكرام، ومنوّهة بالشراكة المتميزة التي تجمع المؤسسة التي تسهر على تسييرها بمركز أبي الحسن الأشعري.

عقب ذلك، عطَف المسير، إلى أصحاب القراءات العلمية مبتدئا بالأستاذ يوسف احنانة (المتخصص في الفكر الأشعري بالغرب الإسلامي وعضو المجلس العلمي المحلي بمدينة تطوان). وقد افتتح الأستاذ احنانة مداخلته القارئة لكتاب “المتوسط في الاعتقاد” بـ”نوستالجيا” عاد بها إلى بداية الثمانينيات عندما اكتشف مخطوطة مهترئة لهذا الكتاب بالمكتبة العامة بالرباط  مذكّرا بصعوبة الحصول على نسخ للمخطوطات في ذلك الإبّان، ومع ذلك عمل على استخراج ما أمكنه من نصوص المتوسط الوظيفية لإبراز الحضور الأشعري في الغرب الإسلامي. ثم عاد المتدخل إلى الكتاب في نسخته المحققة فعرض لأٌقسامه وأبوابه الكبرى متمثلة في باب الإلهيات والطبيعيات والنبوات والسمعيات؛ فخص الباب الأول بتقريظه لإجماع الأشاعرة (أو شبه إجماعهم) على  ضرورة النظر وممارسته لمعرفة الله وصفاته وأفعاله، ثم عرض للتصور العقدي التنزيهي الذي يصدر عنه القاضي أبو بكر في باب التوحيد مع تخليص قول الأشاعرة “الله لا داخل العالم ولا خارجه” من مشابهة محتملة بالمقولة نفسها للفيلسوف اليوناني أرسطو مبينا أوجه الاختلاف والتمايز بين المضمونين الكلامي الأشعري والفلسفي المشائي. وبخصوص الباب الثاني توقف القارئ المحاضر عند مسألة “خلق الأفعال” عند الأشاعرة مبرزا مدار الاستدلال الكلامي فيها على إثبات الخالقية المطلقة للباري تعالى مع توضيح مقتضب لتوصيف الإنسان بـ”الخالق” والذي لا يعدو نسبةَ الخالقية له بالمجاز دون الحقيقة. أما الباب الثالث فقد نبّه بخصوصه، الأستاذ احنانة، إلى كون مبحث النبوات لم يكن محلَّ عناية كبيرة من طرف المغاربة لغياب أو انعدام النِّحَل والتيارات الفكرية المنكرة للنبوة بخلاف المشرق الإسلامي. وإن كان ابن العربي ندّ عن هذا الشِّرْع نظرا لملاقاته ـ أثناء رحلته إلى المشرق ـ “قضاة” يجحدون النبوة! فكان لزاما أن ينبري لدفع شبههم والاستدلال على جواز النبوة عقلا وضرورتها شرعا. ولم يفت المحاضرَ التمييزُ بين معجزة الأنبياء وكرامة الأولياء، معتبرا الثانية امتدادا للأولى يجريها الله على أيدي الصلحاء والفضلاء من عباده المتقين. ثم انتقل المحاضر مباشرة إلى استشكال غياب باب خامس يُفترض تضمينُه في الكتاب هو ما يتعلق بالإمامة والإمام، فتساءل: هل سقط منه سهوا أو قصدا، أو أسقِط منه لاحقا؟ وقد خمّن في كون واقعه السياسي آنذاك ـ زمن المرابطين والموحدين، والأمير أو الخليفة منهم عار عن شرط القرشية ــ ربما يكون سببا في إسقاط هذا المبحث من الكتاب. وبالجملة فقد عدّ المحاضرُ ابنَ العربي المعافري واحدا من أرباب الفكر الأشعري معتبرا إيّاه “غزاليَّ” الغرب الإسلامي، ومنوها بمحقق كتابه “المتوسط” الذي كانت له اليد الطولى في إخراج هذا العِلق النفيس موطأ محققا.

في مفتَتح القراءة الثانية لكتاب “المتوسط” استشكل الدكتور أحمد مونة (أستاذ مادة الأصول والمنطق في كلية أصول الدين بتطوان) غياب توصيف صنعة العمل على مخطوط الكتاب بلفظة “تحقيق” أو عبارة “حققه” على واجهته، والاستعاضة عنه بعبارة “ضبط نصه وخرّج أحاديثه ووثّق نقوله”، مفترضا “التواضع العلمي” سببا في هذه الاستعاضة إضافة إلى ما انتشب بمفهوم “التحقيق” من ابتذال وتشويه، ليؤكد أننا بصدد تحقيق متميز ومحقق متمكن يستغرق جميع ضوابط التحقيق العلمية وشروطه الأكاديمية المعتبرة. ثم عرّج القارئ على عقد مقارنة محتملة بين كتاب “التقريب لحد المنطق” لابن حزم الظاهري (ت. 456هـ) وبين كتاب المتوسط لابن العربي (ت. 543هـ) من خلال الحضور البارز للآلة المنطقية في الكتاب المقروء مذكِّرا ـ على هامش قراءته ـ بتتلمذ والد أبي بكر على يد ابن حزم وإعجابه الشديد به ما يشي بإمكانية انتقال هذا الإعجاب العلمي إلى نجله القاضي. وللتدليل على هذا الحضور المنطقي انتخب الدكتور مونة موضوع “النظر” باعتباره مفهوما وموضوعا ينزلان منزلة مركزية من الكتاب؛ حيث شدد على كون ابن العربي انتهج في استدلالاته، على ضرورة النظر، منهجا منطقيا يقوم على ترتيب المقدمات التي يلزم عنها نتيجةٌ يحصل بها علم قطعي، وذلك على طريقة المناطقة في الاستدلال؛ فالعلم بالله وصفاته هو “علم مكلَّف” لا يحصل لا ضرورة، ولا إلهاما، ولا تقليدا، ولا خبرا، وإنما الطريق إليه هو النظر. ولإثبات هذه الدعوى يسلك القاضي ابن العربي مسلكا منطقيا يستعمل فيه أداة الشرط المنفصل مرتِّبا عليها ما ينتج عنها من إبطال لمقدَّم دعوى الخصم المفترض بناء على إبطال ما يليه، ونموذج ذلك إبطاله أن تكون “الضرورة” طريقا للعلم بالله إذ «لو كان العلم بالإله وصفاته يحصل ضرورة لكان قد حصل لجميع العقلاء، لكنه لم يحصل لجميعهم، إذن العلم بالله وصفاته لا يحصل ضرورة»، وعلى منوال هذا الاستدلال أبطل ابن العربي باقي الطرق المفترضة منتصرا للنظر العقلي  طريقا لمعرفة الباري تعالى. وأنهى المحاضر قراءته بدعوة عريضة إلى تقريب الفكر الأشعري، في زماننا هذا، بمقدمات تناسب مطلوب الاعتقاد وبأسلوب لا ينبو على مدارك الناس ومراتبهم في الفهم والتعقل.

 أما القراءة الثالثة فقد جعلها الدكتور خالد زهري قراءتين متضايفتين؛ أولاهما في كتاب المتوسط، وثانيهما في كتاب “الكشف والتبيين”، مستهلا القراءتين معا بتقدمة شدد فيها على ضرورة أخذ ثلاثة مقتضيات بعين الاعتبار؛ أولها وجوب استصحاب البعد الأكاديمي في التحقيق، وثانيها التمييز بين قراءة الأعمال على سبيل التبجيل والتقريظ وبين تفكيك مضامينها وافتحاص مداليلها لاستنباط النتائج وحصد الفوائد والتنبيه على المعايب والنقائص، وهذا هو المطلوب. والمقتضى الثالث يتعلق بالبعد الروحي الذي ينبغي أن يكتنف عملَ المحقق ليتميزَ عن تحقيقات المستشرقين؛ من خلال استحضار العلاقة الروحية والوجدانية التي تصل المؤلفَ بالمحقق فتجعله كلِفا بأسباب تأليفه متهمِّما بهمومه متقصدا لمقاصده. وبخصوص تحقيق كتاب “المتوسط” فقد نوّه الدكتور زهري على حيازته لشروط التحقيق بامتياز؛ تدقيقا في ضبط العنوان، وفي صحة النسبة لابن العربي، وفي المقابلة بين النسخ والنصوص، فضلا عن اجتهاد كبير في استخراج مصادر الكتاب المعرفية المصرّح بها والمضمرة. وبخصوص بعض المصادر المضمرة، وتعقيبا على اعتبار المحقق التوراتي كتاب “المتوسط” اختصارا لكتاب “الأوسط” لأبي المظفر الإسفراييني (ت. 471هـ)، يرى القارئ أن هذا الكتاب هو في الحقيقة اختصار لكتاب “التمهيد” للباقلاني (ت. 403هـ) مبرزا كيف أن المدرسة الأندلسية ظلت، وقتئذ، وفية للمدرسة الأشعرية الباقلانية. هذا، وقد أطاف الدكتور زهري بالكتاب المحقق من خلال الوقوف على ثلاثة موارد؛ مورد يتعلق بتعامل ابن العربي مع الدليل، وثان يهمُّ تعامله مع المصادر، ومورد ثالث يكشف عن منهج الرجل في استخدام المفاهيم والمصطلحات. بخصوص أولها يتميز منهج القاضي بنفس منطقي تحليلي لزومي يقوم على تفكيك عناصر الدليل سبرا وتقسيما إمعانا في إقامة الحجة والبرهان على المخالفين مكتفيا منها بما يناسب مقصود وضع الكتاب، أما تعامله مع المصادر فينبئ عن إلمام بالتوجهات الفكرية والعقدية والفلسفية الرائجة في زمانه أو قبيْله خصوصا مذاهب الفلاسفة. وأما المورد الثالث فيبِين عن قاموس مفاهيمي غني يمتح من مجالات معرفية وعلمية متعددة؛ منها علم الكلام، وعلم الأصول، وعلم المناظرة، وعلم الجدل، وعلم المنطق.. وهو قمين باستخراجه وضمه إلى باقي المصطلحات المستعملة من قبل المتكلمين قصدا إلى إفراد المفاهيم الكلامية بمعجم متخصص مستقل يكون مرجعا في بابه وعمدة في مجاله. وهذا أمل يدعو القارئ إلى تحقيقه من قبل أهل الهمة من الباحثين المتخصصين في علم الكلام.   

وفي الشطر الثاني من مداخلته التي خصصها لقراءة كتاب “الكشف والتبيين” للشيخ مبارك العنبري، أشار الدكتور خالد زهري إلى أن وضع الكتاب في سياقه العام يجعله داخلا في باب ما يعرف بـ”علم الكتاب” أو “البيبليوغرام” والذي يتميز بخصيصة تجعل الكتاب يدور حول نص معين، وبجانبه يطرح النقاش والمناظرة أو المحاكمات حول موضوعه، وهذا صنف فريد من أنواع التصنيف يعد من أبدع ما أنتجته العقلية العربية، وقد مثل لهذا النوع بكتاب الغزالي “تهافت الفلاسفة” ورد ابن رشد عليه في “تهافت التهافت” وجاراهما علاء الدين الطوسي بكتابه “الذخيرة”، فالعنبري هنا يضع مقولات ابن أبي محلي في تكفير العوام محل النقاش والرد والمحاكمة، ثم يلقي خطابه ثانيا إلى شخص ثالث هو الشيخ أبو سالم العياشي ليرد هو الآخر بكتاب ثالث هو كتاب “الحكم بالعدل والإنصاف”، الذي مال فيه إلى نصرة العنبري في وجه خصمه المحلي. 

المداخلة التالية كانت للدكتور مصطفى أزرياح (دكتور في علم الحديث وأستاذ باحث)، شكر في بدايتها الجهة المنظمة، ثم بسط كلمته مبينا أنه سيقدم هذه القراءة من خلال محورين اثنين؛ خصص أولهما للجانب المنهجي فبين أن موضوع الكتاب جعل المؤلف يعتمد المنهجية الحوارية المعتمدة على الاستدلال والبرهنة، الأمر الذي مكن الكتاب من أن يصبح نصا فريدا في بابه، وذكر كذلك أن المحقق قسم عمله إلى قسمين اثنين خصص الأول منهما للدراسة والثاني للتحقيق؛ وعلى الرغم من أن الدراسة شملت عرضا للظروف التاريخية والسياسية لعصر (العنبري وابن أبي محلي)، إلا أن الملاحظ أن المحقق غفل عن إيراد مجموعة من النصوص المحققة الآن حول العقيدة الأشعرية التي تشتمل على رسائل ابن أبي محلي في الاعتقاد، والتي كانت ستفيده كثيرا في الوقوف على مدى عجز العنبري عن إيقاف حملة ابن أبي محلي وجعلته –بالتالي- يستنجد بالشيخ أبي سالم العياشي ليرد بدوره على ضلالات ابن أبي محلي وهي المتضمنة في كتابه “العدل والإنصاف” المحقق آنفا.. أما المحور الثاني لهذه القراءة فقد ركز فيها المتدخل على الجانب العلمي في التحقيق؛ وقد أشار فيها إلى أن المحقق لم يلتزم بمنهجية موحدة على طول هذا الكتاب؛ مما جعله يسقط في بعض النقائص التدقيقية… وفي ختام هذه المداخلة ذكر د. أزرياح أن هذه الملاحظات المنهجية لا يراد بها إلا تجويد عمل المحقق في القادم من الأعمال العلمية.

أما المداخلة الأخيرة فوسمتها الأستاذة حفصة البقالي (باحثة بمركز أبي الحسن الأشعري) بـ”نظرات في كتاب الشيخ العنبري” وقسمتها إلى شطرين: تطرقت في أولهما إلى قيمة الكتاب وعمل المحقق فيه؛ حيث أشارت إلى ما يعتور كتب العقيدة من تجريد وهو خلاف ما قام به العنبري في هذا الكتاب بحيث قام المؤلف أولا ببسط الحالة التاريخية والاجتماعية للناس، وثانيا بتقويم اعتقاد العوام، وثالثا بوضع آليات لحماية الأمن العقدي لهم، مما جعل من هذا الكتاب يتوفر على خصيصة طرح القضايا العقدية للعوام ومناقشتها. كما كشف الكتاب كذلك عن علم مغمور من أعلام سجلماسة، وبسط العلاقة الجامعة بين السلطة والعلماء في الصد لظاهرة الغلو في الدين أو التطرف في الاعتقاد أو ما يسمى بظاهرة (تكفير العوام) التي عرفها المغرب على مر تاريخه، والتي نجدها مدونة في المساجلات والمناظرات العقدية، ومنها كتابنا “الكشف والتبيين”، ثم انتقلت المتدخلة إلى التنبيه على بعض الخصائص المنهجية التي اعتمدها المحقق؛ حيث وقفت عند الفصل الرابع من الدراسة الذي تطرق فيه المحقق إلى بسط سبب الخلاف في مسألة وجوب النظر حيث اعتمد المحقق فقط على شواهد له من المشارقة دون المغاربة وكان حريا به وهو يحقق نصا مغربيا أن يشفعه بشواهد مناسبة له. بينما تطرقت في الشطر الثاني من المداخلة إلى عرض الطريقة التي سلكها العنبري في الإسهام في توفير آليات تحقيق الأمن العقدي لمواطني بلده في وجه فتنة الطلبة التي تزعمها ابن أبي محلى باعتباره مسلكا مقصديا، راسمة خطوات مشروعه الإصلاحي في عرضه للمسألة والتماس المخارج لها، واضعا لها قواعد وضوابط وقاصدا من وراء ذلك تحقيق عنصر الأمن العقدي في مجتمعه.

وبعد هذه الجلسة فتح باب التعقيبات والمناقشة لجمهور الحاضرين والأساتذة المتدخلين؛ وقد كانت المناسبة سانحة للدكتور عبد المجيد الصغير الذي حضر اللقاء لكي يبدي بعض الملاحظات حول الجانب العلمي في هذه الندوة، فأشار بداية إلى ما يوحي به فضاء المكتبة الداودية من التذكير بالنصيحة التي وجهها له مؤرخ تطوان الفقيه محمد داود للبحث في مجال التصوف وبسببها ألف بعض كتبه في الموضوع، وأثنى في كلمته كذلك على محقق كتاب “المتوسط”، مذكرا بأن شخصية ابن العربي لا يمكن أن تفهم إلا في سياقها التاريخي وما يمثله القرن الخامس الهجري من تحولات فكرية كبرى مشرقا ومغربا مما يمكن أن نصطلح عليها بالثورة السنية في وجه البويهيين والفاطميين.

ثم قام المحققان الدكتوران عبد الله التوراتي وجمال زركي -بعد ذلك-  بالحديث عن إنتاجيهما العلميين؛ فاستهل الدكتور عبد الله التوراتي محقق “المتوسط” كلمته بعبارات الشكر والتقدير في حق المنظمين والمحتضنين لهذا النشاط العلمي المتميز، وفي حق الأساتذة المحترمين أصحاب القراءات العلمية للكتابين موضوع اللقاء. ثم نبّه إلى أن القراءة العلمية لأي كتاب ينبغي أن تروم إبراز معاقده واستشفاف مظاهر التميز والشفوف فيه تحفيزا للمتتبع على قراءته وتشجيعا للمحقق ـ في حال الكتاب المحقق ـ على الإثخان في البذل والسعي والإنعام في التجويد والعطاء. بعد ذلك انعطف الدكتور التوراتي إلى بيان منزلة “الكتاب المتوسط” ضمن المنتوج العلمي للمؤلف؛ حيث ذكّر بالعقود الثلاثة التي اضطلع بها ابن العربي: أولها العقد الأصغر، ثم العقد الأوسط ـ موضوع التحقيق والقراءة ـ، ويليهما العقد الأكبر وهو “المقسط” شرحَ به كتاب المتوسط. بل واستطرد الدكتور في كلمته مبينا موضع هذه العقود ضمن مجموع مؤلفات الرجل؛ فإذا كان جنس من مصنفاته يندرج في باب “استصلاح الأحكام” (من قبيل “أحكام القرآن”)، وكان جنس آخر يهم “استصلاح التربية والسلوك” (كـ”سراج المريدين”)، فإن العقود الثلاثة ـ يتوسطها كتاب المتوسط ـ تتماهى مع رؤية ابن العربي في “استصلاح العقائد”. وهذه المراتب الثلاثة من “الاستصلاح” تنم عن نظرة علمية تكاملية شاخصة لواقع زمانه مُصلِحة لأحواله السلوكية وانحرافاته العقدية والسياسية. وفي مختتَم كلمته، بشّر الدكتور التوراتي جمهور القراء والمتتبعين بقرب صدور ثلاثة أعمال بتحقيقه، ذكر منها: “الدرة الوسطى في مشكل الموطأ” لمحمد بن خلف الإلبيري القرطبي، و”مجموعة رسائل في التلاوة والمتلو” لعدد من متكلمي الغرب الإسلامي.

فيما ركزت مداخلة الدكتور جمال زركي على الحديث عن البدايات الأولى لمشروعه في تحقيق هذا الكتاب، مبينا كيف أن الفكرة أشار عليه بها الدكتور عبد الله المرابط الترغي الذي وجهه لاقتحام هذه المغامرة العلمية، ثم تحدث بعد ذلك عن موضوع الكتاب الذي يتعلق برد فعل مؤلفه الشيخ العنبري أمام تكفير ابن أبي محلي لمجموعة من طلبة المغرب والذي سميت به هذه الحادثة وعُرفت بفتنة طلبة المغرب. 

وفي ختام هذا اللقاء العلمي تقدم الدكتور جمال علال البختي (رئيس مركز أبي الحسن الأشعري) بتجديد شكره لمسيري المكتبة الداودية ـ محتضِني هذا النشاط ـ ولجميع الأساتذة الكرام الذين شاركوا في إثراء القراءات العلمية للكتابين ولجميع الحاضرين، منوها بالجهود المتميزة للمحققيْن معا، وموضحا أن مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، يهتم في مجال تخصصه، بالكتاب العقدي كائنا ما كان مصدره، داعيا إلى التعاون بين كافة المتخصصين في ميدان علم الكلام والدرس العقدي لإخراج أعلاقه ونفائسه والسعاية عليها تحقيقا ودراسة وتوظيفا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق