وحدة الإحياء

في الحاجة إلى أنسنة علوم البيئة

سبق للرابطة المحمدية للعلماء أن نظمت ندوة علمية حول موضوع: “الإنسان والأرض: أية علاقة؟” في حلقتها الثانية تحث شعار “نحو أنسنة لعلوم البيئة” يومه الاثنين 21 ربيع الثاني 1429ﻫ الموافق 5 ماي 2008م بفندق حسان-الرباط . بمشاركة كل من الدكتور بيير رابحي، رئيس الحركة الدولية الأرض والإنسانية، والدكتور المحجوب الهيبة، الأمين العام للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والدكتورة فطومة بن عبد النبي، باحثة في علوم البيئة، والدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.. ونظرا لأهمية وراهنية ما طرح في هذه الندوة العلمية من قضايا وتصورات وأفكار، واستحضاراً للأجواء التحضيرية، لمؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ cop 22 ارتأينا أهمية أن نعيد نشر هذه المادة.

استهلت أشغال الندوة بعرض شريط وثائقي بالغ البساطة والجمال للأستاذ موريس شونديير(Maurice Chandiere) بعنوان: “حينما تمتزج الشمس بالعسل” (Quand soleil et miel se confonde) يعرض نموذجا جيدا للعلاقة السوية بين الإنسان والأرض والطبيعة، وهو شريط لا تمتزج فيه الشمس بالعسل فحسب، وإنما تتفاعل فيه وتتناغم أسرار الطين بأنفاس الإنسان وحكمة النحل وأنوار الشمس وصفاء الماء. كما يقدم رسالة دالة عن العلاقة بين العمل والحرية والاختيار التي بمقتضاها يغدو العمل متعة ومجالا للتصالح مع الذات وتحقيقها..

كونية المأزق البيئي

انطلقت مداخلة الأستاذ بيير رابحي (Pierre Rabhi) من التأكيد على كونية المأزق البيئي الذي يواجه الإنسانية جمعاء، وعلى الطبيعة غير السوية للعلاقة بين الإنسان والبيئة؛ القائمة على النزوع الجامح للسيطرة على الطبيعة وفق منظور براجماتي يمعن في استنزاف خيراتها ومقدراتها بناء على نمط إنتاج استغلالي عنيف يقوم على الهدم والتدمير. وهو العنف الذي يعكس أكبر ضعف إنساني.

وفي هذا السياق يبرز رابحي كيف أن أزمة العلاقة بين الإنسان والبيئة قد استفحلت، بشكل بارز، مع التبلور التدريجي لظاهرة العولمة في نزوعها المستمر للهيمنة والتنميط، وفي إعلائها من سلطة المال المطلقة المكرسة لنمط إنتاج استهلاكي يجعل من المستحيل الاستجابة للاحتياجات الإنسانية بمقاييس الاستهلاك السائدة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة؛ بحيث أن تلبيتها يستوجب التوافر على خمسة كواكب شبيهة لكوكبنا الأرضي..

وبعد أن وقف على أهم مقومات الثورة التكنولوجية وأبرز أخطر مضاعفاتها أثار مفارقة مفادها أن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة لم تستطع، رغم تقدمها التكنولوجي الهائل، تلبية الحاجيات الأساسية، الطبيعية والبسيطة لكل إنسان على مستوى المأكل والمسكن والملبس والتطبيب. وهو ما جعله  ينتقد بشدة واقع اللامساواة الذي بمقتضاه نجد أن هناك أناسا يولدون لا لكي يعيشوا وإنما لكي يموتوا..

الأمر الذي جعل التطور التكنولوجي غير المسبوق يتزامن مع أزمة عميقة على صعيد الوعي بأهمية الحياة الطبيعية والإنسانية وقدسيتها.. والنتيجة هي تبنيه لموقف نقدي من الحداثة والتحديث على النمط الغربي السائد..

والواقع أن هذا النقد يتجاوز، لدى رابحي، اللحظة المعاصرة لينسحب على سائر الحضارات القديمة الكبرى التي لا يتصور قيامها واستمرارها إلا من خلال قيامها على الاستهلاك واستغلال الأرض ومواردها إلى درجة الاستنزاف.. وهو ما يفسر وجود آثار لحضارات اندرست وانطمرت تحت رمال الصحراء التي زحفت عليها بفعل المبالغة في اقتلاع أشجار الغابات لبناء السفن وغيرها من لوازم العمران..

ينتقد المتدخل مختلف مظاهر السلوك الإنساني غير الرشيد التي لا يتحرج أصحابها من اقتلاع الأشجار، وتلويت مياه البحار والأنهار، والاستعمال المكثف للمبيدات السامة، واستنزاف الموارد والخيرات الطبيعية وتبذيرها (nuisible L’etre humain est).. كما يقف مليا على مخاطر الاحتباس الحراري، وسباق التسلح الذي يتم إعطاؤه أهمية أكبر من الحياة نفسها من جراء عدم الوعي بوحدة المصير الإنساني، مؤكدا أن الحقيقة الإنسانية تتحقق من خلال الوعي بالوحدة وليس بالانقسام..

وفي هذا الإطار دعا إلى ضرورة ترشيد استهلاك الموارد الطبيعية، محذرا من مخاطر مجاعة عالمية قادمة واختلال بيئي أخطر طالما لم يتغير منطق التعاطي الإنساني مع الطبيعة وتوازناتها، مشددا على الأهمية القصوى لعملية التدوير الطبيعي، ولدور صغار الفلاحين في ضمان أمن غدائي سليم، مستحضرا بهذا الخصوص تجربة كل من المغرب وروسيا.

يصدر الأستاذ بيير رابحي عن تصور للطبيعة يقوم على التكامل بين مكوناتها والتجانس والتناغم والتوازن بين عناصرها، من منطلق أن للطبيعة نظامها الخاص الذي هو نظام الحياة القائم على التدوير الطبيعي الذي لا ينتج مخلفات، وهو ما عبر عنه بالقانون الطبيعي المشهور: “rien ne se perd, rien ne se crée, tout se transforme”.غير أن هذا لا ينفي أن الطبيعة تحتاج بدورها إلى تغذية من أجل الاستمرار.

إن أهمية مقاربة الأستاذ رابحي تنبع من موقفه الملتزم بقضية البيئة؛ فهو لا يكتفي بالمقاربة النظرية والمعرفية المجردة، رغم أهميتها، وإنما يصدر عن تصور يجمع بين النظرية والممارسة.. إن انشغاله الفكري والفلسفي بالشأن البيئي يجد ترجمته على أرض الواقع سواء في مزرعته الخاصة أو من خلال تجربته في دول الساحل الإفريقي التي تعاني من شتى مظاهر الجفاف والتصحر والمجاعة..

وفي صلة بالتزامه بقضايا البيئة يعتبر أن التزامه يعد في نفس الوقت التزاما تقنيا، علميا، اجتماعيا، وروحانيا، مؤكدا أن البشرية مدينة لخالقها الذي وهبها الحياة واستأمنها على الحفاظ عليها..

التمثل الثقافي والأخلاقي لقضايا البيئة

من جهته انطلق الأستاذ المحجوب الهيبة في مداخلته من الربط بين قضايا البيئة والسلوك الإنساني؛ منوها بالأهمية المرجعية لأول إعلان عالمي حول البيئة في ستوكهولم سنة 1972 الذي وضع 26 مبدأ انضاف إليها مبدأ جديد في مؤتمر “ريو ديجانيرو”.. ليقف، بشكل خاص، على دلالة المبدأ الأول التي يؤكد أن للإنسان الحق في أن يعيش في ظروف مرضية تمكنه من العيش في كرامة وبيئة سليمة. وبالمقابل على الإنسان الواجب الرسمي في أن يساهم في المحافظة على البيئة للأجيال الحاضرة والمقبلة.

وبعد أن انتقد تركيز المنظومة الليبرالية على حقوق الفرد أكثر من واجباته يقترح عشرة عناصر للتفكير في موضوع البيئة:

1. قضايا البيئة أمست تشكل مصلحة مشتركة بغض النظر عن آثار العولمة والليبرالية المتوحشة.

2. قضايا البيئة متنوعة تبعا للتعدد البيولوجي على مستوى النباتات والحيوانات..

3. قضايا البيئة تثير مسؤولية كونية مشتركة رغم أنها متفاوتة ، مستحضرا مقولة “كوستو” : “في مجال البيئة الصغار هم الذين يعلمون الكبار”.

4. قضايا البيئة تستدعي الربط بين الحق والواجب. وفي هذا السياق أورد مقولة دالة مفادها أننا “لم نرث الأرض عن أجدادنا وإنما عن أولادنا”..

5. الانطلاق من الوعي بأن البشرية تواجه ظواهر ومشاكل بيئية مستفحلة، كما أنها لا تملك يقينا علميا حولها ولا عن مصدر خطرها الحقيقي، ولذلك وجب الأخذ بمبدأ الاحتراز.

6. قضايا البيئة تمكن من التحكيم بين الإنتاج والاستغلال وبين المحافظة على الموارد الطبيعية.. كما أن البيئة تمكن من إنتاج الثروة من خلال إعادة تدوير الموارد التي تستهلكها، أو من خلال عمل جديد، كما قد تشكل عامل إصلاح سياسي واجتماعي..

7. البيئة خزان للموارد الطبيعية وخزان كذلك للثقافة؛ إذ لا يمكن فصل الثقافة بمفهومها الواسع عن الطبيعة..
8. البعد العالمي للبيئة؛ فالبحار متصلة طبيعيا فيما بينها، التأثيرات العالمية للإشعاعات النووية.. نقل النفايات، نقل تكنولوجيا هرمة ومفرطة في استهلاك الطاقة من الشمال إلى الجنوب..

9. للبيئة أنظمة بيئية محلية وإقليمية وكونية.

10. للعامل الثقافي والروحي دور أساسي في الإقناع بقضايا البيئة؛ فعلى غرار قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية يتوقف الوعي بقضايا البيئة على التمثل الثقافي والأخلاقي لها..

قضايا البيئة ليست ترفا فكريا

أما مداخلة الأستاذ أحمد عبادي فقد شكلت تركيبا جدليا لأهم الأطروحات التي وردت في الدراستين السالفتين، كما اجترحت منحى وأفقا جديدا للمقاربة والتحليل أقرب ما يكون إلى فلسفة الدين من خلال التساؤل:

1. كيف يمكن أن نجعل الإنسان يستبصر بصدد قضية من القضايا؟

2. كيف نجعل الإنسان يبصر؟

3. وما هي مصادر هذا الإبصار؟

4. كيف يتصور الإنسان ذاته ومحيطه؟

 وهي تساؤلات لا يمكن الإجابة عنها إلا من خلال الوقوف على حقيقة وماهية الإنسان و الوجود الإنساني. وهو وجود مطبوع بالغنى والتعقد؛ بحيث إذا “نحن غصنا، يقول الأستاذ أحمد عبادي، في هذا الإنسان وجدناه يستبطن مجرات كثيرة” مستخلصا أن “المكونات الداخلية للإنسان من فكر ووجدان وغرائز جبل عليها ومعارف وعوارف ” تستدعي مقاربته مقاربة موضوعية رصينة وجادة.

بعد ذلك أوضح الأستاذ أحمد عبادي أن قضية البيئة  قضية هامة وحيوية وليست من قبيل  الترف الفكري؛ بحيث إننا إذا لم نحافظ على بيئتنا فسنعرض أنفسنا والكون من حولنا للهلاك، ليس على سبيل الافتراض وإنما على سبيل الحقيقة المسَلَّمة. كما أنها ليست حقا مطلقا ولا مجردا وإنما هي “حق مضفور بالواجب”.

وبعد أن يربط الفساد والإفساد في البيئة بكسب الإنسان مصداقا لقوله تعالى “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس” يتساءل: كيف نتصور إمكانية إذعان أصحاب سلطة المال للقوانين الداعية للمحافظة على البيئة؟ علما أن الكثير من الدول لم توقع على العديد من هذه الاتفاقيات والقوانين. ليؤكد أنه ما دام الذين يفسدون في الأرض هم الأقوى؛ الأمر الذي يتعذر معه إلزامهم قانونيا، فإن الخيار الناجع يكمن في الرهان على تغيير النماذج المعرفية التي تؤطر التعامل مع البيئة.. بحيث إذا ما تم النظر إلى البيئة كإناء نغرف منه ما استطعنا فإن هذا “الباراديغم” يجعلنا نستهلك حق الأجيال المقبلة، وهو ما يفسر دعوة  الأستاذ أحمد عبادي إلى عدم التصرف بأثرة وأنانية مع الطبيعة ومواردها.

وتغيير هذه النماذج المعرفية لن يتحقق، من وجهة نظره، إلا من خلال دور التربية والتنشئة الاجتماعية تأكيدا لمحورية الوجدان الإنساني والمعمار الفكري. وانطلاقا من قوانين معززة للصلاح ؛ وهي القوانين القيمية والمعيارية..

ذووعيا منه بمخاطر تشضية الحقيقة الإكولوجية وتبعيضها وإعادة إنتاج الموقف المضاد للإيكولوجيا والنظرة الكلية الكامنة في صميمها، فقد استحضر الأستاذ أحمد عبادي مفهوم الرؤية إلى العالم أو النظرة إلى العالم (Worldview) كمفهوم قادر على استيعاب هذه الكلية؛ “فهو مفهوم خصب يشمل عناصر تجربتنا المعرفية والقيمية وما يرافقها من ممارسات ومواقف إزاء أنفسنا وإزاء الآخرين من البشر؛ أفراد المجتمع والكائنات الحية والبيئة والطبيعة عموما”.

فمع أن البيئة تتوافر على هوامش من شأنها أن تستوعب سفه الإنسان وتجاوزاته الأخلاقية في مجال الحفاظ على البيئة، إلا أن هذه الهوامش معرضة للتآكل إذا ما أمعن الإنسان في غيه. وفي هذا الإطار كشف الأستاذ أحمد عبادي كيف أن بعض الشركات لا تتورع في القيام بالتغيير الجيني للبذور؛ فما أن تنبت هذه البذور في الأرض حتى تبث نظامها الجيني في التربة فلا تقبل، تبعا لذلك، أي نوع آخر من البذور، وذلك بدواعي احتكارية استغلالية بكيفية تجعل البذور التي تجنى غير صالحة للزراعة من جديد خلافا لما كان عليه الأمر قديما.

الأمر الذي يستدعي أنسنة وتخليق السلوك البيئي. وفي هذا السياق يبرز أن المنظومة الإسلامية تتضمن برنامجا كاملا قوامه؛ الأمانة، التسخير، الواجب، ثم المحبة، والقصدية في الترشيد.

ومن جهة أخرى شدد الأستاذ أحمد عبادي على أن التصدي لقضايا البيئة يستوجب جهدا مزدوجا؛ نظريا وعمليا، والتزاما يقوم على الفعل قبل القول. وفي هذا السياق أورد رأيا للإمام الشاطبي ذهب فيه إلى أن القادرين على النهوض بالواجبات الكفائية، من قبيل حماية البيئة، يتوجب عليهم القيام بها رغم أنها في الأصل أعمال إذا قام بها البعض سقطت عن الباقي. أما الذين لا يقدرون ولا تسمح لهم مؤهلاتهم بذلك فيتعين عليهم “إقامة القادرين” من خلال حثهم، بل والاحتجاج على من لا يقومون منهم بحماية البيئة وهم يقوون على ذلك.

وفي ختام مداخلته نوه إلى أهمية التكامل المنهجي بين المقاربات الثلاث الأساسية؛ القانونية، والفلسفية التصورية والأخلاقية القيمية..

وكما هو معلوم فإن تعقيد الواقع الإيكولوجي جعل التفكير في الأزمة البيئية، سعيا لفهمها وتلافيا لمخاطرها، يمر بثلاث مراحل: اخضرار العلوم، واخضرار الدراسات الإنسانية، واخضرار الفلسفة. وفي هذا السياق تأتي دعوة الأستاذ أحمد عبادي: “وجب أن نَخْضَرَّ جميعا من أجل أن ننقد بيئتنا”…

د. عبد السلام طويل

  • رئيس وحدة بحثية بالرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، ورئيس تحرير مجلتها الإحياء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق