مركز الدراسات القرآنية

علم الأديان وعلاقته بالتفسير: دراسة تطبيقية على آيات النبوة

 

في إطار أنشطته العلمية والفكرية، نظم مركز الدراسات القرآنية التابع للرابطة المحمدية للعلماء حلقة جديدة (5) من حلقات “منتدى الدراسات القرآنية” بمحاضرة علمية في موضوع: “علم الأديان وعلاقته بالتفسير: دراسة تطبيقية على آيات النبوة” ألقاها فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف الكلام أستاذ مقارنة الأديان بمؤسسة دار الحديث الحسنية، وذلك بعد زوال يوم الثلاثاء 25 مارس 2014م بمقر مركز الدراسات القرآنية، شارع فال ولد عمير، أكدال ـ الرباط.

افتُتِح هذا المنتدى العلمي بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، لتتلوها كلمة الدكتور محمد المنتار رئيس مركز الدراسات القرآنية الذي أشاد فيها بالمحاضر الدكتور يوسف الكلام، وإسهاماته العلمية القيمة في علم الأديان، وبمشاركاته في أنشطة الرابطة المحمدية للعلماء، شاكرا له استجابة دعوة المركز لإلقاء هذه المحاضرة، كما بين فضيلته أهمية موضوع المحاضرة الذي يتمحور حول علاقة علم الأديان بتفسير القرآن، وبعض الإشكالات التي تثيرها هذه العلاقة، من قبيل ورود نصوص من الكتب المقدسة، وروايات إسرائيلية في بعض التفاسير، وهو ما أدى إلى اختلاف وجهات نظر العلماء في مشروعية اعتمادها في توضيح بعض الإشارات القرآنية مما ورد في الكتب السماوية السابقة مختتما كلمته بإلقاء السؤالين المحوريين لهذه المحاضرة: ما أهمية علم الأديان في علم تفسير القرآن الكريم؟ وما هي المناحي العلمية التي يمكن أن يستفيدها المفسرون من علم الأديان؟ ليفتح المجال للمحاضر الدكتور يوسف الكلام لإلقاء محاضرته.

استهل الدكتور يوسف الكلام محاضرته بتوجيه الشكر لمركز الدراسات القرآنية على دعوته لإلقاء هذه المحاضرة التي اعتبرها فرصة قيمة للتدارس والتباحث مع باحثي المركز في موضوع أهمية علم الأديان في الدراسات القرآنية، معربا عن سبب اهتمامه بالقرآن وهو ما وجده من الاشكالات في انتقاد علماء المسلمين للكتب المقدسة اعتمادا على القرآن، وفيما لاحظه من تخوف بعض علماء المسلمين من إيراد نصوص من الكتب المقدسة في التفسير لما لحقها من التحريف، وهو التخوف الذي لم يعد له مسوغ -في نظر المحاضر- في العصر الراهن، نظرا للجهود العلمية المنصبة في توثيق الكتب المقدسة، وإثبات تاريخ كل نص من نصوصها مما سمح باكتساب وعي بما يعتمد من هذه النصوص وما يدر.

وتمهيدا لتناول موضوع العلاقة بين علم الأديان والتفسير، أبرز المحاضر بعض تجليات اهتمام القرآن بالأديان السابقة، وذلك أن القرآن أشار في فاتحته إلى اليهود والنصارى، بقوله تعالى: ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضّالين﴾، كما جادل أهل الكتاب، وحثّ المسلمين على مجادلتهم بالتي هي أحسن، وفتح لهم المجال للجدال عن عقائدهم والدفاع عنها، بل والاعتراض على دين الإسلام، وغير ذلك من الأمور التي ذكرها القرآن مما يخص معتقدات المخالفين للإسلام ومصادرها.

وفي نفس السياق، أشار المحاضر إلى اهتمام علماء الإسلام عبر التاريخ الإسلامي بعلم الأديان -بدافع من القرآن- كالباقلاني والجويني والغزالي وأبي الحسن العامري وابن رشد والقرطبي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وهذا الاهتمام أثمر مؤلفات علمية كثيرة في مقارنة الأديان، وهو ما بَوَّأَ علماءَ الإسلام الريادة في هذا العلم، وظهرت ثمرات هذا الاهتمام في استفادة علوم الإسلام بمختلف أنواعها من علم الأديان، وأهمها التفسير من خلال اعتماد المفسرين على نصوص من الكتب السابقة في توضيح بعض الآيات، كما استثمروها لتأكيد صحة ما جاء به القرآن…
وبعد هذا التمهيد دلف المحاضر إلى بسط الكلام في المحور الأول من المحاضرة، وهو أهمية علم الأديان في تفسير القرآن الكريم منبِّها في البدء إلى أنه لايزعم أن علم الأديان من العلوم الأساسية لتفسير القرآن، إلا أنه يرى أن من شأن الإطلاع عليه -وخصوصا في هذا العصر التي دُرِست فيه الكتب المقدسة دراسات علمية- أن يضيف توضيحات لبعض الآيات، وأن يحُلَّ بعض الإشكالات التي تعتري تفاسيرها السابقة دون اللجوء إلى تأويلها، مشيرا إلى أن الإحالات القرآنية الكثيرة إلى أهل الكتاب دعوة إلى الاطلاع على معتقداتهم وكتبهم لتَبَيُّن ما يحكي القرآن عنهم، وما يحذِّر عنه مما وقعوا فيه، وهي الدعوة التي فهم مغزاها وأهميتَها العديدُ من علماء المسلمين الذين تميزوا باطلاع واسع على أديان المخالفين كما يتجلى في كتبهم التي ضمنوها روايات عن أهل الكتاب، ونصوص من كتبهم مع مناقشاتها ونقدها.

ولبيان أهمية علم الأديان في تفسير القرآن، استعرض المحاضر أمثلة من الأمور الغامضة في بعض الآيات التي قد يسهم في استيضاحها الرجوعُ إلى الأديان السابقة ومصادرها وتاريخها، منها:

ـ معرفة مقال الكفار الذي يضاهيه اليهود بقولهم: عزير ابن الله، والنصارى بقولهم: المسيح ابن الله، في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ (التوبة:30).

ـ معرفة الملكين: هاروت وماروت المشار إليهما في قوله تعالى: و﴿َاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ (البقرة:102).

ـ معرفة سبب اعتبار اليهود مريم أخت هارون رغم أنها ليست أخته في الصلب للمدة الزمنية الفاصلة بينهما، ولم ينسبوها إلى أنبياء آخرين أرفع قدرا عند اليهود من هارون كموسى عليه السلام، وذلك في قوله تعالى: ﴿َيَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ (مريم:28).

ـ معرفة سبب إحالة القرآن إلى أهل الكتاب في أمر يتعلق بأفضلية الأمّة المحمدية، وذلك في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ (آل عمران:110).
 
ـ معرفة شيء من أماني أهل الكتاب التي أشار إليها قولُه تعالى:﴿َ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾(النساء:123).

هذا، وقد حاول المحاضر من خلال هذه الأمثلة إثبات أن اطلاع المفسر على أديان المخالفين، وعقائدهم، وتاريخهم، وتصوراتهم عن الألوهية، والنبوة، والغيبيات يكسبه غنا معرفيا لتفسير الآيات المتعلقة بالمخالفين في الدين.

مباشرة بعد ذلك، انتقل المحاضر إلى بسط الكلام في المحور الثاني من المحاضرة المخصَّص لتقديم نماذج من الآيات في موضوع النبوة التي يزيد اتضاح معناها بالرجوع إلى ما ورد في الكتب المقدسة في نفس الموضوع قصد بيان خدمة علم الأديان لتفسير القرآن.

من أجل هذا الغرض، استعرض المحاضر بعض الآيات التي ذَكَرت الصفات التي يتصورها جاحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في النبي، في سياق نفيها عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها:

ـ كونه حالما وشاعرا ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ (الأنبياء:5).

ـ كونه ساحرا ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ (يونس:2).

ـ كونه مجنونا  ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾ (الدخان:14).

ـ كونه كاهنا ﴿وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الحاقة:42).

ـ معرفة الغيب ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾(الأنعام:50).

ـ أخذ الأجر على الإخبار بالغيب ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ (يونس:72).

وأما الآيات الحاكية للمعجزات والخوارق، التي يطلبها المشركون من النبي، فمنها:

ـ ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ إلى آخر الآية (الإسراء:90).

ـ ﴿ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ﴾ (الأنبياء:5).

فهذه الصفات التي صوَّر عليها المشركون النبي، والمعجزات المادية التي طالبوه بها ليؤمنوا به، ليست –في نظر المحاضر- للعناد والجحود والتعجيز والتحدي فقط، وإنما للتأكد من صحة ما يدعي، لما لهم من تصورات سابقة عن النبي والنبوة، من قبيل أن النبي يمكن أن يكون ساحرا وكاهنا وشاعرا ومطّلعا على الغيب، ويأخذ الأجر مقابل إنبائه بالغيب كما يفعل الدجّالون، وغير هذه الأوصاف، واستدل المحاضر لصحة هذا التقسير بما ورد من تصورات اليهود عن النبوة في بعض نصوص العهد القديم، مثل التصورات المستنتجة من الفقرات 2-6 من الاصحاح 13، والفقرات 20-22 من الاصحاح الثامن من سفر التثنية، ومن نص سفر صمويل من سفر الأنبياء، وهي:

ـ انعدم الفرق بين النبي والحالم، فكلاهما يمكن أن يكون مبعوثا من قبل الله عز وجل.

ـ اقتران ادعاء النبوة بادعاء المعجزة وتحققها، وإن غابت صفات أخرى كالأمانة والصدق…

ـ ألا يدعو إلى عبادة غير إله بني إسرائيل.

ـ أنه يمكن ان يكون النبي صادقا أوكاذبا.

ـ قد يزيد النبي على الوحي ما ليس منه.

ـ يمكن أن يتكلم النبي باسم آلهة أخرى، وهذا يدل على أن التصور اليهودي لا يستبعد وجود آلهة أخرى.

ـ النبي مخبر بالغيب، على خلاف التصور الإسلامي الذي يحيل اطلاع أحد على الغيب إلا الله.

وقد خلص المحاضر من هذه الاستنتاجات إلى أن التصور اليهودي للنبوة يركز على الصفات المادية، وهذا ما يبيِّن علة نفي القرآن صفاتٍ معينة، والقدرة على الاتيان بخروقات مادية عن النبي، وتركيزه على الصفات المعنوية كالصدق والأمانة، والمعجزة الفكرية البيانية.

وقد فُتِحَ المجال بعد القاء هذه المحاضرة لمناقشة ما ورد فيها من أفكار، حيث أثارت تدخلات الحاضرين عدة استفسارات وإشكالات، أهمها:

ـ ما الذي أمر النبي أن يبينه ممّا نزل إلى الناس، في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:44)؟

ـ كيف يمكن الاستعانة بالكتب المقدسة في توضيح بعض الآيات مع أن القرآن نفسه قد حكم يتحريفها؟

ـ ما المصادر التي ينقل منها المفسرون نصوص الكتب المقدسة في تفاسيرهم؟

ـ هل كون الكتب المقدَّسة في العصر الحديث موثَّقة علميا مسوغٌ لاعتمادها، رغم النهي الوارد في بعض الأحاديث عن الرجوع إليها، أوالتخيير في ذلك؟

ـ كيف نوثق النصوص المقدسة التي يوردها المفسّرون في تفاسيرهم من الكتب المقدسة المتداولة في العصر الحالي؟ (كالنصوص التي يوردها ابن ظفر الصقلي في تفسيره «ينبوع الحياة» التي قدّم باحثوا المركز بعض نماذجها في المنتدى).

كما عرفت فترة المناقشة بعض الإضافات من الدكتور محمد المنتار، والدكتور محمد إقبال، والدكتورة نادية الشرقاوي، ليفتح المجال للمحاضر ليجيب عن بعض هذه الاستفسارات، ويبدي رأيه في بعض ملاحظات وإضافات المتدخلين، فتطرق في كلمته إلى الأمور الآتية:

ـ أن التوراة ثبت تحريفها حتى بالمناهج العلمية الحديثة، ولكن أهلها يتشبتون بها.

ـ بيان الفرق بين الإسرائيليات وعلم الأديان المتمثل في أن الإسرائيليات هي الرواية الشفوية عن أهل الكتاب، في حين أن علم الأديان يقوم على دراسة النصوص المقدسة دراسة علمية بمناهج خاصة.

وانتهى المحاضر إلى تقديم خلاصة مركزة لموضوع النبوة من خلال القرآن الكريم والكتب المقدسة، مؤكدا أن ما ورد في العديد من الآيات القرآنية من الصفات التي كان الرافضون لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم يصفونه بها لم يكن الباعث على وصفه بها تكذيبَ النبي صلى الله عليه وسلم، والصد عن سبيل الله فحسب، وإنما كذلك لما تكوَّن لديهم من تصور عن النبي والنبوة، ويعرف ذلك بالعودة إلى النصوص المتعلقة بالنبوة في الكتب المقدسة التي ورد بعضها في المحاضرة.

وقد ختم الدكتور محمد المنتار رئيس مركز الدراسات القرآنية هذا المنتدى العلمي بذكر بعض القضايا التي تشكِّل إطارا للفهم الصحيح لكتاب الله تعالى، منها أن يفهم القرآن في إطار التصديق والهيمنة على الكتب السابقة وخاتميته لها، وتفاذي بعض المعوقات لفهم كتاب الله مثل: جعل اللغة حاكمة على القرآن، وعدم اعتبار السياق في فهم الآيات، والانحراف عن القراءة القرآنية التدبرية إلى القراءة التبركية، وتقديم القرآن للناس انطلاقا من تفاسير العلماء التي تبقى -رغم أهميتها- فهما بشرا يعتريها من النواقص ما يعتري طبيعة البشر من التأثر بمؤثرات أهمها البيئة الزمانية والمكانية التي عاش فيهما المفسِّر، في حين أن القرآن الكريم ينهل من معينه كل أهل عصر لعصرهم، مختتما كلامه بذكر بعض آفاق البحث في موضوع العلاقة بين تفسير القرآن وعلم الأديان، منها: استقراء حضور علم الأديان في كتب التفسير، والبحث عن الغرض العلمي من احتواء بعضها لنصوص من الكتب المقدسة، وسبب غياب الحس النقدي لدى بعض المفسرين لهذه النصوص، وبحث علاقة القرآن الكريم بالكتب السابقة في إطار تصديق وهيمنة وخاتم القرآن لها، وعالمية رسالته، وبحث حضور علم الأديان في تفاسير، واتجاهات، وأماكن معينة.

 

إعداد: مصطفى اليربوعي
مركز الدراسات القرآنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق