د. أحمد عبادي يحاضر حول الحوار بين الحضارات في مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة
ألقى فضيلة الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، محاضرة علمية تحت عنوان: "الحوار بين الحضارات مقاربة تصنيفية ومقترحات مُنطلقية" بمدرسة الملك فهد العُليا للترجمة بمدينة طنجة، مساء يوم الخميس 25 محرم 1435هـ/ 28 نونبر 2013م.
في البداية، تناول الكلمة الدكتور نور الدين الشملالي، مدير مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، فَرَحَّب بالسيد الأمين العام الأستاذ أحمد عبادي، وشكره على قبوله دعوة المدرسة لإلقاء محاضرة في موضوع فكري هو من اهتمامات وتطلّعات العرب والمسلمين في الوقت الراهن.
أعقب ذلك توقيع اتفاقية شراكة بين الرابطة المحمدية للعلماء ومدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة، وقّع عقد الاتفاقية السَّادَة الأساتذة الفُضلاء : - الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء. - الدكتور حُذيفة أمزيان رئيس جامعة عبد المالك السعدي بتطوان. - الدكتور نور الدين الشملالي مدير مدرسة الملك فهد العُليا للترجمة بطنجة.
بعد ذلك أخذ الكلمة الدكتور حُذيفة أمزيان رئيس جامعة عبد المالك السعدي، فَرَحَّبَ بالأمين العام السيد أحمد عبادي، وبالعلماء والأساتذة، وعموم الحضور من طلبة المدرسة، الذين حرصوا على شهود هذا اللقاء العلمي النافع. ثم أثنى على مبادرة مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بدعوتها السيد أحمد عبادي الذي يمثل حضوره تشريفا للمدرسة والجامعة، لاسيما وأنّ موضوع محاضرته سيتناول بالدرس والتحليل مسألة تقارب الحضارات، وهو موضوع يعتبر راهنيا، يناقش -من جهة- الصراع الحضاري الذي أنتج العديد من الحروب والمآسي، ومن جهة أخرى يُعالج آليات التحاور التي تُمَكِّن من وَأْدِ مظاهر العنف، والعنف المضاد في الكثير من بقاع الأرض. وقد أكّد الأستاذ حذيفة أمزيان أنّ الحوار ضرورة حتمية، وأنّ الموضوع له أهمية قصوى، وهو ينتمي للفضاء الأكاديمي ومن شأن معالجته في هذا الفضاء أن يُساهم في فك إشكالية الصراعات في المجتمعات العربية والإسلامية. كما أكّد الدكتور أمزيان في ختام مداخلته الوجيزة أننا بحاجة إلى علماء مثل الدكتور أحمد عبادي لأنّه يتوفر على إلمام واسع بالإشكاليات الكبرى التي لايزال يتخبط فيها عالمنا العربي الإسلامي، وأنهى كلمته بتجديد الشكر للأستاذ المحاضر.
ثم أخذ الكلمة الدكتور نور الدين الشملالي، وتلى ورقة تعريفية بالدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، بسط فيها مساره العلمي والفكري، والوظائف السامية التي تولاها سواء في مجال التدريس بالجامعات المغربية والأوربية والأمريكية أو في إسهامه الفاعل في عدد من الهيآت السامية للدولة المغربية. مشيرا في الأخير إلى أن المدرسة تتشرف بحضور السيد الأمين العام لإلقاء هذه المحاضرة.
ثم تناول الكلمة الدكتور أحمد عبادي، وذكر في البداية بأنه محظوظ لتواجده في مدرسة الترجمة بالذات لأن طلبتها فصولٌ متفاعلة بين مختلف الحضارات العالمية، ينظرون إلى الأمور ويشخصونها بِمُقَلٍ مختلفة، وبالتالي فإن المدرسة هي المكان اللائق والقمين بهذه المحاضرة التي ستتمحور حول حوار الحضارات الذي يفرض موقعه راهنا، وثمّة في ذلك جملة من الدواعي: الداعي الأول: هو أن هذا الكوكب الذي نعيش فوقه أصبح يتوفر على إمكانات هائلة، وأنّ الأرض ذرة من الغبار الكوني، ولكن من أجل السيطرة على هذه الجزئية سالت أودية من الدماء البشرية، وأن هذا البشر الذين يعيشون فوق هذه الأرض أبدى قدرا غير قليل من الحماقة، وبالمقابل أبدى قدرا غير قليل من الحكمة ساهمت في ذلك طرق التواصل التي تتم باليسر الذي نعرفه حاليا. وأوصى الأستاذ أحمد عبادي طلبة مدرسة الترجمة بأن يراجعوا في هذا الصدد بعض المقاربات الجيدة التي تضمنتها كتب مثل: "صدمة المستقبل" و"الموجة الثالثة"، و"تحول السلطة"، و"العالم المسطح" لطوماس فريدمان. وقال الأستاذ أحمد عبادي إن إيقاع الحياة في هذا العالم تسارع بشكل مثير، ساهمت في ذلك شبكة الإنترنت التي تتيح لمستعملها بنقرة واحدة أن يطّلع على عدد من البيانات والمعلومات، فهي من جهة جعلت هذا الكوكب يتجمّع، ومن جهة ثانية سهلت للأفراد العاديين اليوم الحصول على معلومات لم تكن متاحة حتى للمتميزين قديما. وقال إنّ جيل الإنترنت خلق وظائف دماغية جديدة، كانت مقطوعة وأصبحت اليوم موصولة. وهو ما يحتاج منا إلى الرحيل إلى هذه الخصائص التي باتت تؤثث حياتنا أي أننا سنجد أنفسنا في ... محاورة حضارات. الداعي الثاني : ظهور قدرة غريبة على الفتك، فيكفي أن يتسرب فيروس تخريبي إلى عقول صناع القرار الممتلكين للأسلحة النووية حتى تدمر هذه الأرض بالكامل، وبالتالي لا يمكن تصور مستقبل للإنسانية إلا بالحوار الحضاري . إذن فالحوار أضحى ضرورة وليست مسألة إستطيقية. ثم توجّه الدكتور أحمد عبادي بالخطاب إلى طلبة مدرسة الترجمة، وأفهمهم بانه عليهم سيكون المعتمد لنقل مخزون النبوغ العالمي إلى بلدنا، ثمة في الحضارت العالمية ألوان جميلة غير أنها تبقى سطحية، ولكن اكتساب هذا (A. D. N.) أو «الجينوم» الحضاري هو الذي يحتاج إلى تشمير، وأنكم في هذه المدرسة مطالبون بتحمّل جزء كبير هذه المسؤولية الخطيرة، ثم عرض الأستاذ أحمد عبادي خمس مقتضيات منهجية لتحقيق ذلك : 1- التفكيك : أي تفصيل المجملات، وهذا يحتاج إلى جملة من الأنزيمات والقدرات. وأهم عملية في التفكيك هي التسمية الدقيقة، لأنّ العموميات لا تستطيع أن تخلص إلى اللباب، وبالتالي ينبغي إعادة تصنيف المشاريع. ثم إنه لما كانت المشروعات الكبيرة لا يقو على القيام بها فرد واحد فإنه يتوجب على أن تأخذ كل مجموعة مشروعا معينا. ونحن اليوم مطالبون بإعادة هندسة التخصصات، بحاجة إلى شعب أنتروبولوجية وشعب مقارنة الأديان في جامعاتنا، خلاصة هذا أننا بحاجة إلى أنزيمات اليقظة والفضول. ثم تساءل الدكتور أحمد عبادي : أليس من حقنا أن نحلم بأطروحات مثل أشعة الليزر تخترق الآفاق ؟ ... وبأبحاث دفعة من الخريجين تتكامل فيما بينها وتقدم إضافات نوعية في شتى المجالات ؟ وقال الأمين العام إنه يحق لنا أن نحلم وأن نطمح إلى إنجاز مشروعات كبرى، على الرغم من أنّ الواقع يضغط على لوح الشخصية الإنسانية (Le Clavier de la Personnalité Hummaine) بالعديد من التحديات والمخاوف والآلام.
2- الاستثمار الزمني والمادي والطاقي : وأكد الدكتور أحمد عبادي أنّ هذا الاستثمار لا يمكن أن نقوم به، أحسن قيام، وميزانية البحث العلمي في بلدنا بالكاد تصل إلى 5 ٪ . وشدّد على أنه ينبغي أن تعطى للجامعات ميزانيات لإحداث كراسي تخصصية لأنّ البحث العلمي أضحى اليوم من أولويات التعايش المشترك. فنحن نعيش فترة حرجة، وبالتالي حتى التقارب الحضاري أصبح حرجا للغاية. 3- الاستكشاف : قال الأستاذ المحاضر الدكتور أحمد عبادي أنه ثمة خطوات أنجزت في هذا الاستكشاف تتمثل في التعايش رقميا، إلا أنّ ذلك لم يعد كافيا، فنحن نحتاج لاستكشاف مادي، أي أن نقترب من بعضنا البعض وأن نعيش مع بعضنا البعض. 4- التقنية : امتلاك التقنية مقتضى أساسي في عملية النهوض، ولكن ونحن نقارب حضارة متطورة معينة لا ينبغي أن نقارب الصورة الراهنة، ولكن ينبغي الرحلة إلى المصادر والينابيع. 5- إعادة الترتيب: وهي عملية تتيح لنا أن نرتب الحاجات والأولويات، وهي عملية تنظيمية تهم الشكل الحضاري بالأساس.
وتابع الدكتور أحمد عبادي محاضرته بالشرح والتحليل، قائلا بأنّه لا شك أن كل مقتضى، من المقتضيات المنهجية الخمس المتقدمة، له جملة من المستلزمات، وهي بلا شك كبيرة، ولذلك ينبغي النظر إليها على أنها مُوَجّهة للجماعة وليست للفرد، وقدم مثالا على أنّ حضارتنا تتوفر حاليا على 100 مليون باحث في العالم الإسلامي وحده، مِمّن لهم شهادات ما فوق الإجازة. فهذه الجيوش من الكفاءات ينبغي تجميعها وتوجيهها في الطريق الصحيح، وتزويدها بالأدوات المادية والمعنوية لكي تنجز ما تصبو إليه الآمال، فالجامعات الأمريكية – على سبيل المثال- لم تصل إلى ما وصلت إليه من رقي وازدهار إلا بتوزيع المشاريع على المجموعات. ثم انتقل الدكتور أحمد عبادي إلى جانب آخر من الموضوع، استهله بالقول إن الحوار مع الآخر يجري في محافل، ثُمَّ عَيَّنَ منها خمسة: 1- المحفل الوظيفي: فيه تتم استكشاف نقاط قوة الآخر وضعفه لكي أوظفها في مشروع 2- المحفل الدعوي والتبشيري : من أجل أن أستوعب حضارة الآخر في منظومتي العقائدية. 3- المحفل الأكاديمي: إن في أي حوار بين الحضارات أكاديميا، علينا أن نحاول تطبيق المقتضيات السابقة من تفكيك، واستثمار زمني، واستكشاف،...إلخ. وهذه تنتجها شعب الدراسات بالجامعات. 4- المحفل التوليفي : وفيه يتم البحث عن مواطن التوافق لكي نحل ونفك النزاعات. 5- المحفل التعارفي : بمعنى أنه علينا أن ننظر إلى الآخر بالمنظور الذي يجعلنا نفتقر إلى هذا الآخر. وكل هذا يحتاج إلى مأسسة، أي يحتاج إلى مؤسسات للقيام بهذا التعارف الذي تدعونا إليه الآية الكريمة: ﴿يأيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾ فهذه الآية الكريمة تحمل جملة من المقولات ذات حكمة ومقصد. وفيما يخص القضايا الحارقة التي تهدد بنسف المجتمعات البشرية، أكّد الأستاذ المحاضر الدكتور أحمد عبادي أن الدين الإسلامي يفتح للإنسانية نوافذ عديدة لتجنيبها ما يسيء إلى كيانها ووجودها، وأشار إلى أنّ الدين الإسلامي سباق لسن ما يعرف اليوم بالحقوق التضامنية، وهي الحقوق التي تكون مقترنة بالواجبات: فالذي له الحق في البيئة النظيفة من واجبه الحفاظ على البيئة ولا يرمي في الشارع ما يؤذيها. كما أنّ المُطالِب بالسلام لا ينبغي له أن تكون له يد في إزهاق الأرواح. وختم الأستاذ المحاضر الدكتور أحمد عبادي محاضرته بمقترحات قال إنه من شأنها أن تسهم في أن يكون لنا مستقبلا مكانة وحضور متميز بين الأمم والحضارات، وهي مقترحات تخص المجالات التالية: - الكتابة : يجب أن نكتب إشكاليات حيّة. - الإنترنت : ينبغي تعميره برصيد من المعلومات، لاسيما وأننا حاليا لا نستهلك إلا 2 ٪ من المنتوج الوطني، بينما 98 ٪ نأخذها أو تأتينا من الخارج. - المتابعة والتصحيح : وهما عمليتان تسهم في الارتقاء بالأعمال إلى مستويات عالية من الجودة. - السياحة : تنبغي إعادة هندستها بحيث تتيح للسائح أن يدخل إلى أعماق تاريخ البلد. - الصوت والصورة : على أصحاب الصورة والصوت أن ينفذوا إلى أعماق القضايا والإشكالات. - اللقاء والإغناء . - التبادل الحسي والرقمي. - إعادة هندسة السياسة الخارجية، من ذلك عمل السفارات والقنصليات، في تسهيل عمليتي التبادل والتنسيق مع الآخر، وتصبح المحافل الدولية فرصة لذلك. - التكامل في حل المشاكل الخروج بنتائج - الترجمة : استثمار هذا المجال للحوار الحضاري، وانتقاء واختيار نصوص تكون لها إضافة نوعية.
ختاما : تطرق الأستاذ المحاضر الدكتور أحمد عبادي إلى مسألة القبلة عند المسلمين. والتي لها ارتباط بقضية الحوار الحضاري من جهة الغاية والهدف. وأشار إلى أنّ من كانت غايته الانتقام أو الغلبة، فإنه سيتوقف عندما تتحقق له هذه الرغبة، وأنه حين سينتصر سيتنتهي، لقد كانت هذه الرغبة عند الرومان والمغول، فحين تحقق لهم الانتصار توقّف تاريخهم وحضارتهم.
بينما القبلة التي يقدمها الدين الإسلامي، والتي إليها يتوجه المسلم في صلاته اليومية، هي قبلة غير متناهية، وهي قبلة تكاملية، فالطواف حول الكعبة – مثلا- يعطيك النظر إلى الزوايا الأخرى من الحقيقة، كما نجد في باقي الشعائر والمناسك دروس وعِبَر وإشارات تساعدنا على تجنيب العالم ما يسيء إلى صفاء العلاقات البشرية، وفك مشاكلنا بالحوار الحضاري جاعلين نصب أعيننا قول ربنا جلّ علاه أن (واتّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام). وختم الأستاذ المحاضر الدكتور أحمد عبادي محاضرته بشكر الجهة المحتضنة لهذا اللقاء العلمي، كما شكر الحضور حسن استماعه وعنايته.
تلى ذلك فتح باب النقاش، فطرحت العديد من الأسئلة، تناولها الأستاذ أحمد عبادي وذكر بأنها أغنت محاضرته وأضاءت العديد من النقاط التي تطرق إليها، قبل أن يتولى الإجابة عن الأسئلة المذكورة بأسلوبه الشيق ونظره الثاقب وفهمه الوقّاد.
إعداد: الأستاذ رشيد الغفاقي