مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

تقرير عن ندوة معاني القرآن: أوضاع ومقاصد

بسم الله الرحمن الرحيم

           ازدانت كلية الآداب ابن زهر بأكادير يومه الخميس 16 فبراير 2023، بتلاقح فكري بين أطياف بحثة القرآن وعلومه، عبر ندوة علمية في موضوع؛ علم معاني القرآن:أوضاع ومقاصد، في إطار شراكة علمية بين مركزالإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة، ومركز الدراسات القرآنية  المنضويين تحت لواء الرابطة المحمدية للعلماء، وفريق البحث في المصطلح الأصولي والترجيح الفقهي المستمد امتداده من مختبر مناهج الدراسات الإسلامية وعلوم الاجتهاد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير وماستر الخطاب الشـرعي وتكامل العلوم بنفس الكلية.

         افتتحت الجلسة بتلاوة  آي من الذكر الحكيم، بتحبير القارئ ياسين الكازيني باحث بسلك الدكتوراه، بعدها أسند رئيس الجلسة د.عبد الكريم عكيوي الكلمة للسيد عميد الكلية أ.د محمد ناجي بنعمر وقد آثر ارتجالها،  فاحتفى بالحضور، وخص الضيوف  بمزيد ترحاب، ليخلص إلى التنويه بموضوع الندوة، مبرزا ريادة الكتاب على سائر العلوم، مع تحفي مجموعها بخدمة نصه، وتدنية جناه لمتلمس علمه، فمنه المنطلق وإليه المآب، وما تشعب علومه مشكلا وغريبا، وناسخا ومنسوخا، وتأويلا وتفسيرا، وبحثا في بلاغة خطابه ومسبوك رصفه ونظامه... إلا مباحثات تتغيى هذا المرام، وفي نظر الأستاذ الدكتور أن علم البلاغة لا يليق حصره في دعائمه الثلاث المعلومة، بل هو  علم له امتدادات  وإشعاعات تتجاوز حدود المذكور، فلا يليق قصـرمباحثه في مثار كلام البلاغيين، بل إنه عدَّ  حصره في إطارها ظلما لعلم  البلاغة نفسه، خصوصا إذا أخذ بعين الاعتبار ما للبلاغة من معيارية المفاضلة بين جيد المقول، وفي نهاية كلمته أبدى السيد العميد رغبة الكلية في طبع مادة الندوة؛ إذا ما حررت بحوثها وهيئت للطبع فصولها، مؤملا بذلك الانخراط في مسلك خدمة الكتاب.

         أحيلت الكلمة بعده إلى السيد عضو مختبر مناهج الدراسات الإسلامية وعلوم الاجتهاد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، أ.د. إيحيا الطالبي، وقد أودعها مكنون صدره، وأبدى فيها  جياش شعوره ، معلنا استبشاره بهذا التلاقي الفكري حول مأدبة الكتاب؛ الرسالة الخالدة التي لا تنقضي عجائبها، ولا يحاط بأسرارها، ولا تستقصى هداياتها.. مأدبة ربانية ريانة  بفتوحات علوية، تنفتح مغاليقها على قدر صدق النية وصفاء السـريرة، مسلك تحققها لزوم الباب للخلوص إلى اللباب، والتجرد من الصوارف للانخراط في مسلك الصيارف، وقد استدل لهذه المقالة بشاهد من لغة القرآن؛ فقد كانت العرب لا تعرف من دلالة الفسق إلا الانبثاق عن الأصل، والتفرع عن الأس،  كتفتق الثمار عن أكمامها، وخروج الزروع عن أصولها، ، و ما عهدوا استعماله في الإنسان حتى جاء به القرآن، ثم أجري بعد ذلك على كل ما خرج عن أصله، ومناسبة ذلك جلية لمن تأمل الخطاب.

         ثم جاءت كلمة أ.د توفيق العبقري المشـرف على البحث العلمي بمركز الإمام أبي عمرو الداني خاتمة الكلمات الافتتاحية، مكتنزة  للفرض والنفل، مستوية على وفاء القصد والفصل، آخذة من حجز الفصاحة تمامها، ومحتبية في ذروة  البلاغة غايتها،  ماتحة من سبك الكتاب، وموعبة لفصل الخطاب، استهلها بالاستدلال على أهمية موضوع الندوة المستمد شرفه من شرف الكتاب، فرشفة من بحر علومه تطفأ الظما، و نسمة من طل من يمِّه تكشف العمى، وكان للكلمة صولات وجولات، احتجنت جملة قضايا هي قبيل المقدمات الممهدات، والعلامات الهاديات.. نروم توجيزها بمقاربة نصها، واحتذاء رسمها، فمن منثور كنانته أن ذخائر الكتاب المضمنة في معناه، و كنائن نفائسه المودعة في مبناه لا تسلم أزمتها ولا تنكشف مغاليقها إلا بتأمل صاف يرفع الأستار عن غوامض الأسرار، يرشِّد متدبره  لقنُ أوضاعه العربية في مجموع تصاريف سبكه ورصفه، واستصحاب واع  لمسالك خطابه، وغير خاف على المطلع أن وقع نظامه كان بالمحل الأسمى في أنفس صيارفة القول؛ تبوأ به مباءة الاعتراف المشفوع بالإعجاب، والإذعان المقترن بالإبهار، إذ ورت فصاحته أسنة ألسن القوم، فأغمدوا سيوفهم،  وكسروا نبالهم.. وقد هُدي المتحفون به  إلى سر إعجازه فجردوه من الموجه واكتفوا  بسواده؛ لمَّا رأوا في هذا المرتضى مزيد فسحة وبيان، وتمام توفية في تأدية المعان، وترادفت المصنفات والدواوين على مر الحقب ومتتال الأزمنة على خدمة الكتاب، يلتئم شملها -على اختلاف مشاربها، وتنوع أحياز أنظارها- على وجهة واحدة و قبلة ثابتة ناهجة؛ يتغيى مجموعها الإبانة عن مراد الكتاب، فانتظمت جهودهم في مصنفات واعبة، و كراريس واعية؛ غريبا ومشكلا و تفسيرا وإعرابا وتوجيها..

       وأغرت الكلمة الدارسين بالانكباب النهم على الابتحاث في هذا الحقل المهمه؛ فهو وإن تجاذبته أقلام وأفكار، وتعاورته محاريث الاستثار، فلا زال ميدانا فساحا للتنادي الجاد، والتعاضد القاصد، والتدبر الناهج ..

         معربا أن هذه الندوة يرتجى لها أن يفسح لها فتجد موضعا بين حلقات سلسلة هذه المنظومة المنيفة، تزاحم الدلاء الرابية، و تسامت القامات الشامخة، غوصا بالفكر لاستخراج الدرر، وجمعا وتقميشا لما تفرق وانتثر، يحدو الكل في ذلك حادي الأشواق لإناخة الرحال ببلاد الأفراح، يستحث هممهم ويستنهض عزائمهم موعود الوُرَّاث، يؤطر  محاور المفاتشة فيها باحات مزهرة استوت على أصول يانعة تمثلت في:

1- دراسة مصطلحية تتوخى تحديد المفهوم  وتبريز المضمون رصدا لحيز الاشتغال المنشود.

2- رصد مهيع التدبر الأنجع، للاستفادة الأمثل.

3- تتبع مسيرة التأليف في هذا المضمار ودراسة المؤلف فيه دراسة تاريخية، مع استبانة مسارها منشئا ومنهجا وأسلوبا ومطلبا  في تنوع أنظار وتباين مناهج ..

4 تباحث الموروث مما كتب في علوم المعاني وقراءته قراءة نقدية فاحصة .

محاور هي من صلب  تهممات الرابطة المحمدية للعلماء التي يرأس أمانتها العامة أ.د أحمد عبادي سلمه الله،  فحصل بذلك تقاطع بين المسارات أثمر عنه عقد هذه الشراكة العلمية ممثلة في فننيها؛ مركز أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة بمراكش، ومركز الدراسات القرآنية بالرباط، يمثل الطرف الآخر مختبر مناهج الدراسات الإسلامية وعلوم الاجتهاد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بكلية ابن زهر بأكادير،

 وفي ختم الكلمة انسابت عبارات الشكران مدبجة رصينة، تكيل وافر الامتنان على حفاوة الاستقبال، امتاح منها عبق الضوع كل من أسعف الندوة بمسعف ينقاد  به قوامها، لاهجة بصدق اللجإ إلى المولى أن يبارك الجهود، ويبلغ من المنى القصود.

         بعد الكلمة الافتتاحية انعقدت بعدها  مباشرة فصول الجلسة العلمية الأولى وقد تمحورت أبحاثها في سبع مداخلات وافية ، ترأس مراسيم انعقادها د.الطيب شطاب، فجاءت أولى المداخلات موطئة للأكناف، مرتادة للميدان، مجلية لطبيعة الاشتغال، أعدها  د. أحمد فاضل، أسماها: علم معاني القرآن المفهوم والنشأة والخصائص، باعتباره أول علم واكب تنزل القرآن الكريم، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم  يوقف الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على مداليل الآي، بما أنيط به من مهمة البيان، تلتها مداخلة د.حسن حميتو ؛ مجاز القرآن لأبي عبيدة مكانته ضمن كتب المعاني والمطاعن فيه، أثار فيها بعض الانتقادات التي رمي بها كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى( 210هـ) مجاز القرآن،  ومنشأ تلك التهم، وتحرير القول فيها، وما أجيب به عنها، وقد كان لكتاب الفراء أبي زكرياء (207هـ)  معاني القرآن أوفر اعتناء من لدن البحثة، حيث نسجت حوله ثلاث مداخلات، اثنتان منها في الجلسة الأولى، والثالثة في الجلسة الأخيرة، أما الأولى فكانت لـ :د يوسف الشهب بعنوان: معاني القرآن لأبي زكرياء يحيى الفراء تثوير مادته وتأثير رادته، باعتباره من تليد التراث في الباب، وكل من تكلم في المعاني إلا  وهو كَلٌّ عليه، وقصة تأليفه دالة على ما للرجل من مقدرة، وما استجمع له من عدة، وكان التنادي موائما للتعريف بكتاب معاني القرآن لقطرب، - الكتاب الضائع دهرا المطبوع حديثا- حيث أسهم د. محمد صالح المتنوسي  بإغناء محاور الجلسة بمداخلة عن الكتاب و مقاربة منهج مؤلفه، عنونها بـ:معاني القرآن وتفسير مشكل إعرابه لأبي علي محمد بن المستنير قطرب 206(هـ) تعريف وتوصيف،  وكان للمجال التطبيقي حضور في فعاليات الندوة حيث تتبع د.إحيا الطالبي بعض مظاهر الاعتناء بعلم المعاني عند الطاهر بن عاشور، من خلال نماذج لغوية مستقاة من معلمته التفسيرية؛ التحرير والتنويرأسماها: حمل اللفظ على معانيه في القرآن عند الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره، أما المداخلة الثانية التي احتفت بكتاب أبي زكرياء الفراء، فمداخلة د.عبد الله أنيل  أسماها: معاني القرآن والأوجه القرائية:قراءة في كتاب معاني القرآن للفراء، وفي الشق النظري كان المحفل على ميعاد مع  مشاركة د.مولاي مصطفى بوهلال عنونها: شواذ الأبنية المستقاة من تصانيف ابن أبي الربيع السبتي 688هـ، وكفالتها في تثوير الدلالة القرآنية تمثيل في الملتقى القرآني.

         ثم رفعت الجلسة الافتتاحية والجلسة العلمية الأولى  ليلتئم المنتدى على محفل شاي، استتمت بعده مراسيم الملتقى في جلسة ثانية، انتظمت أنشطتها في تسع مداخلات، أدار تسيرها أ.د. عبد الله البخاري، استهلت أولاها بالاستدلال على دور الشاهد الشعري وأثره في إثراء المعنى القرآني: أنظار في تراث معاني القرآن، لـ: د.إبراهيم أيت اغوري، انتقى فيها الباحث نماذج من مصادر معاني القرآن، كان للشاهد الشعري ملحظه في تبيان وتقريب  فحوى المستغلق من لفظ الكتاب، أما المداخلة الثالثة التي احتفت بالتحفة الفرائية، وطأ مهادها د. عبد الله أكيك في مداخلة عنونت بـ:التوجيه اللغوي لمشكل القرآن في كتب المعاني، معاني القرآن نموذجا  برزت بشواهده الجانب اللغوي الذي يعد أوفى مادة الكتاب، وفي استدلال رائق، وتتبع لائق،  تتبعت مداخلة د. عبد الهادي السلي  حضور كتاب المعاني لمعمر بن المثنى (210هـ) في صحيح البخاري، وذلك في مساق الاستشهاد لمختلف القضايا البلاغية والنحوية والصـرفية والتوجيهية.. مما يوقف الناظر بدليله على تداخل العلوم وتكامل المعارف، وكان مقررا أن تليها مداخلة د.محمد نافع تحت عنوان: "الصنعة اللغوية وأثرها في بناء الأحكام التشريعية: معاني القرءان للفراء نموذجا" إلا أن فضيلته عرض له عارض مرض منعه الحضور، شفاه الله وعافاه، وعلى نحو ما سبق سارت مداخلة النحو والدلالة في تراث معاني القرآن،  أصول ونماذج لـ:د. عادل فائز، وكذا مداخلة د. يوسف فاوزي: أثر علم معاني القرآن في الأحكام الشـرعية، وفي إطار تأميم الاستفادة من كتب معاني القرآن وفق مستجد الوقائع ومواكبة طفرة المعلومة، ومن باب استنهاض الهمم لتثوير الموروث لهذه الغاية، أذكت مداخلة تحرير القرآن من مرجوح معاني القرآن، لـ: د محمد إقبال عروي، القرائح، واستثارت الفهوم في طرح عقلاني، يدعو لإعادة النظر فيما تجمع بين يدي الأمة من تراث في الباب، مع روم الاستفادة منه بمنهج راشد، يتشوف لتحرير العقل وانفتاحه على علوم العصر،  وتحريره من القيود المانعة بما لا يعود بالنقض على أصول الملة، تعضدها في نفس التصور والمنحى  مداخلة د.عمر بوكط المعنونة بـ: علم معاني القرآن وآليات الفهم المنضبط للنص الشـرعي، أنظار في قضايا معاصرة، وفي دراسة استكشافية لما عند المستشرقين من تصور لهذا العلم الأثيل، مع تبريز جهودهم في تقريب مداليله، و بيان حيادهم أو تحاملهم في ترجمة نصوصه، ومدى الموضوعية في تناول قضاياه، ختمت المداخلات بمداخلة عنونها محبرها د.حسن شجيد بـ: علم معاني القرآن بعيون المستشرقين، وبها أسدل الستار عن مشاركات الندوة، لتذيل مراسيم الملتقى  بفتح باب المناقشة، وإشراك الحضور في إغناء اللقاء.

 ثم ختم  المجلس بتلاوة آيات بينات بصوت الأستاذ القارئ سمير بلعشية  باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني لترفع الجلسة بالدعاء الصالح لراعي العلم والعلماء، أبي الحسن ابن الحسن محمد السادس؛ أبقاه الله مرفلا في موفور المعافاة، معانا على ما استرعي من جسيم الأمانات، مستتب النصر والتمكين. محاطا بسترك الجميل.

والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق