مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية

تقرير عن “ندوة تاريخ الطب في سلا”

 

    عبد العزيز النقر

مركز ابن البنا المراكشي 

   شهدت رحاب المدرسة المرينية بمدينة سلا فعاليات الندوة العلمية التي نظمتها "مؤسسة سلا للثقافة والفنون" حول تاريخ الطب بمدينة سلا، وذلك يوم 31 أكتوبر من سنة 2024. توزعت فعاليات هذه الندوة على أربع محاضرات شملت جوانب متعددة من تاريخ الممارسة الطبية بمدينة سلا المغربية، منها جوانب تتصل بالبعد المؤسساتي، وجوانب أخرى ترتبط ببعض الأبعاد الاجتماعية، إذ لا يخفى أن الممارسة الطبية لم تكن منفصلة، بأي شكل من الأشكال، عن هذين المستويين تأثيرا وتأثرا ...  فضلا عن ذلك، لم تقتصر المداخلات على هذه الجوانب المؤسساتية والاجتماعية، بل إن بعضها انفتح أيضا على بعض المميزات العلمية والخصائص الإبستيمولوجية التي ميزت أعمال بعض أعلام مدينة سلا في المجال الطبي. أما فيما يخص تسيير الندوة، فقد تفضل بذلك رئيس مؤسسة سلا للثقافة والفنون الأستاذ محمد لطفي المريني.

   تفضل الأستاذ د. زيدن العابدين الحسيني (أستاذ التاريخ العسكري وخبيرُ مخطوطات) بإلقاء المحاضرة الأولى بعنوان : "تاريخ الطب في عهد بني مرين". قسم الأستاذ المحاضر هذه المداخلة إلى ثلاثة محاور أساسية : أ- عناية المرينيين بعلم الطب : أكد الباحث بخصوص هذا النقطة على أن عهد بني مرين قد شكل مرحلة مهمة من مراحل ازدهار العلوم في تاريخ المغرب. وقد حظي الطب، في إطار هذا الازدهار، باهتمام خاص من طرف السلاطين المرينيين حيث عملوا على تشجيع الاشتغال بهذا المجال، سواء من خلال الحث على تأليف الأعمال الطبية أو من خلال إنشاء بعض المؤسسات الطبية، كالبيمارستانات أو المدارس حيث كان يتم تدريس مادة الطب من بين مواد أخرى. وفي هذا السياق، تبرز جامعة القرويين كأحد أهم مراكز العلم والتدريس. قدم المحاضر بعض الشواهد التاريخية والنصية المهمة التي توضح مدى اهتمام دولة بني مرين بالطب علما وتدريسا (مؤسساتيا)، حيث تم إنشاء بيمارستانات بعدة مدن كمدينة فاس ومراكش وآسفي ومكناس ومدينة سلا التي ضمت بيمارستان أبي عنان (نسبة إلى السلطان أبو عنان المريني تـ. 1358) وبيمارستان ابن عاشر.

   ب- أهم أطباء العهد المريني : وقف الأستاذ الحسيني، بخصوص هذه النقطة، عند بعض الأعلام المهمين الذين اشتغلوا بالمجال الطبي كأبي عبد الله الشريشي والأزدي والمعافري والمراكشي والملياني والصنهاجي ... لكنه وقف بشكل خاص عند الطبيبة عائشة بنت الشيخ أبي عبد الله بن الجيار المحتسب بمدينة سبتة، والتي عاشت إبان فترة المرينيين. يعكس هذا الأمر مسألة مهمة تتعلق بالمكانة القيّمة التي حازتها المرأة في مجال الطب خلال تلك الفترة. وتشير بعض كتب التراجم إلى أن الطبيبة عائشة كانت "عارفة بالطب والعقاقير"، كما كان الأطباء "يُجيزونها" في مجال الطب". وتجدر الإشارة إلى أن "الإجازة" كانت تمثل تعبيرا صريحا عن المكانة الرفيعة التي يحوزها الحاصل عليها، سواء كان ذلك في المجال الطبي أو في باقي المجالات الأخرى.

   ج – المخطوطات الطبية في هذه الفترة (عهد بني مرين) : أشار المحاضر إلى وجود مخطوطات عديدة تتضمن وصفات طبية، وأشار - على سبيل المثال - إلى أرجوزة لسان الدين ابن الخطيب في الطب، حيث خصص (ابن الخطيب) فصلا للحديث "عما في الرأس من أوجاع : أولاها الكلام في الصداع"، كما تحدث فيها كذلك عن التشنج وأمراض العيون وعلاج أمراض الأذن، هذا فضلا عن تطرقه إلى "العشق" و"الصرع" باعتبارهما مرضيين نفسيين ... كما تحدث المحاضر أيضا عن أرجوزة كُتبت إبّان العهد المريني تحمل عنوان : "أرجوزة في الفواكه الصيفية". ويعرض فيها مؤلفها بعض الوصفات الطبية والعلاجية القائمة على استعمال الفواكه ...

   ختم الأستاذ المحاضر مداخلته بالتأكيد على أهمية الفترة المرينية في المجال الطبي، ولا شك في أن ما وصلنا من أعمال علمية أو مآثر عمرانية لتشهد على ما كان يحوزه العلم عموما، والطب بشكل خاص، من مكانة لديهم.

   تفضل الأستاذ د. البشير بنجلون (أستاذ بكلية الطب والصيدلة وطب الأسنان بفاس) بإلقاء المحاضرة الثانية بعنوان "من تاريخ البيمارستانات في الحضارة الإسلامية". تطرق المحاضر إلى بعض المحطات الأساسية من تاريخ البيمارستانات في الإسلام بصفة عامة، معرّجا، في الآن نفسه، على بعض خصائص هذه المؤسسة الطبية ببلاد المغرب. بعد حديثه عن بعض الجوانب اللغوية المتعلقة بمفردة البيمارستان، انتقل الأستاذ بنجلون للحديث عن البدايات الأولى المحتملة للبيمارستان داخل الحضارة الإسلامية مؤكدا على وجود اختلاف بين الباحثين حول مسألة البداية هذه. لكن، يبقى من الراجح، حسب المحاضر، أن أول بيمارستان حقيقي قد بُني أيام الخليفة العباسي هارون الرشيد. ويظهر أن ظهور هذه المؤسسات كان راجعا إلى عدة أسباب، لعل أهمها هو وجود بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية تميزت باستقرار كبير.

   تحدث الأستاذ بنجلون عما كانت تتميز به هذه المؤسسة من حيث تنظيم العمل بها، إذ تم تقسيمها إلى أقسام خاصة وأخرى عامة يستفيد منها جميع أفراد المجتمع، صغارا وكبارا، نساء ورجالا. إضافة إلى هذا، لم تكن هذه المؤسسات عموما، حسب المحاضر، مخصصة للعلاج فقط، بل كانت لها أيضا وظائف تعليمية، ويمكن التمثيل على ذلك بحث الطبيب الشهير أبو بكر الرازي على أهمية الطب السريري، حيث يقتضي الأمر الجلوس قرب المريض قصد التعرف الجيد على حالته ومراقبتها حتى يتسنى للطبيب تقديم العلاج المناسب. من ناحية أخرى، يعكس هذا الإجراء نوعا من الاستزادة والطلب للمعرفة والتعلم، خصوصا وأن الطبيب المراقب يكون مرفقا، في هذه الحالة، بطلبة يتعلمون الطب من الناحية النظرية والتطبيقية في نفس الآن.

   وجدير بالذكر أن هذه المؤسسة الطبية لم تكن معزولة عن باقي مفاصل المجتمع أو عن باقي مؤسسات الدولة، إذ كانت هذه المستشفيات - مثلا - تقدم العلاج والخدمات للجيوش العسكرية الإسلامية. أما من حيث التنظيم الداخلي للبيمارستانات، فقد أشار الأستاذ بنجلون إلى أن قاعاتها كانت تقسم، في الغالب، إلى قسمين : قسم للإناث، وآخر للذكور. كما كان يتم تدفئة هذه القاعات شتاء وتبريدها صيفا حرصا على راحة وصحة المرضى الذي ينزلون بالبيمارستان. كما كان يحرص القيمون عليها أن يظل ماؤها جاريا غير راكض ولا آسن، وذلك لعلمهم بما يمكن أن يسببه هذا الماء - غير الجاري - من أمراض أو يسهم في نقلها. وبخصوص هذه النقطة، استشهد المحاضر بفرادة التصميم الهندسي الذي وضع به نظام توزيع المياه بمدينة فاس المغربية، حيث إنه في الحالات التي كانت تندر فيها المياه أو في حالات الجفاف، فإن المستشفى والمسجد كانا آخر مكانين ينقطع عنهما الماء.

   وقف الأستاذ المحاضر أيضا على عدة مظاهر تُبرز تَميُّز وتفرد البيمارستانات في الإسلام، سواء من حيث الأماكن التي بنيت بها - حيث بنيت إما قرب مصادر المياه أو قرب المدارس والمساجد - أو من حيث المرافق التي ضمتها - كالمكتبات أو ديوان البيمارستان ومسجده - أو من جهة طرق تنظيمها وتسييرها الداخليين. هذا الأخير الذي كان يعتمد - باعتباره نظاما إداريا - على نظام الحسبة بحيث كانت الأمور موكولة لمن سمي آنذاك بناظر البيمارستان.

   بناء عليه، يمكن القول، حسب الأستاذ بنجلون، أن البيمارستان مثّل مؤسسة ذات نظام متكامل، إذ لم تضم الأطباء فحسب، بل كانت تضم أطرا أخرى، منها على سبيل المثال : الجراحون، الكحالون، الطبائعيون، الحجامون، صانعو الأدوية، طباخ البيمارستان، خازن الطعام، الحارس، والمغسل ...

   أما بخصوص البيمارستانات التي شهدها المغرب خلال تعاقب مراحله التاريخية، فقد أشار من بينها الأستاذ بنجلون إلى "بيمارستان سيدي بن عاشر" و"بيمارستان أبي عنان المريني" اللذان كانا بمدينة سلا، وأشار كذلك إلى بيمارستان مراكش. وقد تطرق، فيما يتعلق بهذه البيمارستانات، إلى بعض الخصائص العامة التي ميزتها باعتبارها مؤسسات طبية.

   جاءت المحاضرة الموالية، أي المحاضرة الثالثة، تحت عنوان : "صفحات من تاريخ الطب في سلا"، وقد تفضل بإلقائها الأستاذ د. فؤاد العبودي (طبيب بمستشفى الرازي بسلا وأستاذ بكلية الطب والصيدلة بالرباط). ركز المحاضر على رصد أهم المراحل التي مرت بها المؤسسة الطبية بمدينة سلا انطلاقا من "دار النقاهة" في المرحلة الكولونيالية وصولا إلى مستشفى الرازي في الفترة الحالية. بداية، أشار الأستاذ العبودي إلى أن المجال الطبي قد حظي من طرف الاستعمار الفرنسي باهتمام نوعا ما، ويرجع ذلك إلى أن الفرنسيين كانوا في حاجة إلى مداواة الجنود المرضى بالمغرب بدل نقلهم إلى فرنسا للعلاج بحكم بعد المسافة من جهة، ولارتفاع التكلفة من جهة أخرى. وكان من نتائج هذه المسألة إنشاء ما سمي آنذاك بـ"دار النقاهة" في مدينة سلا، والتي كانت تسمى أيضا في بعض الكتابات بـ"منزل الجند" ...

   أما عن التقسيم الداخلي لهذه المؤسسة، فقد أكد المحاضر أنها كانت تتكون من ثلاثة مراكز (أو دُور) : مركز النقاهة، مركز إيواء اللفيف الأجنبي، والمقصف الصغير. سيتم فيما بعد، حسب المحاضر، هدم هذه المؤسسة ليحل محلها مستشفى الرازي الخاص بالأمراض النفسية. وبخصوص المراحل الأولى من تاريخ دار النقاهة، فقد أشار الأستاذ العبودي إلى أنه تم تأسيسها سنة 1913 بهدف إيواء جنود الجيش الفرنسي الذين يعانون من ظروف صحية صعبة، سواء من الناحية البدنية أو النفسية.

   وقف الأستاذ المحاضر بشكل مفصل عند الخصائص المعمارية والتكوين الداخلي (من حيث العمارة) لدار النقاهة، مشيرا إلى أن بناءها المعماري قد شهد تطورا مع مرور الزمن. كما تطرق كذلك إلى بعض المرافق التكميلية التي احتوتها الدار، كالمزرعة التي كان يشتغل بها الجنود المتعافون، أو المكان المخصص للألعاب قصد الترفيه عن المقيمين بها، أو قاعة القراءة التي احتوت كتبا كانت تُمنح لهذه الدار في شكل هبات.

   بعد الاستقلال، ستشهد الصحة النفسية تحديثا بصدور ظهير سنة 1959، وهو ما تلاه بناء مستشفى للأمراض النفسية بسلا. سيُعرف هذا المستشفى، كما قال الأستاذ العبودي، بتسميات مختلفة خلال السنوات الموالية، أهمها : "المستشفى الجامعي للطب النفسي بسلا" و"مستشفى الرازي بسلا". والنقطة الجديرة بالذكر هنا، هو أنه "تم البدء في العمل بهذا المستشفى على أنقاض دار النقاهة". كما عرّج المحاضر أيضا على ذكر بعض الوحدات الطبية والمشرفين عليها داخل هذا المستشفى إلى حدود العقد الأخير.

   ألقى الأستاذ د. جمال بامي، رئيس مركز ابن البنا المراكشي، المحاضرة الرابعة التي كان عنوانها : "جوانب من تاريخ المعرفة الطبية بحاضرة سلا". أشار المحاضر إلى أن واقع الطب بمدينة سلا كان يعكس - عموما - واقع المعرفة والممارسة الطبيتين بالمغرب خلال العهد المريني. مشيرا، في الآن نفسه، إلى أن هذا الحكم لا ينفي، بطبيعة الحال، طابع التميز الذي وسم المدرسة الطبية بمدينة سلا.

   من اللافت للنظر، كما أكد المحاضر، أن العصر المريني لم يشهد اهتماما بالمعرفة الطبية داخل الحواضر المغربية الكبرى فحسب، بل إنه عرف أيضا ازدهارا لما يمكن تسميته بـ"طب البادية"، والمقصود هنا هو تلك الكيفيات والطرائق التي كان ينهجها أهل البادية لمعالجة أنفسهم في حالة مرضهم. ولا يخفى أن هذه المناطق كانت في الغالب الأعم خلوا من المستشفيات والأطباء مما استلزم من أهلها اكتساب بعض المعارف الطبية التي تعينهم على الحفاظ على صحتهم وتسعفهم في التداوي حالة مرضهم.

   في معرض حديثه عن المدرسة الطبية بسلا، استشهد الأستاذ بامي بلسان الدين بن الخطيب الذي أكد على أن أهل سلا "كانت لهم مشاركة في سائر العلوم" إبان تلك الفترة. لا تنبع أهمية شهادة ابن الخطيب من أنه كان عالما مؤرخا فقط، بل أيضا من أنه كان طبيبا جيدا. أشار الأستاذ بامي إلى أهمية ومكانة بعض الأطباء الذين عاشوا بمدينة سلا، منهم - مثلا - طبيب اسمه ابن غياث السلوي، والذي يثني عليه كثيرا لسان الدين بن الخطيب، والطبيب أبو الفضـل محمد بن قاسم العجلاني السلاوي.

   سيخصص المحاضر لهذا العلَم، أي الطبيب العجلاني، الحيز الأكبر من مداخلته، حيث قدم تحليلا مفصلا لبعض أجزاء أرجوزته المسماة بـ"أعمار العقاقير". ورغم قصر هذه الأرجوزة، حيث لا تتعدى الصفحتين، إلا أنها تكتسي أهمية علمية كبيرة في نظر الباحث، وذلك نظرا لأنها تعرض لنا أهم المواد الطبيعية والعلاجية التي كان يتداولها أهل سلا – من الأطباء وعموم الناس - إبّان تلك الفترة، أي خلال القرن الثامن الهجري.

   بناء عليه، فقد قدم الأستاذ بامي تحليلا مفصلا لبعض الأفكار العلمية الواردة في هذه الأرجوزة، خصوصا تلك المتعلقة بعلم النبات وخصائصه العلاجية، معضدا شروحه وتفسيراته بأمثلة وشواهد من تاريخ الطب القديم والحديث. من جهة أخرى، أكد المحاضر، استنادا إلى تحليله للأرجوزة، على حضور بعض الجوانب التجريبية في الممارسة الطبية داخل المدرسة السلوية. إضافة إلى ذلك، فقد أشار الأستاذ بامي إلى بعض المصادر التي استقى منها العجلاني أفكاره الطبية الواردة في الأرجوزة. ومن بين هذه المصادر، نجد أعمال كل من جالينوس والمجوسي والرازي. والملاحظ بخصوص هذه المصادر، هو أن رجوع العجلاني إليها لم يكن عن طريق "الواسطة"، أي اعتمادا على ما ورد منها لدى أطباء آخرين، بل إنه كان رجوعا مباشرا كما يؤكد المحاضر. ولا يخفى ما لهذا الأمر من أهمية بالغة من الناحية العلمية والتاريخية.

   خلُص الأستاذ بامي، في ختام مداخلته، إلى أن هذه الأرجوزة تكتسي أهمية كبيرة نظرا لأنها بمثابة وثيقة توضح لنا بعضا من أوجه المعرفة الطبية بمدرسة سلا، ناهيك عما تقدمه لنا من معارف علمية بخصوص بعض العقاقير والأدوية الطبيعية المنتشرة إبان تلك الحقبة التي عاش خلالها الطبيب السلاوي محمد بن قاسم العجلاني.

  

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق