تقرير عن محاضرة: فقه النفس عند الصحابة الكرام
بسم الله الرحمن الرحيم
تقرير عن محاضرة:
فقه النفس عند الصحابة الكرام
لفائدة الطلبة والباحثين، والمهتمين.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الخلق، خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الغر الميامين، وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي إطار الرسالة التربوية والعلمية المنوطة بالمراكز البحثية التابعة للرابطة المحمدية للعلماء، ومساهمة في إثراء الساحة العلمية بسلسلة من المحاضرات المفيدة، نظَّم مركز عقبة بن نافع الفهري للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعين، محاضرة مباشرة عبر تطبيق: (ميت غوغل- meet google)، بعنوان:
فقه النفس عند الصحابة الكرام
وذلك يوم الثلاثاء 6 شوال 1442هـ الموافق لــ 18 ماي 2021م ألقاها فضيلة الدكتور السيد قطب الريسوني، أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة الشارقة، ورئيس اللجنة الشرعية للرقابة على الأوقاف بإمارة الشارقة، وأدار اللقاء فضيلة الأستاذ الدكتور بدر العمراني رئيس المركز.
وقد شهد هذا اللقاء العلمي الهادف عدد من المهتمين بتراث الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم أجمعين، ونخبة من طلبة سلك الماستر والدكتوراه بالكليات المغربية.
استهل مسيِّر الجلسة هذا اللقاء العلمي المبارك بكلمة ترحيبية في حق الأستاذ المحاضر، وشكره على تلبية دعوة المشاركة، كما رحَّب بالطلبة المهتمين، وبالحضور الكرام.
وبعد ذلك أعطى الكلمة للدكتور قطب الريسوني لإلقاء محاضرته، فابتدأها بالتعبير عن سعادته وسروره وحبوره بحلوله ضيفا على مائدة من موائد العلم والبحث بمركز عقبة بن نافع الفهري للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعين، وذلك بعد دعوة كريمة من المركز، للمحاضرة في فقه الصحابة، وقال: إن خدمة الصحابة من خدمة السنة الشريفة، والوفاء لهم وفاءٌ لعهد الدين، وشدٌّ على حبله المتين.
وعنوان الموضوع الذي اصطفاه المحاضر لهذه المحاضرة هو: (فقه النفس عند الصحابة الكرام)، واصطفاؤه جاء لدواع ذاتية، وموضوعية، ذكر منها: أنه كان له شغف مبكِّرٌ لاجتهادات الصحابة وأصولهم الاجتهادية، وله شغفٌ مثله بضبط المصطلحات الأصولية والمقاصدية التي لم تحظ بالدَّرْس والتحليل.
وقال: إن فقه النَّفْس مصطلح ثقيل، أو مركزي في المنظومة الاجتهادية والأصولية.
وقد انتظمت محاضرته في محاور ثلاثة:
- المحور الأول: وقفة مع مصطلح فقه النفس.
- المحور الثاني: روافد فقه النفس عند الصحابة.
- المحور الثالث: متجليات فقه النفس عند الصحابة.
ففي المحور الأول، تحدَّث الأستاذ المحاضر عن مصطلح فقه النفس، وقال: إن فقه النفس مِلاك الاجتهاد والفتوى، وأنه رأس مال الفقهاء، ولا يبلغ الواحد منهم هذه المرتبة السَّنِيَّة إلا عن مَلَكَة راسخة تُسْعِفُه عن الجمع والتفريق والتصحيح، والتَّزييف، والتَّتبُّع للمقاصد، والتَّدرُّب في مآخذ الظُّنون.
وقال: إن فقه النفس مصطلحٌ دار في مباحث الاجتهاد والفتوى دوراناً ملحُوظاً، واعتنى به الأصوليون النُّظَّار؛ كالجويني، والغزالي، وابن القيِّم، حتى غَدَا شريطة لكمال آلة الدَّرْكِ، واسْتِحْصاد مَلَكة الفتوى، لكن أهل الأصول لم يُعْنَواْ بتركيب مصطلح جامع مانع على طريقة أهل الحدود، إلاَّ ما جاء من لُمَعٍ تعريفية مبثوثة في مباحث شرائط الاجتهاد والفتوى، وربَّما كان مَسَاقُ هذه اللُّمَعِ التَّفْخِيمُ من شأن هذه الصِّفَة الاجتهادية، لا بمعنى الماهية وضبط الحدِّ.
وقال: إنه يلوح له أن المصطلح كان جَلِيّاً في أذهان الأصوليين، دَائِراً على ألسنتهم بالقدر الذي يُغْنِيهِم عن الخوض في تعريفه، ووضعه في حَقْلِ نِصابه الاصطلاحي.
وذكر الأستاذ المحاضر مجموعة من التعريفات لفقه النفس، عند الجويني، والغزالي، وجلال الدين المحلي، وقام بمحاكمتها والموازنة بينها.
فالجويني يُعَرِّفُ المصطلح في كتابه: (الغياثي)، بقوله: "إن أهم المطالب في الفقه التَّدرُّب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام؛ وهو الذي يسمى: فقه النفس، وهو أنفس صفات علماء الشريعة"، وهذا التعريف لم يُحَقِّق ما يفي المعرَّف، وبما يهدف إلى ذلك ، وإنما المساق مساق تفخيم بهذه الصفة الاجتهادية، وأضاف الأستاذ المحاضر قوله: بأن الجُويني اختصر القول اختصاراً حسنا في الغمرات الاجتهادية التي تُحْوِجُ إلى فقه النفس؛ حيث عبَّر عنها بمآخذ الظنون في مجال الأحكام.
أما الغزالي، فَنَصَّ في كتابه: (المنخول)، على أن "فقه النفس لابد منه، وهو غريزة تتعلق بالاكتساب"؛ وعلَّق المحاضر على هذا الكلام بقوله: إن هذا التعريف ناقصٌ لا يُحيط إلا بجُزء من ماهية هذا المصطلح؛ وذلك أن فقه النفس سَجِيَّةٌ راسخة في النفس تُمَكِّنُ صاحبها من شدَّة الفهم لمقاصد الشارع، وتعليق الأحكام بمداركها، والتَّصرُّف في موارد الشرع لدروب من التقريب والمناسبة، ولذلك اعْتُدَّ به في شرائط الاجتهاد، وعُدَّ من أنفس صفات علماء الشريعة، ومن ثم تعيَّن على المُعَرِّف التَّقيد بالمجال الفقهي والاجتهادي، وإلا فالملَكات والاستعدادات الفطرية مطلوبة في الفنون جميعا.
وختم المحاضر هذه التعريفات حول فقه النفس، بما ذكره جلال الدين المَحَلِّي من أن فقيه النفس هو شديد الفهم بالطبعِ لمقاصد الكلام.
وعدَّ المحاضر هذا التعريف من أجود التعاريف؛ إذ جمع فيه صاحبه على وَجَازَةِ العبارة بين المَلْمَحِ الغريزي لفقه النفس، وأثره الملحوظ في الاجتهاد، وإن كان لهذا الفقه آثار أُخر غيرُ مقصورة على فهم المقاصد.
وَخَلُصَ إلى نتيجة، مفادها: أن التعريف الذي نصطفيه لفقه النفس هو: صفة جِبِلِّية في النفس تُكْسِبُ صاحبها قدرة على التَّصرُّف في موارد الاجتهاد على يسير من معاناة، ويمكن تقسيم هذا التعريف إلى ثلاث جمل مع بيان المقصود من مفردات كل جملة على حدة:
الجملة الأولى: صفة جِبِلِّية في النفس، وهي إشارة إلى المنشأ الغريزي لفقه النفس، بَيْدَ أن شريطة غريزية في الاجتهاد تُصْقَلُ بالدُّرْبة والمِران، والتَّعاطي المتكامل بأفعال المجتهدين كسائر المَلَكَات؛ شطرُها الأول استعداد فطري، وشطرها الثاني ارتياضٌ يَبْلُغ بصاحبه مبلغ الاستواء.
الجملة الثانية: تُكْسِبُ صاحبها قدرة على التصرف في موارد الاجتهاد؛ وهي تشير إلى الآثار الاجتهادية التي يُوَجِّهُهَا فقه النفس.
الجملة الثالثة على يسير من غير معاناة؛ وهي تشير إلى أن رسوخ فقه النفس وَأَيْلُولَتَهُ إلى فعل جِبِلِّي يُوَطِّىءُ للمجتهد سُبُلَ التَّصرُّف في النصوص استنباطا وتعليلا وتنزيلا بحسب مورد النظر والاجتهاد.
فالأولى والثانية مَبْعَثُها الفطرة والسَّجِيَّةُ والفَتْحُ الرَّبَّاني، والثالثة مرجعها إلى التَّعَهُّد والتَّدَرُّب والارتياض بمجال كلام الفقهاء ومسالك الظنون الاجتهادية.
وقد عبَّر علماء الأصول عن فقه النفس بمرادفات أو مصطلحات محاذية في مفهومه المركزي في المنظومة الاجتهادية، وَمِنْ تِلْكُمُ المرادفات: فقه البَدَن؛ كما ذكر ذلك ابن أبي حاتم في آداب الشافعي، وكذا شيخ المحقِّقين عبد السلام هارون، وَجَزَمَ الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري الطنجي في جواب له عن الفرق بين المصطلحين؛ فقال: إن كلمة فقيه البَدَن يقولها المُحَدِّثُون، ويقول الأصوليون: فقيه النفس، ومعناها أن الشخص تمكن في الفقه حتى اختلط بلحمه ودمه، وصار سَجِيَّة فيه.
ومن مرادفاته: فقه الطَّبْعِ، وقد استعمله الجُوَيْنِي في سياق بيان صفات الناقد لمذاهب الأئمة.
ومن المصطلحات المحاذية لمفهوم فقه النفس: الملَكة الفقهية، والحق أن فقه النَّفْس، والملكة الفقهية شيءٌ واحد، كما يؤخذ من تعاريف الأصوليين.
وتحدَّث الأستاذ المحاضر في المحور الثاني بتفصيل عن مجموعة من روافد فقه النفس عند الصحابة الكرام؛ كرافد الاستعداد الروحي بالتّزكية والتّطهّر، ورافد الاستعداد الفطري، ورافد الملَكة اللغوية على تفاوت بين الصحابة فيها، ورافد نزول الوحي تنزُّلا وتنزيلا عبر المعايشة، ورافد الخبرة بالواقع.
وفي المحور الثالث ذكر المحاضر خمسة مُتجلَّيات من مظاهر الفقاهة المطبوعة عند الصحابة الكرام، وهي:
المتجلّى الأول: التمييز بين مراتب الأعمال، والمتجلّى الثاني: استشراف المآلات قبل الجواب عن السّؤالات، والثالث: الاستثناء من العمومات القياسية، والرابع: الإيقاف الاستثنائي لتطبيق النصوص، والخامس: تقصيد الأحكام.
وكل واحد منها مشفوع بشواهد وأمثلة منتقاة توضّح ما للصّحابة من تحقّق بالفقه.
وَخَلُصَ المحاضر إلى أن متجليات فقه النفس عند الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم، متكاثرة جدا، ولا يقوم لها مستقصيا، أو مستوفيا ومحللا للمناطات والأبعاد المقاصدية والمآلية إلا باحثٌ في رسالة جامعية مستقلة برأسها.
ثمّ ختم الأستاذ المحاضر فضيلة الدكتور السيد قطب الريسوني محاضرته بالشكر لرئيس المركز، وللباحثين العاملين فيه على تنظيم هذه المحاضرة، كما شكر باقي الطلبة والحضور الكرام على حُسن اهتمامهم وتتبعهم.
وفي ختام اللّقاء العلمي المبارك، ذكَّر رئيس المركز الحضور بأهمّ ما ورد من قضايا علمية مفيدة في محاضرة الأستاذ قطب الريسوني، كما قدَّم شكره الخالص له، ولتلبيته الدعوة ومساهمته القيِّمة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.