مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام

تقرير عن محاضرة الإمام طارق أوبرو

مونية الطراز

 

 

 

في رحاب المكتبة الوطنية نظم قطب العلوم السياسية بالجامعة الدولية بالرباط يوم الخميس 2 يونيو لقاء تواصليا مع المفكر المغربي الفرنسي الإمام طارق أوبرو، وهو شخصية مثيرة للجدل أصبحت تثير بطرحها الجريء وسائل الإعلام في أوربا، وقد اختار المنظمون للحديث في هذا اللقاء الذي كان فرانكفوني الطبيعة والحضور، فرنسي اللسان محور: “التفكير في الإسلام في مواجهة تحديات الزمن الحاضر« PENSER L’islam face aux défis du temps présent »  وكان التسيير للأستاذ فريد العسري من الجامعة الدولية بالمغرب، فقدّم بكلمة موجزة أحسن مدخل للجلسة، بطرحه جملة من الإشكالات والتساؤلات ذات الصلة بمجال اشتغال الضيف المحاضر.

من جهته اختار الإمام أوبرو التوجّه مباشرة لصلب الموضوع، حيث أشار وبدون مقدمات إلى أن الإسلام حي في طبيعته، وقد انتقل منذ بداية نزوله من الإطار الروحي إلى الإطار الحضاري بفضل تفاعله مع التاريخ، وكان ذلك على مدى 23 سنة هي مدة التنزيل، وهي مدة تكفي -كما قال- لأن يصبح الخطاب على نحو مغاير غير الذي كان عليه أول الأمر.

ولم يتردد أوبرو في القول: إن الكلام أي كلام متغيّر بطبعه، وهو يفقد جزءا من معناه بمجرد صدوره عن صاحبه، وبمجرد أن يكتب الكلام ينفصل المكتوب عن الكاتب، وقد عمد لدعم فكرته إلى أبعد من قولة رولان بارت بموت المؤلف، حيث رجع إلى تمييز الأشاعرة بين الكلام حين يكون فكرا باطنا أو نفسيا داخليا، وحين يكون “عبارة” أو كلاما معبّرا عنه، ونقل عنهم أيضا تمييزهم بين الوحي حين يكون كلاما إلهيا خالصا، وحين يوضع في سياق التنزيل وعلى محك التاريخ؛ فالقرآن الكريم في نظره –وهذا هو مربط الفرس- يتميّز بخصوصية كونه وحيا، ولابد من التمييز فيه بين الكلام ومصدره، وبين ما في الكلام من دَوال ومدلولات، ففي كل تلك الاعتبارات وغيرها ذرائع تسمح بالتأويل البشري لفهم مضمون الكلام في إطار ما تستدعيه معطيات الواقع.

المشكلة أن حديثنا عن القرآن -كما يقول الإمام أوبرو- يتجه تلقائيا إلى المصحف، بيد أن حقيقته رهينة بمدى فهم طبيعته التنزيلية، فطريقة التنزيل وكون القرآن نزل منجما تنطوي على منهج ومبدأ يعبّر عن حقيقة تاريخ المسلمين.

يقول أوبرو إن القرآن الكريم هو المنهاج، في حين أن التنزيل منهجية، لا يمكن حصرها في مجرد مادة عابرة من مواد علوم القرآن، لا تأبه لحركية القرآن وتفاعلاته الواقعية. ولا يمكن اليوم ضمان استمرار عالمية القرآن وصلاحيته لكل زمان ومكان إلا بعد تنزيل مبادئه وقيمه الكبرى على الزمن الحاضر أيضا، وعدم التقوقع على فترة التنزيل. المحاضر كان يستنكر حالة التقاعس الفكري الذي يشد المسلمين إلى التشبث بالأنماط الفكرية الجاهزة، وهذه الحالة كما يقول لا مخرج منها إلا من خلال إحياء خاصية الاجتهاد الذي قرنه بالجهاد باعتباره جهدا فكريا ومتضمِّن لصيغة تفضيلية، مع ما يعلم في اللغة من أن كل زيادة في المبنى تحتمل زيادة في المعنى.

الاجتهاد في نظر أوبرو سبيل الخلاص، ولا يمكن الركون إلى حقائق موهومة تُنسب دون تمحيص للقرآن الكريم، كما أن الخطاب القرآني خطاب روحي ولا يحتوي على أي عقيدة سياسية أو قانونية وهذا شأن السنة النبوية أيضا –يقول أوبرو- وما دام هذا الوعي غير متحقق فإن الواقع سيبقى على حال الارتباك الذي فيه .

والقرآن الكريم يتميّز أيضا بنسقية واضحة، إذ فيه تناسب بين الآيات والسور، وتناسب في حقيقة خطابه وجوهره وإيقاعه أيضا، كما أنه متصل بسياق تنزيلي، وكل إساءة في فهم سياقه تسيء بالتبع لفهم تأويله، اليوم هناك سياق عالمي أيضا لابد أن توضع النصوص فيه، وفي هذا الإطار يمكن فهم العالم، ولكن الواقع كما يراه أوبرو بعيد عن هذا الوعي، فهناك وضع حضاري متردي يتسم بالذوبان والتيه، كما أن هناك ارتباكا فكريا عاما لدى المسلمين يخلط بين العلوم وحركيتها، وبين الانتماء العربي وهيمنة الإسلام على العلوم، بيد أن العلوم في حقيقتها منتوجات حضارية، ولا يمكن وصفها بالإسلامية، ولا ربطها بلغة معيّنة، وهي نتاج تفاعلات حضارية حتى وإن تعلق الأمر بالحديث وعلوم القرآن وغيرهما.

الإمام طارق أوبرو بعد هذا التشخيص العام، قدّم وصفته للنهوض من خلال دعوة صريحة للجمع بين قراءات ثلاث: قراءة القرآن باعتباره وحيا إلهيا، وقراءة الكون لاستخراج الآيات منه، وقراءة العقل والفكرة؛ فتطور الفكر يسير عبر الكتاب المسطور والمنظور والعقل، وما عدا ذلك فإن القرآن الكريم ليس فيه كل شيء. وما كان مجد الحضارة الإسلامية في عصورها المزدهرة إلا نتاج حسن الجمع بين القراءات السالفة الذكر، ولا سبيل لاستعادة المجد الضائع إلا بهذا الجمع القِرائي، بعيدا عن الصورة الكاريكاتورية التي أصبح عليها الخطاب الإسلامي اليوم، والذي أصبحنا نراه لا يتردد في إقحام الإسلام في كل شيء “الحجاب الإسلامي” و”النعل الإسلامي” و”ربْطة العنق الإسلامية” … إلخ، فبدل أن نعيش بالإسلام أصبحنا نعيش تحت وهم شعارات تتعلق به.

الإسلام واسع يسع الجميع، وخطابه موسوم بالعالمية، وهذا يجب أن يدفع بالمسلمين إلى الانتقال بتلقي الخطاب من خصوص “يا أيها الذين آمنوا” إلى عموم “يا أيها الناس” وذلك من خلال التأكيد على عالمية مبادئه الأساسية، من قبيل ما فيه من دعوة لحفظ الكرامة الإنسانية لعموم الإنسان، ومن قبيل قيم العدل والمساواة. فالقرآن صريح في إعلان جملة من المبادئ العالمية، وهو في نفس الوقت كتاب عملي يعلمنا كيف نُحقق تلك المبادئ على أرض الواقع وكيف نحيلها إلى منهج للحياة.

من جهة أخرى عرف هذا اللقاء تفاعلا كبيرا من قِبل الجمهور، وكانت المداخلات باللغة الفرنسية أيضا، فحقّقت الانسجام المطلوب مع المحاضر وكلمته، واندمج الحاضرون في الطرح النوعي للضيف الذي اشتهر بثقافة تميل لتأسيس نموذج لإسلام غربي يعيش داخل سياقه الواقعي. 

وقد أثارت المناقشات جملة من التساؤلات حول ما جاء في مداخلة الإمام طارق أوبرو، كان منها سؤال حول مدى التفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وفي رده قال إن جينات الفكر الديني اليوم هي في أزمة تتمثل في تداخل العلاقات بين الديني والقانوني والقيمي مع ما هو حضاري مدني، وهذا الوضع يكشف عن واقع الفوضى التي يعيشها الفكر الإسلامي. كما أن العالم الإسلامي يعيش زمن العولمة وذلك يقتضي التفاعل والتعامل مع الآخر، ولا ينبغي تمني السوء لحضارة مغايرة، لأن كل ما يمس حضارة يمس الأخرى بالتبع، وأشار الإمام في معرض جوابه أيضا إلى أن عدم القبول بالآخر منطق لا ديني، وأن الكراهية إحساس لا مجال له في ديننا الحنيف، ومن المؤسف أنها أصبحت تمارس باسم الدين.

وتطرقت المناقشات أيضا لجملة من القضايا منها المساواة بين المرأة والرجل، والتوازن بين المادي والروحي في الإسلام، وعالمية مبادئ القرآن الكريم، وكيف يمكن تحقيق هذه العالمية على أرض الواقع، ومجموعة من القضايا، منها إيجابيات العلمانية في أوربا وآثارها على المسلمين، وكلها مواضيع تميزت بالإثارة وبالعمق، وبجرأة نادرة نحتاجها في نقاشاتنا من أجل تجاوز الكثير من المسلمات التي لا تستند إلى معطيات صحيحة وسند قوي.

أما الأهم الذي سجلته هذه المحاضرة فهو أجواء الانسجام التي جمعت بين حضور فريد ومحاضر فريد ومسير فريد.

 

 

نشر بتاريخ: 07 / 06 / 2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق