مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

تقرير عن أشغال جلسة (نظرات في معاني مباني كتاب الأحرف السبعة) للعلامة الأديب المحقق أبي فهر محمود محمد شاكر المصري (ت‍1997‍‍م) جدّد لله عليه الرحمات وأسكنه فسيح الجنات آمين لقاء يوم 10 – 12 – 2024

الحمد لله رب العالمين به نستعين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين

وبعد؛ فاحتفاء بصدور تحقيق كتاب العلامة الأديب أبي فهر محمود محمد شاكر المصري (ت‍1997‍‍م) رحمه الله في نبإ (الأحرف السبعة) وما إليه، ثم ترجيعا لأصداء الحديث عن تجديد ذكرى رحيله وتبثيث شمائله وبعثها في أرجاء العالم الإسلامي (مغربا ومشرقا) كلما حل الأوان والإبّان؛ أَزْجَتْ مَرقبة الإشراف العلمي بمركز الإمام أبي عمرو الداني المراكشـي (الدكتور توفيق العبقري (سلمه الله)) ضحوة الاثنين 8 جمادى الآخرة 1446 ه‍ موافق 10 دجنبر 2024 م‍ معزّز الكيان برئيس هذا التناهد العلمي وماسك خطام تدبيره الدكتور عباس أرحيلة متعه الله بالصحة والعافية، وفيالق الكشْف والنظر من بحثة المركز النجب، وكَتيبة الشأن التقني والرقمي والبرمجي والإخراج الفني والنشر وباقي الأعوان بشائر دعوة علمية كريمة بمقرّ المركز تُعنى بتجديد النهضة الفكرية المستطيلة للعلامة محمود محمد شاكر (ت‍ 1997م‍)، من الساعة الحادية عشـر صباحا إلى الساعة الثالثة زوالا، إذ استُؤْتي للضلاعة بتمهيد دقائق تصريفها وانتهض لنشـر معالم مقاصدها ثلَّة عالمة مخضرِمة من ذوي الإنافة النقدية والشفوف الأدبي وجلَّة المتتبعين لظواهر التراث الإسلامي (أعلاما، مدارس، ومصطلح إفادة، مناهج بحث ونظر...) وما إليه، فحاز الأستاذ الدكتور عبد الجليل هنوش (أستاذ البلاغة والأدب والنقد، جامعة القاضي عياض مراكش) شرف التقدمة ونال مرتبة اعتلاء مرقبة البيان والتبيين، رُفقة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب الأزدي (أستاذ اللغويات، جامعة محمد الخامس الرباط) لقبْس نماذج منتقاة من روائق تراث العلامة الأديب المشارك المحقق أبي فهر محمود محمد شاكر المصري (ت‍ 1997‍‍م‍)) وبذل طائفة من كنائن فكره الفذَّة في شتى المعارف الإنسانية وألوان الفنون الأدبية واللسانية وغيرها، وَفْق نهج ظريف في الأداء والإلقاء ونمط طريف في الخوض والعرض، يخبُر جواسّ جياد الأنفاس ويُذْكي أُوار الإحساس ويُخابر أنفاس الأكياس بما أوتي من شرف التلمذة وتحظَّاه من منقبة الأخذ المباشر عن العلامة شاكر (رحمه الله) إبّان حلوله بقاهرة مصر (من 1984 إلى 1992) زمن التحصيل وخوض غمار الجامعة هناك ، فعلى الله برُّه وأجره ...

وعليه؛ فقد وقعت الخِيَرة على العلامة شاكر رحمه الله تذكرة الأديب الصادق الرافعي عَفوا قَدَرا لا كَدّا وحذَرا، لأن الله جلا وعلى قد كتب له حياة ثانية بعد أولى اختصاصا وفضلا حتى فاض علمه وفار فضله وشاع ذكره وأثره، ثم إنّ نجمه بقي مشعا منذ آماد بعيدة وأزمنة ممتدة يبغي من الناس كِفاءَه يروي أنفاسه ويُحيي أجراسه ويذيعها في الناس ويتشمم عَرْفها ويتذوق رحيقها كما أرادها صاحبها وأبو عذرتها اعتماداً أو استيثاقاً بما أَوْدع ربنا جل وعلا في كيان المتعبد المتشرِّع من مُمْهدات الإدراك الأَيِّد الصـريح وأَلهمه من مُمْسكات الاستنباط القريح، الصادرة عن خَفَقان الفكر المسترشد بمسارب التبصير والتيسير تردُّداً وانبعاثاً وذلك بتصوُّر حقائق الماهيّات والجواهر بدْءا، ثم برعْي النِّسبة التصديقية بينها وبين مدارج التصوير والتنزيل والتحويل ... وما إليه، مع درْء غواشي المضارّ الفكرية والتجانف بمادّتها عن حيِّز عَزيمة الشبيبة وزكائها في حالها ومنقلب أمرها، ثم الصيانة لها من طوارق المروق وعوادي الشذوذ (عقلا وروحا وسلوكا ...) والحماية لها من آفات التطرف والتحيُّز في الفهم والتمثُّل ... أو الغلوّ في ذلك، وعليه؛ فالإنسان النافذ مهما أوتي من حيلة سَيْب المدد في الفهم والفكر والرواية لأوضاع التراث ومخزونه، أو أُعطي من الاستيلاء على آماد الدراية ومسارح النظر ومدارج التدبّر والحيازة للأغلب الممكن من ذلك وما إليه؛ فإنَّ آلات الإدراك فيه وأحوال أصول التفكر لديه، مهما كَمُلت أو امتلأتْ أو تمَّت أو استوسقت؛ فإنه لا يسلم في تصـرّفاته واستدلالاته وتردُّد فكره – إلا مَن اصطُفي - من مغبّة اختلال البدْء والأصل أو قُصور التصور والنظر أو الحمْل وما إليه ...

وعليه؛ فبعد افتتاح الجلسة وتوزيع فقراتها من لدن الباحث الدكتور عبد الجليل الحوريشـي ألقى الأستاذ الباحث سمير بلعشية تلاوة حبيرة رتيلة على مشاعر الحضور رسّخ فيها رسالة المركز العمري وقصته الأدائية في شطري الرواية والدراية (على الله أجره)، ثم تناول الأستاذ الدكتور عباس أرحيلة كلمة البيان والإفصاح عن حال المقام فصوّر برنامج الندوة (نظرات في كتاب الأحرف السبعة) للعلامة أبي فهر محمود محمد شاكر ثم الظروف التي كنفت تأليف الكتاب وسياقته والبواعث القسرية التي دفعت به إلى ارتياد آفاق الخوض في هذا الفن الدقيق من فنون التنزيل (علم القراءات القرآنية‍‍) والتأريخ لتنزلاته وما إليه، ثم جاءت الورقة العلمية الأولى للأستاذ الأديب الدكتور عبد الجليل هنوش تمشي على حذر وهُوينى وهي تصور سيرة العلامة شاكر ومسيره وتحكي طبعه الصَّيود وتبثُّ عزيمته الصَّلود في الاحتراق من أجل صون تراث الأمة وتاريخها وحضارتها ومصير أبنائها والدفاع عن حوزتها ضد موجات الاستلاب الغربي المتسلط الجريء، الذي بدَّد قُوى جيل عريض من أبناء مصر ردحا من الزمن كان فيه ما كان، والعلامة شاكر (رحمه الله) ممن عانى ذلك التبديد للقُوى المصمِّمة وكابد لأواء طمس معالم الهوّية الصافية منذ رَيْعان الشباب وغضارة العمود وهو ابن السابع عشرة عاما، جاعلا عُدَّته في كل ذلك وغيره اختيار منهج قويم سديد مُعرِق قد بُثَّت معالمه في سُلافة مصنفات المسلمين القدامى على اختلاف مشاربهم وتنوع مساربهم أسماه ب‍ (منهج التذوق) قال العلامة شاكر رحمه الله: (ولا أزعم  معاذ الله  أنّي ابتدعت هذا المنهج ابتداعا بلا سابقة ولا تمهيد، فهذا خطل وتبجح، بل كل ما أزعمه أني بالجهد والتعب وبمعاناة التفتيش في هذا الركام من الكلام، جمعت شتات هذا المنهج في قلبي وأصّلت لنفسي أصوله، مع طول التنقيب عنه في مطاوي العبارات التي سبق بها الأئمة الأعلام من أصحاب هذه اللغة، وهذا العلم في مباحثهم ومساجلاتهم ومثاقفاتهم وما يتضمنه كلامهم من النقد والاحتجاج للرأي، وكل ما وقفت عليه من ذلك، كام خفيا فاستشففته ودفينا فاستنبطه ومشتتا فجمعته ومفككا فلاءمت بين أوصاله، حتى استطعت بعد لأي أن أمهّد لفكري طريقا لاحبا مستتبا يسير فيه، أي صيَّرته منهجا التزمت به فيما أقرأ وما أكتب) [المتنبي ص 8]، وكيف تصدى لمنهج التجزئة والتفرقة التي مُنِيَ بها المنهج العلمي في عصر شاكر وقبل عصره كذلك بما عبر عنه ب‍ فساد الحياة الأدبية، ثم أورد الثالوث الذي تولَّى كبْر هذا المنهج الدخيل وحاز الريادة فيه وهم الأساتذة طه حسين وأمين الخولي وأحمد أمين بالدعوة إلى فصل ما هو أدبي عن ما هو ديني والحيلولة دون اتصالهها تصورا وتصديقا، فكأنَّ المنهج عندهم أو الطريقة في النظر أجزاء متغايرة لا تعرف للتجانس أو التكامل لونا ولا ذوقا، ثم لأجل كل ذلك وغيره أسس العلامة شاكر رحمه الله فهمه لظواهر التراث على تحقيق الوصل والربط بين المعارف والعلوم عند المسلمين بطريقة معرفية منهجية متماسكة تصدع بها مؤلفاته مثل (في الطريق إلى ثقافتنا) و (المتنبي) (أباطيل وأسمار) (قضية الشعر الجاهلي في طبقات ابن سلام) وغيرها من الأوضاع والتحقيقات الدالة على دندنة الرجل وإهْجيراه في الذود عن الحوزة والدفع في وجه كل دخيل، وقد اتخذ العلامة شاكر (رحمه الله) لنفسه في كل يصبو إليه سَلفا ومَثلاً يأخذ عنه ويتحمل أمانته وهو من وهو إكبارا وتهيّبا من أمثال عبد القاهر الجرجاني (ت‍  474 تقريبا ) مصطفى صادق الرافعي (ت‍ 1937 ه‍) و أحمد تيمور باشا (ت‍ 1930 ه‍) وأحمد زكي (ت‍ 1934) وعباس محمود العقاد (ت‍ 1964) وجماعة، ومذاكراته الماتعة مع الأديب الدبلوماسي يحيى حقي (ت‍ 1992ه‍) صاحب الرواية الشهيرة (قنديل أم هاشم) التي تكشف جدلية العلم والإيمان المنبثقة عن الغرب مع الشرق وما إليه؛ لهي خير مثال عن الروح النقدية الخفاقة التي تتصعّد بها أنفاس العلامة شاكر، ثم بعد هذه البسطة التقريبية لسيرة شاكر التي أملاها الأستاذ عبدالجليل هنوش شرع في نشر قصة الكتاب (الأحرف السبعة) وتحقيقه وما راج بينه وبين منسق الكتاب ومنقحه ومهذبه المثبتة سيماه على صفحة الغلاف وهو الأستاذ خالد فتحي، والذي أهدى نسخة من الكتاب للأستاذ هنوش لعلاقة الود والقربى التي تجمعهما خدمة لتراث العلامة شاكر رحمه الله وتقريبه من أفهام النابتة على وجهه، خاصة منهج العلامة شاكر حدَّثنا عن معالمه التي ارتضاها لنفسه واتخذها منحاة وطريقة بمثل فصيحه قائلا: ( ... قراءةً متأنية طويلة الأناة عند كل لفظ ومعنى، كأني أقلبهما بعقلي وأروزهما بقلبي وأجسهما جسّا ببصري وبصيرتي، وكأني أريد أن أتحسسهما بيدي، وأستنشي ما يفوح منهما بأنفي، وأسّمّع دبيب الحياة الخفي فيهما بأذنيّ، ثم أتذوقهما تذوقا بعقلي وقلبي وبصيرتي وأناملي وأنفي وسمعي ولساني، كأني أطلب فيهما خبيئا قد أخفاه الشاعر الماكر بفنّه وبراعته، وأتدسّس إلى دفين قد سقط من الشاعر عفوا أو سهوا تحت نظم كلماته ومعانيه، دون قصد منه أو تعمد أو إرادة) [المتنبي ص 6]، فهذا المنهج التذوقي الذي وُصف من لدن صاحبه قد أمدّته التجربة وطول المعاناة بخبرات متشعبة الأرجاء والأحناء ومهارة متباينة النفاذ والسير والمضاء، ثم دلف الأستاذ هنوش إلى جهة القصد فتقحّم غمرة الموضوع الذي لأجله التأم شمل هذا الجمع الكريم فذكر سياقة تأليف الكتاب وبين أصله ثم عدَّد فواضل الكتاب ونشر مثاني أفضاله ومزاياه ثم حصر مدار الأحرف السبعة حسب تأويل العلامة شاكر ونظره ثم ساق أمثلة منبئة عن كيفيات تأثير هذه الأحرف السبعة في اللغات واللهجات وفي الدرس اللغوي والنحوي والصرفي والدلالي ومتممات ذلك، وعليه فمنشأ الكتاب المحقق كان مجرد تعليق بهامش الجزء السادس عشر من تفسير الطبري ص 452 إلى 454 الأثر رقم 20410 الذي يقول فيه: (وكنت على نية جعل هذه الرسالة مقدمة للجزء السادس عشر من تفسير أبي جعفر، ولكنها طالت حتى بلغت أن تكون كتابا، فآثرت أن أفردها كتابا يطبع على حدته إن شاء الله) وإن لم يكن الكتاب كاملا كما أمَّل وعقَّد ووعد رحمه الله؛ فإن في المبذول الموجود غنية وكفاية ومقنع، وعليه، فخطة العلامة شاكر رحمه الله في عرض مسائل الكتاب دار قطب رحاها على خبر ابن عباس رضي الله عنهما أسنده الطبري في تفسيره رقم 20410 في بيان حرف ابن عباس لحرف الرعد الآية (31) وتلك قراءته: (أفلم يتبيَّن الذين آمنوا) فقيل لابن عباس إنما هي (أفلم ييئس) فقال: (كتب الكاتب الأخرى وهو ناعس) وهذا لفظ ابن جرير رحمه الله مسندا، ثم ابتدر تبيين وجه الحق في ذلك وتعيين منشأ الغلط والخطإ الذي اتخذه الناقمون أمثال نولدكه وجولد تسهر مدخلا يتقحمون منه متسللين لواذا للنيل من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فذكر إسناد الخبر وطريقه الموصلة إلى صاحبه الأول على الوجه الأكمل الأصح، ثم حصر ألفاظ الخبر وصيغه (لفظ أبي جعفر، لفظ السيوطي والقرطبي والفخر الرازي، ولفظ ابن خالويه والزمخشري وابي حيان والآلوسي، ولفظ القاسم بن سلام)، فلا يخفى خطر ما بين هذه الألفاظ من الاختلاف في كَتْب المصحف ورقْمه وبليغ أثره، قال العلامة شاكر رحمه الله: (وحشد الأسانيد والطرق والألفاظ حقيق أن يكشف لنا معاني الأحاديث والآثار والأخبار، وحريٌّ أن يزيدنا اطمئنانا إلى اللفظ كيف رُوي، بل هو العون الأكبر على تحقيق الألفاظ ومعانيها تحقيقا يقطع الشك ويزيل الريبة ) [الأحرف السبعة ص 34]، ثم ذكر العلامة شاكر رحمه الله شطري الخبر وأن الأول منهما يتعلق بتحرير أسانيد قراءة من قرأ (أفلم يتبين) إلى من قرأ بها من قرأة الصحابة ومن بعدهم دون إغفال تحقيق نسبتها إلى مصاحف علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم، ثم الآخر متعلق بمعنى قول ابن عباس رضي الله عنهما: كتب الكاتب الأخرى وهو ناعس [تراجع الصفحة 39 الأحرف السبعة] ثم بيان معاني لفظ (قرأ) الكثير الاستعمال والدوران في نصوص الأئمة المتصلة بتاريخ تلقي ألفاظ القرآن ولحونه وأوجه أدائه، وهذا مطلب جم بليغ الخطر قلَّ من ألمّ بحقيقته وتحقيقه، ثم تفصيل القول في معنى قوله صلى الله عليه وسلم (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وعرض اختلاف الناس في تبين تفسيره ومأْتى التنازع والاختلاف في تأويله ثم مآل الأحرف الستة الباقية، وكذا تفسير لفظ (الأمية) الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم (إني بعثت إلى أمة أمية) وأن المراد به من تُرك على جبلّته وفطرته أي على ما ولدته أمّه حتى يبلغ باجتهاده غاية ما تطيقه جبلّته وفطرته، دون هدْي مُنزل في كتاب يتلوه في صلاته أو يتدارسه مع أبناء جنسه أو يستنبط منه ما علمه ربه في تنزيله كالذي لليهود والنصارى من التوراة والإنجيل، فلذلك نُسب مثل هذا إلى (الأم) فقيل أُمّيٌّ [الأحرف السبعة ص 127]، وعليه؛ فالأمة الأمية ههنا هم الذين اختلفت لهجاتهم ولحونهم ولغاتهم ، لأنهم لم يكونوا من قبلُ أهل كتاب منزل يتوارثونه تلاوته، فيؤلف بينهم الكتاب وتلين عليه ألسنتهم [الأحرف السبعة ص 138]، ولقد نبه العلامة شاكر رحمه الله على أن من ثمرات نزول القرآن على سبعة أحرف ظهرت صنعة اللسان وإحكام مسائله وضوابطه وأقيسته من النحو واللغة والبيان ووضع المعجمات الجامعة وما إليه، فلولا نزول القرآن على هذه الأحرف السبعة؛ لتأخر النظر في علم النحو كما يرى العلامة شاكر رحمه الله.

ثم تلت ورقة الأستاذ عبد الجليل هنوش ورقة ثانية جادت به يراعة الأستاذ الدكتور اللغوي عبد الوهاب الأزدي (أستاذ اللغويات، جامعة محمد الخامس الرباط) إذ أسس الأستاذ الأزدي كلمته على بسط فكرة المنهج عند العلامة شاكر رحمه الله، وأنه جاءٍ مستوٍ على غير ما شاع وذاع عند الدارسين على اختلاف المذاهب والمصادر والموارد، بل الأمر ههنا منصرف إلى التأمل والتلبّث وإدمان النظر في (ما قبل المنهج) أي اكتمال القواعد الضابطة واستجماع الأصول الرابطة بين أجزاء طريقة التفكير والنظر وما إليه، وهو ذو شطرين متوازيين: شطر المادة وشطر معالجة التطبيق، وبيان ذلك وَفق الآتي: فالأول يُعنى بداءة بجمع المادة من مظانها ومكامنها على جهة الاستيعاب ثم بذل الوسع في تصنيف هذا اللفيف المجموع وتمحيص أجزائه ومفرداته وفحصها بدقة متناهية ومهارة وحذق وحذر، حتى يستبين للدارس كشف الزائف من الصحيح من غير غفلة أو هوى أو عجلة، وأما الآخر وهو شطر التطبيق؛ فيقضي بترتيب المادة بعد نفي زيْفها من جيّدها مع استصحاب كل احتمال للخطإ أو الهوى أو التسرع، ثم الحذر من وضع الحقائق في غير مواضعها الحقة وذلك عيْن الحكمة والسداد، والقصد هنا إلى المنهج الأدبي الذي كابده العلامة شاكر وعانى لأْواءَه ودعا إلى تقصص منحاته أي ذلك المنهج الذي يتناول ظواهر الشعر والأدب بجميع أنواعه وفنونه، وكذا التاريخ وعلم الدين (علم الكلام) بفروعه المختلفة والفلسفة بمذاهبها المتضاربة، وكل ما هو صادر عن الإنسان إبانة عن نفسه وعن جماعته، ووعاء كل ذلك ومستقره هو اللغة واللسان، قال العلامة شاكر: (أن شطري المنهج: المادة والتطبيق ... مكتملان اكتمالا مذهلا يحيِّر العقل، منذ أولية هذه الأمة العربية المسلمة صاحبة اللسان العربي، ثم يزدادان اتساعا واكتمالا وتنوعا على مر السنين وتعاقب العلماء والكتاب في كل علم و فنّ ، وأقول لك غير متردد أنّ الذي كان عندهم من ذلك؛ لم يكن قطّ عند أمة سابقة من الأمم، حتى اليونان ...) [المتنبي ص 24]، وهذا الذي ذُكر قد استشفه العلامة شاكر في مكتوب ومنطوق علماء الصحابة الكرام ومن حفظت عنه الفتوى منهم مثل عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر ... ثم من وليهم من الأعقاب الأنجاب من التابعين مثل الحسن البصري وسعيد بن المسيب والزهري والشعبي وقتادة والنخعي ثم من أعقبهم من الجلة الفقهاء والمحدثين مثل مالك بن أنس وأبي حنيفة وصاحبيه والشافعي والليث بن سعد والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري ومسلم وأبي عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد وأبي جعفر الطبري والطحاوي، ومن وليهم من أعلام عهد الكتْب والتدوين أمثال سيبويه والفراء وابن سلام الجمحي والجاحظ والمبرد وابن قتيبة وأبي الحسن الأشعري والقاضي عبد الجبار والآمدي وعبد القاهر الجرجاني وابن حزم وابن عبد البر وابن رشد الفقيه وحفيده وابن سينا والبيروني .... إلى السيوطي والشوكاني والزَّبيدي وعبد القاهر البغدادي في القرن الحادي عشر الهجري.

وعليه؛ فالعلامة شاكر رحمه الله يقرر أن ما أسماه (ما قبل المنهج)، أصل مكين في كل أمة وفي كل لغة وفي كل لسان وفي كل ثقافة حازها البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومللهم وأوطانهم، بما في ذلك العلوم البحتة من حساب وجبر وكيمياء، فإنه أصل أصيل فيها مثل أصالته في آداب اللسان من أدب وتاريخ وعلوم دين وفلسفة، لأن الناس لا يلزمون بما يسمى (ما قبل المنهج) إلا بعد استيفاء العلوم البحتة قدرا صالحا من النمو والاتساع، حتى يُحتاجَ إلى إعادة النظر للفصل بين تداخل أجزائها بعضها في بعض، لتصحيح مسيرة العلم وإعطاء كل ذي حق حقه من الوضوح والبيان، حتى يستقيم لكل علم نهجه وطريقه ونموه بلا خلط ولا تزييف، وإذا كان ذلك كذلك فإن للمنهج شرائط وعواصم تقيه من الكَلال والنبوّ أو الصدود أجملت في هذا الثالوث الجامع: اللغة (التي نشأ فيها صغيرا) والثقافة (التي ارتضع لبانها يافعا) والبراءة من النوازغ والأهواء (التي يملك ضبطها أو لا يملك) بعد أن استوى رجلا مبينا عن نفسه، إذن؛ فرأس الأمر في كل ما ذكر كمن في (الثقافة) التي تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يُحسُّ به، لا من حيث هي معارف متنوعة تدرك بالعقل وحسب، بل من حيث هي معارف يؤمن بصحتها من طريق العقل والقلب، ومن حيث هي معارف مطلوبة للعمل بها، والالتزام بما يوجبه ذلك (الإيمان) ثم من حيث هي بعد ذلك انتماء إلى هذه الثقافة انتماء ينبغي أن يدرك معه تمام الإدراك أنه لو فرّط فيه لأدّاه تفريطه إلى الضياع والهلاك [المتنبي ص 30]، ثم أعقب ورقة الأستاذ الأزدي كلمة جامعة للأستاذ الدكتور المحقق عبد الهادي السلي (باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني) وقد ناوش فيها قضية جمع القرآن الكريم وتدوينه في العهد الإمام، لارتباط ذلك بالأحرف السبعة التي تنزل عليها القرآن ثم لمزيتها السابغة في تفهم شأن المصاحف، وذلك كما ألقاها العلامة شاكر وبسطها رحمه الله، ومؤداها أن بداية التدوين لرسوم التنزيل كانت بعد مقتلتي (معونة) و(الرجيع) في السنة الرابعة، أما ما قبل ذلك فليس ثمة ما يدل على الكتب والتدوين، وعمدة العلامة شاكر في ذلك ستة معاقد:  1 الاحتفال بحفظ الصدر 2 الغض من حفظ السطر 3 انعدام النص على تدوين السطر في المرحلة المكية إلا في كاتبين هما ابن أبي سرح وشرحبيل بن حسنة 4 مؤيدات حفظ الصدر لا السطر في الفترة المكية 5 تواتر دواعي التدوين بالمدينة 6 تحديد زمن تدوين زيد بن ثابت والفارق بينه وبين أبي بن كعب بناء على أن التدوين كان بعد الرجيع، وحصر المناهج في استقراء كل ذلك وكشفه انحصرت في أمور ثلاثة: منهج الشك والمنهج التاريخي والمنهج اللغوي.

ثم في الأخير؛ تملك قافية البيان ومسك كلمة الختام الأستاذ الدكتور الناقد عباس أرحيلة، الذي جدد الترحاب بالحضور من الأساتذة المسهمين في تنشيط محاور اللقاء، والاحتفاء بمثل هذه الكوكبة الغراء من خيرة النقاد القرأة وأنها الجديرة بتمثل خطى العلامة شاكر، واتخاذ منهجه نبراسا يهتدى بضيائه في صياغة شتى الفنون والمعارف والتجديد فيها، وَفق المنهج الأصيل المذكور سلفا، كما دعا إليه العلامة شاكر رحمه الله، ثم جاد الأستاذ عباس أرحيلة وأفاد ودعا إلى ضرورة حمل الناشئة على السبيل الأهدى في كيفية قراءة التراث وَفق نموذج العلامة شاكر رحمه الله، وأنه لا سبيل إلى تحصيل كل ذلك إلا بعد استيعاب المقروء القديم لأجل التجديد فيه والإضافة وما إليه، ثم الإشادة بمنهج التذوق الذي استشفّ معالمه العلامة شاكر رحمه الله من نصوص التراث وأحوال المؤلفين القدامي في شتى المعارف الإنسانية والفنون المجربة، ثم انبرى الأستاذ الدكتور المقرئ الأديب توفيق العبقري للتنبيه على قضية الحرف الواحد التي بسببها ينتقد العلامة شاكر رحمه الله الإمام الطبري في تفسيره، ولا عجب في صنع شاكر ولا غرو، للَّذي عُرف عن روحه النقدية المتجردة الثائرة، خاصة جانب الاستدلال وكيفية تقرير الحقائق والمنهج فيها مما صدعت به أوضاعه وتوليفاته منها كتاب (الأحرف السبعة)، من مثل جعل حفظ الصدر هو الحاكم الشاهد على السطر، وقضية لسان قريش التي قيل بأن ذلك كان ابتداء، كما قيل بأنه على العُظْم والغلبة، ويقول بأن الصحف البكرية اشتملت على الأحرف السبعة وهو مذهب الشاطبي والجعبري وغيرهما، ولكن جديد العلامة شاكر رحمه الله؛ هو في أنه أوقفنا على كيفية هذا الاشتمال وتصوير كل ذلك بطريقة استدلالية قاطعة مفحمة، تردّ العقل إلى الأصول ومبادئها كما الحال بالنسبة لتأويل لفظ (قرأ) والاتساع فيها دلالة وتثويرا وإغناء، وكذلك قضية تأليف القرآن بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، فشاكر رحمه الله جهاز نقدي ثري لا يبارى فلله بره وعلى الله متولاه وأجره من عالم متجرد مجدد، ثم قُبَيْل انفضاض شَمْل دُولة هذا الجمع العلمي وانسلال ألفافه؛ تولّى الدكتور عبد يوسف شهاب (باحث مؤهل متعاون بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصص) ُرفْع أَكُفّ الرغبة والرجاء للدعاء الصالح إلى المولى العليّ أن يديم على أمير البلاد وسائس أحوال الأمة والعباد، جلالة المبجَّل، الملك محمد السادس، نعمةً ظاهرة وباطنة، ويهيئ له بُسُطَ العناية والرعاية وسائر أهل وُدِّه ومودَّته وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق