مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

تقرير عام حول محاضرات وورشات اليوم التكويني

«الدرس الصوفي في السوسيولوجيا المغربيةأسس وآفاق»

إعداد: د. محمد الهاطي

باحث بمركز الإمام الجنيد

   في إطار أشغال التكوين التي يضطلع بها مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة التابع للرابطة المحمدية للعلماء، والتي يتقاطع داخله بعدان أساسيان: الأول مرتبط بالمتفق عليه من الثوابت الوطنية الموجهة للرؤية الدينية والمذهبية لبلادنا، والثاني له علاقة بالشق العلمي في ارتباطه بالدراسات الصوفية. وإسهاما منه في تكوين وتأهيل باحثين متخصصين في التصوف، نظم مركز الإمام الجنيد بتعاون مع ماستر اللغات والثقافات المغربية واستراتجية التنمية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة يوما دراسيا/ تكوينيا لفائدة الطلبة الباحثين بسلك الدكتوراه والماستر في موضوع: “الدرس الصوفي في السوسيولوجيا المغربية: أسس وآفاق”

   توزعت عروض هذا اليوم التكويني الذي شارك فيه ما يقرب من 70 باحثا من طلبة الدكتوراه والماستر على جلستين؛ الأولى خصصت للشق النظري (المحاضرات)، والثانية للشق التطبيقي (الورشات). وقد انطلقت ـ بتوفيق من الله ـ أشغالُ هذا اللقاء العلمي بعد زوال يوم الجمعة  31 مارس 2017  بجلسة أولى ترأسها الدكتور فريد أمعضيشو أستاذ التعليم العالي- بوجدة، وافتتحت بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، ثم تناول الكلمة الأولى الدكتور جمال لخلوفي أستاذ زائر بالكلية المتعددة التخصصات بالناظور، وجاءت محاضرته بعنوان: “التصوف في الدراسات السوسيولوجية: المناهج والمقاربات”، دعا  من خلالها إلى ضرورة الوعي بمسائل المنهج باعتباره من القضايا الأساسية التي يجب على المشتغل بالسوسيولوجيا الدينية الاهتمام بها. كما أكد على أنّ التصوف المغربي يعد موضوعا نموذجيا للدراسة والبحث، ومنجما خصبا للباحثين السوسيولوجيين بشتى خلفيتهم النظرية والمنهجية المتباينة، كما من شأن البحث في التصوف أن يشكلا مدخلا لطرح قضايا المنهج، وتأثيرها على نتائج الأبحاث.

   وقد بدأت المداخلة بتحديد مفهومي السوسيولوجيا والمنهج، ثمّ انتقلت إلى المواضيع الأساسية التي يمكن أن تكون مدخلا لفهم مجال اشتغال السوسيولوجيا، ومن تمّ تحديد المداخل المنهجية بصفة عامة، وفي علاقتها بالتصوف بصفة خاصة. كما تمّ تحديد بعض المجالات؛ مثل البنية والوظيفة والمعنى، كي يتم الانتقال إلى دراسة نماذج عن هذه المجالات داخل الدراسات السوسيولوجية التي جعلت التصوف المغربي موضوعا لها.

   تلتها محاضرة الدكتور محمد الهاطي باحث مؤهل بمركز الإمام الجنيد بعنوان: “الدرس الصوفي في السوسيولوجيا المغربية: أساسيات منهجية“، وقد توزعت مداخلته على أربعة محاور كبرى؛ خُصص المحور الأول لضبط مفهوم الدرس الصوفي وخصوصياته، مع محاولة إبراز الإرغامات المنهجية التي تتحكم في مقاربته، فيما خصص المحور الثاني لتسليط الضوء على الدرس الصوفي في سوسيولوجيا الاستشراق من خلال بسط الكلام عن أهم السياقات التاريخية التي أطرت اهتمام المستشرقين بالتصوف، كما عمل المحاضر في هذا المحور على إبراز أهم المناهج التي توسل بها المستشرقون لدراسة ظاهرة الصلاح والولاية. أما المحور الثالث فقد خصص لمقاربة الدرس الصوفي في التراث السوسيولوجي الكولونيالي بالمغرب، وفي المحور الرابع والأخير حاول المحاضر تتبع الأطروحات والمناولات السوسيولوجية الوطنية في رصدها للتصوف سواء من ناحية الآليات المستخدمة، أو المفاهيم الموظفة، أو المناهج المتوسل بها، أو الأسئلة التي تم طرحها، فخلص إلى مجموعة من النتائج والاستنتاجات أجملها في الأتي:

   – تركيز أغلب الدراسات السوسيولوجية على الجانب الفلكلوري المرتبط ببعض الممارسات الدخيلة على التصوف، مع إغفال القضايا الصوفية العميقة القابلة للتوظيف والاستثمار الإيجابي في مجالات الحياة والمجتمع.

   – التقيد بأفكار مسبقة عن ظاهرة الولاية والصلاح والتصوف عامة، والتي رسخت في أذهان الكثير من الباحثين السوسيولوجيين ممن اشتغلوا بدارسة هذه الظاهرة، بحكم تأثرهم الكبير بنتائج بعض الدراسات الاستشراقية الكولونيالية المغلوطة، والمتحاملة على أهل الصلاح والولاية.

   – ضعف الملكة اللغوية والعدة المفاهيمية والمنهجية عند بعض الباحثين السوسيولوجيين المهتمين بالتصوف، مما ينتج عنه صعوبة  في التعامل مع أمهات كتب التراث الصوفي.

   – عدم مراعاة الباحث لخصوصيات الكتابة عند الصوفية، ومدى انفتاحها الدلالي وتميزها في الفهم والتأويل، وذلك من خلال نموذجي: المصطلح الصوفي، والحكاية الصوفية. 

   بعد ذلك فُتح المجال للطلبة الباحثين –للمناقشة-، فثمنوا  هذه المداخلات العلمية التي فتحت لهم آفاق البحث العلمي في الدرس الصوفي، وأعربوا عن أهمية مثل هذه اللقاءات التي تزودهم بعدة منهجية وطاقم مفاهيمي.

   ومباشرة بعد المناقشة أخذ المتدربون استراحة شاي، ليكون لهم بعد ذلك موعد مع أولى الورشات المبرمجة في الجلسة الثانية، والتي ترأسها الدكتور محمد الهاطي، والمعنونة بـ: “تقنيات البحث السوسيولوجي في ظاهرة الصلحاء والأولياء“، من تأطير الأستاذ الباحث الدكتور مراد جدي، متخصص في التراث الثقافي والتنمية.

   حاول الباحث في بداية مداخلته طرح سؤال مركزي يؤطر موضوعه: كيف يمكن الانتقال بدراسة الولاية والصلاح من بعدها الديني/ الصوفي إلى كونها ظاهرة اجتماعية ثقافية؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن إخضاع الصلاح والتصوف للبحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي؟ وبأية أدوات وتقنيات بحثية؟

   وقد توزعت أشغال هذه الورشة  على أربعة محاور كبرى:

   الأول جاء بعنوان: ظاهرة الصلاح من الدرس الديني الصوفي إلى الدرس السوسيولوجي والأنثروبولوجي؛ حاول من خلاله المحاضر تحديد هوية الولاية والصلاح ومسارات تشكلها، متوسلا في ذلك بعملية حفر أركيولوجي للخطاب الديني أولا، ثم للخطاب الصوفي ثانيا، وبالكشف عن سياقاتها وشروط ظهورها، ثم شروط اشتغالها وأدائها لوظائفها.

   والمحور الثاني والمعنون بـ: طوبولوجيا أنماط الولاية والصلاح في التدين المغربي، أكد من خلاله أننا حين نقارب موضوع الولاية والصلاح فإننا نواجه ظاهرة بنيوية كثيفة ومتداخلة، وبالتالي لا يمكن الحديث عن نمط أو شكل وحيد أو مختزل لها. وفصل فيها بين نمطين: النمط الهوياتي المرتبط بالزمان بوصفهم أعلاما حاملين لهوية زمنية تمكننا من وضعهم في إطار تحقيب يحدد بسهولة المرحلة التاريخية أو حتى الفترة الزمنية التي عاصرها الولي الصالح، والنمط المتخيل المرتبط بالمكان حيث تعتبر كل الأماكن المرتبطة بالولي الصالح سواء كانت مكان ولادته أو إقامته أو عبادته أو نشاطه أو موته، مجالات شاهدة على حيازة البركة وتصريفها في الفضاء الاجتماعي، وهذه الأماكن يعبر عنها رغم اختلافها وتنوعها بالأضرحة.

   أما في المحور الثالث الذي حاول تسليط الضوء على: “المادة السوسيوغرافية والإثنوغرافية في أدب المناقب: إشكالاتها وطرق توظيفها”، فقد حدد المعالم المنهجية لتوظيف هذا الأدب الإسطوغرافي في الاقتراب من حياة الفئات الشعبية والتعرف إلى عالم مخيالها الجمعي. وتطرق للمناهج التي يمكن توظيفها بصدد دراسة ظاهرة الصلاح من خلال أدبيات المناقب؛ ومنها منهج التحليل الأنثروبولوجي الرمزي في طبعته التأويلية، والأداة التقنية المعتمدة في مثل هذا النوع من المقاربة، المتمثلة في استخدام تقنية “السيرة/ الترجمة”. ويمكن توظيف المقاربة “البروسوبوغرافية” «Prosopographique»، وتستند هذه المقاربة على المتون المناقبية لرصد عدد من المؤشرات الإحصائية حول مسار حياة الأولياء والصلحاء في أدق تفاصيلها، عبر جرد عناصر الائتلاف والاختلاف بين أنماط حياتهم، وإبراز مميزات هذه الفئة الاجتماعية والوقوف على ديناميتها الداخلية وممارساتها الجماعية وعلاقاتها البينية في إطار مؤسساتي.

   وفي المحور الأخير تطرق المحاضر إلى الأدوات الإجرائية لتسجيل المادة السوسيو- أنثروبولوجية حول الصلحاء من ميدان الدراسة، وأبرزها: الملاحظة المشاركة، الملاحظة المباشرة، المقابلة، الاستمارة والاستبيان، دراسة الحالة، الإخباريون، تحليل المضمون. وبين الحدود والإمكانات التي تطرحها أية أداة، وطرق استثمارها للحصول على معطيات تتصف بأكبر قدر من المصداقية والإجرائية.

   وفي الورشة الثانية التي حاول من خلالها الدكتور مصطفى بوزغيبة -باحث مؤهل بمركز الإمام الجنيد- بسط الكلام حول أهم  تقنيات إعداد التراجم: تراجم أعلام التصوف أنموذجا، معتبرا كتب تراجم الصوفية التي يفصح عنها الخطاب المنقبي مسندات لتوثيق التاريخ الاجتماعي، ولم لا التاريخ السوسيولوجي الأنثروبولوجي للأولياء في تفاعلهم مع محيطهم الجغرافي، لذلك أتت هذه الورشة لتعرف الطلبة بأهمية هذه الكتب ومعرفة طرق الاستفادة منها بأيسر السبل وأكمل الطرق، متسلحين بمناهج البحث العلمي.

   وقد انقسمت هذه الورشة إلى شقين؛ شق نظري، حاول من خلاله التعريف بكتب التراجم وأهميتها والوقوف على أنواعها وميزاتها الأساسية (خصوصا في الحقل الصوفي)، والشق الثاني تطبيقي يهدف إلى ملامسة كتب التراجم عن قرب والبحث من خلالها عن بعض الأعلام الصوفية.

   أما الورشة الثالثة والأخيرة والتي أطرتها الدكتورة ربيعة سحنون باحثة مؤهلة بمركز الإمام الجنيد، والموسومة بـ:”لتحقيق التراث ضوابط وخصوصيات“، فقد اختارت الباحثة الانطلاق من مجموعة مسلمات:

• تراثنا المخطوط شيء عظيم وكبير، والتعامل معه يجب أن يكون بحيطة وحذر ووعي وتمثل كاف لمحوريته ومركزيته في حضارتنا العربية الإسلامية.

• بعث التراث وإحياؤه ونشره ليس بالأمر السهل ولا الهين، لما تحيط به من مشاكل وصعوبات.

• من الصعب الحديث عن تقنيات تحقيق المخطوط في جلسة أو جلستين، بل الأمر يستدعي وقتا كافيا وطويلا للإحاطة بكل ما يتطلبه بعث التراث وتحقيقه: عدة ومنهجا.

• لحد الآن لا يوجد منهج واحد وموحد متفق عليه للتحقيق، بل كل نص يفرض علينا منهجا معينا في التعامل معه.

   لتنتقل إلى التعريف بمصطلح التحقيق العلمي للتراث، انطلاقا من المعاجم ومن الكتب التي أصّلت لهذا المفهوم؛ فتحقيق المخطوط يعني: قراءته قراءة صحيحة، وإحكام تحريره وضبطه، وإخراجه على الوجه الصحيح الذي وضعه عليه مؤلفه، أو على أقرب وجه يطابق الوضع الأصيل الذي تم على يد مصنفه، كل ذلك بالاعتماد على منهج علمي يحكم سير عملية التحقيق.

   ونبهت الأستاذة على أن المحقق لابد أن تتوفر فيه مجموعة صفات تؤهله لخوض غمار التحقيق، منها: الإحساس بقيمة التراث، مع الحب والتعلق به، والخبرة والتمرس بتحقيق المخطوطات، وأن يكون المحقق على علم ودراية بموضوع الكتاب المراد تحقيقه، زد على ذلك الأمانة العلمية التي تقتضي تحرير النص وتصحيحه…

   وأردفت قائلة: “حتى يكون التحقيق صحيحا وسليما، لا بد للمحقق من عدة وعتاد لسبر أغوار المخطوطات، من ذلك: الدراية بأنواع الخطوط التي تبعد شيئا ما عن التحريف وتسهل معرفة رسم الحروف، إتقان اللغة العربية نحوا وصرفا وغريبا، معرفة علم العروض، إدراك مواطن التصحيف والتحريف في الكلمات المتشابهة الرسم، سعة الاطلاع على كتب التراث ومصادره في مختلف جوانب العلم والمعرفة، الاطلاع على أعمال المحققين السابقين والاستفادة من تجاربهم…”

   وختمت مداخلتها بالحديث عن منهجية تحقيق الكتاب المخطوط، حسب الخطوات التالية: اختيار الكتاب المخطوط، اختيار النسخة المعتمدة، قراءة النسخة التي توفرت فيها شروط الاعتماد قبل بداية النسخ، نسخ أوراق النسخة المختارة، المقابلة بين النسخ، طريقة التخريجات، هامش التخريجات، صنع الفهارس، كتابة تقديم التحقيق أو الدراسة، مع تفصيل كل نقطة على حدة.

   وبعد انتهاء الورشات، فُسح المجال للباحثين من أجل الأسئلة والاستفسار ومناقشة الأفكار التي تفتقت في أذهانهم، وهم يتابعون ويشاركون في الورشات، ثم أجاب عنها الأساتذة حسب ما سمح به الوقت.

لتختتم بعد ذلك أشغال هذا اليوم التكويني الذي عبر فيه الجميع عن استفادتهم وانتفاعهم من هذا اللقاء العلمي المبارك، متقدمين بالشكر الجزيل إلى رئيس مركز الإمام الجنيد فضيلة الدكتور إسماعيل راضي وفريقه البحثي، ومن خلاله أمين عام الرابطة المحمدية للعلماء فضيلة الدكتور أحمد عبادي على المجهودات التي قدمها المركز لتنظيم هذا اليوم التكويني، كما نوه المشاركون بحرص كل من عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة فضيلة الدكتور نور الدين مؤدن، ومنسق ماستر اللغات والثقافات المغربية فضيلة الدكتور بلقاسم الجطاري على إنجاح هذا اللقاء.

وبعد ذلك وزعت الشهادات التقديرية على المشاركين، وكان ذلك مسك ختام هذا اليوم التكويني المبارك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق