ملتقى الإحياء 16: “ملاحظات حول النقد العربي للفكر الإستشراقي”
نظمت الوحدة العلمية للإحياء ملتقاها السادس عشر حول موضوع: "ملاحظات حول النقد العربي للفكر الإستشراقي" انطلاقا من كتاب: "قصور الإستشراق" للدكتور وائل حلاق، بمشاركة الدكتور محمد الناصري محاضرا. ومناقشة وتعقيب السادة الأساتذة: د. محمد إقبال عروي، ود. عبد السلام طويل. وذلك بمقر الرابطة الرئيسي بالرباط.
وقد أطَّر الأستاذ عبد السلام طويل رئيس الوحدة العلمية للإحياء هذا الملتقى، بعد توجيه الشكر للسادة المشاركين والحضور الكريم، بوضع الظاهرة الإستشراقية في سياق المحددات الحاكمة لها؛ بداية من المحدّد التاريخي والحضاري، والمحدّد السياسي والاقتصادي، والمحدّد الإيديولوجي والمعرفي؛ مبرزا كيف أن الخطاب الإستشراقي الحديث لا يكاد ينفك عن سياق التطور الذي عرفه النموذج الحضاري الغربي من خلال التطورات التي شهدها النظام الرأسمالي وما ارتبط به من ثورات صناعية وتكنولوجية وعلمية وسياسية وثقافية (الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق).
وكيف أن أزمة تطور النموذج الرأسمالي القائم على قيم الربحية والمنافسة والمبادرة والملكية الفرديتين، وما ترتب عنها من تراكم ضخم في الإنتاج استدعى البحث عن أسواق لتصريفه، مثلما استلزم تأمين مصادر للمواد الخام والطاقة لتغذيته وتلبية نهمه المتأصل. الأمر الذي يفسر الشرط الموضوعي للظاهرة الاستعمارية في أشكالها الكلاسيكية المباشرة.
وبالتالي فإن أية مقاربة موضوعية للظاهرة الإستشراقية لا يمكن أن تتحقق دون الوعي المسبق بالبنية المركبة لها، ودون التمييز بين المحددات الحاكمة لها؛ بحيث أن البعد السياسي والإيديولوجي لا يلغي أهمية البعد المعرفي على سبيل المثال.
كما أوضح أنه مثلما أن الخطاب الإستشراقي ليس على شاكلة واحدة، ولا على مسافة واحدة من شرط العلمية والموضوعية، متسائلا عن سر تميز الخطاب الإستشراقي الألماني وعدم تبعيته وخضوعه المباشر وغير المشروط للإستراتيجيات والرهانات السياسية القومية؟ فإن الخطاب العربي الإسلامي الذي أنتج في الرد عليه والتفاعل معه لم يكن بدوره على نفس الدرجة من الموضوعية، مثلما لم يكن منسجما ولا واحدا. فقد تباين من مجرد رد فعل سجالي، كآلية دفاعية للمغلوب في مواجهة الغالب الغازي، ينظر للإستشراق كرديف للاستعمار أو أداة مباشرة له، إلى مقاربات أكثر التزاما بالنظر العلمي الموضوعي الواعي بمدى تعقد وتعدد أبعاد هذه الظاهرة..
من آخر وأهم تجاليات هذا التفاعل ما حاول المفكر حسن حنفي التأسيس له من خلال سعيه لبناء علم مقابل اصطلح عليه "علم الاستغراب"؛ بحيث إذا كان الإستشراق علما موضوعه الشرق والعالم الإسلامي في قلبه، والذات الدارسة هي الغرب، فقد آن الأوان، من وجهة نظره، لإخضاع الغرب للدراسة والتحليل ليغدوا الدارس مدروسا والمدروس دارسا.
والحاصل أن الإشكال لن ينحل، والتوازن لن يتحقق بمجرد هذا القلب الذهني للأطراف، وبهذا الجهد الفردي النخبوي الهام الذي عّبر عنه كتاب "مقدمة في علم الاستغراب لحسن حنفي"؛ لأن تبلور علم الإستشراق، يفسر الأستاذ عبد السلام طويل، جاء نتيجة لتضافر جملة من العوامل التاريخية والحضارية الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية والعلمية.. وبالتالي فقد جاء للاستجابة لطلب تاريخي وحضاري اقتصادي وسياسي عبرت عنه تطورات المنظومة الرأسمالية.
وبالتالي فإن علم الاستغراب لن يحقّق أهدافه التي راهن عليها حسن حنفي إلا بتحقيقنا لدورة حضارية كاملة بتعبير أنور عبد المالك، وبتوافر الشروط الموضوعية لتولد طلب تاريخي وحضاري اقتصادي وعلمي وسياسي لمعرفة الغرب وليس مجرد طلب فردي نخبوي رغم أهميته. خاصة وأن تطورات العالم وموازين قواه الحضارية؛ السياسية والاقتصادية باتت تستدعي توسيع مفهوم "الآخر" الذي يتعين دراسته كشرط واقف لاستيعاب تجربته والتأسيس عليها لتقدمنا وتحررنا واستقلالنا الحضاري في تفاعل إيجابي مع العالم من حولنا وليس في صراع معه.
بعد ذلك استهل الأستاذ محمد الناصري مداخلته بالتأكيد على أن الإستشراق، باعتباره حقلا معرفيا، لم تتوقف الكتابة فيه وعنه، فقد أحصى نديم البيطار ما بين 1924 و2004 حوالي ستين ألف كتاب في الإستشراق دون عد للمقالات والدراسات المستقلة.
مؤسسا على ذلك بالقول أن "الإستشراق لم يمت لمجرد نعيه من طرف أحد أبرز المستشرقين المعاصرين، جاك بيرك، كما أن الإستشراق ليس في أزمة على حد تعبير أنور عبد المالك".
مضيفا أنه "مهما اختلفت آراؤنا في الإستشراق، فإننا لا نستطيع أن ننكر حقيقة كونه يستطيع أن يمارس تأثيرات بعيدة المدى على كل من يتصل به بسبب كونه مؤسسة ثقافية وطيدة الأركان".
ليحدّد موضوع مداخلته بالسعي إلى محاولة "الوقوف عن عمق الإشكالية التي يعيشها الفكر العربي في نظرته وموقفه من الإستشراق. الإشكالية التي تمثلت بتضارب واختلاف مواقف المفكرين العرب من أعمال المستشرقين عموما".
ليبرز، بعد ذلك، كيف أن نقد المستشرقين في الدراسات الإسلامية قد انطلق قبل أكثر من قرن ونصف.حينما ناقش السيد جمال الدين الأفغاني محاضرة ألقاها ارنست رينان سنة 1883 حول الإسلام والعلم. حيث أثار رينان في هذه المحاضرة: "بأن الإسلام لا يشجع الجهود العلمية بل هو عائق لها بما يشتمل عليه من اعتقاد بالغيبيات وخوارق العادات و إيمان تام بالقضاء والقدر". وأورد أحداثا فكرية حاكم من خلال الإسلام: مقتل الحلاج ونكبة ابن رشد.
ولذلك فقد انبرى للرد على شبهات رينان التي تمحورت، بشكل أساسي، حول اتهام المسلمين بالعجز العقلي واتهام الإسلام بازدراء العلم والفلسفة، فجهد إلى دحض هذه التهم على صفحات العروة الوثقى سنة 1883.
يمكن اعتباره هذه المقالة فاتحة عهد جديد في تقويم الآراء الغربية حول الإسلام ومحاولة شجاعة وجريئة لتصحيح صورة الإسلام في الوعي الغربي، بل إن جهود الأفغاني لم تتوقف عند هذه الحدود، وإنما يمكن أن ترجع إليه كشفه لوجه أوروبا الاستعماري وإماطة اللثام عند كيد السياسة الانجليزية في العالم الإسلامي.
وفي هذا المجال انتهج محمد عبده منهج أستاذه جمال الدين الأفغاني، فناقش أفكار رينان وشدّد في مناقشته على ضرورة الفصل في القيم وعدم الخلط في تقييم الفكر والمبادئ بقيم حامليها والمتصلين بها. وعمد إلى بيان عقيدة القضاء والقدر التي كانت محور تشنيع رينان على الإسلام بما يبعدها تماما عن شبهة الجبر وأوضح كيف أن عقيدة التوحيد تكون تحفيزا على العمل والسعي الايجابي في الحياة.
ثم ما لبث الحديث حول الإستشراق، يسترسل الأستاذ الناصري، أن اكتسى لونا جديدا بعد الحرب العالمية الثانية وصدور عدة كتب في هذا المجال، اتخذ النقاش فيها صيغا أخرى غير ما كان متداولا قبل ذلك. وقد استهل هذه المرحلة كتاب: "التبشير والاستعمار" الذي بدأ بتأليفه مصطفى خالدي وعمر فروخ سنة 1945 وصدر في عام 1953.
وفي عام 1957 أصدر الدكتور محمد البهي كتاب" الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" وقد شن فيه هو الآخر هجوما لاذعا على مؤسسة الإستشراق إلى الحد الذي رأى فيه أن العديد من التيارات التي تشكلت في الفكر الإسلامي الحديث، تستمد رؤيتها من فرضيات المستشرقين ومفهوماتهم. وشدد على أن جهود المستشرقين ترمي إلى تمكين الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، وتمهيد النفوس بين سكان هذه البلاد لقبول النفوذ الغربي.
وقد أوضح المحاضر كيف أن كتاب البهي اتسم بحماس مشبع باتهام جماعة من المفكرين بأنهم دعاة للفكر الغربي، بل عملاء للاستعمار الأوروبي، وهي اتهامات لم يتردد في التأكيد على أنها لا تخلو من تعسف ومجافاة للحقيقة أحيانا.
بعد ذلك استرسل السيد المحاضر في عرض تصوره انطلاقا من العناصر التالية:
- "منذ مطلع العقد السابع من القرن العشرين شهدت دراسة الإستشراق منعطفا جديدا بعد أن انخرط في تقويم ونقد مناهج المستشرقين بعض الأكاديميين المعروفين، ففي عام 1963 م بادر الدكتور أنور عبد المالك الى نشر مقال له في مجلة "ديوجين" الصادرة في باريس بالفرنسية بعنوان: " الإستشراق مأزوما".
وهو المقال الذي دشن عهدا جديدا في تشخيص بنية المعرفة الإستشراقية وتفكيكها، من هنا جرى التعامل مع هذا المقال بغضب ورفض شديدين في دوائر الإستشراق الغربي، فكتب "فرانسيسكو غابرييلي"-وهو من كبار المستشرقين الايطاليين مقالة بعنوان " الثناء على الإستشراق" ردا على مقالة أنور عبد المالك ونشرها في المجلة ذاتها عام 1965 م دافع فيها عن انجازات المستشرقين ودعا إلى ضرورة تبني مناهجهم في الدراسات الإسلامية .
وفي السياق ذاته وجه المستشرق الفرنسي المعروف بـ"كولد كاهين" رسالة إلى رئيس تحرير المجلة يرد فيها على أنور عبد المالك نشرت بجوار رد "غابرييلي" في العدد نفسه.
- لقد تجاوز أنور عبد المالك الأسلوب التقليدي الذي تعاطاه النقاد من قبل في محاكمة شبهات الإستشراق فتوغل إلى أعماق المعرفة الإستشراقية واكتشف النسيج المعرفي الذي ينتج الأحكام الإستشراقية. إن مقالة: "الإستشراق مأزوما"، مهدت الطريق لاتجاه مختلف في نقد الإستشراق يستند إلى أدوات جديدة في تحليل مناهج المستشرقين والتعرف على محتواها.
- وعلى المنهج نفسه سار عبد اللطيف طيباوي الذي كتب مقالتين في نقد الإستشراق، الأولى جاءت بعنوان: "المستشرقون الناطقون بالإنجليزية"، والثانية بعنوان: "نقد ثان للمستشرقين الناطقين بالانجليزية". وهما مقالتان تتبع فيهما عبد اللطيف طيباوي، تحيز الإستشراق ضد الإسلام والقومية العربية، حيث يرى طيباوي أن من أعظم الإخفاقات الأكاديمية للمستشرقين الناطقين بالانجليزية هو عدم رغبتهم في الاعتراف بأن محمدا لدى المسلمين هو آخر رسل الله إلى البشرية.
غير أن العاصفة الأعنف التي مني بها تراث الإستشراق ولدت هذه المرة في محيط أكاديمي غربي بعد صدور كتاب: "الإستشراق" لإدوارد سعيد سنة 1978م وقد ترجم من الانجليزية إلى الفرنسية سنة 1980م، وفي عام 1981م ترجمه الدكتور كمال أبو ديب إلى العربية والذي وصفه في سياق تقديمه له بأنه ثورة جديدة في الدراسات الإنسانية، تعطي دورا كبيرا للسياسة وتكشف عن آلية السلطة والسيطرة والقوة والتلاعب التحكمي فيها.
وقد أوضح الأستاذ المحاضر كيف أنه لم يتعرض كتاب للنقد كما تعرض كتاب الإستشراق لسعيد من طرف المستشرقين أبرزهم برنارد لويس في مسألة الإستشراق، أو من طرف المثقفين العرب فموقف عزيز العظمة أو صادق جلال العظم مثلا من كتاب سعيد لا يقل حدة من موقف برنارد لويس، هذا إن لم يزد أحيانا.
آخر الكتابات التي تناولت كتاب سعيد بالنقد كتاب وائل حلاق قصور الإستشراق، وهو كتاب يمثل مداخلة نقدية لكتاب الإستشراق لسعيد، الذي تعامل مع الإستشراق باعتباره مشروعا سياسيا.
لقد كان لكتاب سعيد أهمية قصوى، وكان مناسبا تماما في العقد أو العقدين اللاحقين لنشره لدراسة الإسلام في الغرب ومعه حقول أكاديمية متعددة أخرى. لقد أزاح سعيد الإستشراق عن معياريته الخفية التي لا تخضع للتساؤل ليصير محلا للنقد إن لم يكن محلا للشك. بيد أن تأطير سعيد الإشكالي للاستشراق قد استتبع عددا لا حصر له من أوجه النقد الذي تراوح بين النقد الموضوعي الجاد والنقد الإيديولوجي المتحيز.
إن هذا الكتاب ليس دراسة للاستشراق بوصفه تاريخا وشخصيات وأحداثا، بل هو اكتناه للمعرفة والسلطة والطغيان الذي يمارسه الإنسان، إنه كتاب يتناول الغرب وإشكالاته الفكرية.
وبالرغم من أن كتاب إدوارد سعيد تواصل مع مقالة أنور عبد المالك، ومقالتي عبد اللطيف طيباوي، إلاّ أنه أثار ردود فعل أكثر اتساعا وشمولا، انخرط فيها نخبة من المستشرقين فضلا عن المفكرين العرب،فقد ناقش أطروحات سعيد "كلودكاهين" "برناردلويس"... من المستشرقين. فيما ناقشه من المثقفين العرب "أحمد ابو زيد" و"غسان سلامة" وصادق جلال العظم...
ومن الأطروحات التي وقف عندها الأستاذ الناصري، والتي طورت النقاش حول الإستشراق وهتكت الأستار التي ظلت تحتجب وراءها تحيزات المعرفة الإستشراقية لكل ما هو غربي، كتاب الدكتورة رنا قباني، الذي أصدرته بالانجليزية عام 1986، وترجمه بعد عامين الدكتور صباح قباني إلى العربية، ونشره بدمشق، تحت عنوان" أساطير أوروبا عن الشرق: لفق تسد".
وتتمحور دراسة قباني على تشخيص تشوهات صورة الشرق في الوعي الغربي، وبيان أساطير وغرائب وخوارق، اختلقها ولفقها الرحالة والمستشرقون، عن الشرق، وما يزال الغرب يمعن في تكريسها وتبنيها.
حيث كتبت صحيفة الغارديان: "إن رنا قباني استطاعت كامرأة عربية، ذات حجة قوية، أن تسقط الأقنعة عن وجوه الكتاب الغربيين الإستشراقيين، الذين كانوا في نظر مواطنيهم أنصاف آلهة".
بعد ذلك تساءل:
كيف يمكن لنا نحن العرب، في ضوء ما تقدم عن واقع العلاقة بين الإستشراق والعرب، أن نتعامل مع هذا التقليد الثقافي العريق؟ وما هي الخيارات المتاحة أمامنا؟
ليخلص إلى أهمية أن نتعامل مع التراث الإستشراقي تعاملا نقديا، وأن نأخذ ونرفض على هدي البصيرة النقدية، والتفحص المتمعن أو قل أن نواجهه مواجهة إيجابية.
وهي المواجهة التي ينبغي أن تتسم بالوعي والمعرفة والحس النقدي والثقة بالنفس سعيا لتأسيس "علم استغراب إسلامي" باعتباره الوجه الآخر النقيض للاستشراق، وجدت هذه الصيغة أسسها ومرتكزاتها المنهجية في كتاب الدكتور "حسن حنفي،مقدمة في علم الاستغراب"الصادر سنة 1991م. وهي الأطروحة التي سبق أن انتقدها الأستاذ عبد السلام طويل.
ومع أن أنور عبد المالك قد استعمل مصطلح الاستغراب قبل أكثر من ثلاثة عقود في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة"، إلا أن الدكتور حسن حنفي أطلق كلمة الاستغراب على معنى جديد.
وقد أثارت الدعوة لتأسيس علم الاستغراب بعض المثقفين، فكتبوا حولها مراجعات تقويمية كشفت عن روح التفاؤل التي قد ترقى إلى درجة الحلم في هذه الدعوة.
ليخلص إلى أن خطابات المثقفين العرب إزاء الإستشراق ليس كتلة واحدة منسجمة، وإنما هي مشكلة من عدة اتجاهات متغايرة ومتنوعة بل ومتناقضة. وهي النتيجة التي اتفق حولها العديد من الباحثين الذين تناولوا الخطاب العربي إزاء الإستشراق بالدراسة: عبد الجبار الرفاعي، في "نحن والغرب"، علي أومليل في "التراث والتجاوز"، بنسالم حميش "الإستشراق في أفق انسداده"، نديم نجدي "أثر الإستشراق في الفكر العربي المعاصر".
وفي تعقيبه على مضامين هذه المحاضرة القيّمة التي اتخذت من كتاب "قصور الإستشراق" منطلقا لها. استهل الدكتور محمد إقبال عروي حديثه بالقول: "ليس من قبيل الشكوى القول إن قراءة كتاب "قصور الإستشراق" تحتاج طاقة استثنائية، وإنما هو الوصف الدقيق للحالة التي تنتاب القارئ له، فقد تكالبت دقة الأفكار وتشعبها وتعقدها مع التركيب المتجاوز للجمل القصيرة البسيطة إلى الجمل الطويلة المركبة لتنشئ حالة من الارتباك في الإمساك بالمضامين لدى قارئ الكتاب... وقد أقر المترجم بذلك في مقدمة الترجمة".
لا يجد ذلك تفسيره، من وجهة نظر الأستاذ إقبال، في كون الكتاب مترجما من الإنجليزية إلى العربية، إذ "ليس بدعا أن تكون الترجمة سلسة كما تشهد الوقائع هنا وهناك، وإنما يرجع الأمر، بنظره، إلى طبيعة التأليف عند الدكتور وائل حلاق، طبيعة ترتد إلى ما قد يكون هوسا بالإغراب والتعقيد والغموض الذي صار "تقليعة" جذابة لدى بعض الكتاب".
بعد تأكيده أن الكتاب يمثل نقدا مفصلا لكتاب "الإستشراق" لإدوارد سعيد، تساءل عن الحاجة العلمية والمعرفية والحضارية التي تستدعي إعادة نقد كتاب إدوارد، وبشكل لا يخلو من شدة وقسوة...، مع أن الكتاب عرف نقدا متواصلا من الشرق والغرب، وكثير من النقود الموجهة إليه في "قصور الإستشراق" ترجع جذورها إلى تلك الكتابات الناقدة لإدوار سعيد. هذا كله يثير سؤال الحاجة المعرفية والحضارية لإعادة نقد الكتاب.
مبرزًا كيف أن الدكتور وائل حلاق يستند في الإجابة عن سؤال الحاجة إلى كون إدوارد سعيد تعامل مع خطاب الإستشراق في بعده الأدبي النصي، ولم يتناول البنى المعرفية والسياسية التي أنتجت ظاهرة الإستشراق. وهي بنى ترتبط بالقوة أكثر من ارتباطها بالمعرفة..
وكنتيجة لذلك، اعتبر حلاق علاقة الإستشراق بالقوة من الأمور التي تميز منهجه، كما أنها من القضايا التي غابت عن وعي إدوارد.
مضيفا أن مثل هذا الاستناد يوهم القارئ بأن إدوارد سعيد كان قاصرا عن الالتفات إلى بعد القوة في إنتاج الظاهرة الإستشراقية، والصواب أنه منتبه إلى ذلك.. ومتناول إلى الخلفية الاستعمارية للاستشراق المرتبط بالقوة المعرفية والسياسية والاقتصادية.
ينتقد د. وائل حلاق إدوارد سعيد بأنه غير واع بأن ما يحدّد المعرفة ليس هو الموقع الجغرافي باعتباره موقعا جغرافيا، وإنما هو الثقافة أو الإيديولوجية أو البنية الفكرية الخاصة. وهو ما يحتاج، من وجهة نظر الأستاذ إقبال، إلى استدراك، إذ عديدة هي النصوص، وقوية في منطقها، التي تضمنها كتاب إدوارد، والتي تبرز وعيه بأن التحديد المعرفي لا يرتبط ميكانيكيا بالموقع الجغرافي، وإنما بالبنى الفكرية...
يؤاخذ وائل حلاق إدوارد عدم انفتاحه على الإستشراق الألماني، وهو ما قد يفسر نقطة ضعف في النتائج المتوصل إليها من قبل إدوارد؛ بحيث لا يستطيع دارس منصف أن ينكر ذلك، غير أن هنا إشكالا يتعلق بمنهجيات البحث وضوابطه، فإذا كان الكاتب واعيا بحدود مدونته الموضوعية، نسبة إلى الموضوع، واختار أن يقتصر عليها، فليس في ذلك منقصة، شريطة أن تحضر تلك الحدود في استخلاصاته ونتائجه.. ثم إن مدونة الإستشراق ممتدة في الزمان والمكان، ويصعب على فرد واحد، مهما تمتع بقدرات استثنائية، أن يستوعب ذلك الكم المختلف في اللغة والتجارب والمضامين..
مضيفا أن الدكتور وائل يميل إلى الحرص على التموقع في الخانة المخالفة لجميع الاجتهادات والآراء، علامة ذلك أنه ينتقد إدوارد سعيد في تعميماته على المستشرقين –مثل تعميم تحيزهم وانخراطهم في خدمة الكولونيالية بوعي أو بدون وعي- وفي الوقت نفسه ينتقد نقاد سعيد في ذكرهم لمستشرقين تمتعوا بروح الإنصاف والمصداقية. (ص: 67).
ومع اعترافه أن د. وائل يتمتع بإحاطة معرفية جبارة بعلوم الشريعة وحضارة المسلمين، غير أنه يكشف أن بعض المعطيات تحتاج إلى استدراك، مدللا على ذلك بنموذج علمي وآخر حضاري:
أ. يقول إن الشريعة اعتمدت في تكاملها على الأعراف والعادات المحلية، وهذه العبارة تحتاج إلى تهذيب، إذ لعل الأصوب الأسلم أن يقال إن من بين خصائص الشريعة أنها راعت مجموعة من الأعراف التي لا تخالف أصول الدين وقيمه، وقد نجح العلماء في صياغة هذا البعد في قواعد جامعة من مثل: "الثابت بالعرف كالثابت بالنص". والغريب أن الكاتب أحال بين يدي تأكيده لهذا الأمر، على كتاب له، بينما المنهج يقتضي الإحالة على مرجعيات معتمدة في علوم الشريعة، إذ القضية ليست قضية رأي يحال فيه على كتاب معاصر،وإنما هي قضية شريعة يحال فيها على الأصول المرجعية المعتبرة.
ب. يقول الكاتب: "... فالمسلمون يعيشون في الحداثة، ويعيشون الحداثة، ويجسدون الحداثة، ولا يعتقد غير ذلك سوى شخص لا يفهم الواقع". (ص: 17)، مثل هذا القول يجانب معطيات التحديد الدقيق لمراده من الحداثة، ويقفز عن حجية الواقع نفسه بأن المسلمين، في العديد من مجتمعاتهم، لا يتوفرون على شروط الدخول في عهود الحداثة، سواء الشروط السياسية أو الاجتماعية أو العلمية..، وفي بعض المناطق هناك ردة عن إرهاصات الحداثة..، مما يدل على أن حكمه التعميمي يحتاج إلى أكثر من استدراك.
ومن جهة أخرى أورد ملاحظة أخرى ترتبط بعنوان الكتاب وترجمته، فأصل العنوان:
"Restate orientalism: a critique of modern knowledge"
والترجمة القريبة هي: "إعادة القول في الإستشراق: نقد المعرفة الحديثة"، لكن المترجم اختار: "قصور الإستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي".
والإشكال هنا إشكالات: فتعبير "modern knowledge"، لا يحظى بقوته الاصطلاحية، ولا يحدد مضمونه وموضوعه تحديدا دقيقا، فقد يُحيل على العلوم البحتة، وقد يُحيل على ثقافة الموضة والإشهار والرياضة، فكلها معرفة معاصرة...
والترجمة القريبة "العلم الحداثي" أضعف من أن يكون مصطلحا يُحيل على دلالة دقيقة، فهل هناك علم حداثي وعلم غير حداثي؟
وفي الختام شدّد الأستاذ عبد السلام طويل على أن الإستشراق كبنية معرفية وكخطاب إيديولوجي لا ينفك عن بنية النظام الرأسمالي في أبعاده الاقتصادية والسياسية والمعرفية والتناقضات التي نتجت عن أزمة تطوره. خاصة كنظام منتج للظاهرة الإستعمارية وكبنية لها نزوع عميق للهيمنة المادية/ الاقتصادية والرمزية/ المعرفية.
كما تحفظ على النزعة التعميمية لوائل حلاق بالقول بأن المجتمعات العربية الإسلامية مجتمعات حديثة بل وحداثية؛ معتبرا أنها لن تكون كذلك إلا إذا أحدثت تحولا عميقا يصل إلى درجة القطيعة على مستوى تصوراتها وتمثلاتها ونظام معرفتها بين العقل والنقل والعرفان، وعلى مستوى مرجعيتها بين الوضعي والمتعالي، وعلى مستوى بنياتها ومؤسساتها بين العقلانية والوظيفية والإعتبارية من جهة وبين الشخصانية من جهة أخرى، وكذا على مستوى ممارساتها الاجتماعية ومنظومة قيمها بين الفردي والجماعي.. دون أن ينفي ذلك إمكانية أيلولتها مجتمعات متقدمة وعصرية انطلاقا من مرجعيتها وتجربتها التاريخية والحضارية الخاصة في انفتاح على الكسب الكوني في شتى مظانه.
ونوه إلى أهمية الإستعانة بالمنزع النقدي الماركسي للنظام الرأسمالي وسعيه لتكريس الهيمنة والاستغلال والاستلاب، في تجاوز للمفارقة التي يثيرها موقف كارل ماركس من الاستعمار في كل من الجزائر والهند بدعوى تسريع تناقضات الرأسمالية وانهيارها، وكذا الإستعانة بالمدرسة النقدية بفرانكفورت وتيار ما بعد الحداثة في نقده للمنظومة الرأسمالية ونزوعها لـ"التشيء" و"التسليع" والاستغلال..
ليشدد على أن مستقبل الإستشراق باعتباره خطابا للغالب حول المغلوب، مرتبط إلى حد كبير بالتطورات التي تشهدها موازين القوى الدولية في ظل تراجع قوة وهيمنة الغرب وبروز قوى عالمية جديدة في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا؛ أي بروز مراكز هيمنة جديدة..
وهو ما يفضي بنا، يستخلص الأستاذ عبد السلام طويل، إلى حقيقة أساسية مفادها؛ أن معرفة الذات الحضارية وبناؤها يعد شرطا واقفا لمعرفة الآخر وبالتالي بناء استراتيجيات التعامل والتفاعل معه بمنطق التعاون والتحاور كما بمنطق الصراع والتدافع.