مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقدية

انتشار الأشعرية على عهد الدولة المرابطية

ليست الهوية المذهبية
معطى جاهزا يمكن تناوله والتعامل معه بوصفه حدثا عابراً، وإنما هي
امتداد زمني يتكون عبر حقب وعصور، ويتقلب في أطوار ومراحل ما بين تأسيس
وتكريس وترسيم وأخذ ورد وفحص وغربلة ونخل، وقد عرف الفكر الأشعري منذ
دخوله الغرب الإسلامي ضروبا من هذا التقلب وأنماطا من التجذر والتشكل
والتفرع، بحيث صار طبقات متراكمة لا يمكن إدراك بنيته العـامة إلا
بالنبش في تفاصيلها، والحفر في تراكيبهـا.
ولما كانت الدولة
المرابطية حقبة من حقب تاريخ المغرب، وجانبا من مخزون ذاكرته، ومجالا
عرف نشاطا تمهيديا للفكر الأشعري من حيث حركيته العلمية وتجاذبات أصحابه
مع المذاهب العقدية الأخرى، ارتأت الرابطة المحمدية للعلماء (مركز أبي
الحسن الأشعري) بمناسبة “مرور عشرة قرون على دخول المذهب الأشعري
للمغرب” أن تنظم ندوة علمية بعنوان “انتشار الأشعرية في عهد الدولة
المرابطية” برحاب كلية أصول الدين بتطوان، استهل فيها عميد الكلية
الدكتور محمد الفقير التمسماني كلمته بالترحيب بهذا اللقاء العلمي
المميز  ـ كما نعته ـ، مثمنا هذه المبادرة الممثِلة لاحتفاء
الأمة بثابت من ثوابتها الدينية العظيمة عقيدة وفقهـا وسلوكا، واصفا
إياها بـ”البرور الواجب”، مذكرا الطلبة بأن المحطـات التاريخية للأمة هي
التي تصنع ذاكرتهـا وتحدد معالمها وخصائصهـا، وبما أن موضوع الندوة
متعلق بالمرحلة المرابطية من تاريخ المغرب، فحري بالطلبة والباحثين
الاستجابة لنداء الاحتفاء بهذه الفترة التاريخية ـ بحسب قوله ـ، وذلك
لما احتوته من رجال فضلاء ساهموا في تأسيس الاختيار العقدي الضابط لفكر
الأمة ونظرهـا، خصوصا أننا نعيش مرحلة زمنية دقيقة تحتم على الأمة أن
ترجع إلى أصولها لمدارستها والتعريف بمجهودات علمائها وتقريب مفاهيمهم
وتحديد مقاصد نظرهم.
وفي السياق نفسه حدد
الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور أحمد عبادي رهان هذا
اللقاء في “ترميم الذاكرة الجماعية”، مبينا أن الاعتقـاد فنٌّ أصلٌ،
وأساس السلوك، ووظيفته هو إرساء أسس الخريطة المستبطنة للوجود، والذي من
خلاله يحدد المسلم قبلته ووجهته، ونبّه فضيلته إلى ضرورة الاعتناء
بوظيفية علم الاعتقـاد وغاياته وثمراته قبل الدخول إلى أبعاده المفهومية
والمصطلحية وتفريعاته الكلامية، مركزا على جانب تقريب هذا العلم للأفهام
بأسلوب سلس كي ينسجم مع البنية الربانية للوحي وخصيصته في التيسير، ومن
الذين تحققوا بمطلب التيسير أبو محمد بن الحسن المرادي (ت.489هـ)، أحد
أعلام المجال التداولي الأشعري على عهد المرابطين، وبعد حفر تاريخي
أجراه الأمين العـام في هذه المرحلة، وبعد الكشف عن تقلبات المرادي
التاريخية وعلاقته بكبار الشخصيات الكلامية والسياسية في عصره، بيّن أن
العقيدة الأشعرية كانت موجودة قبل الموحدين، والأمر الثاني أن كتاب متن
المرادي تأسيسي من حيث الفصول والأبواب والمباحث رابطا بينه وبين منهج
الباقلاني، والأمر الثالث أن التكليف بهذا الاعتقاد أصبح بفضل هذا المتن
في متناول كل طالب وطالبة، ومن هنا يمكن أن نفهم الكتب التي تلت
كالسلالجية وغيرها. ومن خلال هذا التأطير حدد الأمين العام برنامج هذه
الندوة وملامح التكامل الذي يجمع بين أبحاثها.
المداخلة الأولى كانت
بعنوان «الأشعرية المرابطية: أعلام
وأعمـال»  تناول فيها رئيس المركز الدكتور جمال علال
البختي الفكر الأشعري في الفضاء المرابطي، مبتدئا بالتمهيد التاريخي
للمدرسة السنية الأولى التي هيأت الجو لدخول هذا المذهب إلى الغرب
الإسلامي ممثلة في جيل محمد بن سحنون(ت.256هـ)، وابن الحداد(ت. 302هـ)
وغيرهما ممن سار على دربهما وأتقن فن الجدل والمناظرة الكلامية مع
المعتزلة والشيعة والخوارج، مستشكلا بعد ذلك زمن ظهور الأشعرية، وقد
ناقش في الجواب على هذا الإشكال ثلاثة آراء، أحدها ترجع بالتاريخ إلى ما
قبل الدولة الصنهاجية، والثاني ترده إلى أواسط القرن الرابع، أما الثالث
فيحدد التاريخ بلحظة ابن تومرت، وبيّن الأستاذ البختي أن معايرة هذه
الآراء ترتبط بمفهوم الدخول ودلالاته، ورأى أن الدخول عرف تطورا ومر
بمراحل، لكن دعوى الرأي الثالث هي التي خصص المتدخل ورقته لمناقشتهـا،
وقد عرض من خلالها جملة من الأدلة على أن الغرب الإسلامي عرف انتشارا
للأشعرية قبل المرابطين، منطلقا من لحظة دراس ابن إسماعيل (ت. 357هـ)
مرورا بأشاعرة مغاربة عاصروا جيل تلامذة ابن مجاهد وبعده الباقلاني
(ت.403هـ)، ثم تطرق إلى المنعرج المالكي في تاريخ الأشعرية المغربية،
مُفسّرا أسباب الانقلاب والتحول ثم الانسجام، وقد احتضنت لحظة الباقلاني
مجموعة من الأشاعرة، من بينهم الأذري (ت.402هـ) والقابسي (ت.403هـ)،
بعدها عرّج على لحظة ما بعد الباقلاني، والتي عرفت انتشارا لهذا المذهب
على عهد المرابطين واكتمالا لنظام التأليف
والتأصيل.
وتعرّض الدكتور عبد
المجيد الصغير في مداخلة بعنوان «حضور الأشعرية في العصر
المرابطي: الأسباب والمبررات» لمجموعة من الأحكام المسبقة
التي وصفها بالعوائق والتأويلات الإسقاطية مثل عقم العطاء الفكري في عصر
المرابطين، مشككا في قيمتها العلمية بسبب استنادها على مصادر إيديولوجية
حاولت التأريخ للحدث الفكري في عصر المرابطين، أو مراجع إيديولوجية
حديثة استشراقية، أو مواقف علمانية معاصرة بدعوى الانتصار لعقلانية
الفلاسفة، وما يوجب محاكمة هذه التأويلات ـ بحسب رأي المتدخل ـ هو
التراكم المعرفي الذي يمكّن من المعايرة العلمية لمثل هذه الأحكـام،
وقبل أن يتطرق للحظة المرابطية قام برسم إطار تاريخي عام للسياق الذي
عرفته هذه المرحلة، كاشفا عن التغلل البويهي الشيعي في المنطقة، وما
صاحبه من رد فعل لأهل السنة على المستوى الفكري واستنادهم على الدولة
السلجوقية، وكان نفس رد الفعل بالنسبة للدولة المرابطية في مسعاها لوحدة
العالم الإسلامي بدليل رفضها التحلي باسم الخلافة، وانخرطوا في دحر
بقايا الخوارج في تامسنا، وفلول الشيعة البجلية بسوس الأقصى، وجاءت رحلة
ابن العربي الأشعري تدعيما لمشروع انخراط الدولة المرابطية في هذه
الوحدة التي فتت عضدها أخطار داخلية مع هذه الطوائف، والخطر الخارجي
المتمثل في التهديد الصليبي، وهذا ما يفسر انتشار الأشعرية بوصفها منهجا
يحمل في طياته مشروع الوحدة، وفي مكنته مواجهة هذه التحديات بعد نهاية
المرحلة الحنبلية.
وافتتح الدكتور محمد
الشنتوف نائب عميد الكلية مداخلته المعنونة بـ«مواقف فقهاء
الدولة المرابطية من العقيدة الأشعرية» بتوطئة تاريخية تحدث
فيها عن اختيارات أهل المغرب والأندلس الفقهية (مذهب مالك) والعقدية
(مذهب أهل السنة والجماعة) منذ القرون الأولى لدخول الإسلام، قبل تبني
مذهب الأشاعرة مع ابن تومرت في صدر المائة السادسة، وهذا ما سيرجحه
المتدخل لاعتبارين اثنين: أولهما تواجد مجموعة من أعلام المغرب والأندلس
في العهد المرابطي واشتغالهم بالفكر الأشعري والتأليف فيه كالأصيلي
والباجي والمرادي وغيرهم، وثانيهما ما دُوّن من فتاوى مرابطية كفتوى ابن
رشد الجد لابن تاشفين، المعترفة بفضل أعلام الأشاعرة والمؤيدة لمذهبهم
والمسهمة في التخفيف من حدة ممارسات بعض المتعصبة من الفقهاء المضيقة
عليهم، مما يؤكد قطعا  على ما كان بين الفقه المالكي والعقيدة
الأشعرية من روابط وتوافق، تتهاوى معها أي دعوى تصف العصر المرابطي
بالجمود الفكري ومحاربة علم الكلام والفلسفة، وأن الأشعرية لم تدخل لهذه
الرقعة إلا مع ابن تومرت.
وعرض الدكتور يوسف
بنلمهدي من خلال مداخلته الموسومة بـ«المشارب القيروانية
للمنهج الأشعري في العصر المرابطي: الأسانيد والمعالم» مجموعة
من النقاط الرئيسة، أسس الحديث عنها على المنهج بدل المذهب باعتباره
اختيارا من بين العديد من المناهج المتبعة عند أهل السنة والجماعة، وأن
الأشعرية جاءت نتيجة حاجة تاريخية تدعو إليها، ودخلت إلى المغرب قبل
الحضرمي؛ إذ كان ساحة لنقاشات علمية بين فريقين، فريق الفقهاء المتكلمين
المعتمدين على منهج الجمع بين العقل والنقل، وفريق الفقهاء المحافظين
الممتنعين عن الخوض في مسائل يعجز العقل والنقل عن الفصل فيها، مما نتج
عنه وجود تيارين عقديين منسجمين؛ تيار فقه التوحيد المتكون من الفقهاء
وفقهاء الحديث والمتصوفة ومنهجه التقرير لا النقد والجدل، وعمدة هذا
التيار كتاب توحيد الرسالة لابن أبي زيد أو باب ما تنطق به الألسنة
وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات وشروحه، وتيار فقه الكلام
المتكون من الفقهاء والأصوليين وفقهاء الحديث والمتصوفة، وعمدته كتب
الباقلاني والجويني والسلالجي والضرير، ثم ختم الأستاذ بنلمهدي مداخلته
بعرض لخريطة التيارات العقدية التي عرفها الغرب الإسلامي زمن المرابطين،
والسياقات التاريخية التي ظهرت فيها الأشعرية قبل الحضرمي.
وفي مداخلة
الأستاذ وسام رزوق التي عنونها بـ«جهود أبي بكر المرادي في
توطين ونشر المنهجية الأشعرية على عهد المرابطين» اعتبر أن
عقيدة المرادي لا تنحصر في دورها الكلامي، بل هي وثيقة تاريخية مهمة
تجيب عن إشكالات متعددة يخص عصر المرابطين، وتُمكن من مراجعة مجموعة من
الأحكام والنتائج، مصنفا شخصية المرادي ضمن تيار التجديد والتغيير الذي
يقابله تيار المحافظة، وحدد جهوده في توطين المذهبية الأشعرية من خلال
مستويين، إرساء البرهان والنظر من جهة، وخلخلة جملة من القناعات والآراء
العقدية من جهة ثانية، وبعد ربطه للمتن بسياقه التاريخي وتأثره بالواقع
المرابطي، نظر الباحث إلى المتن من ثلاث زاويا، ابتدأ فيها بمنهجه في
التأليف والاستدلال حيث أبرز من خلاله ملامح إتقان الصنعة الكلامية في
التبويب والتقسيم، واستعماله للقواعد والأساليب التي انتهى إليها الفكر
الأشعري كالسبر والتقسيم وغيره، والنقطة الثانية تتعلق بموقفه من
المتشابه؛ حيث بيَّن الباحث أنها أطروحة مركزية في فكر المرادي، ونظر
إلى أنها من المحن التي يختبر بها الله العلماء، كما أبرز وجوه تأويل
الآيات وإخراجها عن ظواهرها، مبرزا مرجوحية رأي أهل الحديث استنادا على
موقف السلف الذين خاضوا في التأويل. أما النقطة الثالثة فتخص إبراز
طريقة توظيفه المنهج الكلامي في باب الاستدلال على حدث العالم، محددا
الموقف الجريئ للمرادي من هذه القضية باعتبار المتوجه لهم بالخطاب في
وقته، وما يتضمنه هذا الخطاب من استدلال يستند على أصول نسقية عقلية كما
تعارف عليها الأشاعرة.
وكانت آخر المشاركات
مداخلة بعنوان «حضور المذهب الأشعري زمن المرابطين ـ عرض
الدعاوى وتفكيك المفاهيم ورصد المصاديق» عرض الأستاذ محمد
أمين السقال (باحث بمركز أبي الحسن الأشعري) موضوعها من خلال ثلاثة
معاقد، أولها يتعلق بعرض ونقد دعويين رئيستين بخصوص ظهور الأشعرية
وانتشارها في المغرب، أما الدعوى الأولى فصادرة عن المناوئين للأشعرية
ورسمُها أن الأشعرية بدعة طارئة لم يعرفها المغاربة إلا على يد محمد بن
تومرت، وأما الثانية فتنتصر للأشعرية وكأنها عقيدة جديدة اعتنقها
المغاربة، وكلتا الدعويين تصدى لهما الباحث بالنقد بناء على مجموعة من
الدلائل. في المعقد الثاني حفر الباحث في مفهومي “الأشعرية” و”المذهب”
ولقب “المرابطين” فبين أن الأول مفهوم دائري يستغرق مجموعة من الدوائر
المعرفية. بالنسبة لمفهوم المذهب، فليس هو جملة المضامين، بقدر ما هو
الاستدلال على هذه المضامين. أما بخصوص لقب المرابطين واتهام ابن تومرت
لهم بالتجسيم فقد بين الباحث أن اللقب حقه التضييق لا التوسيع، إذا لا
ينسحب على مجموع المغاربة زمن المرابطين، وإنما على ما سماه المتدخل
بـ”نظام الحكم”، وعليه يكون الحكم بالتجسيم منسحب على القائمين عليه ـ
حكاما وعلماء ـ لا على جميع علماء العصر وعامته. وانتهى الأستاذ السقال
إلى رصد جملة من المصاديق من قبيل أعمال الباجي والمرادي وأبي الحجاج
الضرير مؤكدا على أن الأشاعرة المغاربة أكثر صلة ووثاقة بمؤسس المذهب
أبي الحسن الأشعري من حيث انتهاج منهج قياس الغائب على الشاهد في تقرير
العقائد.

ليست الهوية المذهبية معطى جاهزا يمكن تناوله والتعامل معه بوصفه حدثا عابراً، وإنما هي امتداد زمني يتكون عبر
حقب وعصور، ويتقلب في أطوار ومراحل ما بين تأسيس وتكريس وترسيم وأخذ ورد وفحص وغربلة ونخل، وقد عرف الفكر الأشعري منذ دخوله الغرب الإسلامي ضروبا من هذا التقلب وأنماطا من التجذر والتشكل والتفرع، بحيث صار طبقات متراكمة لا يمكن إدراك بنيته العـامة إلا بالنبش في تفاصيلها، والحفر في تراكيبهـا.

ولما كانت الدولة المرابطية حقبة من حقب تاريخ المغرب، وجانبا من مخزون ذاكرته، ومجالا عرف نشاطا تمهيديا للفكر الأشعري من حيث حركيته العلمية وتجاذبات أصحابه مع المذاهب العقدية الأخرى، ارتأت الرابطة المحمدية للعلماء (مركز أبي الحسن الأشعري) بمناسبة “مرور عشرة قرون على دخول المذهب الأشعري للمغرب” أن تنظم ندوة علمية بعنوان “انتشار الأشعرية في عهد الدولة المرابطية” برحاب كلية أصول الدين بتطوان، استهل فيها عميد الكلية الدكتور محمد الفقير التمسماني كلمته بالترحيب بهذا اللقاء العلمي المميز  ـ كما نعته ـ، مثمنا هذه المبادرة الممثِلة لاحتفاء الأمة بثابت من ثوابتها الدينية العظيمة عقيدة وفقهـا وسلوكا، واصفا إياها بـ”البرور الواجب”، مذكرا الطلبة بأن المحطـات التاريخية للأمة هي التي تصنع ذاكرتهـا وتحدد معالمها وخصائصهـا، وبما أن موضوع الندوة متعلق بالمرحلة المرابطية من تاريخ المغرب، فحري بالطلبة والباحثين الاستجابة لنداء الاحتفاء بهذه الفترة التاريخية ـ بحسب قوله ـ، وذلك لما احتوته من رجال فضلاء ساهموا في تأسيس الاختيار العقدي الضابط لفكر الأمة ونظرهـا، خصوصا أننا نعيش مرحلة زمنية دقيقة تحتم على الأمة أن ترجع إلى أصولها لمدارستها والتعريف بمجهودات علمائها وتقريب مفاهيمهم وتحديد مقاصد نظرهم.

وفي السياق نفسه حدد الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور أحمد عبادي رهان هذا اللقاء في “ترميم الذاكرة الجماعية”، مبينا أن الاعتقـاد فنٌّ أصلٌ، وأساس السلوك، ووظيفته هو إرساء أسس الخريطة المستبطنة للوجود، والذي من خلاله يحدد المسلم قبلته ووجهته، ونبّه فضيلته إلى ضرورة الاعتناء بوظيفية علم الاعتقـاد وغاياته وثمراته قبل الدخول إلى أبعاده المفهومية والمصطلحية وتفريعاته الكلامية، مركزا على جانب تقريب هذا العلم للأفهام بأسلوب سلس كي ينسجم مع البنية الربانية للوحي وخصيصته في التيسير، ومن الذين تحققوا بمطلب التيسير أبو محمد بن الحسن المرادي (ت.489هـ)، أحد أعلام المجال التداولي الأشعري على عهد المرابطين، وبعد حفر تاريخي أجراه الأمين العـام في هذه المرحلة، وبعد الكشف عن تقلبات المرادي التاريخية وعلاقته بكبار الشخصيات الكلامية والسياسية في عصره، بيّن أن العقيدة الأشعرية كانت موجودة قبل الموحدين، والأمر الثاني أن كتاب متن المرادي تأسيسي من حيث الفصول والأبواب والمباحث رابطا بينه وبين منهج الباقلاني، والأمر الثالث أن التكليف بهذا الاعتقاد أصبح بفضل هذا المتن في متناول كل طالب وطالبة، ومن هنا يمكن أن نفهم الكتب التي تلته كالسلالجية وغيرها. ومن خلال هذا التأطير حدد الأمين العام برنامج هذه الندوة وملامح التكامل الذي يجمع بين أبحاثها.المداخلة الأولى كانت بعنوان «الأشعرية المرابطية: أعلام وأعمـال» تناول رئيس المركز الدكتور جمال علال البختي الفكر الأشعري في الفضاء المرابطي، مبتدئا بالتمهيد التاريخي للمدرسة السنية الأولى التي هيأت الجو لدخول هذا المذهب إلى الغرب الإسلامي ممثلة في جيل محمد بن سحنون(ت.256هـ)، وابن الحداد(ت. 302هـ) وغيرهما ممن سار على دربهما وأتقن فن الجدل والمناظرة الكلامية مع المعتزلة والشيعة والخوارج، مستشكلا بعد ذلك زمن ظهور الأشعرية، وقد ناقش في الجواب على هذا الإشكال ثلاثة آراء، أحدها ترجع بالتاريخ إلى ما قبل الدولة الصنهاجية، والثاني ترده إلى أواسط القرن الرابع، أما الثالث فيحدد التاريخ بلحظة ابن تومرت، وبيّن الأستاذ البختي أن معايرة هذه الآراء ترتبط بمفهوم الدخول ودلالاته، ورأى أن الدخول عرف تطورا ومر بمراحل، لكن دعوى الرأي الثالث هي التي خصص المتدخل ورقته لمناقشتهـا، وقد عرض من خلالها جملة من الأدلة على أن الغرب الإسلامي عرف نتشارا للأشعرية قبل المرابطين، منطلقا من لحظة دراس ابن إسماعيل (ت. 357هـ) مرورا بأشاعرة مغاربة عاصروا جيل تلامذة ابن مجاهد وبعده الباقلاني (ت.403هـ)، ثم تطرق إلى المنعرج المالكي في تاريخ الأشعرية المغربية، مُفسّرا أسباب الانقلاب والتحول ثم الانسجام، وقد احتضنت لحظة الباقلاني مجموعة من الأشاعرة، من بينهم الأذري (ت.402هـ) والقابسي (ت.403هـ)، بعدها عرّج على لحظة ما بعدالباقلاني، والتي عرفت انتشارا لهذا المذهب على عهد المرابطين واكتمالا لنظام التأليف والتأصيل.

وتعرّض الدكتور عبد المجيد الصغير في مداخلة بعنوان «حضور الأشعرية في العصر المرابطي: الأسباب والمبررات» لمجموعة من الأحكام المسبقة التي وصفها بالعوائق والتأويلات الإسقاطية مثل عقم العطاء الفكري في عصر المرابطين، مشككا في قيمتها العلمية بسبب استنادها على مصادر إيديولوجية حاولت التأريخ للحدث الفكري في عصر المرابطين، أو مراجع إيديولوجية حديثة استشراقية، أو مواقف علمانية معاصرة بدعوى الانتصار لعقلانية الفلاسفة، وما يوجب محاكمة هذه التأويلات ـ بحسب رأي المتدخل ـ هو التراكم المعرفي الذي يمكّن من المعايرة العلمية لمثل هذه الأحكـام، وقبل أن يتطرق للحظة المرابطية قام برسم إطار تاريخي عام للسياق الذي عرفته هذه المرحلة، كاشفا عن التغلغل البويهي الشيعي في المنطقة، وما صاحبه من رد فعل لأهل السنة على المستوى الفكري واستنادهم على الدولة السلجوقية، وكان نفس رد الفعل بالنسبة للدولة المرابطية في مسعاها لوحدة العالم الإسلامي بدليل رفضها التحلي باسم الخلافة، وانخرطوا في دحر بقايا الخوارج في تامسنا، وفلول الشيعة البجلية بسوس الأقصى، وجاءت رحلة ابن العربي الأشعري تدعيما لمشروع انخراط الدولة المرابطية في هذه الوحدة التي فتت عضدها أخطار داخلية مع هذه الطوائف، والخطر الخارجي المتمثل في التهديد الصليبي، وهذا ما يفسر انتشار الأشعرية بوصفها منهجا يحمل في طياته مشروع الوحدة، وفي مكنته مواجهة هذه التحديات بعد نهاية المرحلة
الحنبلية.

وافتتح الدكتور محمد الشنتوف نائب عميد الكلية مداخلته المعنونة بـ«مواقف فقهاء الدولة المرابطية من العقيدة الأشعرية» بتوطئة تاريخية تحدث فيها عن اختيارات أهل المغرب والأندلس الفقهية (مذهب مالك) والعقدية (مذهب أهل السنة والجماعة) منذ القرون الأولى لدخول الإسلام، قبل تبني مذهبالأشاعرة مع ابن تومرت في صدر المائة السادسة، وهذا ما سيرجحه المتدخل لاعتبارين اثنين: أولهما تواجد مجموعة من أعلام المغرب والأندلس في العهد المرابطي واشتغالهم بالفكر الأشعري والتأليف فيه كالأصيلي والباجي والمرادي وغيرهم، وثانيهما ما دُوّن من فتاوى مرابطية كفتوى ابن رشد الجد لابن تاشفين، المعترفة بفضل أعلام الأشاعرة والمؤيدة لمذهبهم والمسهمة في التخفيف من حدة ممارسات بعض المتعصبة من الفقهاء المضيقة عليهم، مما يؤكد قطعا  على ما كان بين الفقه المالكي والعقيدة
الأشعرية من روابط وتوافق، تتهاوى معها أي دعوى تصف العصر المرابطي بالجمود الفكري ومحاربة علم الكلام والفلسفة، وأن الأشعرية لم تدخل لهذه الرقعة إلا مع ابن تومرت.

وعرض الدكتور يوسف بنلمهدي من خلال مداخلته الموسومة بـ«المشارب القيروانية للمنهج الأشعري في العصر المرابطي: الأسانيد والمعالم» مجموعة من النقاط الرئيسة، أسس الحديث عنها على المنهج بدل المذهب باعتباره اختيارا من بين العديد من المناهج المتبعة عند أهل السنة والجماعة، وأن الأشعرية جاءت نتيجة حاجة تاريخية تدعو إليها، ودخلت إلى المغرب قبل الحضرمي؛ إذ كان ساحة لنقاشات علمية بين فريقين، فريق الفقهاء المتكلمين المعتمدين
على منهج الجمع بين العقل والنقل، وفريق الفقهاء المحافظين الممتنعين عن الخوض في مسائل يعجز العقل والنقل عن الفصل فيها، مما نتج عنه وجود تيارين عقديين منسجمين؛ تيار فقه التوحيد المتكون من الفقهاء وفقهاء الحديث والمتصوفة ومنهجه التقرير لا النقد والجدل، وعمدة هذا التيار كتاب توحيد الرسالة لابن أبي زيد أو باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات وشروحه، وتيار فقه الكلام المتكون من الفقهاء والأصوليين وفقهاء الحديث والمتصوفة، وعمدته كتب الباقلاني والجويني والسلالجي والضرير، ثم ختم الأستاذ بنلمهدي مداخلته بعرض
لخريطة التيارات العقدية التي عرفها الغرب الإسلامي زمن المرابطين، والسياقات التاريخية التي ظهرت فيها الأشعرية قبل الحضرمي.

وفي مداخلة الأستاذ وسام رزوق التي عنونها بـ«جهود أبي بكر المرادي في توطين ونشر المنهجية الأشعرية على عهد المرابطين» اعتبر أن عقيدة المرادي لا تنحصر في دورها الكلامي، بل هي وثيقة تاريخية مهمة تجيب عن إشكالات متعددة تخص عصر المرابطين، وتُمكن من مراجعة مجموعة من الأحكام والنتائج، مصنفا شخصية المرادي ضمن تيار التجديد والتغيير الذي يقابله تيار المحافظة، وحدد جهوده في توطين المذهبية الأشعرية من خلال مستويين، إرساء البرهان والنظر من جهة، وخلخلة جملة من القناعات والآراء العقدية من جهة ثانية، وبعد ربطه للمتن بسياقه التاريخي وتأثره بالواقع المرابطي، نظر الباحث إلى المتن من ثلاث زاويا، ابتدأ فيها بمنهجه في التأليف والاستدلال حيث أبرز من خلاله ملامح إتقان الصنعة الكلامية في التبويب والتقسيم، واستعماله للقواعد والأساليب التي انتهى إليها الفكر الأشعري كالسبر والتقسيم وغيره، والنقطة الثانية تتعلق بموقفه من المتشابه؛ حيث بيَّن الباحث أنها أطروحة مركزية في فكر المرادي، ونظر إلى أنها من المحن التي يختبر بها الله العلماء، كما أبرز وجوه تأويل الآيات وإخراجها عن ظواهرها، مبرزا مرجوحية رأي أهل الحديث استنادا على موقف السلف الذين خاضوا في التأويل. أما النقطة الثالثة فتخص إبراز طريقة توظيفه المنهج الكلامي في باب الاستدلال على حدث العالم، محددا الموقف الجريئ للمرادي من هذه القضية باعتبار المتوجه لهم بالخطاب في وقته، وما يتضمنه هذا الخطاب من استدلال يستند على أصول نسقية عقلية كما تعارف عليها الأشاعرة.

وكانت آخر المشاركات مداخلة بعنوان «حضور المذهب الأشعري زمن المرابطين ـ عرض الدعاوى وتفكيك المفاهيم ورصد المصاديق» عرض الأستاذ محمد أمين السقال (باحث بمركز أبي الحسن الأشعري) موضوعها من خلال ثلاثة معاقد، أولها يتعلق بعرض ونقد دعويين رئيستين بخصوص ظهور الأشعرية وانتشارها في المغرب، أما الدعوى الأولى فصادرة عن المناوئين للأشعرية ورسمُها أن الأشعرية بدعة طارئة لم يعرفها المغاربة إلا على يد محمد بن تومرت، وأما الثانية فتنتصر للأشعرية وكأنها عقيدة جديدة اعتنقها المغاربة، وكلتا الدعويين تصدى لهما الباحث بالنقد بناء على مجموعة من الدلائل. في المعقد الثاني حفر الباحث في مفهومي “الأشعرية” و”المذهب” ولقب “المرابطين” فبين أن الأول مفهوم دائري يستغرق مجموعة من الدوائر المعرفية. بالنسبة لمفهوم المذهب، فليس هو جملة المضامين، بقدر ما هو الاستدلال على هذه المضامين. أما بخصوص لقب المرابطين واتهام ابن تومرت لهم بالتجسيم فقد بين الباحث أن اللقب حقه التضييق لا التوسيع، إذا لا ينسحب على مجموع المغاربة زمن المرابطين، وإنما على ما سماه المتدخل بـ”نظام الحكم”، وعليه يكون الحكم بالتجسيم منسحب على القائمين عليه ـ حكاما وعلماء ـ لا على جميع علماء العصر وعامته. وانتهى الأستاذ السقال إلى رصد جملة من المصاديق من قبيل أعمال الباجي والمرادي وأبي الحجاج الضرير مؤكدا على أن الأشاعرة المغاربة أكثر صلة ووثاقة بمؤسس المذهب أبي الحسن الأشعري من حيث انتهاج منهج قياس الغائب على الشاهد في تقرير العقائد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق