وحدة الإحياء

تقرير حول ندوة: الوحي والعالم.. جدلية مرجع الوجهة ومرجع الحركة في عالم متغير

التأمت فعاليات الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء تحت الرعاية السامية لأمير المومنين جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، حول موضوع: “الوحي والعالم: جدلية مرجع الوجهة ومرجع الحركة في عالم متغير”، وذلك يومي الثلاثاء والأربعاء 10 و11 شعبان 1437ﻫ موافق لـ17 و18 يونيو 2016م، الرباط-المملكة المغربية.

وقد استهلت الندوة أشغالها بتلاوة آيات بيّنات من الذكر الحكيم، تلتها محاضرة تأطيرية لأعمالها أوضح فيها فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور أحمد عبادي أن من أعظم التحديات التي واجهها النوع البشري وسوف يواجهها عبر مختلف أطوار عيشه فوق هذا الكوكب، تحدي إعطاء حركته وجهة معينة لبلوغ قبلة محددة على الصعيد الفردي والجماعي. 

 وقد أبرز فضيلته أن الرؤى والمقاربات قد تعددت بهذا الصدد، بتعدد الأطر المرجعية، والمنظومات العقدية للذين يصدرون عن هذه الرؤى والمتبنين لها، كما تعددت بتعدد السياقات التاريخية والحضارية التي تحيطها..

كما أوضح فضيلته من أن الممارسات الفلسفية كانت حبا للحكمة، وتشوفا إلى موسوعيتها الشاملة، واستيعابها للعلوم والمعارف ومختلف تجلياتها العقلية والحسية والروحية؛ إذ كانت تجتهد في بناء الأنساق الكبرى المؤطرة للوجود والمعرفة والأخلاق، غير أنها في الزمن المعاصر اجتالتها مواضيع وإشكالات نأت بها، بقدر ملحوظ، عن هذا الأصل والمبدأ، اعتمادا على لا نهائية التأويل، وعدمية المعنى، واحتفاء بصنوف “اللاحكمة” من أنواع اللامعقول، المفتقرة للمعنى الذي يشكل جوهر الإنسان وخصيصته المثلى كما بات واضحا في كل الأدبيات النقدية اليوم، سواء منها الفلسفية أو الدينية، التي تسعى إلى استعادة التوازن للحياة الإنسانية، باستئناف القول عن سؤال المعنى، أو القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، والحسن والقبح، والصلاح والفساد، واستدماج المعايير التي تمكن من ذلك، وعدم ترك الإنسان بمعزل عن بوصلة تُعينه على تبين غاياته النافعة ووسائلها الناجعة.

فيما اعتبر فضيلته أن الحتمية التي دخلت إلى مجال العلوم الإنسانية في أواخر القرن التاسع عشر، من أعظم الإصابات التي أصابت الإنسان المعاصر، حيث نتج عن ذلك عدم التفريق بين الإنسان والكون، من حيث خصائص كل منهما وغاياته، وذلك تحت أزِّ النزعات المادية، التي طفقت في الانتشار منذ أواخر القرن الرابع عشر، ردّ فعلٍ على مد الرهبنة؛ الناجمة عن صيغ التدين المتأخرة بالديانة المسيحية.

حيث صار الإنسان في إطار هذه المرجعية المادية مُستوعَباً تماما في الطبيعة، ومجرد جزء منها، وليس كينونة مستقلةً داخل النظام الطبيعي، وسقط، بذلك، في قبضة الصيرورة العامة للمادية، فسقطت المرجعية الإنسانية إلى هذه الدركات، وأصبحت الطبيعة/المادة، هي المرجعية الوحيدة النهائية، وصفّيت ثنائية الإنسان والطبيعة، فأضحى تفسير الإنسان جارياً على نهج تفسير سائر مفردات الطبيعة.

وبالتبع، يضيف فضيلته، صار لهذه المرجعية المادية قانون وحيد فريد يسري على كل الظواهر، كما بيّن فضيلته، في هذا السياق، أن القوة التفسيرية للقرآن المجيد، لهذا الخُلْف تأتي من جلاء الرؤية الكامنة فيه، عن الإنسان وعن الطبيعة، فالطبيعة/الكون في القرآن الكريم كائن مسخر للإنسان: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ (الجاثية: 12)؛ وأن هذا التسخير إنما كان ممكنا بسبب المواءمة التي جعلها الله، سبحانه وتعالى، بين الكون وبين الإنسان، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ (الأعراف: 53)، وقال عز وجل: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ (النحل: 12)، وقال سبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾ (الجاثية: 11)، وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ (الجاثية: 12).

كما أشار أن مواءمة الإنسان للكون هي الرافعة التي تمكّنه من تفهّم الكون وتعقله، وتعقل السنن الكامنة فيه، ومن تم القدرة على تسخيره إلى حين؛ وهذا التسخير ليس مشروطا من حيث فاعليته ومضاؤه بالقبلة التي يتم التوجه نحوها انطلاقا من موقع الإنسان قبل التسخير، وإنما يكون مرتبطاً ومشروطاً بقدرة الإنسان على تعقل هذه السنن والقوانين الكامنة في الكون، وتسخيرها، وهو قوله تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء: 20). ومن أن التسخير قد شهدت إثر اكتشاف بنائية الكون، ومواءمته لعقل الإنسان، فورة ملحوظة، وتفتقا ملموسا في مجال العلوم وتنميتها المستدامة، وفي مضامير الاقتدار على الحركة، وتنمية الفاعلية. وقد باتت هذه الفورة، وهذا الاقتدار، وتلك الفاعلية، كما سلفت إليه الإشارة، بات كل ذلك يطرح إشكالات ملموسة في اتصال بأبعاد المعنى، واتصال بقبلة ومقصد الحركة، وبمعايير وموازين تقويم الاقتدار والفاعلية دون الاقتصار على شبكة الربح والخسارة الماديين فقط.

وقد دلل الأستاذ أحمد عبادي كيف أن الحركة بسبب اكتشاف بنائية الكون ومقروئيته وسريان القوانين والسنن فيه، مكّنت من قراءة بصائر الكون، كما مكنت من التحاور معه من أبواب كل العلوم المادية التي تمت بلورتها، وذلك عبر العمل في المختبرات، وإجراء الأبحاث التي من خلالها تستخرج أسرار الكون، وبالتبع تستخرج قدرة أكبر على تسخيره، مما أكسب الإنسان فاعلية، أضحى معها إشكال الوجهة أعمق، لأن هذه الفاعلية كما تكتنز قدرة على الفعل وعلى الحركة، فإنها تكتنز قدرة على التدمير، وعلى إنهاء الحياة فوق الكوكب، في غياب وعي بالوجهة”.

كما أكد أن مسألة الوجهة، في هذا السياق المركب، تكتسي أهمية بالغة بحكم أن الوظيفة الأساسية للقرآن المجيد تتمثل في الهداية للتي هي أقوم؛ فإذا الكون هو مرجع الحركة، والحوار مع هذا الكون يمكن من الفعالية، فإن الحوار مع الوحي هو الذي يمكن من إضافة الوجهة نحو القبلة التي هي وجه الله عز وجل.

وقد خلص فضيلته إلى أن هذه الإشكالات قد فرضت أضربا من الاجتهاد، دَاخل مختلف المنظومات الحضارية، والمرجعيات الاعتقادية تبلورت من خلالها جملة من الإجابات والعلوم والمناهج، للتعاطي مع هذه الإشكالات، كعلم (Ethics) ومناهجه، وعلم (Noetics) ومناهجه  و(Values measurment) ومناهجه، و(Esoterics) ومناهجه وغيرها من العلوم التي لكل منها مقارباته، وإجاباته، ومناهجه، ذات العلاقة بإشكال البحث عن المعنى (Quête du sens)، مما أطفى على السطح جدلية مرجع الوجهة ومرجع الحركة في عالمنا المتغير..

بعد هذه المحاضرة التأطيرية لأعمال الندوة أسهم الدكتور د. رضوان السيد (أستاذ الدراسات الإسلامية، الجامعة اللبنانية)؛ بمحاضرة افتتاحية أولى حول موضوع: “الوجهة والمرجعية، وإلى أين يتجه المسلمون؟” تناولت مسائل الوجهة والمرجعية، وإلى أين يتجه المسلمون، من خلال “شواهد” خارجية خلال القرن العشرين. الشواهد المذكورة تتمثل في شهادات مؤلّفين على حالة الإسلام والمسلمين، من لوثروب ستودارد (1910م) إلى ستينات القرن العشرين مع ألبرت حوراني.

كما أوضح المتدخل أنه قامت حركتان بمرجعيةٍ واحدةٍ ووجهتين مختلفتين؛ السلفيون والإصلاحيون؛ حيث يرى السلفي ضرورة إجراء إصلاح داخلي يُسقط التقليد، ويكافح التصوف الشعبي، ويرفض البِدَع، ويفتح باب الاجتهاد. وأما الإصلاحي، فإنه يعارض التقليد والتصوف، ويقول بفتح باب الاجتهاد، ويرجو من طريق التأصيل ومقاصد الشريعة أن ينفتح المسلمون على التقدم الغربي، وعلى المؤسسات الغربية. وقد نجم عن ذلك تداعي التقليد بسبب العجز والهجمات، وظهور توجه جديد إضافةً للتوجهين الموجودين اللذين زاد انفصالهما. كما سمى التوجُّهُ الجديد بـ”التوجُّه الإحيائي”، والذي استند إلى فكرة فقد الشرعية، والتي ينبغي استعادتُها، حسب قوله، بالتنظيم الذي يحتضنها ويفرضها بواسطة الدولة. أما ماهية الشرعية أو مضمونها فهو الشريعة (الجديدة) التي ينبغي تطبيقها. وقد جرت صياغتها من طريق عمليات تحويل المفاهيم الكلاسيكية، مزودة بيقينيات الحداثة والخطاب بإعطائها طابعاً قانونياً مُلْزِماً.

كما أشار الأستاذ رضوان السيد أنّ هذه الوجهات المضطربة والمتفارقة قد واجهت المزيد من الانقسام في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بسبب ظروف الحرب الباردة  التي تسبّبت في تفجير أو تحويل تلك التوجهات أو بعضها نحو العنف.

أما الدكتور ناجي بن الحاج الطاهر (محترف الدراسات القرآنية، شيكاغو/الولايات المتحدة الأمريكية) فقد تساءل في المحاضرة الافتتاحية الثانية مداخلة بعنوان: “القرآن ووحي العالم وموقع الإنسان منه”: كيف يعرف القرآن العظيم الوحي ويعممه على الوجود كله، وكيف يحافظ على خصوصية الإنسان ويستجيب لخصوصية غاية خلقه من خلال خصوصية الوحي الموجه إليه، وعلاقة كل ذلك بتحديات إشكاليات الوجهة داخل عالم الإنسان وهو يتحرك نحو الله كقبلة لحركته.

لتنطلق أشغال الجلسة العلمية الأولى:إشكالية الحركة، والحوار بين الإنسان والكون: مقاربات، رصد وتقويم” بمداخلة للدكتور عبد الجليل هنوش (كلية الآداب والعلوم الإنسانية/مراكش) حول موضوع: الوحي بين القلب والقبلة: قراءة في نظام التواصل الرباني الكوني استهلها بمراجعة علمية لمفهوم الوحي، مبرزاً كيف أنّ أكثر من تحدثوا عن هذا المفهوم انشغلوا بربطه بمصدر المعرفة ووجدوا في بعض دلالاته اللغوية الجزئية ما يؤيد مسعاهم، متناسين أن الأهم في هذا المفهوم ليس هو تحديد طبيعة المصدر و إنما طبيعة الأثر، و هو ما يدل عليه المعنى اللغوي العام مستشهدا بما ذكره ابن فارس في معجمه: “كل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان”، وهو ما أدركه بعمق بعض الصوفية بربطهم بين الوحي بوصفه تأثيرا في القلب وتنفيذا للأمر.

 وقد أوضح أن بهذا الفهم يكون الوحي من جهة بمثابة الإلقاء في القلب لخلق التوجه القلبي المرتبط بالشهادة: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ (الشعراء: 193-194)، ومن جهة أخرى الإيحاء العملي لخلق التوجيه إلى القبلة المرتبط بالهداية:  ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ (الشورى: 49). وبذلك ينشأ لدينا، يضيف المتدخل، عالمان متقابلان هما: عالم القلب، وعالم القبلة، يغلب على أولها التوجه القصدي المحكوم بالإشارات، ويغلب على ثانيهما التوجيه الخلقي المحكوم بالأمارات، وهذا هو ما سنفصل فيه من خلال تأمل الآيات والسياقات القرآنية المختلفة التي ورد فيها المفهوم.

بعد ذلك تناولت الكلمة دة. كلثومة دخوش (عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء) بعنوان: “الإنسان بين الوحي والكون: تأملات في آيات الوجهة في القرآن الكريم” انطلقت فيها من قول الله، تبارك وتعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 29)، ومن آيات عدة أخرى توجه حركة الإنسان في تعامله مع الكون، من خلال تسليط الضوء على بعض محددات ما ينبغي أن يكون عليه الحوار بين الإنسان والكون، ليكون حوار ذا وجهة سليمة متوافقة مع رؤية الوحي للإنسان والكون.

موضحة أن الإنسان وهو يعمل في المختبر، مثلا، لا يقصد غالبا، ولحد الساعة، إلا اكتشاف التفاعلات الممكنة بين عناصر الكون المختلفة، غير أنه، في معظم الأحيان، لا يعي بأنه بعمله ذاك في المختبر، إنما يحقق تفاعلا من التفاعلات التي له مع هذه العناصر، إذ يشكلها بتفاعله أيضا معها خدمة لوجهات مختلفة، هذا التفاعل الذي هو سبب تميزه عن سائر المخلوقات، والذي هو من تجليات تعليمه الأسماء كلها ومن ثم إسجاد الملائكة له.

وموضحة في سياق آخر؛ أنه لا يخفى أن تفرد الإنسان بهذا التميز لا ينبني على مجرد التفاعل، بل على نوع التفاعل وأهدافه، وذلك ما ستحاول هذه المشاركة الإجابة عنه انطلاقا من دراسة آيات الوجهة في القرآن الكريم وبحث في معانيها الكريمة.

أما الدكتور شراف شناف (أستاذ النظرية والمناهج النقدية بقسم اللغة العربية وآدابها، جامعة باتنة الأولى/الجزائر) فقد سعى من خلال مداخلته “الذخائر المعرفية والبصائر الكونية: قراءة ابستيمولوجية تركيبية في الأنساق التمثيلية للحركة وتأويليات الوجهة” إلى إعادة فهم وتمثّل طبيعة العلاقة المركبة بين الإنسان والكون، واستشكال تاريخية وتكوينية أنساق الفهم والإدراك الظاهراتي والتأويلي (الفينومينولوجي/الهيرمينوطيقي) على مستوى الثقافتين؛ الغربية والشرقية الإسلامية، في ضوء ابستيمولوجيا تركيبية توحيدية تستمدّ مفهوميتها من الجدلية التفاعلية بين الوحي والوعي والسعي، من أجل تدبّر وتعقّل الأسباب الجوهرية التي أورثت الإنسان أعطابا وتشوّهات جسيمة في ذاكرته الفطرية الكونية الضاّمنة لكرامته الآدمية وتكريمه الربّاني، ومهمّته الاستخلافية العمرانية، المتوائمة مع النسيج والحبك الكوني.

داعيا إلى قراءة أهم الأنساق التأويلية الكبرى لعلاقة الإنسان بالكون وتبصر أمداءها في ضوء السعة الدلالية لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ (الحجر: 21)، وقوله: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ (النجم: 17). ومن أهمها نسق إدموند هوسرل (أزمة العلوم الأوروبية)، ونسق مارتن هايدغر(الكينونة والزمان)، ونسق موريس ميرلو بونتي (المرئي واللامرئي)، ونسق محمد إقبال (تجديد الفكر الديني)، ونسق مالك بن نبي (الظاهرة القرآنية)، ونسق طه عبد الرحمن (روح الدين وسؤال العمل).

أما الجلسة العلمية الثانية فقد تمحورت حول: “إشكالية الوجهة، والحوار بين الإنسان والوحي: مقاربات، رصد وتقويم” استهلها الدكتور محمد كمال الدين إمام (أستاذ بكلية الحقوق/جامعة الإسكندرية) بمداخلة بعنوان: الإنسان والوحي والقرآن: رؤية نقدية لمفاهيم الحداثة“.  موضحا أن الوحي هو حامل الرسالة السماوية إلى رسل الله، والرسالة بلاغ وبيان، والإنسان هو المرسل إليه وهو المكلف، من هنا كان ضروريا، يوضح المتدخل، تحديد الصلة بين الإنسان والوحي من زاوية الوحي وغاياته والإنسان ومقاصده، والمحور الرئيسي للبحث هو بيان هذه العلاقة مفهوما ومجالات، مع ربطها بمقاصد الشارع ومقاصد المكلفين.

أما المداخلة الثانية فكانت للدكتور الحسان شهيد (كاتب وباحث في الدراسات الإسلامية والمعرفية/المملكة المغربية) بدراسة حول موضوع: “السعي الإنساني الشتّى بحثا عن وجهة، من الاستباق إلى العمران”. مبرز فيها أنّ السعي الإنساني “الشتى” آية من الآيات المقدرة في الكون وفق رؤية الوحي القرآني، ومن لزومياته تعدد الوجهات نحو شهادة الأمة المقصودة، ومآب ذلك إلى أصول الاختلاف وتعدد الشِّرَع وتنوع المناهج، المترجمة في خصيصة الاستباق لكسب ذلك التدافع الكوني، الأمر الذي يعرض حتما لسؤال المعنى في هذا الاستباق: “أيّ هدف وما القصد وبأي رؤية وما السبيل؟”.

كما أكد المتدخل أن الرؤية القرآنية تجعل أسس القراءة والتعارف والتكارم والعمران مداخل شريفة في الاستباق الحضاري المعاصر، وشهاب أقباس يؤنس بها بحثا عن الوجهة السّوية، للظفر بمحاسن السعي المشكور. تروم هذه الورقة بسط هذا التأمل في صفحات علها تسهم في بحث المراد.

تلاه د. عبد الرحمن معزيز (عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء) بدراسة بعنوان: “سؤال الوجهة في المنظور الكوني القيمي بين الاستبانة والاستتباع” أشار من خلالها إلى أن الحال الذي آل إليه واقع أمتنا، جعلها تغرق فيه قروناً طويلة، أدى إلى حدوث تصدعات وبروز انشقاقات في العالم عربية وعجمية. وذلك راجع، في نظره،  إلى عدم الوعي المستنير، وضعف الاهتمام العلمي المتعمق بالرؤية الكلية الكونية أو رؤية العالم، وضبابية هذه الرؤية وتسطيح فهمها وعدم الاعتماد على مرجع الوجهة لاستبانة القبلة، الذي يعد من أهم الأسباب الأساسية التي تفسر ما تعانيه الأمة الإسلامية.

ومن جانب آخر قام المتدخل  بمقاربة أولية لمفهوم الوجهة في ضوء رؤية القرآن للعالم تأسيسا على حركة الإنسان. مستثمرا منهج التدبر على هدى المنهج العلمي المعروف القائم على المقدمات الأولية، والتعميمات الاستقرائية، والاستنتاجات الاستنباطية..

لنصل إلى الجلسة العلمية الثالثة: “قراءة في تجارب الوصل بين القراءة في الكون والقراءة في الوحي” وقد استهلها الدكتور الصادق الفقيه (سفير جمهورية السودان بالأردن/الأردن) بدراسة تمحورت حول “إشكالية الحركة بين نمذجة المعنى وعولمة اللامبالاة” التي تؤسس في رؤيتها المنهجية، في نظر الأستاذ المتدخل، على فكرة التحليل الجذري للإشكالية المعرفية، التي نشأ عنها “إزاحة المعنى” عن الحركة الوجودية للإنسان؛ على مستوى تحققه الذاتي، أولاً، ومن ثم انسحاب ذلك على طبائع علائقه التعارفية، كمترتب ثاني. إنها مقاربة تفسيرية للمعنى الوجودي للإنسان، والصلة المتحققة بين الوحي والمعنى، في زمن اللامبالاة المعولمة.

كما أوضح أن قصة الوجود الإنساني كلها تتلخص بواسطة نظرية التحولات الكبرى؛  أي إمكانية تفسيرها بلغة المراحل المتميزة لتطور المعنى عبر الخطاب الإلهي، والاتصال الإنساني، التي كانت لكل مرحلة منها نتائج “معرفية-ثقافية” عميقة، سواء بالنسبة للفرد، أو حياته الاجتماعية بشكل عام. إنها فكرة السفر في الزمن عبر المسافة؛ في قصة الوحي والعلاقة بين السماء والأرض.

كما  تبحث هذه المداخلة، حسب تعبيره، في مكون رؤيتها الأول عن المفهوم التحققي للوحي عن الأبعاد، التي فصلها النص القرآني، ونوازل الاتصال. وتقتضي الاستقامة المعرفية، بشأن النظر في جدل مراجع الرؤية حول حركة الإنسان ووجهته، على ضوء علاقة الوحي بالعالم، الاطمئنان إلى حقيقة الضبط اليقيني لمفهوم الوحي وجلاء التصور حوله. ومن ثم، التأكد مما إذا كان واحداً من موجهات المعرفة-المعنى، كما تستصحبه بعض الاتجاهات النظرية، أم أنه عين المرجع التوحيدي للمعارف، كمطلوب النص المقدس، وعلوم السنن والاتصال، التي تبين كنه حقيقة الإنسان والمعنى الوجودي لذاتيته الفردية، والتي تنتهي تمظهراتها وتداخلاتها الاجتماعية والثقافية الكونية إلى تشكيل صلته التعارفية بالعالم المعولم.

بعد ذلك تأتي مداخلة سمير أبو زيد (باحث مستقبل/جمهورية مصر العربية) بعنوان: “الحضارة بين الدين والمجتمع مفهوم إعمار الكون في عالمنا المعاصر” والتي أبرز من خلالها أن ديننا الإسلامي الحنيف يقدم لنا في محكم التنزيل إجابة على أحد الأسئلة المركزية في حياة الإنسان: من أجل أي شيء خلقنا الله، وما وظيفة الإنسان في هذا الكون؟ الإجابة ذات شقين، هناك وظيفتان أساسيتان للإنسان، هما عبادة الله وإعمار الأرض. ولأن الإجابة لها شقين فإن طاعة الله والالتزام بأوامره ونواهيه تقتضي القيام على هذين الشقين معا، وليس الاكتفاء بأحدهما. وحكمة ذلك أن الغاية الإلهية من خلق الإنسان والكون لا تتحقق إلا بتحقق كلا الوظيفتين.

كما أوضح أن مفهوم إعمار الأرض هو مفهوم أوسع من مجرد الانتشار في الأرض واستثمارها واتخاذها مكانا للإقامة والحياة. إنما هو يمتد إلى إقامة المجتمعات ومن ثم وبشكل أوسع إقامة الحضارات الكبرى التي تستطيع أن تحقق التقدم والرقي للبشرية بأشكاله المختلفة. في هذا الإطار يقوم بطرح مفهوم الحضارة وبيان علاقته بمفهوم الدين من ناحية ومفهوم المجتمع من ناحية أخرى.

ومن جانبه فقد تناول د. محمد حوراني (عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ورئيس الاتحاد العام لمقاولات المغرب سابقا/الدار البيضاء) موضوع: “مرجعية علم الوجهة لتقوية وتقويم روح المقاولة” مبرزا أنه في عالم يتغير بشكل عميق وسريع لم يسبق له نظير في تاريخ البشرية، تحت تأثير الثورة الرقمية المتصاعدة، أصبحت النماذج الاقتصادية التي كانت تبدو ناجحة قبل بضع سنوات متجاوزة. موضحا، بذلك، أن التطورات التكنولوجية وعلى رأسها استعمال الإنترنت ساهمت في تسريع عولمة الاقتصاد وتغيير أنماط الإنتاج و عادات الاستهلاك وقواعد المنافسة، بل حتى دور الدول في تقنين وتنظيم مناخ الأعمال يعرف تغيرات جذرية. وهكذا أضحت التنافسية بين المقاولات أكثر حدة.

معتمدا على مجموعة من الاستشكالات المتمثلة: ما هي الشروط المادية والروحية لنجاح المقاولة؟ وما هو البعد الروحي للمقاولات من أجل تنمية متوازنة ومستدامة؟ موضحا أن الاستناد على العلوم الكونية بما فيها العلوم الإنسانية والرجوع إلى الوحي واستلهام قراءته من السنة النبوية بطريقة دينامية في عالم دائم الحركة، هو السبيل الوحيد لإيجاد مقاولات قوية اقتصاديا، ومسؤولة اجتماعيا تساهم فعليا في تحقيق كرامة الإنسان وسعادته.

أما مداخلة د. أنس وكاك (أستاذ جامعي/كلية اللغة العربية بمراكش) فقد تمحورت حول موضوع: “قراءة الوحي بين الثابت والمعهود، ورهان التأويل وبصائر الوجود”. الذي يروم البحث في أمرين: أولاهما؛ اتساع دلالات ألفاظ الوحي، والتدليل على الفرق بين هاديات الوحي في الدلالات الشرعية الثابتة والمعهودة، وبين آفاق الدلالات الأخريات المستفادة من التأويليات القرآنية ومن بصائر الكون. وثانيهما؛ في التنبيه على بعض الأخطاء الواردة في التراث الإسلامي بسبب تحجير معاني الدلالات في الثوابت والمعهودات، أو نسبة تلك الأخطاء لبعض العلماء بسبب عدم ضبط المقصود من كلامهم، وهي ظاهرة تركب آفاق البحث العلمي، وتتكرر في السياق التاريخي لتجارب وخبرات الدارسين، وتحجب الإمكانات المتجددة لعطاء الوحي، ولا تعالج رهانات المستقبل.

وقد أغنى المتدخل هذين البابين بكثير من الأدلة والأمثلة والشواهد التطبيقية من مصادر ومراجع وقراءات متعددة، حيث مهد لذلك كله بأدلة وشواهد أخرى في اعتبار الجمع بين القرائتين وتكامل البنائيتين.

وفي ختام هذه الجلسة فقد جعل الدكتور محمد الناصري (كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بني ملال) موضوع مداخلته حول:الجمع بين القراءتين والمنهج التوحيدي للمعرفة: قراءة في المتن الفكري لطه جابر العلواني أبرز من خلاله أن الدكتور طه جابر العلواني، رحمه الله، قد شيّد مرتكزات “نظام معرفي قرآني”، تبعا لما انتهت إليه تأويلاته لآيات القرآن الكريم، وظلّ على الدوام في تفكيره مفارقا للسائد، فلم يتحدث عن “حاكمية إلهية”، وميّز بين “الحاكمية الإلهية المباشرة”، و”حاكمية الاستخلاف” و”حاكمية الكتاب”.

كما أوضح أن الدكتور طه جابر العلواني، رحمه الله، لا يقتصر في اجتهاده على إنتاج رأي جديد، وبناء مفاهيم مختلفة، وإنما يسود كتاباته ثراء لغوي، وتتميز بمعجم اصطلاحي يختص به، يتألف من مصطلحات نحتها هو، أو استقاها من غيره، ودمجها كعناصر تكوينية في بنية النظام المعرفي الذي صاغه. من ذلك مفهوم “الجمع بين القراءتين” المحدد الأساسي لمنهجية القرآن المعرفية عنده، والتي تتحقق من قراءة كتابين تؤسّس على مقابلتهما والكشف عن التكامل والتفاعل بينهما، الكتاب الأول: هو كتاب الكون المتحرك الذي يتضمن ظواهر الوجود كافة، والكتاب الثاني: هو كتاب الوحي المقروء “القرآن”؛ لأنه الكتاب الذي يعادل الوجود الكوني وحركته ويستوعبهما بأبعاده الكونية.

وقد تمحورت الجلسة العلمية الرابعة حول: “قراءة تقويمية في العلوم ذات الصلة بالبحث عن المعنى (Noetics Ethics, Bio-Ethics,)” استهلها د. عبد الله السيد ولد اباه (جامعة نواكشوط/موريتانيا) بمداخلة حول موضوع: “عالم النص: في نقد التأويلية التاريخية للوحي”؛ هادفا من خلالها القيام بوقفة نقدية مع نموذج النقد التاريخي السائد في مقاربة الوحي من المنظورين الإيديولوجي التحديدي والابستيمولوجي الأداتي، مبرزاً مفهوم “عالم النص” من حيث هو سياق للفهم والدلالة يتجاوز كل المحاولات لاختزاله في مضامين قابلة للفصل والقطيعة مع أفقنا التأويلي الحاضر. عالم النص هنا هو من جهة الأفق المرجعي والوجهة الثابتة وهو المشروع المفتوح للنظر والفعل.

أعقبه د. محمد بلكبير (رئيس مركز الدراسات والأبحاث في القيم بالرابطة المحمدية للعلماء) بمداخلة: “في البحث عن أسس جدلية المبنى والمعنى ضمن ثنائية الذات والكون انطلاقا من قراءات استشرافية لنماذج من الفكر الفلسفي لفهم الحوار الكوسمولوجي للذات”. التي تناول من خلالها مجموعة من المساءلات الفلسفية والإبيستيمولوجية والسيكولوجية في موضوع مونولوجية الذات بحثا عن المعنى الجوهري لوجودها ضمن الكون، وضمن تلك التساؤلات تطل إجابات ذات بعد فلسفي عميق من تجربة الإنسان الكادح إلى فهم ذاته ضمن رباعية الوجود السماء والأرض والله والبشر. وسيكون “شبنهاور” و”فكتور فرانكل” و”هربرت سبنسر” و”ويليام جيمس” إضافة إلى شخصيات قلقة في الإسلام؛ كالسهروردي المقتول وابن سبعين منطلقا لهذه الإجابات عن محورية الذات في الكون.

 ثم تلته مداخلة دة. ريحانة اليندوزي (عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء) بورقة حول: “مقاصد القيم القرآنية في القصص القرآني.. سورة يوسف انموذجا” تناولت فيها نهج القرآن الكريم لأساليب متنوعة في تبيان القيم الإسلامية وترسيخها باعتبارها وسائل للاستقامة، من أهمها؛ أسلوب القصة إﺫ ﺗﻘﺪﻡ العبرة وتبين ﺍﻟﻘﻴﻢ التي ﺟﺎﺀ بها ﺍﻟﻮﺣﻲ في ﺻﻮﺭﺓ ﻭﺍﻗﻌﻴﺔ ﺃﺩﻋﻰ إلى التطبيق والاقتداء ﻭﺃﻗﺮﺏ إلى تلمس آثار الوحي في الحياة، معتبرة، بذلك، أنه إذﺍ كانت المقاصد ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﻟﻠﻘﺮﺁﻥ الكريم ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ لله ﻭﺍﻟﺘﺰﻛﻴﺔ للنفس ﻭﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ للأرض، ﻓﺈﻥ القصص القرآني ينطلق ﻣﻦ تقديم نماذج ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ الإنساني، ويقف ﻋﻠﻰ ﻣﻮﺍﻃﻦ العبرة ﻭﺍﻟﻘﺪﻭﺓ، بغية تثبيت القيم القرآنية بأنواعها المختلفة الإيمانية والخلقية والاجتماعية… في نوع الإنسان بهيئة  تضمن له خير المسالك وتحول بينه وبين المهالك.

وتأتي هذه الورقة مركزة على قصة يوسف، عليه السلام، لتكون السبيل لبيان، مقاصد القيم القرآنية. باعتبارها أنموذج ﻟﻠﻤﻨﻬﺞ المتكامل المبين للقيم القرآنية المعالجة لموضوع ﺍﻟﻌﻘﻴﺪﺓ، وأحوال النفس البشرية ﻭﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴﺔ، والمواقف ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، والمهارة اﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ، ﻭﻣﻨﻬﺞ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ إلى الله وتوحيده.

وفي ختام هذه الجلسة العلمية جاءت مداخلةDr. Khaleel mohammed  ((Professor/Undergraduate Advisor, Department of Religious Studies, San Diego State University);) بعنوان:

Applying Noetics to the Depiction of  Abraham in the Qur’an and Antecedent Scriptures.

اعتمد من خلالها على بعض الآيات الموجودة في القرآن الكريم المتعلقة بإبراهيم، عليه السلام، موضحا بذلك أن إبراهيم، عليه السلام، حينما يتساءل عما لا يفهم فإنه يقدم نموذجاً للتفكير في الأوامر الإلهية.

أما الجلسة العلمية الخامسة المتمحورة حول “نحو بناء منهج تعارفي لاسترجاع المعنى” استهلها د. عبد الصمد غازي (مدير موقع مسارات للأبحاث والدراسات الاستشرافية والإعلامية/الرابطة المحمدية للعلماء) بمداخلة حول: “سؤال المعنى في الفكر الإنساني المعاصر: الحدود والمآلات” أوضح من خلالها أن الإنسان يتميز عن باقي الكائنات بوعيه لذاته وموقعه، وقدرته على السفر في الأزمنة ماضيا وحاضرا ومستقبلا، مما يجعله يطلب المعنى في حركاته وسكناته، ويتوجه إليه بهمته وجبلته التي فطر عليها، فالمعنى باعتباره سؤالا، حاضر مع الإنسان مذ كان في هذا الوجود، وعرف أجوبة متنوعة ومتعددة بخصوصه، منها ما كانت مرجعيته متعالية عن الإنسان، ومنها ما بقي فيها موكولا إلى نفسه في صياغتها، غير أن مسار البشرية ونضجها الحضاري الذي راكم تجارب مختلفة، جعلها تتطارح من جديد سؤال المعنى، خصوصا بعدما بدت “وعود” شعارات التقدم والرفاهية والسعادة متهافتة لأهل الألفية الثالثة، الذين يعانون من “قصور” نظر من تقدمهم، وغياب وعيهم المآلي الذي جعل الإنسان والكون يتهدده الضياع والدمار.

كما أوضح أن الكثير من المفكرين والفلاسفة عملوا على تجاوز أزمات الفكر والعلم المعاصرين من أجل الانعتاق من أسر التقنية والتشيؤ، واستعادة التوازن المفقود بين متطلبات المعنى ومطالب الحس. والذي ترنو المداخلة إلى إبراز حدوده ومآلاته.

أما دة. رشيدة زغواني (عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء) فقد جعلت من «أزمة المعنى ومخاطرها على الأمن الفكري” موضوع مداخلتها محاولة بذلك طرح مجموعة من الاستشكالات من أجل أن تبين:

ـ كيف تم التأسيس للعبث في العالم، ليستمد كثير من المسلمين فهمهم للكون وللذات، وللكتاب الموجّه من كوّة فهم الآخر، بناء على لوحة العالم المفاهيمية الغربية، المتحولة باستمرار، غير المستقرة معرفيا، فتتحول بذلك فهومهم عن وجهتها، وعن قبلة وعيها بحسيس الكون من حولهم، ليصبح النص، من ثمة، مفتوحا ينتج معارف حرة تتلاءم مع الرغبة، والانعتاق والحرية، في معزل عن كل موجه أو مقصد؟

ـ كيف ارتج الأمن الفكري في ظل هذه الواحدية، الغارقة في الانفصال والفوضى، بلا ضابط معرفي ثابت، والاعتماد على ما رسم في لوحة المفاهيم الغربية، ليتم تهجيره بتعسف وبلا حذر، في غياب وعي تسييقي، يصل معرفة الآخر بمحددات وعيه في بيئته الرؤيوية؟

ـ كيف السبيل إلى إنشاء مدارات فهمية تصل الحق بالحق، لا الباطل بالحق، على نهج الهدي النبوي، عندما لم يردّ أخلاقا تشترك مع الإسلام في انتصارها للحق، حتى وإن كانت ملكا للمشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “جئت لأتمم مكارم الأخلاق”.

ـ كيف نبني لوحة مفاهيمية توجه وجهة بناء الشهود الحضاري، حيث يتعاون لتشييده كل من الوجهة السليمة، والقبلة الحق؟

تلتها مداخلة الدكتور عبد السلام طويل (رئيس تحرير الوحدة البحثية لمجلة الإحياء/أستاذ زائر بكلية الحقوق، جامعة محمد الخامس، سلا) بعنوان: “سؤال المعنى والإيتيقا بين الفلسفة والدين: دراسة مقارنة بين سياقين مرجعيين” انطلق فيها من أنّ النزوع الإنساني تشكل من أجل البحث عن معنى الوجود، وحقيقة وأبعاد هذا الوجود، وعن سر الحياة ومغزى العيش في كنفها.. نزوعا وجوديا عميقا ملازما للوجود الإنساني ومتناميا بتنامي وتعقد طبيعة الحياة الإنسانية في شتى تمظهراتها وتجلياتها.

كما أكد على أن سؤال المعنى، باعتباره سؤالا وجوديا، لا يكاد ينفك عن سؤال القيم والأخلاق سواء في أبعادها المرجعية المعيارية المتعالية، أوفي أبعادها التاريخية العملية والوظيفية المتعينة.. في أبعادها الدينية وفي أبعادها الفلسفية، ومن هنا التمييز بين الأخلاق (morale) التي تعنى أكثر ما تعنى بما يجب علينا فعله معياريا (أخلاق الواجب)، والإيتيقا (éthique) التي تعنى أول ما تعنى بمدى قدرة الكائن الإنساني على الفعل والفاعلية في هذا العالم.

ذلك أن الأخلاق مشتقة، كما هو معلوم في دائرة المرجعية الحضارية والمعرفية الغربية، من الأصل اللاتيني (morales) والتي تحيل إلى جماع قواعد الفعل والقيم التي تشكل النظام المعياري في مجتمع من المجتمعات، مثلما تحيل إلى نظرية الغايات الكلية والمقاصد النهائية المرتبطة بالفعل الإنساني.

فيما اعتبر أن الإتيقا يمتد أصلها التيمولوجي إلى الكلمة الإغريقية (ethikos) وتشير إلى مجموع القواعد المحددة والموجهة للسلوك الإنساني، كما تشير إلى المذهب، أو المنظور الذي يعنى بالنظر في السبل الكفيلة بتحقيق السعادة الإنسانية في أبعادها الفردية والجماعية، وكيفية بلوغها. كما تحيل إلى الأبعاد النظرية والإجرائية من الأخلاق؛ أي طرق التفكير في العادات والسلوكات الخيرة التي يتعين التمكين لها حتى يغدو هذا العالم فضاء مناسبا وملائما وقابلا للعيش والتعايش بين الناس، بل وبين مختلف موجوداته..

بحيث كلما اشتدت أزمة غياب شروط العيش والتعايش في هذا العالم، كلما ازداد هذا النزوع الوجودي لدى المجتمعات الإنسانية للبحث عن المعنى؛ معنى وجودها ومغزى وجود العالم من حولها، وهو ما لا يمكن تصوره إلا من خلال نظام معياري ووظيفي للقيم سواء أخذ شكل أخلاق أو إيتيقا..ذلك أن التقدم الحاصل على صعيد العلوم البيوطبية، والثورة التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة، والاختلالات التي بات يعاني منها النظام الإيكولوجي، والتهديدات الناتجة عنها، والرغبة المتزايدة لإقرار مبدأ العدالة الوطنية في مواجهة شتى مظاهر الفساد، والعدالة الدولية في مواجهة حالة الفوضى غير الخلاقة وما ترتب عنها من عنف وتوتر وحروب..بفعل اعتماد سياسة الكيل بأكثر من مكيال لتدبير شؤون العالم.. كل هذه العوامل وغيرها كثير أسهمت في تعميق الأزمة الأنطولوجية والإيتيقية والمعرفية.

وهو ما أوضحه المتدخل من خلال محاولة النظر في مختلف تجلياته المعرفية؛ الدينية والفلسفية، وكذا تجلياته التاريخية الموضوعية انطلاقا من منظور مقارن بين المرجعية الحضارية الغربية والمرجعية العربية الإسلامية.

وتوجت أشغال هذه الجلسة العلمية بمداخلة للأستاذ عبد الله هيتوت (عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء/الجديدة) بموضوع حول: “حاجة البشرية إلى الوحي المحمدي” رام، من خلاله المحاضر، تبيان مدى حاجة الأمة العربية والإسلامية خاصة، والبشرية عامة إلى الوحي المحمدي، الذي يفي بحاجات الناس في كل عصر ومصر؛ بناءً وحضارةً وعمراناً وقيماً، وأن العقول لا تستطيع أن تهتدي في الأمور السلوكية في جانب الخير والشر، في جانب الفضيلة والرذيلة، في جانب الهدي والضلال، في جانب الحلال والحرام ،بغير بني يرسل من ذي الجلال والإكرام، وأن الواجب علينا نحن المسلمين نحو القرآن الكريم لا يتوقف عند حد التلاوة فحسب بل علينا أن نتدبره ونتذوق حلاوته ونستشعر عظمته، وأن أعلى أهل القرآن أجرا هم الذين يقرأون بألسنتهم ويتدبرون بعقولهم، مستشهدا بقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص: 28).

أما الجلسة العلمية السادسة: نحو تجديد القوة الاقتراحية في مجال بناء عالم الوجهة في عالمنا المعاصر: التحديات والأفاق”؛ فقد استهل الإسهام فيها د. محمد موهوب (شعبة الفلسفة، كلية الآداب/مراكش) بدراسة بعنوان:حدود المحدثين في مقاربة الدين.. مساءلة كاشفاً من خلالها أن النقد يكاد يكون شعار الفكر الحديث ومرتكزه الأول. وداخل هذا الأفق تحددت مهمة النقد كمهمة لا تنتهي. غير أن هذه المهمة الثقيلة، في نظره، لم تلبث أن أفرزت دوغمائية شبيهة بتلك التي عيبت، لأجيال عديدة، على الدين، وعلى الفكر الذي دار في فلكه. وهكذا فقد سعت هذه المداخلة إلى تحرير مزدوج، تحرير للنقد وفك ربقة الوضعية، ورديفتها التاريخانية، التي احتكرته، وتحرير فهم الدين الذي ابتسرته مقاربات ضيقة. إنها محاولة استعادة لمأتانا الجماعي الإنساني في أفق توسيع رحبة وجودنا المشترك.

تلته مداخلة د. خالد ميار الإدريسي (رئيس تحرير مجلة مآلات للدراسات الاستشرافية) حول موضوع: “الاستشراف الحضاري وأزمة الوجهة.. العودة إلى الوحي من أجل رشد حضاري” يروم مطارحة إشكالية استشراف مستقبل الحضارة الإنسانية، مبرزاً أن هناك نقاشاً عالمياً بين المهتمين بالدراسات المستقبلية من مختلف التخصصات، حول مستقبل الإنسانية، والمحددات الموجهة لاختيار مستقبل أفضل. من خلال عرضه لمختلف المقاربات؛  (فلسفية وعلمية وأدبية وجيوسياسية وغير ذلك) سعيا للتفكير في المشاهد المستقبلية لتطور الحضارات والحضارة الإنسانية بشكل عام. وكذلك الكشف عن طبيعة الخطاب الواصف لعملية الاستشراف الحضاري، وآلياته وأنماطه، والخلفيات الموجهة لاختيار “وجهة حضارية” معينة. وطرحه لمجموعة من الاستشكالات عن أسباب ودواعي تشظي “الاختيارات في الوجهة”؛ أو سيادة عدم اليقين في النماذج المهيمنة لصياغة “الوجهة العالمية” للحضارة الإنسانية. وكيف يمكن العودة إلى الوحي للمساهمة في بلوغ رشد حضاري جديد، يمكننا من مواجهة التحديات العالمية الراهنة والمستقبلية، المهددة لاستمرارية الحضارة الإنسانية؟

ومن جهته فقد أسهم الأستاذ عبد السلام الأحمر (عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء) بدراسة حول “المحددات الأساسية للوجهة الإنسانية من خلال القرآن الكريم” وقد جاءت هذه الدراسة عبارة عن تأطير لقضية الوجهة باعتبار أن الغاية من استخلاف الله للإنسان على الأرض، كما أوضح، هو ممارسة ما منحه من الحرية التي يختار بها وجهته في الحياة ويتحمل مسؤولية اختياره في الدنيا والآخرة.

وقد اختتمت أشغال هذه الندوة العلمية الدولية، بقراءة برقية شكر وامتنان مرفوعة إلى السدة العالية بالله، أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس، أعز الله أمره.

ذ. خالد رابح

باحث مساعد بالوحدة البحثية للإحياء

المحرر التنفيذي والمشرف على التحيين التقني للموقع الإلكتروني للوحدة البحثية للإحياء-الرابطة المحمدية للعلماء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق