مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام

النسق القيمي في القرآن الكريم ودوره في بناء الأسرة السوية. ج1

مونية الطراز

 

 

 

مقدمة:

يتصل السلوك الإنساني عموما بمجموعة أبعاد تنظم علاقات الإنسان مع الذات ومع الله ومع الناس ومع الكون كله، ويمكن حصر هذه الأبعاد في أربعة عناصر هي: البعد البدني والبعد الأخلاقي والبعد العقلي والبعد الديني، والقيم المرتبطة بهذه الأبعاد “ما هي إلا انعكاس للأسلوب الذي يفكر الأشخاص به في ثقافة معينة، وفي فترة زمنية معينة. وهي التي توجه سلوك الأفراد وأحكامهم واتجاهاتهم فيما يتصل بما هو مرغوب فيه أو مرغوب عنه من أشكال السلوك”[1].

القيم حين تؤطر سلوك وحركة الإنسان تعكس فيه بالضرورة رؤية فلسفية، قد تكون إيديولوجية مادية أو مرجعية دينية، أو غير ذلك مما يمكن وصفه بالإطار النظري لفلسفة الوجود، لذلك لزم النظر إلى القيم الإنسانية من جانب انتمائها إلى الفلسفة المؤسسة والإطار المرجعي الناظم. إذ يتعلق الحكم على قيمة القيم بالمنظومة الفلسفية التي أفرزت هذه القيم، ومجموع التشريعات والمبادئ التي أحالت الأفكار المؤسّسة إلى سلوكات يمكن وصفها بالحسن وبالقبح على حد سواء، يجدر وصفها أيضا بالخلل وبالكمال.

من هذه الزاوية يمكن النظر إلى القيم الغربية التي أصبحت توصف اليوم بالعالمية، إذ نستطيع أن ننسب الخلل الذي يعتريها إلى الأسس النظرية التي أنتجت هذا النموذج وتلك الحضارة وما يتصل من أنماط العيش ومن سلوكات إنسانية. ونستطيع أن نوافق –تبعا لذلك- أولئك الذين قرّروا أن الفلسفة المادية قد عجزت عن إفراز نسق قيمي، قادر على تحقيق السعادة للإنسان، بما ينسجم مع وسعه وطبيعة خلقه وحاجاته الحقيقية في الحياة. 

ومن نفس المنطلق يمكن الحديث عن المنظومة القيمية في الإسلام والنظر إلى ما تتميّز به  من عمق وشمولية ومن تكاملية وانسجام، وإلى ما تمتاز به -فوق ذلك- من “بعد مصدري”، من حيث ترجع  تلك القيم إلى الله تعالى وتتصل بمقصوده من الخلق، وكما لا يخفى، فإن القيم الإسلامية تتميّز بخصوصيتها هاته من جهتين: من جهة المعيارية أولا ومن جهة المصداقية ثانيا. وهذه الخصوصية هي التي تمدّ القيم الإسلامية بالفرادة والتميّز، وإليها يرجع تفسير ما يلحظ فيها من تعاضد وبنائية ومن وحدة وتكامل ومن حكمة وحسن تقدير، وغير ذلك من الخصائص التي يسهل كشفها في الوحي المنزّل، ومن الطبائع التي يجدر وصفها بالقيم النسقية على سبيل الوصف الزائد على كونها نظاما أو مجموعة من القيم. إن تركيب القيم المبثوثة في القرآن الكريم، يكشف عن وجود اتساق محكم بينها، بل يكشف عن تآلف يجمع هذا النسق القيمي المبثوث في القرآن الكريم مع أنساق أخرى تؤدي بدورها وظائف غائية ومقاصد ربانية تقوم في البدء والمنتهى على تمكين الإنسان من حسن أداء وظيفته في الوجود.

والقيم من حيث تتعلق بالسلوكات الإنسانية، إما أن تكون فطرية طبيعية تولد مع الإنسان، وإما قيما  منقولة، تجوز فيها الأصالة ويجوز فيها التبديل، وفي كل الأحوال يبقى الفضاء الطبيعي لحفظ هذه القيم ونقلها هو الفضاء الأسري، إذ هو الذي يفجّر تلك القيم ويشحنها بالمضمون، وعلى هذا الأساس استأثرت مؤسسة الأسرة باهتمام كبير من قبل الشارع، بما هي المحضن الطبيعي الذي يحفظ الطبائع الفطرية من خلال التربية الوالدية والتنشئة الأسرية بعد حسن الاستمداد من النص المنزّل والقدرة على استخراج القواعد التربوية الكفيلة ببناء الشخصية المتوازنة الصالحة للمجتمع.

1-النسق القيمي في القرآن الكريم:

1-مفهوم النسق:

جاء في لسان العرب أن “النَّسَقُ من كل شيء: ما كان على طريقة نِظامِ واحد، عامٌّ في الأشياء،  وقد نَسقْتُه تَنْسِيقاً؛ ويخفف. (قال) ابن سيده: نَسَقَ الشيء يَنْسُقهُ نَسْقاً ونَسَّقه نظَّمه على السواء، وانْتَسَق هو وتَناسَق، والاسم النَّسَقُ … وثَغْر نَسَق، إذا كانت الأَسنان مستوية. ونَسَقُ الأَسنان: انتظامها في النِّبْتةِ وحسن تركيبها … وخَرزَ نَسَق أَي منتظم”[2] وكلامٌ نَسَقٌ: جاءَ على نظامٍ واحد”[3]. ومدار التعاريف الواردة في القواميس على أن النسق يعني الانتظام في الشيء مع الحسن فيه.

أما في الاصطلاح، فالنسق يعني في أبسط معانيه العلائقية والارتباط أو التساند؛ فحينما تؤثر مجموعة وحدات وظيفية بعضها في بعض فإنه يمكن القول أنها تؤلف نسقا. ويتكون النسق من مجموعة من العناصر أو الأجزاء التي يرتبط بعضها ببعض، مع وجود متميّز أو مميّزات بين كل عنصر وآخر[4].

فالنسق إذن “عبارة عن مجموعة من العناصر منظمة تنظيما محكما ومترابطة، وتشكّل عمل وسلوك هذا الكل النسقي، كما أن الكل نسق مشكّل من عناصر من أجزاء تنتظم فيما بينها[5]. وقد يطلق النسق على النظرية[6]، وقد يدل على البنية؛ فحيث يقصد به النظرية، فذلك لأنها تدل “على ما هو موضوع تصور منهجي ومتناسق، تابع في صورته لبعض المواصفات العلمية التي يجهلها عامة الناس. وإذا أطلقت على ما يقابل الحقائق الجزئية دلت على تركيب واسع يهدف إلى تفسير عدد كبير من الظواهر”[7]، وهذا ما ذهب إليه ثلة من الباحثين في معالجتهم لموضوع القيم في القرآن الكريم من حيث كونها نظرية لها طبائع تستمدها من خصوصية الوحي المنزّل. أما وصف النسق بالبنية فذلك لأن “أهم ما في البنية أنها نسق عقلاني يحدّد وحدة الشيء وهي القانون الذي يفسره، والنسق العقلاني يُكتشف من خلال مفردات البنية وأجزائها، والقانون الذي يفسّرها هو الروابط والعلاقات بين الأجزاء، وبهذا المعنى فإن النص القرآني يمثل نموذجاً لهذا المعنى، بل إن القرآن نفسه يشير إلى ضرورة اكتشافه من خلال هذه الزاوية”[8].

 

2-مفهوم القيم:

“قال ابن زهير: القِيَمُ الاسْتِقامةُ. وفي الحديث: قل آمَنتُ بالله ثم اسْتَقِمْ؛ فسر على وجهين: قيل هو الاسْتقامة على الطاعة، وقيل هو ترك الشِّرك … أَقمْتُ الشيء وقَوَّمْته فَقامَ بمعنى اسْتقام. والاسْتِقامة اعتدال الشيء واسْتِواؤه (…). والاستقامة: التقويم، لقول أهل مكة استقَمْتُ المتاع أي قوَّمته… والقيمة: ثمن الشيء بالتَّقْوِيم (…) وقد قامَتِ الأمةُ مائة دينار أي بلغ قيمتها مائة دينار، وكم قامَتْ أَمَتُك أي بلغت. والقِيمةُ: واحدة القِيَم، وأَصله الواو لأَنه يقوم مقام الشيء”[9].

ولقد صار مصطلح القيم يدل في العصر الحديث على معنى غير معناه القديم، الذي ارتبط في الغالب بجانب القيمة المادية للأشياء، ولم يكن يدل على دلالته الحديثة التي يقصد بها “مجموعة من الأخلاق والتمثلات السلوكية والمبادئ الثابتة أو المتغيرة التي ترتبط بشخصية الإنسان إيجابا أو سلبا. وبالتالي تحدّد كينونته وطبيعته وهويته، انطلاقا من مجموع تصرفاته الأدائية والوجدانية والعملية.[10]

 هذا ولم يغب الحديث عن القيم عند القدماء بمفهومها الحديث، وإن غاب بهذا اللفظ وبهذا التركيب[11]، حيث كان ورودها متضمّنا في مباحث ما سمي بفقه المعاملات وعلم الأخلاق ومتناثرا فيما حوته مصنفات أهل التصوّف، وغيرها مما احتوى أصناف العلوم والفنون، هذا مع اإشارة إلى أن القيم في مدلولها الحديث لا تتقيّد بمعناها القديم، بل تتخذ “أبعادا جمالية وسياسية واجتماعية وثقافية ودينية وفلسفية”[12] وأيضا فكرية ومعرفية واقتصادية وإعلامية وأخلاقية وتربوية، وما سوى ذلك من المجالات، فكل مجال من هذه المجالات يعكس حمولة فلسفية أو خلفية عقدية أو رؤية خاصة للحياة، مما يطبع تصرفات الأفراد بطابع خاص ينعكس على سلوك المجتمع بأسره.

3القيم في القرآن الكريم:

وإذا عالجنا تصور القرآن الكريم للقيم فسنجده موصولا بالخالق البارئ، متصفا بصفة الشمول، وتلك خاصية الخصائص في تعلق الإنسان برب الكون. ذلك أن القيم الإنسانية كما سُطّرت في الوحي هي أنسب ما يليق بالإنسان وأحفظ لكرامته وأجدر بإنسانيته، وأليق بطبيعة خلقه، بخلاف التقدير الإنساني الذي يتصف بالنسبية والقصور. ولا تقاس الرؤية القرآنية، وهي على ما ذكرنا من وصف، بالتصور الإنساني القاصر ورؤيته المحدودة للكون؛ فهذا الذي يسمى الضمير الجمعي قد يتفق على قيم يراها تناسب الإنسان وتحقق مصلحته، إلا أنه توافق إنساني لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا أن ينعت بالشمول، فالكمال والشمول خصائص ربانية، خاصة بالخالق الأعلى عز وجل، ولا تجوز في حق الإنسان، يقول تعالى: ﴿ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك: 14)، إشارة إلى أنه لا يبقى بعد الخلق احتمال لسوء التقدير، يقول الرازي مقررا حقيقة هذا الاختصاص الرباني في هذه الآية إن “من خلق شيئاً لابد وأن يكون عالماً بمخلوقه، وهذه المقدمة كما أنها مقررة بهذا النص فهي أيضاً مقررة بالدلائل العقلية، وذلك لأن الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك الشيء، فإن الغافل عن الشيء يستحيل أن يكون قاصداً إليه … فثبت أن من خلق شيئاً فإنه لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق وبكميته وكيفيته.”[13] والإنسان حين أوجده الله تعالى وأناط به مسئولية الإعمار وحمل الأمانة، وحين شرّع لهذه الوظيفة الشرائع، كان يسبق إلى علمه قدرة الإنسان وأهليته لهذا الحمل الكبير؛ ولذلك أوجد له الصفات الكفيلة بإنجاز المهمة، فقال للملائكة ﴿إني أعلم ما لا تعلمون﴾ فلا عجب إذن أن تستمد قيم التشريع من هذا الأساس عمقها، بحيث تضمن السوية في النفس، والجدارة في العقل، والصواب في السلوك تجاه النفس وتجاه الناس.

هكذا يرسم القرآن الكريم قواعد السلوك الإنساني التي تضمن وقوع هذه الحقائق في المستخلفين “والقرآن يعنى بتقرير هذه الحقيقة في الضمير. لأن استقرارها فيه ينشئ له إدراكاً صحيحاً للأمور. فوق ما يودعه هناك من يقظة وحساسية وتقوى، تناط بها الأمانة التي يحملها المؤمن في هذه الأرض. أمانة العقيدة وأمانة العدالة، وأمانة التجرد لله في العمل والنية. وهو لا يتحقق إلا حين يستيقن القلب أنه هو وما يكمن فيه من سر ونية هو من خلق الله الذي يعلمه الله. وهو اللطيف الخبير”[14].

إن هذه الحقيقة هي التي بُعث الرسل من أجل بيانها، ووضع التشريع الرباني لغرض إحقاقها، فكان موافقا لحاجات الإنسان ووسعه، لذلك لزم أم يسترشد السلوك الإنساني بالهدى القرآني، فعلى ضوء الإرشاد والهدى الذي فيه يمكن أن نفهم كثيرا من القيم المؤطرة لسلوكات الإنسان المتعلقة بمختلف المجالات كالحرية والعدالة والتفكير والحس الجمالي والأدب والاستشارة والمساواة، وغير ذلك من القيم التي قد تتعارض في جوهرها وفلسفتها مع القيم المادية الحديثة، مما يجعل النمط الاجتماعي للأمة المسلمة متميّزا في بنائه، متفردا في شكله، متساميا في مضمونه وفحواه.

القيم القرآنية تشير إلى كل ما يتعلق بصلاح الإنسان والعمران، وتهتم بما يقيم الدين والمعاش والجسد والروح، والدنيا والآخرة، والفرد والجماعة، والحاضر والمستقبل. ففي كل مجال من هذه المجالات دَخْل للقيم، بيّنَ القرآن الكريم حدودها واختصاصاتها، ونذكر من أمثلتها هنا:

 –القيم الاقتصادية كما في قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31) وقوله: ﴿إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ (الإسراء: 27) وقوله: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ (القصص: 26)، فللاقتصاد قيم أحاطها القرآن الكريم بالعناية وخصها بالتعيين، منها الاعتدال في الإنفاق والإتقان في العمل والأمانة في الخدمة والصدق في التجارة، وما إلى ذلك من القيم، وخصّ قيما أخرى بالتقبيح والذم والتحذير لمخالفتها القواعد الناظمة وإخلالها بالنظام الذي يقيم الاقتصاد في الإسلام، وذلك من قبيل النهى عن الاحتكار والغش والاستغلال، وما إلى ذلك من ذرائع الفتنة وأسباب الاضطراب في المجتمع، وهو “علم وأخلاق ونظام في وقت واحد لأن حاجات الانسان لا تقتصر على المادي بل تتنوع إلى النفساني والاجتماعي والروحي”[15]، فلا يمكن أن يختل التوازن في المجال المالي والاقتصادي .

   –القيم السياسية وقيم التدبير: كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 55). فالحفظ والعلم من لوازم المسئولية، ولا يكفي المسئول السائس والراعي، حسن التواصل والدهاء في تدبير ما يسوس، بل من لوازم التدبير توفر قيم بعينها، نص عليها التشريع، وقد تعارض قيم التشريع هذه مجموع أو بعض القيم التي توافق عليها الناس، كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة: ﴿قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ( البقرة: 247) .

-القيم الجمالية والذوقية: كما في قوله عز وجل: ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (الأعراف:31)، وقوله: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة: 222) وقوله: ﴿ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ (النحل:6) وقوله: ﴿والْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 8)،

 والمقصود بالقيم الجمالية ما يتصل من القيم بالتذوق الجمالي وما يتعلق بالتأمل في الكون المنظور وإدراك الاتساق في خلق الله، وما يتصل بأبواب الطهارة الحسية والاعتناء بالمظهر والنظافة والنظام. فخطاب الله تعالى المتصل بهذه القيم “يخاطب الناس جميعاً، وفي كل عصر. يخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء، كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار. وهو يخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفاً، كما يخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري سواء. وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون، وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع. والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال؛ بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة، فالكمال يبلغ درجة الجمال”[16].

القيم المعرفية:

والمقصود بها مجموع القيم ذات الصلة بالعلم والمعرفة والتي بموجبها يتحصّل استكناه حقيقة الوجود، ويكون الامتثال للأوامر والنواهي بعلم وتحقق، وتتبدى هذه القيم في الأنماط السلوكية للعلماء والمتعلمين، وقد وردت في القرآن الكريم ألفاظ ذات صلة بالقيم المعرفية في كثير من المواضع “وجاء أغلبها في معاني الفعل أكثر من معاني الاسم والصفة، أي أنها أفعال معرفية وتدل على الفعل المعنوي … ومن هذه الكلمات الفعلية المعرفة والحس والنظر والبصر والرؤية والسمع والذوق والإدراك والشعور والفهم والفقه والعقل والتفكير والدراية والتدبر والكلام والبيان والتذكر والعلم والاستنباط والدراسة والاعتبار والتوسم والتيقّن والإحاطة والتنبأ والتمحيص والاحتساب والوزن والوعي والمراقبة والحوار، كل هذه الكلمات أفعال معنوية ووظائف معرفية”[17] تؤدي إلى استكناه الحقائق والتوصل إلى حقيقة الوجود، ومن أمثلة القيم المعرفية قيمة العقل الواردة  في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت:43) وقيمة الخشية في قوله تعالى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ وقيمة الرفعة في قوله عز وجل: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ (المجادلة: 11) وقوله ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 9) وقيمة السعي إلى العلم والاجتهاد فيه كما في قوله تعالى: ﴿فَلوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122).

القيم الاجتماعية:

وهي من أشهر القيم وأكثرها تداولا بين الباحثين لاتصالها بحركة المجتمع المتحرك، وهذه القيم الاجتماعية في التصور الإسلامي، لا تخضع لما يوصف بالضمير الجمعي الذي استبعد المنهج الرباني وخلع عنه التوجيه في القضايا الحياتية، فما أصبحت “سلوكات الناس وتصرفاتهم تنضبط وفق قيم دينية وأخلاقية محددة، بل أصبحت تنضبط وفق الأعراف الاجتماعية المتشدّدة، (…) إن هذا المسلك الذي صارت عليه الوضعية، ينتهك أهم مطلب تحرص عليه المنهجية الإسلامية: التسليم بوجود ثوابت لا تقبل التبديل والتغيير والدعوة إلى التمسك بهذه الثوابت، باعتبارها قيما موضوعية ومستقلة عن كل اهتمام شخصي أو ثقافي مجتمعي”[18].

ومن أمثلة القيم الاجتماعية التي ينص عليها القرآن الكريم، قيمة التكافل المقصودة في قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ (الإسراء: 2). وكذلك قيمة البر بالوالدين والإحسان إليهما كما وردت في قوله عز وجل: ﴿واعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ (النساء: 36). ورعاية ضعف الآباء وعدم تركهما للإهمال في قوله: ﴿وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾ (الإسراء: 23).

هذه القيم المذكورة بعض يسير من قيم مقصودة في التشريع قصدا مؤكدا، بإقامتها يصلح حال الأفراد وينتظم أمر الجماعة ويتحقق الغرض من الوجود، ومتى اختلت اختل النسق القيمي الذي نظمه القرآن الكريم وترتب على ذلك امتداد الخلل في مفاصل الأمة، ونتج عن ذلك تصدع في جسمها وهدّ في بنيانها، وخرّ  في عمرانها، واستصحب ذلك ظهور العور في عموم أحوالها.

 


[1]  ارتقاء القيم، عبد اللطيف محمد خليفة، عالم المعرفة، ص 14/15.

[2]  لسان العرب، ابن منظور.دار صادر بيروت، ط 6/2008، 14/247.

[3]  مقاييس اللغة، ابن فارس، دار الكتب العلمية، ط2/2008، 2/556.

[4]  انظر التشابه والاختلاف، نحو منهاجية شمولية، محمد مفتاح، ص 158.-159 (المركز الثقافي العربي، ط 1، بيروت لبنان، 1996

[5] الرحلة والنسق، دراسة في إنتاج النص الرحلي رحلة ابن فضلان نموذجا، بوشعيب الساوري، ص 76-77.

[6]  انظر المعجم الفلسفي للدكتور مراد وهبة.

[7]  المعجم الفلسفي ، جميل صليبا 2/477-478.

[8]  بنية القرآن كمدخل لإعادة القراءة، عبد الرحمن حليلي، مجلة الإحياء.

[9]  انظر لسان العرب، ابن منظور، 12/225.

[10] منظومة القيم في مقررات التعليم الثانوي التأهيلي بالمغرب، جميل حمداوي، مجلة الفرقان، ع 60/1429-2008. ص 45.

[11]  انظر في هذا الباب الأخلاق في القرآن، الشيرازي، ص 25.

[12]  منظومة القيم في مقررات التعليم الثانوي التأهيلي بالمغرب، جميل حمداوي، مجلة الفرقان، ع 60/1429-2008. ص 45.

[13]  مفاتيح الغيب التفسير الكبير الرازي.

[14] في ظلال القرآن، سيد قطب، 6/3637.

 علال الخياري “الاقتصاد الاسلامي” ص65[15]

 “في ظلال القرآن” سيد قطب، 6/3633.[16]

[17]  المدخل العلمي والمعرفي لفهم القرآن الكريم، نظرات في التجديد المنهجي، عمران سميح نزال، ص 77.

[18]  منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد أمزيان، ص 371

 

نشر بتاريخ: 04 / 06 / 2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق