مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام

النسق القيمي في القرآن الكريم ودوره في بناء الأسرة السوية. ج2

مونية الطراز

 

 

 

نسقية القيم في القرآن الكريم:

 

إن هذه القيم التي ذكرنا مع ما يظهر فيها من استقلال كل مجال بموضوعه وسياقه، تمثل في القرآن الكريم على الحقيقة كلا واحدا، لا يجتزأ وهذا الكل هو الذي يبني الشخصية المسلمة المتوازنة القادرة على حمل الأمانة ومسئولية الإعمار وإعداد الإنسان الصالح للعبادة؛ ولذلك اهتم الخطاب القرآني بالإنسان ناظرا إلى موقعه حيث يكون فردا وحين يصير مع الأفراد جماعة وحين يصبح مع الآخرين كلا واحدا في مسمى الأمة، فالقرآن الكريم يربط الإنسان بمحيطه الكوني وفضائه الواسع، وتشريعاته ضوابط لعلاقاته وتوجيهات ترشده لما في الطبيعة من مسخرات يصلح بها أحواله وينظم بها المعاش، وكل التوجيهات التي وردت في التنزيل مقصودة في التشريع، ولم ترد عبثا، ولا قُصدت من باب التكميل. وهذه حقيقة لزم النظر على ضوئها إلى جملة من المفاهيم التي عولجت في بعض مصنفات السابقين بمعزل عن النسق التشريعي، فضاعت كثير من الحقائق ذات الصلة بالقيم التي قصدت في القرآن الكريم وأهملت جملة من الهدايات التي فيه، ومن قبيل هذه المفاهيم مفهوم العبادة ومفهوم الشريعة ومفهوم الفقه، ومفاهيم أخرى لم تنل حقها من العناية بما تستحق من دقة وشمول، وهي التي تحتوي تركيبا من القيم ينظمها الخطاب القرآني في كلٍّ جامع.

مفهوم العبادة مثلا غيّب البعد المادي في التعبّد، وقد كان مقصودا في القرآن الكريم، فاستقلت العبادات بالشعائر، في حين نظر إلى ما سمي بالمعاملات والأخلاق من زاوية الفضائل التي لا ترقى إلى التعبّد، وهذا الباب حال دون إشاعة القيم المتصلة بالفقه العمراني وضيّع فرصة الاجتهاد فيها، يقول الدكتور الريسوني: “وهذا التضييق وهذا القصر لا أساس له ولا تحتمله أصول الشريعة وقواعدها التشريعية التي لا تعرف التفريق بين عبادات وجنايات وآداب ومعاملات ولا بين أحوال شخصية وغير شخصية”[1] ويقول:  “وهكذا يتعذر إحداث تمييز فاصل فيما بين المقاصد والقواعد العامة للشريعة الإسلامية واعتبار شيء منها خاصا بالمعاملات أو خاصا بالعبادات أو خاصا بما هو قانون للأمة ومن شؤونها العامة. وهذا هو أحد المفاصل الكبرى بين التشريع الإسلامي وغيره، بل بين مفهوم التشريع ووظيفته في كل من الإسلام والقوانين الوضعية. فالتشريع في الإسلام –بكل مجالاته وكافة أحكامه- ذو وظيفة تعبدية وتربوية أولا ثم بعد ذلك -أو بجانب ذلك- تأتي وظيفته القانونية الاجتماعية والسياسية. فوظيفة فض المنازعات وتحديد الحقوق والواجبات وحفظ الأمن والنظام، ليست هي كل ما يرمي إليه التشريع الإسلامي حتى في هذه المجالات بالذات، فهو دائما وأساسا يربي ويرقي ويهذب ويؤدب، ويخاطب الإيمان والوجدان، ويرمي إلى تزكية الإنسان. فهو حتى في تصديه لفض المنازعات وتحديد الحقوق والواجبات يعتمد على الوازع التربوي الإيماني قبل اعتماده على الوازع القضائي والسلطاني، فهذه المقاصد والوظائف التشريعية سارية ومرعية وممتدة في العبادات كما في المعاملات، وفي العادات كما في العقوبات، وفي الحياة الشخصية كما في الحياة العائلية والاجتماعية، وفي الفرائض والواجبات كما في المحرمات والمكروهات، وفي المباحات والمندوبات.

التشريع الإسلامي لا يمكن فيه التمييز –وخاصة على صعيد القواعد والمقاصد- بين تشريعات عامة وأخرى خاصة، وبين ما هو رسمي وما هو شعبي وما هو عام وما هو خاص. فقاعدة العدل مثلا -وهي من الكليات ومن المقاصد الكبرى للتشريع الإسلامي- ليست خاصة بالنظام العام وليست خاصة بالحكم والقضاء، والقسمة والعطاء، بل هي سارية في الوضوء والصلاة، والصوم والزكاة، وعلاقات الجيران والأقارب، وفيما بين الأزواج والأبناء، والأمهات والآباء، ومع الطلبة والتلاميذ، بل حتى مع الإنسان في خاصة نفسه وأعضاء جسمه، وفي نومه ويقظته، وأكله ولباسه … ففي كل ذلك مجال للعدل، وفي كل ذلك تدخل قاعدة العدل”[2].وما يقال عن العدل يقال عن كل القيم الحاكمة كالحرية والصدق والأمانة والإحسان.

النسق القيمي في القرآن الكريم يمكن معالجته من حيث هو مجموع القيم الإنسانية ذات الطبيعة التكاملية والمتراتبة التي تنسجم وتتآلف لبناء الشخصية المتوازنة انطلاقا من معايير قرآنية تحكم السلوك الإنساني، سواء على مستوى الأفراد أوالجماعات، وتتصل بالمصدر الرباني وتحمل في تركيبها تصورا شاملا لقضايا الكون والحياة والإنسان، وتتعلق من حيث الحكم بالوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم.

 

 

نشر بتاريخ: 04 / 07 / 2016


[1]  الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، أحمد الريسوني، ص 16.

[2] الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، أحمد الريسوني، ص 17-18.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق