مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية

التقرير العام للمؤتمر الدولي الثامن لفاس حول تاريخ الطب

 

نظمت كلية الطب والصيدلية بمدينة فاس من 17 إلى 18 دجنبر 2020 مؤتمرها الدولي الثامن حول تاريخ الطب، وقد اختير له هذه السنة موضوع “تاريخ الأوبئة”، جاء هذا الاختيار متزامنا مع الحالة الوبائية والظرفية الحرجة التي يعيشها العالم الإسلامي والغربي قاطبة مع فيروس كوفيد 19، ويعقد هذا المؤتمر بشراكات مع مؤسسات علمية وجمعيات من بينها مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات حول تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية.

شهد يوم الخميس 17 دجنبر 2020 بداية  انطلاق هذا المؤتمر العلمي المتفرد، حيث ألقى السيد رئيس جامعة سيدي محمد بن عبد الله الأستاذ رضوان مرابط  كلمته، شكر فيها كل الأطر العلمية بكلية الطب والصيدلة بفاس على مثابرتهم و إصرارهم رغم الإكراهات المرتبطة بالجائحة على مواصلة هذه السلسلة من المؤتمرات الدولية التي بلغت هذه السنة دورتها الثامنة.

بعدها تقدم الأستاذ البشير بن جلون العضو المشرف على لجنة التراث بكلمة مقتضبة تطرق فيها إلى برنامج هذه الدورة الذي تم تقسيمه إلى محوريين أساسيين هما: ” الوباء والمجتمع” في المغرب و”دور الحضارة العربية في تطر علم الأوبئة“، كما نوه بدوره على المبادرات والجهود التي يقوم بها بعض الفضلاء والشركاء من أجل إنجاح هذا المؤتمر والحفاظ على استمراريته في أفضل الأحوال.

انطلقت أنشطة اليوم الأول بمحاضرة افتتاحية للدكتور محمد الصلابي في موضوع “التحولات الكبرى في أزمنة الأوبئة“، عرج في بداية مداخلته على فكرة أساسية وهي أن الأوبئة ظاهرة عابرة للعقائد والأمم لذا وجب الاهتمام بهذه المواضيع التي تشغل البشرية، وأن العالم اليوم بحاجة ماسة إلى الطبيب صاحب السلاح المعالج لمثل هذه الأوبئة التي تفتك بالإنسان قاطبة. تطرق الأستاذ المحاضر بعد ذلك إلى دراسة بعض الأوبئة التي لعبت دورا كبيرا في بعض التحولات التاريخية في العصريين الوسيط والحديث، وبدأ ذكره بالوباء الأنطوني الذي ظهر ما بين سنة 165-180 ميلادية، الذي ضرب بالأساس الإمبراطورية الرومانية واستمر في الوجود ما يقارب 15 سنة مما أدى إلى خفض في الإنتاج على جميع المستويات وراح ضحيته أزيد من 5 ملايين إنسان. أما الوباء الآخر فهو طاعون جنستيان الذي أصاب الإمبراطورية البيزنطية وخاصة عاصمتها القسطنطينية، حيث أسهم هذا الطاعون في تقلص امتداد الدولة البيزنطية وسهل في تشكل الدولة الإسلامية منذ الخلافة النبوية إلى الآن.

 انطلقت فعاليات يوم الجمعة 18 دجنبر بالجلسة الأولى التي افتتحت بمحاضرة علمية للأستاذ زين العابدين الحسيني في موضوع “صفحات من تاريخ الجوائح والأوبئة بالمغرب” والتي تناول فيها  ثلاث محاور أساسية: المحور الأول، تكلم فيه عن بعض الأوبئة التي ارتبط ظهورها بسبب الحروب والاضطرابات السياسية، فبعد وفاة المولى إسماعيل ظهرت مجموعة من الفتن تزامنت في نفس الوقت مع ظهور بعض الأوبئة التي كانت لها وقع كبير على النظام السياسي والاجتماعي في مغرب ذلك الزمن. المحور الثاني، تكلم فيه عن بعض الأوبئة التي ظهرت بسبب انتشار المجاعات والظروف الطبيعية، ففي عهد الأدارسة وبعدهم، ظهرت بعض الأوبئة بسبب الغلاء والقحط الذي أصاب المغاربة، مستدلا على هذه الأحداث ببعض كتب المؤرخين  نذكر منهم على سبيل المثال كتاب ” الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” لاحمد بن خالد الناصري، وكتاب ” نشر المثاني في أخبار القرنين الحادي عشر والثاني” للقاديري، و كتاب آخر يعود للعالم الرياضي ابن هيدور التادلي الفاسي اسمه ” المقالة الحكيمية في الأمراض الوبائية”. المحور الثالث، يذكر فيه الأستاذ بعض النماذج من الأوبئة التي أصابت المغرب ويحصرهم في مجموعة من الأسماء منها: وباء الطاعون باعتباره أول الأوبئة التي أصابت المغاربة ثم يليه وباء السعال ووباء الكوليرا و أيضا وباء الجرب.

اختتم الأستاذ زين العابدين مداخلته ببعض الإجراءات التي اتخذتها السلطات لمواجهة هذه الأوبئة وهي نفس الإجراءات المتبعة عندنا اليوم منها: كيفية الحصول على ترياق مضاد للأوبئة، عدم مغادرة الأماكن الموبوءة، ضرورة الإبقاء على مسافة الأمان لتجنب انتقال العدوى من الشخص المصاب مع التركيز على النظافة لتجنب العدوى.

أما عن المحاضرة الثانية فكانت من إلقاء الباحث ذ. حميد الفاتيحي والتي خصصها لدراسة الفقيه محمد الرهوني ورسالته التي أنتجها في فقه الوباء. ذهب الباحث في القول على أن هذه الرسالة التي كتبها الفقيه محمد الرهوني في ذلك الوقت كانت بمثابة فتوى، حيث طغى عليها الجانب الفقهي  أكثر من الجانب الطبي، في هذه الرسالة يستحضر الرهوني مجموعة من الأبعاد، يناقش في البعد لأول حقيقة الطاعون والوباء ويعمل في نفس الوقت على التمييز بين الجائحة والوباء. في البعد الثاني يأمر بعدم القدوم على البلد المجاح وعدم الخروج منه. وفي الأخير يدعو الناس إلى ما ينبغي التحصن من أدعية وحروز، كما أنه قام بوصف لبعض الأدوية المعالجة للوباء.

تفضل الباحث ذ. محمد مزيان بإلقاء المحاضرة الموالية بعنوان ” الجوائح ومهنة المؤرخ: من الأنفلونزا الاسبانية إلى كوفيد 19″. قسم الأستاذ المتدخل مداخلته إلى محوريين رئيسيين، المحور الأول عالج فيه الانتاج التاريخي حول الأوبئة )الرصد الأولي من الأنفلونزا الاسبانية إلى كوفيد 19(. تطرق في هذا المحور إلى مجموعة من النقط منها: 1-اندهاش المجتمعات من انتشار الوباء بسرعة كبيرة مع ظهور بعض العيوب في المنظومات الصحية لعدم استعدادها لمثل هذه الجوائح، 2- بينت هذه الجائحة على أهمية المعرفة وضرورتها من أجل فهم مغاير لمثل هذه الأوضاع، 3- دور المؤرخ في فهم هذه الجائحة ككارثة عالمية مع ضرورة إلقاء نظرة تاريخية عن الأوبئة والجوائح التي استهدفت المجتمعات السالفة. المحور الثاني تحدث فيه عن “تزايد الطلب الاجتماعي على الدراسات التاريخية والمحاذير المنهجية من ذلك”. في هذا المحور يتحدث الاستاذ محمد مزيان عن الإقبال المتزايد على الأبحاث التاريخية التي تدرس تاريخ الأوبئة في المغرب، وقد ظهرت كتابات مهمة درست تاريخ الأوبئة والمجاعات في المغرب من بينها: دراسة محمد أمين البزاز في “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب خلال القرنين 18-19”. ودراسة الباحث الحسين بولقطيب حول “جوائح و أوبئة المغرب عهد الموحدين”، ثم دراسة عبد الهادي البياض حول ” الكوارث الطبيعية و أثرها في سلوكيات و ذهنيات الانسان في المغرب و الأندلس” و أيضا دراسة قام بها الباحث أحمد المكاوي حول ” الدور الاختراقي والاستعماري للطببابة الأوربية في المغرب”.

جاءت المداخلة الرابعة التي اختتمت بها أعمال الجلسة الأولى من إلقاء الأستاذ مصطفى مشيش العلمي في موضوع “وباء التيفوس بالمغرب، شهادة حية من الأستاذ مصطفى مشيش العلمي” تطرق في بداية كلمته إلى وضعية المغرب خلال الحرب العالمية الثانية، حيث عرف المجتمع المغربي في تلك المرحلة انتشار وباء التيفوس ونقصا كبيرا في المواد الغذائية والألبسة والأدوية. بعدها تحدث الأستاذ عن إصابته بوباء التيفوس وكيف تم تشخيص هذا الوباء من طرف الطبيب الإدريسي الذي نصح عائلته بضرورة الحصول على دواء البنسلين الذي كان متواجدا فقط بالقاعدة الجوية للجيش الأمريكي بالقنيطرة.

انطلقت الجلسة الثانية التي كانت خاتمة هذا المؤتمر بمداخلة الباحث المصري ذ. خالد فهمي الذي تحدث في موضوع ” الأوبئة والكرنتينا في مثر في القرن 19″  . تطرق الاستاذ في مجمل مداخلته عن المواقف والخطوات التي قام بها الطبيب الفرنسي أنطوان بارتليمي كلود بيك فيما يخص مرض الطاعون الذي أصاب مصر خلال القرن التاسع عشر. هذا الطبيب الذي تم تعيينه من طرف محمد علي باشا مستشاره الخاص والقائم على تنظيم الادارة الصحية للجيش المصري، حيث عمل مع مجلس شورى الأطباء بالقاهرة على فرض مجموعة من الاجراءات الصحة العامة من خلال تأسيس ديوان تفتيش الصحة مهمته تقديم خدمات صحية لعموم المصريين ووضع خطوط عريضة لملاح سياسة صحية شاملة، تتجلى ملامح هذه السياسة أولا في جمع الاحصاءات الحيوية، ثانيا القيام بعملية التطعيم، ثالثا الاشراف على تنظيم الشوارع العامة، رابعا الكشف الدوري على الأسواق للتأكد من الأطعمة المعروضة للمواصفات الصحية.

تطرق الباحث المصري محمد علي عطا في مداخلته التي حملت عنوان ” جهود العرب و المسلمين في مواجهة الوباء” إلى دور أجدادنا من العلماء والفقهاء والأدباء والمؤرخين كل بحسب موقعه و تخصصه في مكافحة مثل هذه النوازل، فالطبيب مثلا كان مهمته تتجلى في وصف المرض والأدوية المعالجة للوباء وكيفية الاحتراز منه، أما الفقيه فكان يذكر بالأحكام الشرعية المتعلقة الوباء وينهى عن البدع وقت نزوله، بينما المؤرخ فكان يثبت الحدث على مدار الزمان ليبقى محفوظا في الذاكرة. كما تطرق الباحث في نهاية مداخلته إلى تصنيف المؤلفات القديمة التي ألفت حول الأوبئة والطواعين خلال القرون التي عرفت فيها الحضارة العربية الاسلامية غزارة في التأليف و الانتاج.

تقدم الباحث ذ. حميد لحمر بمداخلته التي تكلم فيها عن أشهر الاعلام الأندلسية الوزير لسان الدين ابن الخطيب  من خلال رسالته الطبية  “مقنعة السائل عن المرض الهائل”.  حيث أشاد في كلمته عن كفاءة ابن الخطيب الطبية ومساهمته العميقة  في دراسة وباء الطاعون الذي أصاب الأندلس و آسيا و قسما من أوروبا خلال النصف الثاني من القرن الثامن الهجري. لينتقل بعدها إلى دراسة مضمون الرسالة حيث يبين فيها ذ. لحمر نتائج وتحليلات علمية دقيقة كان قد توصل إليها ابن الخطيب بعد دراسته لوباء الطاعون، كما أثنى على القيمة المعرفية الطبية التي تحملها هذه الرسالة من خلال التحقيقات التي قام بها  بعض المستشرقين الكبار وأيضا اللغات التي ترجمت  إليها هذه الرسالة باعتبارها وثيقة طبية مهمة.

تفضل الأستاذ جمال بامي رئيس مركز ابن البنا المراكشي بمداخلته القيمة التي اختتمت بها فعالية هذا المؤتمر. تطرق فيها إلى دور الحضارة العربية الإسلامية في تطور علم الأوبئة، وذلك من خلال دراسته لبعض النصوص الطبية دراسة إبستيمولوجية يكون الهدف منها استخلاص بعض الفوائد المتعلقة بالإسهامات التي أضافتها هذه الحضارة العظيمة في علم الأوبئة وما ترتب عليها من نتائج مهمة في الدراسات التي اعتمدت عليها لاحقا. انتقل بعدها الأستاذ وتحدث عن أهم الدراسات الأولى التي كتبت في علم الوباء فذكر منها كتابيين الأول للطبيب السرياني بن ماسويه في “الجذام” والثاني رسالة في ” الأبْخِرة المُصْلِحَة للجَوِّ منَ الأوْباء ” للفيلسوف والطبيب العربي أبو يوسف يعقوب بن اسحاق الكندي. أما عن مرحلة النضج المعرفي والعلمي حول دراسة هذه الأمراض فيرى الاستاذ جمال بامي انها بدأت مع الشيخ الرئيس ابن سينا حين تكلم عن نظرية ” الوخم”  التي تكشف عن الأجسام القذرة الموجودة في البيئة المساهمة في انتقال العدوى، وأيضا مع الطبيب أبو بكر الرازي الذي كان أول من ميز ما بين مرض الجذام و مرض الحصبة في كتابه حول مرضي الجذام والحصبة، هذا الكتاب الذي ترجم إلى اللغة اللاتينية واليونانية و الانجليزية التي قدمته في أربعين طبعة ما بين سنة 1498 و 1866.

في نهاية مداخلته تحدث الأستاذ جمال بامي عن دور ومكانة المدرسة المغربية الأندلسية في البحث والتأليف حول الأمراض والأوبئة، فخلص إلى ذكر أربعة من أعلامها مع ذكر مؤلفاتهم وإبراز أهم النتائج العلمية القيمة التي توصوا إليها في مواجهة الأوبئة والطواعين في ذلك الوقت، نذكر منهم: ابن هيدور التادلي تلميذ العالم الرياضي ابن البنا المراكشي الذي ألف رسالة بعنوان ” المقالة الحكمية في الأمراض الوبائية“، وأيضا الطبيب محمد بن علي اللخمي الشقوري الذي ألف كتاب بعنوان ” تحقيق النبأ في أمر الوباء“، ثم الطبيب الوزير لسان الدين ابن الخطيب الذي كتب مقالة بعنوان ” مقنعة السائل عن المرض الهائل“، و أيضا الطبيب ابن خاتمة الأنصاري الذي ألف كتاب بعنوان “تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد“. 

ذ. زيدان عبد الغني

باحث مركز ابن البنا المراكشي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق