التقرير العام عن الدورة التكوينية: المنهجية الفقهية في المذهب المالكي من خلال كتاب فتح الفتاح لابن رحال المعداني (ت1440هـ)

في إطار الأيام الجامعية الثامنة التي ينظمها مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي التابع للرابطة المحمدية للعلماء، تنظيما مشتركا مع المؤسسات الجامعية الوطنية
نظم كل من المركز ومختبر الدراسات التطبيقية في الشريعة والقانون ـ كلية الشريعة ـ جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس دورة للتكوين المتخصص لفائدة طلبة الدكتوراه في الشريعة والدراسات الإسلامية والقانون الخاص في موضوع:
"المنهجية الفقهية في المذهب المالكي من خلال كتاب فتح الفتاح لابن رحال المعداني (ت1140هـ)"
وذلك أيام: الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس 17-18-19-20 ذي الحجة 1445هـ، الموافق 24 ـ 25 ـ 26 ـ 27 يونيو 2024م
بمدرج الدكتور محمد يسف بمقر كلية الشريعة بفاس.

تقرير الجلسة الافتتاحية
المقرر د: عبد القادر الزكاري
افتتحت أشغال هذه الدورة، على الساعة 4 و30د مساء يوم الاثنين 17 ذي الحجة 1445هـ الموافق لـ 24 يونيو 2024م برئاسة السيد عميد كلية الشريعة التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله، بتلاوة عطرة لآيات بينات من الذكر الحكيم، وبعدها وقف الحاضرون والمشاركون للاستماع للنشيد الوطني.
- بعد ذلك تناول الكلمة السيد مصطفى حضرمي نيابة عن رئيس جامعة سيدي محمد بن عبد الله، استلها بالترحيب والشكر لكافة المشاركين والمنظمين، معبرا عن سعادته باحتضان جامعة سيدي محمد بن عبد الله لهذه الأيام الجامعية، مشيدا بالعمل المشترك الرابطة المحمدية للعلماء ومراكزها المتخصصة، ثم ختم بالشكر والتقدير للجهتين منظمين على جهودهما لإنجاح هذا التكوين.
ـ ثم تناول الكلمة ذ محمد العلمي رئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي بسلا، نيابة عن السيد الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، مرحبا وشاكرا لجميع المشاركين والمستفيدين من أساتذة وطلبة باحثين وحضور، معبرا عن سعادته وسروره بالتنظيم المشترك لأشغال هذه الدورة، حيث اعتبره عنوانا على تعاون المؤسسات الوطنية للعلماء وللبحث العلمي على الصالح العام، وذلك بهدف الرفع من مستوى البحث العلمي في مجال الشريعة الذي يعد أهم المجالات المعنوية للمجتمع وأكثرها تعلقا بالمستقبل.

مؤكدا على أن تنظيم هذه الدورة يهدف بالأساس إلى بعث الهمم والعزائم إلى الطرق والأساليب الصحيحة لتفسير الدين، التي أخذت من العلماء مراقبة موصولة طيلة أربعة عشر قرنا إلى الآن، إذ بعد تطور العالم لم تعد مسألة الشريعة الإسلامية مسألة محلية ولا وقتية، بل أصبحت مسألة تهم الكل.
كما أكد الأستاذ في كلمته على أن الجهتين المنظمتين انتقت نخبة من خيرة الأساتذة الأجلة لتأطير هذه الدورة، ومثل هذا الرهان لتكوين نخبة عالمة وباحثة هو الكفيل بتصحيح سكة إنتاج الحقائق المتصلة بالحقل الديني، الذي مازال يعاني من مقولات أقل ما يقال فيها؛ أنها مشكوك في فاعليتها وكفاءتها في حل المشكلات الدينية والفكرية للناشئة المسلمة وللإنسان في هذا العصر عموما.
في هذا السياق تقوم الرابطة المحمدية للعلماء بجملة من الأعمال المتنوعة لترشيد التفكير الإسلامي للناشئة والباحثين، إذ تأتي هذه الدورات التي دأب مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي على تنظيمها تنظيما مشتركا مع المؤسسات الجامعية الوطنية بغية التنسيق بين مجهود مؤسسة العلماء والجامعة معا لترشيد التكوين الجامعي وتخريج أطر أكثر ارتباطا بأنظمتها ومؤسساتها الدينية والتاريخية وأكثر كفاءة في أداء التكاليف الملقاة على عاتق علماء الدين محليا وعالميا.ثم ختم الأستاذ كلمته بالدعاء لبلدنا وللبلاد الإسلامية، ولأمير المؤمنين، وشكر سائر المشاركين في أعمال هذه الدورة.
ـ كلمة السيد عميد كلية الشريعة بفاس الدكتور عبد المالك اعويش، الذي عبر عن سعادته باحتضان كلية الشريعة بفاس أعمال وأشغال هذه الدورة.
ثم أخذ في كلمته بالحديث عن موضوع الدورة وما له من أهمية في الكشف عن البناء الفقهي وآليات اشتغال المذهبية المالكية في الفتوى والقضاء وفي العبادات والجنايات والتبرعات والمعاوضات، وفي كل الأبواب الفقهية مفردة ومجتمعة وفي كل المسائل مؤصلة ومحررة، وهو دأب المغاربة منذ فجر تاريخ الإسلام.
فمن حيث عناية المغاربة بالفقه المالكي أكد السيد العميد على أن المغاربة قاموا بهذا المذهب درسا وتبليغا منذ الإمام مالك إلى يوم الناس هذا، فانكبوا على أمهات ودواوين المذهب بالاختصار والتهذيب وخدموها بالشرح والتعليق والتصحيح والتكميل .. فتسلسلت كل هذه الطرق وصار كل واحد منها بناء شامخا.
ثم وقف السيد العميد في كلمته الافتتاحية على الكلمات المفتاحية للدورة، خاتما لها بشكر كل من ساهم في إنجاح تنظيم هذه الدورة وعلى رأسهم السيد الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، ورئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي، وللسيد رئيس الجامعة، ولمختبر الدراسات التطبيقية في الشريعة والقانون، ولفضيلة الأستاذ السيد محمد بن جبور رئيس الشعبة ومنسق اللجنة العلمية والتنظيمية، ولباقي المشاركين والحضور.
ـ ثم تناول الكلمة السيد رئيس مختبر الدراسات التطبيقية في الشريعة والقانون الدكتور عبد القادر بوعصيبة، شرع فيها بالشكر والتقدير لكل شركاء هذه الدورة والمساهمين فيها من أساتذة وطلبة وحضور، منبها على سياق تنظيم فعاليات هذه الدورة، وبموضوعها.
ولفت الأستاذ انتباه الحاضرين إلى سبب اختيار كتاب فتح الفتاح كأنموذج لمقاربة موضوع المنهجية الفقهية، بأنه يعد موسوعة فقهية حتى «كاد لا يفوته نص من نصوص المذهب»، وخزانة فقهية جمعت عددا من المصادر والحواشي والاستطرادات والتذييلات والتحريرات الفقهية عز أن تجتمع في غيره، وهو يشكل متنا يبرز مدى عناية المذهب المالكي في التعاطي مع النوازل والمستجدات والمتغيرات.. ففي نصوص هذا الكتاب تكمن منهجية فقهية عميقة راسخة عليها كان العمل، وبها توفر الاستقرار الفكري والتشريعي والعرفي والعمراني في بلادنا وغيرها من البلاد الإسلامية، ولا تزال بقايا هذه المنهجية مما يقوي عوامل الاستقرار والتوازن رغم أن مقتضيات العصر الحالي تطرح عدة إشكالات وصعوبات تلزم الفقهاء والباحثين والدارسين على بذل قصارى جهدهم لاستيعاب التحديات والحفاظ بكل اقتدار وسلاسة على أقصى ما يمكن من أنظمة الشريعة الإسلامية، وعلومها وقواعدها وضوابطها والأعراف الاجتماعية المتفرعة عنها والمؤطرة بها، وهو الأمر الذي لم يبذل فيه جهد كاف لحد الآن، لذلك كانت غاية هذه الدورة هو المساهمة في التعريف بهذه المنهجية بإفادة الطلاب والباحثين بسلك الدكتوراه بأسرار الصناعة الفقهية ومناهج العلماء في تدبير قضايا الشريعة الإسلامية وأحكامها والحفاظ عليها بما يخدم المجتمع واستقراره. ثم ختم كلمته بعقد آماله في أن تحقق أعمال هذه الدورة ما يصبو إليه موضوعها من غايات وأهداف.
ثم تناول الكلمة السيد منسق اللجنة العلمية والتنظيمية للدورة، الدكتور محمد بن جبور، الذي رحب فيها بجميع المشاركين في هذه الدورة؛ من أستاذ مشاركين وطلبة باحثين وصحافة.
وقد أكد الأستاذ على أن إنجاز هذا العمل بين جهات مختلفة: الرابطة المحمدية للعلماء ممثلة في مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي، وجامعة سيدي محمد بن عبد الله ومختبر الدراسات التطبيقية في الشريعة والقانون، سيجسد، أولا: آلية لتعزيز الانفتاح والتواصل والحوار بين الجامعة ومؤسسة العلماء، في أفق عقد شراكة استراتيجية من أجل الرقي بالبحث العلمي سعيا إلى تعميم هذه التجربة لتشمل جميع مستويات التكوين بالجامعة، وثانيا: سيجعل طلبة الدكتوراه في دائرة مشاريع الجامعة ونطاق برامجها، حيث تشكل أعمال هذه الدورة أحد مداخلها الأساس، في أفق إحداث مسالك للتكوين في مختلف مستويات الدراسة.

ثم أشار الأستاذ إلى أن أشغال هذه الدورة تسعى بالأساس إلى التعريف بالمنهجية الفقهية في المذهب المالكي من خلال كتاب فتح الفتاح، انطلاقا من دوائر ثلاث متماسكة فيما بينها.
وقال الأستاذ إن موضوع الدورة وما يثيره من أسئلة حارقة وإشكالات ابستمولوجية عميقة سيشكل مجالا خصبا للبحث والتنقيب من قبل علماء وأساتذة وطلبة باحثين طيلة أيام الدورة.
ثم أشار في كلمته إلى أن المحاور العلمية للدورة ستنحصر في:
- محور النص المذهبي؛ المتن والشرح.
- محور الاستدلال والتعليل والتوجيه.
-محور النوازل والقضاء.
ثم أثار الأستاذ الانتباه في كلمته إلى موضوع الدرس الافتتاحي الذي سيلقيه الأستاذ محمد العلمي، في موضوع: مشكلة المقولات والنماذج الإدراكية في البحث الفقهي والأصولي، وهو درس سيتناول فيه الأستاذ المحاضر بالدرس والمناقشة والتحليل: إشكالية النماذج التفسيرية وضعفها في البحث الشرعي وما ترتب عن ذلك من نتائج سلبية. كما نوه إلى المحاضرة الختامية التي كان سيلقيها فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، في موضوع: التوازن المعرفي والأخلاقي في أنساق العلوم الإنسانية. وهي خاتمة حسنة للدورة، ستشكل مع محاضرة الافتتاح مداخل حقيقية لفهم نظام التفكير في المنهجية الفقهية الإسلامية.
ولفت الأستاذ الانتباه أيضا إلى أن الدورة ستعرف بالموازاة مع ما ذكر تنظيم معرض للكتاب من إعداد الرابطة المحمدية للعلماء.
وختم الأستاذ بن جبور كلمته بعقد الأمل على هذه الدورة في الإسهام في تحقيق اختراقات أساسية في البنية المتماسكة والصلبة للمنهجية الفقهية، وتقريبها وجعلها متيسرة المنال للجيل الصاعد من الباحثين في العلوم الشرعية، لتجاوز الدوائر المغلقة من التفكير الذي يستلهم من المقولات الاختزالية والمقاربات الجاهزة، وأنماط البحث والمناهج السائدة.
منهيا كلمته بشكر الجهات المنظمة على التعاون الجيدة والمثمر للنهوض بالبحث العلمي، ولكل الأساتذة والباحثين والحضور.
واختتمت الجلسة الافتتاحية بعرض مصور مختصر عن الدورات السبعة السابقة للأيام الجامعية التي نظمها مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي مع المؤسسات العلمية الجامعية، أعده وعلق عليه الدكتور محمد الخادير: استعرض فيه مقاطع مصورة من برامج وعروض وذكريات الدورات السابقة للأيام الجامعية، والتي نظمت بشكل مشترك مع كليات: القنيطرة، ووجدة، وأكادير، وتطوان، والناظور، والمحمدية، والسمارة.
المحاضرة الافتتاحية: مشكلة المقولات
والنماذج الإدراكية في البحث الفقهي والأصولي
للأستاذ: محمد العلمي
تعرض الأستاذ في هذا الدرس إلى مجموعة من النقط نلخصها في التالي:
1- التفريق بين تقنيات البحث العلمي وبين المقولات والنماذج الإدراكية التي يتأسس عليها، وهي المشكلة التي تعاني منها عامة العلوم الإنسانية، بما فيها الإسلاميات.
2- المقولات تتركب من تعريفات أو تصديقات ومفاهيم ثقافية ومعرفية وفلسفية، مسكوت عنها أو مصرح بها، مختلف فيها أو متفق عليها في البحث، فبمقدار سلامتها تصح نتائجه، وبمقدار ضعفها يضعف.
3- المقولات في العلوم الإنسانية تحتوي على مشاكل جوهرية، تسرب كثير منها إلى البحوث الإسلامية. وذلك مثل: مفهوم «التقدم». الذي تسرب بعمق إلى البحوث الإسلامية بشكل خفي ومضمر.
4- هناك عدد من الافتراضات في البحوث في الفقه والأصول استوردت من خارج الجامعة بقصد تسويغها وتعميق الإيمان بها. اقتصر الأستاذ منها على الأطاريح في: المقاصد، والتجديد، والاجتهاد. وهي تشترك في أربعة أمور: أولا: أنها موضوعات أنتجت في المجال الدعوي اللامذهبي وتم تصدرها بعد ذلك إلى الجامعات بقصد تسويغها بالأساس.
ثانياً: أنها جميعا تستبطن مقولة التقدم، وتفترض بالتالي انعدام الحاجة إلى المناهج والمؤسسات والأنظمة الفقهية والدينية التاريخية، وتفترض أن الدين نفسه ينبغي إعادة تأويله ليتناسب مع التقدم المادي، وهذا ما يفسر أن علماء الشريعة «التقليديين» يوصفون في هذا الفضاء بشكل ساخر، بأنهم مقلدون ـ أهل عصور الانحطاط الجمود ـ أصحاب الشروح والحواشي .. إلخ].
ثالثا: أنها جميعا تشرك في الجرأة وعدم التحرج بإحداث الرأي في أصول الشرعي وفروعه دون سلف.
رابعا: أنها تنزع جميعا إلى تكرار المقولات نفسها وتتبناها دون مناقشتها، وأنه بقي سجين أفكار رواده الأوائل رغم اختلاف الأوضاع والظروف التاريخية والنفسية.
4- وقد اقتصر الأستاذ المحاضر على تحليل نموذج واحد من هذه النماذج الثلاثة وهو: مقاصد الشريعة. والمقصود بها في مجمل بحوث الطلبة محتوى المعاني المصلحية الدنيوية التي ينسبونها إلى الشريعة ويسمونها شرعية، مجردة مفكوكة عن قواعدها ووسائلها وأنظمتها الفقهية التي أنتجتها، مفترضة أن ألفاظ الشريعة ووسائلها المكملة وحتى القواعد الأصولية الأخرى قد أدت ما عليها ولم تعد الحاجة إليها ملحة إلا في حدود ضيقة وبأسلوب انتقائي تارة وتلفيقي تارة أخرى.
5- الهدف المعلن لهذا النمط من البحث هو: تسهيل الفتوى من الدين واختزال شريعة المعاملات تحديدا في المصالح الدنيوية بشكل يناظرها مع المنظومة التشريعة الغربية السائدة متخلصة من تعقيدات الفقهاء وكثرة الاختلافات المذهبية، إلا أنها في الحقيقة الأمر هي إعادة إنتاج الحداثة من صلب الشريعة، أي دنيوية الروح دينية اللبوس.
6- يلاحظ أن عامة البحوث في المقاصد تنطلق النزعة المقاصدية عند الجويني، ثم الغزالي، ثم العز بن عبد السلام، ثم القرافي، ثم ابن تيمية وابن القيم، ثم الشاطبي ابتداءً وتقلد ذ الطاهر بن عاشور انتهاءً واستقرارا، حيث يصدرون من كل مقولاته وتقريراته دون جدل ولا اجتهاد.
وفسر الأستاذ المحاضر هذا المسلك بأن المقاصد عند السابقين دائرة في محاور المنظومة الأصولية التقليدية، ووفق قواعدها ومناهجها، فهم مجرد حجة مؤقتة عند المقاصديين العصريين، يستغنى عنها بمجرد التقديم بهم؛ لكون تقريراتهم لا تتطابق مع الرؤيةِ الحداثية المطلوبِ استنباتُها من الحقل الشرعي. وهذا ما يفسر الإذعان التام لما قرره الأستاذ الطاهر بن عاشور على الأخص، إذ المقاصد حاليا يراد لها أن تكون بديلاً عن المنظومة الفقهية والأصولية برمتها، وغطاء دينيا لحقائق حداثية جديدة.
وأما بخصوص انتقاء هذه الكوكبة الصغيرة من دون كافة العلماء واقتطاعهم من سياقاتهم المذهبية والعلمية وإسبال صفة التفرد عليهم [الرجل العظيم]، فذلك في نظرهم لأن سائر الفقهاء والأصوليين وغيرهم لأزيد من ألف ومائتي سنة بعيدون عن المقاصد سائرون في التقليد المحض المقصدي، قابعون في درك سحيق من النظر الجزئي الفروعي الجامد [زمن الجمود الطويل].
7- ونظرية المقاصد في هذه الأبحاث هي تطلب لـ «الرجل العظيم»، الذي يظهر في «الفراغ الكبير»، وهي نظرية استشراقية، تفسر كيف أن جوزيف شاخت ركز على طول زمن انحطاط الشريعة بعد نشأتها مباشرة، وأن الشافعي هو الرجل العظيم الذي أسس قواعدها ولكنه لم يتكرر ولم يظهر له مثيل حتى جاء الاستعمار الحديث بالخلاص.
8- الملاحظة الثانية، هي غلبة النزعة الاعتزالية العقلانية على البحث المقاصدي الحالي، وحصرها ضمنا في مصالح الدنيا وإلغاء مصالح الآخرة أو تهميشها.
وهذا مخالف للمقاصد عند علماء المذاهب الذين راعوا فيها ثلاثة قواعد ثابتة:
القاعدة الأولى: أن المصالح المعتبرة شرعا هي المصالح الدنيوية والأخروية معا،
القاعدة الثانية: أن المصالح الدنيوية المحضة شأن عقلي وعرفي، وأما مصالح الآخرة، فلا يحددها إلا الشارع.
القاعدة الثالثة: أن مصالح الدنيا أقل أهمية من المصالح الأخروية، وأنها خادمة لها وتابعة لها في الاعتبار، كالوسائل مع المقاصد.
9- يلاحظ رأي الأستاذ الطاهر بن عاشور في المقاصد، بصفته المرجع النهائي لبحوث المقاصد إلى الآن ، يخالف جوهريا طريقة فقهاء المذاهب الأربعة فيها، وذلك على الخصوص في التالي:
أولا- حصره المقاصد في الدنيا وإلغاء مصالح الآخرة: حيث قال: «شريعة الإسلام، جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل، أي: في حاضر الأمور وعواقبها. وليس المراد بالآجل أمورَ الآخرة، لأن الشرائع لا تحدد للناس سَيْرهم في الآخرة»، وهذه وهلة وقعت لابن عاشور، خالف فيها ما عليه جماعة العلماء قبله، حيث يقول عز الدين بن عبد السلام أن المقصود بمصالح الآخرة هو «فعل الواجبات واجتناب المحرمات .. وفعل السنن..وما عدا ذلك من المندوبات».
وكيف تكون مقاصد الشريعة إذا أسقطنا منها مصالح الآخرة، وقصرناها على مصالح الدنيا، التي هي الملاذُّ المادية والمنافع الذاتية للناس كما هو مقرر؟
ثانيا: النزعة الاعتزالية والعقلانية للمصالح عند الأستاذ ابن عاشور حيث بناها على أسس اعتزالية عقلانية ضمنية، وهي أن الله لا يفعل إلا عن حكمة موافقة للعقل البشري والمصلحة البشرية؛ قياسا على حسن صنعه في خلقه، وبالتالي فالتمدن الذي خلق الله عليه الإنسان هو أساس بعث الشرائع والرسالات، فجعل «إقامة النظام البشري» مركز الشريعة، والعلة النهائية للرسل والأديان السماوية، وهو ما يختلف جذريا عن مدخل الشاطبي إلى المقاصد، والذي جعل المصالح مقصودة للشارع في أمره ونهيه رحمة بالناس، لا في خلقه وصنعه وفعله، كما لم يجعل إقامة النظام البشري حتمية واجبة على الله.
وهذا يدفع إلا استنتاج أن الغرب كان في مقاصد ذ ابن عاشور مرجعية صامتة، مفروغا منها، وأنه اكتفى بالتماس الشرعية الدينية عليها دون تحفظ ولا تحرير.
ثالثا: التمييز في الدين بين العبادات والمعاملات: فسمى ذ ابن عاشور العبادات بالديانة [الخاص = نطاق الحرية الشخصية]، وسمى المعاملات بالتشريع، وبالقانون [العام = نطاق سلطة الدولة]، وبهذا فوت اختصاص الفقهاء إلى الدولة، وجعل ـ ربما من حيث لم يقصد ـ لسلطتها صلاحية تحديد محتوى القاعدة الشرعية في المعاملات، وأبطل ضمنيا كلا من الفقه وأصوله معا بشكل لا يمكن أن يكون شرعيا.
والملاحظ أن هذا التمييز بين الخاص والعام هو حجر الزاوية في فلسفة الأنوار، التي ترى أن الإله خير وعادل، وأنه خلق العالم ووضع له إطارا عاما، إلا أنه لا مدخل له في تدبير تفاصيل هذا العالم، بل ذلك للإنسان بعقله، وهي قاعدة اتفق علماء الإسلام على الإنكار على من يدعيها أو يتورط فيها.
رابعا: إنهاء ذ الطاهر ابن عاشور لاعتماد أصول الفقه وإقصاؤه له كمرجع لشرعية المعاملات: حيث اعتبر أن المقاصد مرجعية مجزية ومغنية عن أصول الفقه وعن الفقه أيضا، وفتح الشريعة على النسبية والذوق العصري كمرجعية جديدة في تفسيرها.
وهذا مما خالف فيه ذ ابن عاشور فقهاء المقاصد السابقين، كإمام الحرمين والغزالي، والعز ابن عبد السلام، والقرافي والشاطبي، وغيرهم حيث كان لهم مؤلفات في المقاصد، وأخرى في أصول الفقه وأخرى في الفروع والفتاوى، بشكل لم يكن متنافيا.
وقد نص ابن عاشور صراحة أنه لم يعد للفقه ولا لأصوله حاجة، فقال: «إنما أردت أن تكون ثُلةٌ من القواعد القطعية ملجأً نلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة، وأن ما يحصل من تلك القواعد هو ما نسميه علم مقاصد الشريعة، وليس ذلك بعلم أصول الفقه».
وقد بنى ذ ابن عاشور طعنه في مرجعية الفقه وأصوله على ثلاثة مستندات:
المستند الأول: التوهين من قدر أصول الفقه: وذلك باعتباره مجرد آليات بسيطة لا أهلية فيها لدرك مقاصد الشريعة وحكمتها، المستند الثاني: إبطال قطعية أصول الفقه: حيث اعتبرها خلية من القواطع، بل هي مجرد ظنيات، وبالتالي فلا تصلح لحسم الخلاف. المستند الثالث: أن علم الأصول لا يرجع إليه الفقهاء.
خامسا: أنهاء مرجعية الفروع لعدم كفاءة أدلة الفقهاء: حيث قال: «لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلّة ضرورية، أو قريبة منها .. كما ينتهي أهلُ العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي إلى الأدلّة الضروريات».
وقد تعقب الأستاذ المحاضر كلام ذ الطاهر ابن عاشور في اتهامه للفقهاء والأصوليين، وطعنه المبالغ فيه في أصول الفقه وقطعية قواعده، منبها إلى أنه لم يكن موفقا في ذلك، وأن قطعية أصول الفقه مقررة عند الأصوليين، يصعب جدا أن يطعن في قطعيتها، وذلك أن القطع في القواعد الأصولية مبني على أساسين:
الأساس الأول: قطعية أدلتها، وهي دليل العقل، ودليل النص، ودليل الإجماع، ودليل التواتر، ودليل الاستقراء.
الأساس الثاني: وجوب العمل، وهذا إجماع عند الأصوليين، أي: أن وجوب العمل بالظن قطعي في أصول الفقه.
كما نبه على أن الطعن في قطعية القواعد الأصولية يفضي إلى إبطال علوم ضرورية، وإلى الشك في أغلب العلوم.
وقد فسر الأستاذ هذا بأن ابن عاشور وجد أصول الفقه والفروع لا تتلاءم مع فلسفة المقاصد التي بناها على النزعة العقلانية التي هي مباينة وجوديا لفلسفة هذه العلوم، ولذلك وجد الحل في استبعادها بشراسة قبل الحديث عن موضوع المقاصد.
10- تعرض المحاضر بعد هذا إلى النظر في مدى صحة قطعية المقاصد عند الطاهر بن عاشور، حيث انكشف بالنظر أن مسالك إثبات المقاصد لم تكن قطعية عنده، بل استند إلى جملة من عمومات القرآن والسنة، وإلى بعض القواعد الفقهية، وإلى بعض الاستقراءات التمثيلية، مما لا يمكن أن يفيد القطع بحال، فتراوحت أدلته عليها بين الظن والظن المرجوح.
فلا تفاصيل المصالح قطعي، ولا انطباقها على جزئياتها قطعي، وبهما يسقط كل تعويل على المقاصد لإنشاء النظرية التشريعية السحرية التي تجبُّ المرجعيات الفقهية والأصولية السابقة.
ولهذا بقي السؤال ملحا عن الحجة على جعل المقاصد بديلا عن الأحكام الشرعية وأدلتها التفصيلية والإجمالية معا؟ وكيف سلم الطلبة هذه المقدمة في أبحاثهم، مقتصرين على تقريرات وأقوال ابن عاشور رحمه الله، وهو ما يضع نقطة استفهام عن جدوى البحث المقاصدي، وعن آثاره الآن؟ خاصة وأنه غير محتاج إليه لا من طرف الدول ولا العامة.
وإنما الحاصل هو أن البحث المقاصدي أسهم في إعادة إنتاج الحداثة من قلب الدين الإسلامي، وإن قيام الطاهر بن عاشور بتأصيل مبادئ الثورة الفرنسية [المساواة ـ الحرية ـ الأخوة] في كتابه، ووضعها في صلب المقاصد، له دلالة بالغة على هويته.
كما يلاحظ أن المقاصد بمفهومها الحالي صاحبها انبهار مفرط بالحداثة في مرحلتها البطولية، كما أنها لم تُخضع نفسها للنقد والمراجعة على وزان ما درجت عليه الأوضاع والأساليب الفقهية في السابق، فبقي البحث المقاصدي عالة على أفكار الرواد لحوالي مائة عام، فقد قَدمت الدين كمشروع حضاري يتهرب من التهميش، ولكنها في الواقع غيرت الهوية الأخلاقية للإسلام وبقيت حبيسة مرحلة الانبهار.
وختم المحاضر بأن الدين لم يكن يوما ما مشروعا حضاريا، وإنما كان رقابة أخلاقية ودينية صارمة على الحضارة، إن الحضارة تنتمي إلى الطبيعة وعالم الأدوات والتطور، والأديان السماوية جاءت بأسسها الأخلاقية والمعنوية التي بها تكون حضارة راشدة.
11- وذيل المحاضر كلمته بتوصيات للطلبة والباحثين لتكون لهم نبراسا يستعينون به في بناء مقولات معرفية ذات مقدرة تفسيرية عالية في البحث في الشريعة، ومهد لهذه التوصيات بتصدير مهم وهو ضرورة استيفاء ثلاثة شروط نفسية، وهي: الثقة في الدين الإسلامي، والثقة في مؤسسات الدين ونظمه التي رعاها العلماء وورثناها عنهم، وعدم الانبهار بالغرب، والثقة في تحيزاته، بل الحكم عليه من خلال درسته.
والتوصيات هي:
أولا: لا بد من الحفاظ على تعريف العلماء للشريعة: إذ الشريعة بكل وضوح وتحديد هي الحكم الشرعي، وإن الفقه هو مجرد العلم بها، ولذلك فإن التفريق بين الشريعة والفقه تفكيك مباشر لنطاق الإلزام بالأحكام الشرعية، وتوسيع لدائرة النسبية وفتح لباب التلاعب بالنصوص الدينية.
ثانيا: الشريعة نظام أخلاقي بالأساس، ومنه يتحدد نطاقها المركزي ونطاقاتها الفرعية، وفي حضن هذا المعنى تأسست الحضارة الإسلامية تاريخيا، وما تفرع عنها من منظومات قانونية وإدارية واقتصادية وثقافية وعمرانية وجمالية لا زال بعضها مستمرا إلى يومنا هذا.
ثالثا: الرؤية الإسلامية للعالم غير مثالية، بل تتسم بالواقعية الأخلاقية: هناك إمكانيتان في الرؤية الإسلامية: الإمكانية المثالية، والإمكانية الواقعية، والفرق بينهما هو الزمن، فإذا استبعدنا الزمن فيمكن تعريف الإسلام بأنه مثالي، وإذا اعتددنا بالزمن، فإن الإسلام لا يكمن أن يكون مثاليا، وإنما الوصف الأقرب له هو أنه واقعي واقعية أخلاقية.
مشيرا إلى أن هذه النزعات المثالية في تاريخ الإسلام قد توزعت على أربعة أصناف: المثالية الفوضوية: ويجسدها الخوارج. المثالية الظاهرية: يجسدها المذهب الظاهري. المثالية العقلانية: جسدتها فرقة المعتزلة. المثالية الباطنية: جسدتها المذاهب الحلولية والمهدوية في التشيع الغالي والتصوف الفلسفي.
وكل هذه المثاليات حادت عن الدين الصحيح، وآل كل واحد منها إلى مآلات مأساوية مضادة للدين، فالخوارج سفكوا الدم، والظاهرية انتهوا إلى تضييق نطاق الشريعة والتزام التناقض في الأحكام، والمعتزلة انتهوا إلى إبطال الشريعة وإخضاعها للمصلحة العقلية. والحلولية انتهى بها الأمر إلى التحلل من التكليف، وإلى استباحة الحرمات. وهذا ما يفسر الحساسية المفرطة لعلماء الشريعة من النزعات المثالية، وتحذيرهم منها والوقوف ضدها.
ومما لاحظه المحاضر على هذه النزعات المثالية أنها قد اجتمعت وهيمنت في العصر الحالي على قطاع واسع من المثقفين والدعاة، وأثرت كثيرا حتى في الأبحاث الجامعية. وأصبحت الشريعة في مرمى الرؤى المثالية، المعادية للتاريخ ومؤسسات الإسلام.
رابعا: العصمة هي لمؤسسات الإسلام وأنظمته العلمية لا للأشخاص: وعليه دعا المحاضر الطلبة إلى التخلص من نظرية «الرجل العظيم» التي ابتدعها المستشرقون، وألا يتحزبوا إلى أن عالما ما أو داعية ما قد اكتمل فيه الحق والصواب، مع معارضته لقول الكافة، فهذا المسلك مناف لطبيعة علوم الشريعة، وغير معهود عند العلماء.
خامسا: وجوب فحص المقولات وتملك الحجة عليها قبل تبنيها: مشيرا إلى ضرورة الانتباه إلى «البيئة» كمعامل جوهري في تحديد المفاهيم.
سادسا: تأسيس تقويم الأفكار بناء على صلتها بالزمن لا على ما تعلنه عن نفسها: منبها الطلبة على أن الأفكار يجب النظر إليها كمتتاليات، أي من خلال ركنين: أولهما: تماسك أدلتها وبنائها النظري، وثانيهما: ما تنتجه أو يحتمل أن تنتجه من وضعيات داخل الزمن.
سابعا: وجوب اليقظة للمعضلة اللسانية الراهنة في التعامل مع موضوعات الشريعة: مؤكدا على الطلبة بأن مما ينبغي التنبه إليه في البحث في الشريعة حاليا ـ وهو ما يعد خاصية مركزية في زمن الحداثة الحالي ـ عدم براءة اللغة، حيث يمرر عدد كبير من التحيزات في الاستعمالات اللغوية، المعبأة بالأحكام المسبقة والاستتباع، وهذا ذو صلة بإرادة القوة التي تتحكم في الدلالة، وسماها نيتشه: «تقنين اللغة»، الذي ينجم عنه تقنين الحقيقة نفسها والتحكم فيها، وإمكان التلاعب بها.
مؤكدا على أننا اليوم نتداول في البحث والحديث عن الشريعة قاموسا أقل ما يقال فيه إنه لا يختزن العبارات التي تدل دلالة دقيقة على الشريعة كنظام أخلاقي وكحياة أمة كبرى عمرت أزيد من ثلاثة عشر قرنا.
اليوم الثاني: الثلاثاء 25 يونيو 2024م الموافق ل 18 ذي الحجة 1445هـ.
الجلسة الصباحية: رئيس الجلسة: د. إبراهيم أبا محمد
المقرر: الباحث طه فطناسي

المداخلة الأولى: المنهجية الفقهية في المذهب المالكي: محاولة للتعريف
د محمد العلمي
استهل الأستاذ عرضه بالتنبيه على أن المنهجية الفقهية لم تعرَّف بعد، وأن هذه الورقة المننتقاة من التراث الفقهي والأصولي وكتب الفتوى والقضاء، هي محاولة للتعريف بها، وذلك في ثلاثة محاور: أولها: تعريف رسمي بالمنهجية الفقهية، والثاني: جملة من خواصها، والثالث: أهم افتراضات العلماء فيها.
في المحور الأول، عرف الأستاذ المنهجية الفقهية بأنها: «مجموع القواعد والمعارف التي بـها تفسَّر الشريعة بصفتها نظاما أخلاقيا، على معايير الترجيح في الظنيات».
فقوله: «مجموع القواعد»، أي قواعد أصول الفقه [قواعد اللغة، وقواعد القياس، وخبر الواحد، وصفات المجتهدين]، وسائر القواعد الفقهية المستقرأة من الشريعة.
وقوله: «والمعارف التي تعرف بها الشريعة»، يراد به مجموع المعارف التي يشتغل ويستعين بها الفقهاء، كـ:
1ـ آداب القضاء: باعتباره بابا ثابتا في المصادر الفقهية.
2ـ آداب الفتوى: التي تقررت مسائلها مع المتأخرين كالإمام النووي وابن الصلاح، فأصبحت بعد ذلك من المضامين المركزية في المصادر الفقهية اللاحقة، [بسط البرزلي قواعد الفتوى في أول المجلد الأول من نوازله، تبعا لابن عبد النور في كتابه «الحاوي»، في حين بسطها الونشريسي في المجلد العاشر من المعيار، بالإضافة إلى بعض الكتب التي تخصصت في مسائل الفتوى وقواعدها المذهبية، كنور البصر للهلالي ومنار أصول الفتوى للقاني].
3ـ علم الكلام: حيث أن عددا كبيرا من المصادر الفقهية تُقدِّم بمقدمات من التوحيد [الرسالة ـ المقدمات ـ المرشد المعين ـ القوانين الفقهية]، أو تختم بها [الذخيرة]. وتجري معرفة الفقهاء بعلم الكلام في: الردة ـ الفسق في إمامة الصلاة وشروط القضاء ـ تعريف العلم ـ محل العقل هل الدماغ أم القلب بالنسبة لدية المأمومة في جناية الخطأ ـ ثبوت الإمامة العظمى ـ تغيير المنكر أنه لا يتوقف على المعصوم..

4ـ علوم الحديث: حيث يحتاج الفقه إليها في روايات الأحاديث المستدل بها وتوثيقها ـ العلل والتخريج ـ شرح الغريب ـ الشهادات ـ الوثائق والشروط ـ شرح أحاديث الأحكام..
5ـ القراءات والتفسير: ويرجع إليها في أسباب النزول ـ التفسير ـ ترجيح اختيارات فقهية ـ بيان استناد الفقهاء إلى المفسرين ـ الرد على بعضهم ـ فضائل الأعمال ..
6ـ المنطق: ويرجع إليه في الردة: تفسير دلالة التضمن الذي تعتبر ردة ـ تفسير التناقض في الوصية ـ تفسير الأجناس والأصناف ـ التفريق بين الشروط والأركان ـ تفسير المِثل ـ تفسير العموم والخصوص ـ معنى الحد ..
7ـ علوم اللغة: وتعتمد عند الفقهاء في شرح الألفاظ التي تنبني عليها الأحكام ـ ضبط بعض العبارات ـ الترجيح بقولهم واختيارهم ـ الرجوع إليهم اتباعا لهم، كقول خليل: «التحاكم في هذا إلى أهل اللغة ـ وهو المنقول عن أهل اللغة» ـ تفسير اختلاف الفقهاء باختلافهم، كقول خليل: «اختلف أهل اللغة في ذلك، ولذلك اختلف الفقهاء» ..
8ـ الأدباء: ويرجع الفقهاء إلى الشعراء في: الاستشهاد ـ توثيق اللغة ـ الاستطراد ـ الاستعارات والمجازات ..
9ـ التاريخ: وذلك في توثيق بعض الأحداث القريبة أو البعيدة التي تتعلق بها بعض الأحكام الشرعية ـ ذكر بدايات بعض الأمور ـ الرد عليهم ـ الاحتجاج بهم ـ في أحكام البيعة والسياسة الشرعية تذكر أحداث تاريخية لتعضيد أحكامها ..
10ـ الطب: يرجع إليه الفقهاء في الجراحات ـ الأعذار ـ الأمراض الموجبة للحجر ـ الطهارات ـ العيوب الصحية ـ العدة ـ الخيار في النكاح ..
11ـ الهندسة: حيث يرجع إلىها الفقهاء في تحديد القبلة، والقسمة، وزكاة الجواهر، وغيرها من المسائل، قال القرافي: «وكم يخفى على الفقهاء والحكام الحقُّ في كثير من المسائل بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة، فينبغي لذوي الهمم العلية أن لا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم ذلك».
12ـ الهيئة: ويعتمد عليه الفقهاء في تحديد جملة المواقيت والأهلة.
13ـ الحساب: ويعتمد عليه الفقهاء جملة المواقيت والأهلة.
14ـ رجوع الفقهاء إلى أهل المعرفة والنظر في كل مجال تتصل به أو تتوقف عليه الأحكام الشرعية: كعيوب البيوع، وعيوب النساء، والقسمة، والأكرية طويلة الأمد، والمساقاة، والديات.
فكانت هذه هي جملة المعارف التي يتوقف نظر الفقيه في الأحكام الشرعية عليها، فلم تصل إلينا الشريعة اليوم إلا من خلال تمكن الفقهاء من هذه المعارف وتوظيفها المحكم في الإخبار الأحكام الشرعية.
وأما عن قوله في التعريف: «التي بـها تفسر الشريعة بصفتها نظاما أخلاقيا»، فإن مراده من ذلك أمران:
أولهما: تفسير الشريعة، ومعناه: بيانها المستمر لكل المكلفين في كل زمان ومكان وحال، على قاعدة: لا يخلو فعل عن حكم شرعي، وهذا البيان هو مجرد إخبار من الفقيه عن الشارع، بعد استيفائه أهليات وشروطا محددة في أصول الفقه، وكل ما يسمى رأيا، فما هو إلا طرق وأساليب لكشف الحكم الشرعي.
ثانيهما: يقيد تفسير الفقهاء للشريعة بكونها نظاما أخلاقيا منزلا، وأما المصالح فيعرفها الإنسان بعقله وتجاربه وعوائده، وتقوم الشريعة بالتقييد الأخلاقي والديني للمصالح البشرية، وهذا جوهر الاجتهاد الفقهي.

وقوله في تعريف المنهجية الفقهية: «بمعايير الترجيح في الظنيات»، فالمقصد من ذلك أن الشريعة على قسمين: الشريعة القطعية: وهو ما يصطلح عليه بالمعلوم من الدين بالضرورة، وهو قسم يستوي فيه العامي والعالم، ولا تجري فيه المذاهب ولا الآراء الفقهية. والقسم الثاني: الشريعة الظنية: وهي التي يتوصل إليها بالاجتهاد والترجيح، إذ القاعدة: أن التعبد في الظنيات وقف على الترجيح من ذي الأهلية، وهذا الترجيح هو قواعد ومعايير علمية مكتسبة ومتداولة، وحيث إن الترجيح قد يختلف بين العلماء، فقد انتظم اختلافهم في مدارس سميت بالمذاهب الفقهية.
المحور الثاني: خواص المنهجية الفقهية، وذكر منها خمس خواص، هي:
1ـ أن المنهجية الفقهية من إنتاج العلماء: وهم بالأساس الفقهاء والأصوليون، فالفقهاء موضوعهم أفعال المكلفين من حيث تعلق الحكم الشرعي بها، والأصوليون موضوعهم حماية النظام التفسيري اللغوي للنصوص الشرعية، وما يتصل به من قواعد يأخذها الفقهاء منهم بالتقليد والتسليم. ويعتمدون أيضا على المحدثين والقراء في إثبات النصوص التي تستند إليها الأحكام، وأكد الأستاذ المحاضر أنه لا مدخل لغير العلماء في إنتاج الأحكام الشرعية بشكل مباشر.
2ـ أنها تتطلب أهليات وشروطا تراتبية: حيث تتحقق بها الملكة، فيطلب في الفقيه شروط حسب درجته، فهناك المجتهد المطلق، وهناك مجتهد المذهب [مجتهد التخريج]، وهناك مجتهد الفتوى، ولكل منهم شروط مرعية.
ويطلب في الأصولي شروط من المعرفة والأهلية، ويطلب في ولاية القضاء شروط وأهلية، وهي تراتبية ومتغيرة حسب الوقت، وهناك شروط مفسر آيات الأحكام، وهناك شروط لشارح فقه السنة، وهناك شروط في الخلافي البحَّاث المناظر، وهناك شروط للموثق وكاتب الشروط، وهناك شروط للفرضيين والحُسَّاب، وهناك شروط للمفتي حسب الوقت. وهكذا.
فالقاعدة: أن كل من اعتنى بعلم من معارف المنهجية الفقهية، واستوفى شروطه، فهو حجة في ذلك الجانب منها.
3ـ أنها عمومية علنية: إذ إن كل القواعد والأشغال المرتبطة بالمنهجية الفقهية تُتداول على صعيد عمومي يتعلق بجمع الناس، وبحيث يمكن أن يعلمه الكافة، وهي علنية إذ لا توجد أسرار في مداولات الفقهاء ومناقشاتهم وتقريراتهم.
ولتوضيح تمثلات هذه الخاصية داخل الزمن، ساق الأستاذ المحاضر بعض الأمثلة التي تؤكد على تداول العلماء للقواعد والأشغال المرتبطة بالمنهجية الفقهية على صعيد عمومي، حيث ذكر القاضي عياض نقلا عن الخشني في ترجمة القاضي أبي العباس بن طالب القيرواني (ت 297هـ) أن «ابن طالب إذا وقف للحكم بين خصمين، كتب للمطلوب القصة التي شهد عليه بها، ثم قال: اذهب، وطف بها على كل من له علم، وجئني بالأجوبة»، وقال المالكي في رياض النفوس: «وكان يكتب على أحكامه: حكمت لك بقول ابن القاسم، حكمت لك بقول أشهب، ثم يقول له: في البلد فقهاء وعلماء، اذهب إليهم، فما أنكروا عليك فارجع إلي».
وبناء على المثال المذكور قرر الأستاذ المحاضر أنه لا توجد للعلماء مجالس سرية أو مجامع مقدسة، بل تصل المشورة الفقهية بشكل مجاني وشفاف إلى كل الناس ممن يهمهم الأمر من العلماء وغيرهم.
4ـ أنها تراكمية ومؤسسية: إذ لم تنشأ المنهجية الفقهية في وقت محدد، ولا يمكن أن تنسب لرجل عبقري فذ عظيم، بل نشأت بشكل تراكمي ومتطور، ولهذا فإن عامة قواعدها لم تدون من أول يوم، وإنما دونت بشكل تدريجي، حتى استقرت، فقواعد أصول الفقه كانت سائدة في العلماء منذ عهد الصحابة، واشتغل بها المجتهدون منهم ومن التابعين وتابعيهم، ثم جاء الشافعي فدونها، ثم تبلورت هذه القواعد وتحددت بشكل أدق، وتوسعت وتعمقت وتحررت مع الأصوليين بعده، حتى أصبح مدونها الأول [الإمام الشافعي] ثانويا في نسق العلم. وأصبح أصول الفقه مؤسسة متسعة المجال، لا يمكن أن ينسب لشخص أو حتى فئة محددة، بل في كل قاعدة توجد تقريرات ومناقشات واحتجاجات امتدت قرونا قبل أن تستقر عند المتأخرين، وتصبح مسلمة ومدرسية.
وقواعد كل علم من علوم الفقه لم تكتمل من أول يوم، ولم يكن فيها صواب كامل عند أحد من الفقهاء، بل اشتغل الفقهاء شغلا مضنيا وبعيد الغور حتى نضجت واستقرت. فعندما نقول مثلا: ذهب المالكية إلى كذا، فهذه نسبة الرأي إلى مؤسسة، وهيئة معنوية، امتد الاشتغال في تأصيلها وتفريعها وبحثها وتحريرها وتحيينها قرونا عديدة. وقل مثل ذلك على المذاهب الفقهية الأخرى.
وهذا النظر مفتوح لا ينتهي، لأن الزمان مستمر، وأفعال المكلفين متجددة، والقواعد متبلورة، والنظر الذي يفتح الله به على الفقهاء لا حدود دونه، والمقصود الأعظم هو استمرار الشريعة بكل كمالاتها في كل زمان ومكان وحال، حسب الاستطاعة والإمكان.
5ـ أنها مدونة: إذ المنهجية الفقهية ليست عرفية أو شفوية، بل هي ملكات صناعية، دونتها المصادر المختلفة، ولكنه تدوين مفتوح على التبلور ما دام الفقه مرجعا لبيان أحكام الشريعة، وما دام المفتون يفتون في النوازل، وما دام القضاة والمشاوَرون يحررون الأحكام، فكل مدونة للقواعد التي تعرف بها المنهجية الفقهية تضيف عما قبله وتستدرك عليه، ثم تؤسس على ما تحرر منه، ثم تضيف ما استجد من أنظار فيها، لتطرح مرة أخرى على العلماء للبت في صلاحيتها ومتانتها وانسجامها.
المحور الثالث: جملة من الافتراضات التي يفترضها العلماء في المنهجية الفقهية، أكد الأستاذ على تأسيس الفقهاء والأصوليون للمنهجية الفقهية على مجموعة من الافتراضات الشرعية، أهمها أربعة، هي:
الافتراض الأول: أن أئمة المذاهب المتبوعين قد استحقوا الاتباع ليس بسبب شخصيتهم الفذة ومصداقيتهم الأخلاقية أساسا، بل بالدرجة الأولى بسبب درايتهم المرجعية بتأويل الشريعة تأويلا صحيحا، وبشروط علمية ولغوية كاملة، فهم يفترضون أن الأئمة استوفوا شروط الاجتهاد، وأنهم أجابوا عن المسائل وحرروا الفقه بأهلية كاملة، وعلم صحيح، وطريقة سليمة، وأسس أصولية مستدل عليها.
الافتراض الثاني: أن هؤلاء الأئمة أرباب المذاهب ليس لهم كلام شخصي في الشريعة، بل مسائل المذهب هي مجرد اختيارات لهم من فقه التابعين الذي هو اختيار من فقه الصحابة، ولهذا تتلازم في الفقه قديما متوالية: [الرأي والأثر والسنن]، أي لا توجد قطيعة بين الرأي والأدلة الشرعية، وإنما تكامل، وهذا عليه أدلة كثيرة منذ نشأة المذهب.
الافتراض الثالث: أن الفقهاء منتسبي المذاهب الفقهية ليس من حقهم ادعاء مرتبة الاجتهاد المطلق، وكل من تأهل لها وبلغ هذه الدرجة، فإنه كان يستغلها لترشيد المذهب ورفع مستوى الطلبة والعلماء والمفتين.
ومثل المحاضر لهذا الافتراض بالإمام المازري الذي بلغ درجة الاجتهاد، ومع ذلك كان يقول: «شأني ألا أفتي إلا بالمشهور»، ويقول عن طبقة كبار المجتهدين من أشياخه كالصائغ واللخمي: «منذ سبعين سنة ما أدركت أشياخي إلا وهم يفتون بالمشهور»، وقد استغل المازري هذه المرتبة، فألف مصادر كانت من أهم ما اعتمده المالكية في تكوين فقهائهم، كشرحه صحيح مسلم في الحديث، وشرح البرهان في أصول الفقه، وماذكره الأستاذ المحاضر عن الإمام المازري ينطبق بحسب قوله على عدد كبير من فقهاء المذهب كالشاطبي وابن مرزوق، وابن دقيق العيد، وابن عرفة، وعبد القادر الفاسي، وأبي الحسن الصغير، وغيرهم كثير في المذهب المالكي والمذاهب الأخرى.
الافتراض الرابع: أن كل مسألة من مسائل المذهب لها أدلة مبنية على أصول، حيث تفترض كل المذاهب أن فتاوى الأئمة وأجوبتهم على المسائل بنيت على أدلة وأصول متماسكة ومنسجمة، إلا أن كثيرا منها قام أهل المذهب بصياغته والتدقيق فيه.
وتأكيدا على هذا الافتراض ذكر الأستاذ المحاضر نصوصا عن ابن أبي زيد في هذا المعنى، كقوله عن الإمام مالك أنه كان من «ذوي الرسوخ الذين لا يتكلمون إلا عن أصول يرجعون إليها»، وقوله أيضا: «ومالك ممن لا يقول قولا إلا عن سلف يسبقه، ولا يتعلق أيضا في الاختيار من قول من تقدمه بالشاذ».
ونظرا لعدم كفاية الوقت المخصص للعرض، أحال الأستاذ على البحث الذي سينشر ضمن أعمال الدورة بحول الله.
المداخلة الثانية: القواعد المتعلقة بمنصوص المذهب في فتح الفتاح
د محمد والسو
أكد الأستاذ المحاضر في بداية عرضه على أهمية موضوع الدورة، وهو العناية بالجانب المنهجي للفقه المالكي، لا سيما وأن موضوعها يتعلق بعلم من أعلام المذهب المالكي بالمغرب، وهو الفقيه ابن رحال أحد رواد المنهجية الفقهية، وممن كان له يد في إحياء رسومها بالمغرب، عن طريق موسوعته الفقهية فتح الفتاح.
وأعرب المحاضر عن انزعاجه من المقولات المعاصرة الداعية إلى التجديد، متفلتة من جميع القواعد والضوابط التي حكمت الشريعة، وذلك برفع شعارات تتعلق بالنقد والمراجعة، ومما أغفل عنه أصحاب هذه المقولات أن التجديد الذين يدعون إليه هو وقف على مجموعة من الشروط، ومن أهمها تحصيل الموجود وهو ذلك التراث الفقهي الكبير والذي يندرج فيه كتاب فتح الفتاح لابن رحال.

ومن نتائج غياب المنهجية الفقهية في الدرس الفقهي المعاصر ظهور تيار يقوم على عكس القضايا والقواعد، ومن ذلك الدعوات المقاصدية المعاصرة والتي جعلت المقاصد حاكمة على الأصول، بعد أن كانت هذه الأخيرة حاكمة على الأولى، بالإضافة إلى ما يزعمه البعض من أن علم أصول الفقه بعيد عما يسمى اليوم بـ «القيم».
وفسر الأستاذ أسباب ظهور هذه الدعاوى بغياب المنهجية الفقهية في الدرس الفقهي المعاصر؛ منبها على أن مخالفة المنهجية الفقهية التي سار عليها ابن رحال وسائر علماء الأمة، هو بمثابة خرق للإجماع.
ثم انتقل الأستاذ إلى المقصد الأساس من موضوعه، وهو الحديث عن «القواعد المتعلقة بمنصوص المذهب» كأحد أركان المنهجية الفقهية من خلال كتاب فتح الفتاح، معرفا في البداية بمصطلح: «المذهب»، بأنه الأحكام الشرعية الاجتهادية، وقواعد تلك الأحكام التي استنبطت من منهجية الإمام مالك، وما استنبطه أصحابه من خلال منهجه، مما عبر عنه إما بلسان المقال وإما بلسان الحال. معززا تعريفه بما نص عليه الإمام القرافي من ضوابط المذهب الذي يقلد فيها، وذكر منها: الأحكام الشرعية الفرعية، وأسبابها، وشروطها، وموانعها، وحججها.
ليعرج بعد ذلك إلى بيان المراد من «المنصوص» مبرزا أن هذا المصطلح له إطلاقات وسياقات محددة في كلام العلماء، فيطلق المنصوص فيراد به تارة قول مالك، وقد يراد به قول أحد أصحابه، وقد يطلق المنصوص على قول المتقدمين، سواء المتقدمون اصطلاحا، وهم من كان قبل ابن أبي زيد من فقهاء المذهب، حيث كان ابن أبي زيد آخر المتقدمين وأول المتقدمين، أو المتقدمون نسبيا، أي: بالنسبة إلى من بعدهم.
وقدم الأستاذ بعض الأمثلة المتعلقة بمنصوص المذهب باعتبار إطلاقه على التقدم من خلال نصوص ابن الحاجب وخليل.
وذكر أن من إطلاقات المنصوص الإطلاق بالمعنى اللغوي، أي: المنطوق به، وساق بعد ذلك مثالا لهذا الإطلاق من خلال قول ابن رحال في فتح الفتاح: «لم أقف عليه منصوصا إلا لابن شاس وابن الحاجب».
ومن إطلاقات المنصوص التي ذكرها الأستاذ المحاضر ما يحمل معنى المنقول، كقول الشيخ خليل في التوضيح: «المراد بالمنصوص المنقول».
ثم ذكر المحاضر أن المنصوص في المذهب لا يستلزم كونه حجة بالضرورة، ومنه فلا يلزم العمل به والاعتماد عليه بمجرد كونه منصوصا، ولذلك تحدث الفقهاء عن هذه الأقوال المنصوصة بأحكام نقدية، فتحدثوا عن المتفق عليه، وعن الراجح، وعن المشهور، وعن المساوي، وعن الشاذ، وعن الضعيف، إلى غير ذلك، وقد تناول الأستاذ المحاصر مصطلحات: الراجح، والمشهور، وماجرى به العمل، كنماذج للأقوال المنصوصة التي تناولها الفقهاء بأحكام نقدية.
ونظرا لضيق الوقت ختم الأستاذ كلمته بالإحالة على مبسوط عرضه الذي سينشر ضمن أعمال الدورة بحول الله.
المداخلة الثالثة: قواعد الاختلاف والاتفاق في فتح الفتاح
د رضوان بنصابر
مهد الأستاذ المحاضر بكلمة تعريفية بكتاب فتح الفتاح لابن رحال، وبصاحبه ومنهجه فيه، وقيمة الكتاب ومكانته في المذهب باعتباره جامعا وحاويا لنصوصه.
وفي معرض حديثه عن المسائل المنهجية في فتح الفتاح حصر مداخلته في منهج ابن رحال في عرض قواعد الاختلاف والاتفاق.
بين الأستاذ معنى كل من «الاتفاق» و«الاختلاف» والمراد من استعمالهما في المذهب، والاختلاف الحاصل في تعريفهما. واختار «الاتفاق» بما اتفق عليه أهل المذهب خاصة، كما قال الحطاب.
ثم عرف مصطلح «الاختلاف» بنقيض ما عرف به الاتفاق؛ منبها على أن المسائل القطعية في الشريعة لا مدخل فيها للاختلاف، وذلك إما باعتبار كونها كليات في الشريعة تضافرت على معناها نصوص، وإما باعتبارها جزئيات منصوصة لا يتعدد الفهم فيها، ومنه فإن ما دون ذلك يدخله الخلاف.

ثم قسم الأستاذ المحاضر أنه سيقسم عرضه إلى محورين: الأول في قواعد الاختلاف في فتح الفتاح، والثاني في قواعد الاتفاق في فتح الفتاح.
وتعرض الأستاذ بعد ذلك إلى المناقشة الشهيرة التي حصلت من بعض المتأخرين في مصطلحي «الخلاف» و«الاختلاف»، وذلك على قولين: القول الأول، وهو قول الكافة من العلماء: وهو عدم التفريق بين الخلاف والاختلاف، وأن معناهما واحد، ويدل على ذلك واقع أبحاث أصحاب هذا الإتجاه في مؤلفاتهم الخلافية، حيث تضم الفقرة الواحدة تعبيرا للمعنى الواحد إما بلفظتي الخلاف أو الاختلاف.
أما القول الثاني: فهو الذي أحدث أصحابه تمييزا بين المصطلحين، وهو اتجاه ذكره بعض متأخري الحنفية، وتبناه عدد من المعاصرين، حيث يفرقون بين الخلاف والاختلاف من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الاختلاف ما استعمل في قول بني على دليل، والخلاف ما وقع فيما لا دليل فيه.
الوجه الثاني: الاختلاف يكون طريقه مختلفا والمقصود واحدا، والخلاف أن يكون كل منهما مختلفا.
الوجه الثالث: الخلاف يكون في محل العصيان، ودليله قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم﴾، والاختلاف يكون في حالة المغايرة في الفهم الواقع من تفاوت وجهات النظر، ودليله قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون﴾.
ثم انتقل الأستاذ إلى الحديث عن منهج ابن رحال في الاختلاف والخلاف، وانهما عنده بمعنى واحد، كما أنه استعمل المصطلحين معا على الترادف في مسائل الخلاف العالي والنازل، واستعرض في ذلك جملة من النصوص من فتح الفتاح.
وبعد ذلك انتقل الأستاذ المحاضر إلى استعراض أنواع الخلاف المتداول عند الفقهاء، معتبرا أن تحديد أنواعه يعود إلى اعتبارات النظر فيه، فهناك الخلاف السائغ، وهو ما وجدت موجبات صحيحة تقتضيه، وهو اختلاف المجتهدين من الفقهاء والمجتهدين والحكام. ويقابله الاختلاف المذموم وهو ما كان في مقابل الدليل الصحيح مكابرة وعناد، وقد رفض ابن رحال غير ما مرة الخلاف غير السائغ المخالف للإجماع.
وإلى هنا توقفت مداخلة الأستاذ، حيث ختم كلامه بما يعرب عن أسفه الشديد عن عدم إكمال عرض مداخلته لضيق الوقت، حيث لم يتناول المحور الثاني من مداخلته الخاص بمصطلح الاتفاق، مبينا أن هذا المحور ستكون مسائله معروضة في كتاب الدورة.
المداخلة الرابعة: دور الحواشي في شرح المذهب وتصحيحه:
حاشية الطالب محمد بن الحاج أنموذجا
د عبد السلام الجميلي
افتتح الأستاذ المحاضر مداخلته بكلمة شكر وامتنان للسيد رئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي التابع للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور محمد العلمي على إشرافه العلمي ومتابعته الدقيقة لجميع مراحل تحقيق فتح الفتاح، وتحدث أيضا عن مكانة الفقيه ابن رحال في المذهب وقيمته العلمية الكبيرة والتي تتجسد بشكل كبير في اطلاعه على نصوص المذهب وقدرته على جمع شتاتها في سياق واحد، ومنه فإن إخراج كتاب فتح الفتاح يعد فتحا كبيرا للدرس الفقهي المعاصر، وسيوفر بذلك مادة غنية وثرية للطلبة والباحثين.

ثم انتقل الأستاذ بعد ذلك إلى موضوع مداخلته، عارضا لنموذج دراسته، والمركب من ثلاثة أعلام كبار، وهم: صاحب المتن سيدي عبد الواحد ابن عاشر، وشارحه ميارة الفاسي، ومحشي الشرح الطالب محمد بن الحاج، مبينا قيمة متن ابن عاشر في المذهب ومركزيته في الدرس الفقهي، حيث ذكر أن العلماء يقولون أن متن ابن عاشر تجب قراءته إما فهما أو دراسة أو سماعا، وأما شارح المتن الفقيه ميارة فإن شرحه جاء بعد مراجعة شيوخه وتزكيتهم له، وأما المحشي فقد بلغ رتبة الاجتهاد.
وعطف عنان القول بعد ذلك إلى الحديث عن معنى الحاشية، معرفا إياها بما عُلق على الكتاب، من زيادات وإيضاحات، فقال في تعريفها الاصطلاحي: هي عبارة عن أطراف الكتاب ثم صارت عبارة عما يكتب فيها من شرح وإيضاح، فتدون بعد ذلك تدوينا مستقلا، ويقال لها تعليقة أيضا.
وأشار الأستاذ إلى أنه لم يكن للحاشية نظام محدد عند الأقدمين، إذ كانت توضع أحيانا بين الأسطر، وأحيانا في جوانب الصفحة، متحدثا بعد ذلك عن الفروق القائمة بين الحاشية والطرة، منبها بعد ذلك على الغرض من الحاشية بأنها تفك الغوامض المغلقات وتحل المشكلات، والاستدراك عن المطلقات في المتن، دون أن تتعرض لجميع ما في الشرح، واستعرض الأستاذ المحاضر بذلك نماذج من حاشية ابن الحاج تؤكد على دور الحاشية في التنبيه على المغلقات، وحل المشكلات، والاستدراك عن المطلقات.
محيلا في ختام عرضه على البحث الذي سينشر مع أعمال الدورة.
المداخلة الخامسة: النقد الفقهي في المذهب المالكي: البحث وأساليبه في فتح الفتاح
د محمد الخادير
استهل الأستاذ المحاضر مداخلته بالحديث عن مركزية «البحث» في الاشتغال الفقهي، وذلك بسبب دوران الاجتهاد الفقهي على الظن الغالب الذي يبقي المذاهب الفقهية مفتوحة على الملاحظات والتقويمات المستمرة، وفق قواعد ومناهج محددة.
وقد جعل الأستاذ مرجعه هو كتاب فتح الفتاح باعتباره شرحا موسوعيا جمع آراء وتحريرات الفقهاء ومناقشاتهم.
يقوم البحث على دوافع وموجبات علمية تستهدف بالأساس تحرير النسبة الصحيحة للمذهب، ومنه فإن آراء إمام المذهب وكبار أصحابه لم تكن مستثناة من البحث والمناقشة، ولذلك لم تستقر إلا بعد مداولات فقهية مديدة في الزمن، ومباحثات فقهية لا تذر صغيرة ولا كبيرة، وكم هي فتاوى مالك وأصحابه التي تخلى عنها المالكية بعد الأنظار والمناقشات والأبحاث التي مارستها أجيال من الفقهاء.

وأول محاولة من هذا القبيل هي التي قام بها ابن القاسم، فقد بحث كثيرا مع الإمام مالك كما تدل على ذلك مدونة سحنون، وكتاب التوسط بين مالك وابن القاسم للجبيري، وغيرهما من مصادر المذهب، ثم توالت المباحثات واستمرت بشكل تلقائي لدى المالكية في مُخْتَلَفِ العصور.
إن الأقوال، والمصادر، وطرق الفتوى المعتمدة في المذهب إلى الآن، ليست ضربا من الاتفاق العشوائي، أو اتباع للسلف دون حجة، بل هي نتاج لزمن طويل من البحث، والتنقيح، والنقد الفقهي الصارم.
وقد قسم الأستاذ المحاضر مداخلته على ثلاثة محاور: مفهوم البحث الفقهي، ومجالات البحث الفقهي عند المالكية، ثم أغراض البحث الفقهي.
استعرض الأستاذ المحاضر في المحور الأول مدلولات البحث لغة واصطلاحا، وأشار إلى أنه على الرغم من تعدد التعاريف الاصطلاحية للبحث إلا أن جميعها يدور في فلك إثبات النسبة إيجابا وسلبا، وهو المعنى المتداول عند الفقهاء. ونبه هنا إلى الفرق بين البحث والنص.
ثم سرد عددا من الألفاظ المستعملة في إفادة البحث الفقهي، كقولهم: «فيه نظر»، «الظاهر»، «ينبغي»، «يؤخذ منه»، «تأمل»، «يجيء»، وعقب كل لفظ منها بأمثلة ونماذج من المصادر الفقهية المالكية.
وفي المحور الثاني تعرض الأستاذ إلى مجالات البحث الفقهي، مميزا فيه بين ثلاثة مجالات رئيسة:
الأول: بحث الروايات والأقوال: وهو بحث قول إمام المذهب وأقوال أصحابه، وروايتهم عنه، وتحقيق ذلك رواية ونسبة، ويُلحق بذلك ضبط ألفاظ الروايات والأقوال وطرقها، وتحديد لدرجاتها، وصفاتها في الفتوى والتخريج المذهبي عليها، والاستقراء منها والقياس عليها. وقد تحرر من ذلك في متون المذهب، وما خدمها بالشرح والتعليق والاختصار والاستدراك، وهو مجال اعتمدت فيه الطريقة القروية، حيث ظل النص الفقهي، ولغته ودلالته مركز المنهجية الفقهية، والمعيار الحاكم عليها.
المجال الثاني: بحث الاستدلال والحجة: وهو بحث يرتكز على حجج المذهب واستدلالاته، وقد احتضن هذا في مؤلفات أحكام القرآن وشروح السنة، ومؤلفات أصول الفقه، والقواعد الفقهية، والكليات والنظائر، وقد هيمنت على هذا المجال الطريقة العراقية القائمة على القياس والتعليل، والنظر في معاني الفقه، وذلك بإفراد المسائل وتحرير الدلائل على رسم الجدليين وأهل النظر من الأصوليين.
المجال الثالث: بحث العمل الفقهي: وهو بحث يتغيى النظر في مدى التطبيق العملي للأحكام الشرعية، وتحقيق مناطاتها في واقع الناس وحياتهم الخاصة والعامة، وذلك بالجواب على النوازل، وبالحكم والقضاء، وهو ما اشتملت عليه مؤلفات الفقه العملي، وقد كانت الطريقة الأندلسية هي المهيمنة في هذا المجال، وكان من آثارها بروز أوجه جديدة في الشروح.
وبعد استعراض الأستاذ لمجالات البحث الفقهي ذكر صورا تطبيقية لها من خلال فتح الفتاح، وذكر من ذلك أربعة أنواع:
النوع الأول: البحث في النقل والرواية: وذكر فيه نماذج تطبيقية من النقل عن المذهب والنسبة إليه، ونماذج من مسائل البحث والتشهير، وبحث الخروج عن المذهب.
النوع الثاني: البحث في التأويل والحمل: وذكر منه بحث تأويل المدونة، وبحث حمل المسألة على غير وجهها.
النوع الثالث: البحث والتعليل: وذكر فيه التعليل، والتوجيه.
النوع الرابع: البحث في اللغة والأسلوب: وذكر فيه نماذج تطبيقية على رد الاختلال الذي يقع من جهتها.
في المحور الثالث «أغراض البحث الفقهي» أكد الأستاذ أن أغراضه تتحدد بناءً على دلالة النص ودرجته في الإفادة والبيان، وذلك باعتبار أن البحث لا يجري إلا عند وجود الاحتمال سواء في مرتبة النص التشريعي من الوضوح والخفاء، أو من حيث شموله لأفراده، وللإحاطة بأغراض البحث الفقهي في المذهب المالكي، قسمه إلى ثلاثة محاور، وهي:

أولا: أن البحث يستهدف تارة تحرير النسبة الصحيحة للمذهب، وهو الشريعة في حق المقلد في الظنيات، مع افتراض انعدام المجتهد المطلق، وخلاصته: هل القول، أو الرأي، أو الرواية، أو التخريج، تصح نسبته للمذهب؟
ثانيا: أن البحث يراقب مدى انتظام الرأي الفقهي مع قواعد الاستدلال وأصول النظر الشرعي الذي اختاره المذهب، وهذا ما أفرز لنا بحث التوجيه والتعليل.
ثالثا: البحث عن تحقق مناط الحكم بشكل صحيح داخل الزمن في نوازل الوقت، والبحث هنا لا ينصب على الفتوى، أو الرأي الفقهي من حيث هما ، ولكن من حيث انطباقهما وتحقق لمناطهما على قاعدة أن فساد الأحوال جالب للنظر المصلحي، درء للمفاسد، أو لأشدهما فسادا.
وختم مداخلته بكلمة موجزة عن أهمية المنهجية في البحث الفقهي، مبرزا أن وحدة المنهجية الفقهية سمحت للأمة باجتياز المضايق والأزمات، وساهمت في استمرار رسوم الشريعة في الحياة وإحيائها، رغم تغير الظروف والأحوال، مؤكدا على أن البحث الفقهي داخل المذهب لا يحيد عن هذا النهج .
المداخلة السادسة: النقد الفقهي في المذهب المالكي من خلال فتح الفتاح: نماذج تطبيقية
د عبد الله بدري
بدأ الأستاذ المحاضر كلمته بمقدمة استعرض فيها موجبات النقد والحاجة الملحة إليه لتطور العلوم والمعارف، وأن المذهب المالكي باعتباره مجموعة من الأحكام والقواعد التي شكلت بنيانه الشامخ لم يكن ليستثنى من ضرورة النقد، ومنه فإن أعلامه وأئمته قد اشتغلوا على نقد مسائله وتقويمها وتصحيحها وتنقيحها، صيانة منهم لهيبته في النفوس، وحفاظا على تماسك أبنيته، وضمانا لصيرورته التشريعية، معززا مقولته بنص للإمام القرافي يذكر فيه ضرورة تفقد أهل كل عصر لمذهبهم.
وأشار المحاضر إلى أن بوادر النقد الفقهي ظهرت في المذهب المالكي منذ مراحله الأولى مع مؤسسه، وذلك من خلال نهجه مسلك التنخيل والتمحيص لأحاديث الموطأ، وأشار إلى أن تغير آراء الإمام مالك بين الموطأ والمدونة ليس إلا انعكاسا لمنهجه النقدي، مستعرضا بعد ذلك رسالة الإمام مالك المشهورة إلى الليث بن سعد وما تضمنته من آراء نقدية فريدة، وليؤكد بعد ذلك على تأثر تلامذة الإمام مالك بهذه النزعة النقدية وانعكاس آثارها علىهم، كابن القاسم الذي انتقد شيخه الإمام مالك في مسائل كثيرة، وهذه الانتقادات هي التي دفعت ابن جبير إلى تأليف كتابه «التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدونة»، واستعرض بعد ذلك نماذج من النقد الفقهي عند فقهاء المالكية.

ليقرر الأستاذ بعد ذلك أن النقد الفقهي في المذهب المالكي لم تتبلور معالمه الكبرى إلا مع الإمام اللخمي في كتابه التبصرة، ثم تبعه بعد ذلك جمع من العلماء حتى أصبحوا بعد ذلك من أعلام هذا الإتجاه، ومثل لهم بالإمام المازري، وابن بشير، وابن رشد الجد، والقاضي عياض، حيث أسهم هؤلاء في نقل المذهب المالكي إلى مرحلة جديدة في النقد والتصرف في الفقه تصرف تنقيح وتصحيح، مشيرا إلى أن ابن رحال كان من رواد النقد الفقهي المذهبي وهو ما تكشف عنه موسوعته الفقهية فتح الفتاح.
وركز الأستاذ مداخلته على ملامح النقد الفقهي عند ابن رحال من خلال فتح الفتاح، مبرزا مكانة ابن رحال في المذهب وملكته النقدية المميزة، وقيمة شرحه المذهبية، ليستعرض جملة من الصيغ النقدية التي استعملها ابن رحال خلال مناقشته لبعض مسائل المذهب، من أهمها الصيغة الإنكارية الصريحة التي عقب بها على كلام الأجهوري، فقال: «لا عبرة بما في الأجهوري ومن معه، فإنما هو غلط فلا يغرنك أصلا»، وقوله عن ابن عاشر: «اعترض على المتن وشنع، وهو لم يفهم المسألة»، ومنها تعجبه من استدلال ابن مرزوق حيث قال: «وهذا الاستدلال من ابن مرزوق مما يتعجب منه»، ومنها قوله عن الحطاب وابن شاس: «هذا كلام فيه إيهام ظاهر موقع في الالتباس، وقد اغتر به بعض الناس»، وغيرها من الصيغ التي تقع على هذه الشاكلة، وبعد هذا العرض المقتضب أشار الأستاذ المحاضر إلى أن هذه النقول تؤكد على شخصية ابن الرحال النقدية وعن عقليته الاجتهادية.
وختم كلمته بفائدة نقلها عن الأستاذ محمد العلمي تتعلق بالنقد، وهي أن النقد لا يقصد به الانتقاص من المنقود والازدراء به، وإنما المراد بالنقل تفقد الأقوال والروايات لإصابة الحق والصواب.
الجلسة المسائية: رئيس الجلسة: د. عبد المالك علمي
المقرر: الباحث الفضل سرار
المداخلة الأولى: تقنيات شرح المذهب وأغراضها في فتح الفتاح
د. عبد القادر الزكاري
استهل الأستاذ المحاضر عرضه بإبراز أهمية متون المذهب والجهود الخادمة لها، وأن لهذه الجهود مقاصد وأغراضا عدة، مما نتج عنه تباين في طريقة تأليفها، فهي تأتي أحيانا لشرح مفردات المتن أو لاستدراك نقائص وغير ذلك، ولتحقيق هذه الأغراض استعمل فقهاء المالكية مجموعة من التقنيات والأساليب الخادمة في ذاتها لمناهج كبرى.
ثم قسم موضوعه إلى محورين: المعالم الكبرى لتي اعتمدها علماء المالكية في تقرير مسائل المذهب وشرحها. ثم تقنيات الشرح وأغراضها في فتح الفتاح.

استهل الأستاذ المحور الأول بالإشارة إلى وجود ثلاثة معالم كبرى في المذهب المالكي اصطلح عليها بالطريقة، وهي الطريقة القروية، والطريقة العراقية، والطريقة الأندلسية.
فالطريقة القروية قامت على العناية بالألفاظ والوقوف على متون الروايات ومآلاتها كأساس لفهم المتن، وهو الذي هيمن على الدرس الفقهي وسار عليه المالكية في شرح متونهم إلى اليوم.
والطريقة العراقية: غلب عليها القياس والتوجيه والتعليل والنظر في معاني الروايات دون الوقوف على الألفاظ ومبانيها.
والطريقة الأندلسية تميزت بالجمع بين المسائل الفقهية وبين العمل القضائي وما جرى عليه عمل المفتين.
وأما المحور الثاني من مداخلته فقد اقتصر فيه الأستاذ على عرض تقنيات الشرح من خلال طريقتين: الطريقة القروية باعتبارها المهيمنة على الدرس الفقهي والطريقة الأندلسية باعتبارها مكملة لها. ثم أفرد لكل واحدة جملة من العناصر والخصائص المصحوبة بأمثلتها.
أولا: تقنيات الشرح في الطريقة القروية، وذكر من خصائصها:
1ـ العناية بالألفاظ والحروف وتصحيح الإعراب. 2ـ تفكيك عبارة المتن. 3ـ استيفاء المسألة بالنقل وتحقيقها ومناقشتها. 4ـ التعقب والاستدراك. 5ـ التنكيت. 6ـ التقرير والتحصيل.
ثانيا: تقنيات الشرح في الطريقة الأندلسية، وذكر من خصائصها: اعتماد في الشرح على الجمع بين الأحكام الشرعية والعمل القضائي المؤسس على مراعاة مصالح الناس وعوائدهم وأعرافهم ومختلف أوضاع زمانهم.
من أمثلة ذلك مسألة شركة الخماس، كما جاء في كتاب فتح الفتاح.
المداخلة الثانية: الفوائد وفن الاستطراد وأغراضه في فتح الفتاح.
د. رشيد كرموت
قسم الأستاذ المحاضر موضوعه إلى ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: التعريف بأنواع الفوائد والاستطرادات التي ذكرها ابن رحال في فتح الفتاح.
المستوى الثاني: أهمية هذه الفوائد وجملة من تطبيقاتها.
المستوى الثالث: الأغراض التي استهدفها ابن رحال من شرحه.
تعلق المحور الأول بالتعريف بأنواع الفوائد والاستطرادات التي ذكرها ابن رحال في فتح الفتاح، ذكر الأستاذ أن الشارح قسم مادته العلمين إلى قسمين: القسم الأكبر هو الجوهر الذي يرده تحت باب أو فصل أو مسائل، أما القسم الثاني: فهو قسم المكملات أو التذييلات، الذي اختار لها ابن رحال عناوين، من ذلك: فائدة ـ تنبيهات ـ تكميل ـ استطراد ـ تلخيص ـ تحرير ـ تنكيت..
وتناول الأستاذ المحاضر بعض تلك الكلمات بالشرح، وذلك كـ: التحرير، حيث ذكر أن قصد ابن رحال منه صياغة المسألة الفقهية صياغة تجعلها أكثر وضوحا وتمييزا عن غيرها مما يشابهها، ومنها أيضا عبارة: الاستطراد، ومقصود ابن رحال منها أن يخوض المتكلم في معنى وقبل أن يتمه يستطرد في معنى آخر، وغير ذلك من الألفاظ.

وأما المحور الثاني المتعلق بأهمية هذه الفوائد وتطبيقاتها، فقد ذكر الأستاذ أن فقهاء الحنفية يجمعون هذه الفوائد في كتب مستقلة عن شروحهم لمصادر مذهبهم، بخلال المالكية الذين يوردونها في ثنايا الشرح، بحسب ما أفاده بذلك الأستاذ محمد العلمي، فجمع الحنفية هذه الفوائد في كتب مستقلة، سموها الفوائد، وذلك دليل على أهميتها، ومن أمثلة ذاك: كتاب الفوائد الزينية في مذهب الحنفية تأليف زين الدين إبراهيم ابن نجيم (ت970هـ).
وبخصوص المحور الثالث من المداخلة، والمتعلق بالأغراض التي استهدفها ابن رحال من شرحه، فقد عرضها الأستاذ المحاور على الشكل الآتي:
ـ بسط مسألة فقهية لم يسمح له الكلام فيها في جوهر الموضوع.
ـ بيان اختياره الفقهي في جزئية من جزئيات جوهر الموضوع.
ـ التعليق على بعض المصنفين الذين سبقوه.
ـ الرد على من اعترض على متن الشيخ خليل.
ـ تزويد الفقيه أو القاضي أو المفتي بدقائق علمية يغفل عنها الانسان المتمكن.
وحيث لم يسمح الوقت بإكمال محتوى العرض، فقد ذكر الأستاذ أن البحث بتمامه سيكون ضمن البحوث التي ستنشر في كتاب الدورة.
المداخلة الثالثة: خريطة أنظام ابن رحال ومشكلاتها وموضوعاتها.
د. محمد أفرياض
استهل الأستاذ المحاضر كلمته بالحديث عن تصميم مداخلته، فذكر تقسيمه للمداخلة موزعا مضامينها على مقدمة تمهيدية، وثلاثة محاور.
ركز الأستاذ كلامه في المقدمة على بيان خريطة الأنظام الموجودة في فتح الفتاح مع تبيان لأعدادها ومواطن تكرارها في أبواب مختلفة، مشيرا إلى أن عدد منظومات ابن رحال في فتح الفتاح: 165 منظومة، توزعت على 51 مجلدا، ومجموع أبياتها يقرب إلى 800 بيت.

وتناول في المحور الأول أنواع الإشكال في منظومات فتح الفتاح، منبها أن بعض الأبيات في فتح الفتاح تعتريها بعض الإش
كالات، فبعضها يتعلق بالوزن وبعضها الآخر يتعلق بالمعنى والمضمون، ممثلا لذلك ببعض النماذج، مفسرا أسباب هذه الإشكالات بثلاثة أسباب: أولها: ما يتعلق بإشكالات في المخطوط بذاته، الثاني: ما يتعلق بشكل النظم المحقق، والثالث: ما يتعلق بإشكالات المعنى بالمطبوع فقط.وخصص المحور الثاني لبعض النماذج من هذه الإشكالات، وما تضمنته هذه الأنظام من ترجيحات وقواعد ونظائر، ومثل لبعض ما فيه الإشكال والخلل بأمثلة منها:
النظم 1:
انف رجوعا عند حمل مطلقا حمالة بعكس ذا قد حققا
لفظ ضمان عند عقد ارتجاع وبعده حمالة بلا نزاع
النظم 2:
إن أخذك الحق من قد مكنك أربعة أولها في منحك.
وأما المحور الثالث فقد تناول فيه تصحيح الإشكالات التي ذكرها في المحور الثاني، فذكر منها:
النظم 1:
انف رجوعا عند حمل مطلقا حمالة بعكس ذا قد حققا
لفظ ضمان عند عقد لا ارتجاع وبعده حمالة بلا نزاع
وبهذه الإضافة يصح الكلام، ويستقيم المعنى، فالذي ضمن الصداق عند عقد الزواج لا رجوع له على الزوج؛ لأنه تحمل، أما إذا ضمنه بعد العقد، فإنه حمالة وليس تحملا.
النظم 2:
إن أخاك الحق من قد مكنك أربعة أولها في منحك.
ومعناها من مكنك من أربعة أشياء، أوائل كلماتها حروف منحك، ويقصد الماء والنار والحطب والكلأ، إشارة إلى حديث (المسلمون شركاء في الماء والكلأ والنار).
المداخلة الرابعة: دلالة الألفاظ والمقاصد الشرعية في الاستدلال الفقهي عند المالكية
د. عبد الحميد العلمي
افتتح الأستاذ مداخلته بتقسيم موضوعاتها إلى قسمين وواسطة تجمع بينهما:
أولا: الدلالة اللفظية.
ثانيا: المقاصد الشرعية.
ثالثا: الواسطة التي تجمع بينهما.
المحور الأول: الدلالة اللفظية.
ذكر الأستاذ اهتمام الفقهاء والأصوليين للعناية بالدلالة اللفظية، والقول بالدلالة اللفظية المقصود منها اللفظية الوضعية، ومنه وتخرج الصناعية والطبيعية والعقلية، لاحتياجهم إلى الدلالة اللفظية لاستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية، مشيرا إلى أن الأصوليين قد بحثوا الألفاظ ودلالاتها في تقسيمات عدة:
1ــ نوع الألفاظ: تحدثوا من خلاله عن المبتدأ والخبر، والاسم والفعل، والمترادف والمتباين، وغير ذلك.
2ــ الاستعمال: تحدثوا فيه عن الحقيقة، والمجاز، والكناية، وغير ذلك.
3ــ الوضع: تناولوا فيه مسائل العام، والخاص، والمشترك.
4ــ البيان: تحدثوا فيه عن واضح الدلالة وخفيِّها.
5ــ الاستدلالي: تحدثوا فيها عن المنطوقين والمفهومين.
ونبه الأستاذ المحاضر إلى أن أهل الأصول قد اهتموا بالدلالة اللفظية في الجانب الذي أغفله أهل اللغة، وهي مقاصد اللغة، مشيرا إلى أن الدلالة الوضعية بصفة عامة لها ثلاث إطلاقات:
الأول: عند أهل الميزان والعربية، وهي: كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، يسمى الأول دالا والثاني مدلول.
أما التعريف الثاني، فهو للفقهاء والأصوليين، فقالوا: هو العلم بمعنى اللفظ بالنسبة للعالم بالوضع اللغويي.
أما التعريف الثالث، فقد اختص به شهاب الدين القرافي المالكي، وهو: إفهام معنى اللفظ، والقول بأن الدلالة هي إفهام السامع لا فهمه، وهو تمييز مهم، وهذا تحدث عنه من الفقهاء والأصوليين من اشترط القصد في الدلالة اللغوية.
ودلالة الألفاظ كما يقول الغزالي أعظم فن من أقطاب أصول الفقه الأربعة.
وأن هذه الألفاظ أو القيود الداخلة في التعريف هي ألفاظ وضعت في التعريف لفظا فصارت له حدا.
المحور الثاني: المقاصد الشرعية.

ذكر الأستاذ المحاضر أن لفظ المقاصد إذا حقق إنما ينصرف إلى الحكم والمصالح والغايات التي تبتغيها الشريعة، معقبا على ذلك بأنه غير جامع، وذلك لدخول مقاصد تكليفية وامتثالية، وغير مانع من دخول مقاصد المكلف.
وقد عرف الإمام الشاطبي كما ذكر الأستاذ المقاصد من قبيل اللفظ المشترك الدال بالوضع الواحد على مقاصد الشارع ومقاصد المكلف.
وقد حكمت المقاصدَ مجموعةٌ من القواعد، منها: أن الحكم على فعل المكلف لا يقبل إلا إذا كان موافقا لقصد الشارع، حيث قال الشاطبي: القصد المناقض للشريعة مبطل للعمل.
المحور الثالث: الواسطة التي تجمع بينها.
قرر الأستاذ المحاضر هنا أن الواسطة هي الاستدلال الفقهي بالألفاظ والمقاصد في الدرس الفقهي، فلا يتقوم النظر فيه إلا باستحضار متن اللفظ وتاريخه وجغرافيته، مثال ذلك:
ــ لفظ: الخروبة، نبات شوكي وهي من باب العملات الصرفية كذلك.
ــ لفظ: الحين، يطلق في القرآن الكريم بمعان عدة، فتارة يطلق بمعنى العمر كله، كقوله تعالى:﴿فمتعناه إلى حين﴾، وتارة بمعنى أربعين سنة، كقوله تعالى: ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر﴾، وتارة يطلق بمعنى سنة واحدة، كقوله تعالى: ﴿تأتي أكلها كل حين﴾، وتارة يأتي بمعنى ليلة واحدة، كقوله تعالى: ﴿سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون﴾.
أما في الفقه، فمثال ذلك في البيع، أن يقول البائع بعت له مائة ثوب وعشرة، وقد يقول المشتري باع لي مائة ثوب وعشرة محافظ، والمقرر عند المالكية أن حذف الأواخر جائز إذا دلت عليه الأوائل، ومنه فالمالكية يأخذون بقصد المكلف.
ويتوصل لقصد المكلف بأدلة أربعة، ذكرها الأستاذ المحاضر على الشكل الآتي، وهي: 1ـ الإقرار، 2ـ القرينة، 3ـ شيوع التهمة، 4ـ كثرة الوقوع.
أما الشافعية فلا يعملون بالمقاصد، حيث قال الإمام الشافعي للمتعاقدين: وأكره لهما النية؛ لأنها لو ظهرت لفسخ العقد، أما الحنفية فقد توسطوا، حيث قالوا: أمور المسلمين محمولة على السداد والصلاح حتى يتبين العكس، فالأصل الأخذ بقصده الحسن الموافق لقصد الشريعة.
المحور الختامي: الاستدلال عند المالكية
استعرض الأستاذ المحاضر في هذا المحور الختامي استدلال المالكية بالألفاظ والمقاصد ومقارنتهم لها بأحكامهم، من خلال: ـ الاستحسان ـ عمل أهل المدينة ـ المصلحة المرسلة ـ قياس العكس ـ قاعدة مراعات الخلاف.
وأشار الأستاذ المحاضر إلى الاستعانة بالخبرة الطبية، ومثل لذلك باستعانة القاضي ابن زرب الأندلسي بخبرة القوابل لإثبات أن بها علة الراحة أو الحمل العنقودي وأنها ليست حاملا، وذلك قبل قسم التركة.
المداخلة الخامسة: تفسير آيات الأحكام في فتح الفتاح: أغراضه وثمراته
د. زيد الشريف
استهل الأستاذ المحاضرة مداخلته باستعراض محاورها، وهي ثلاثة، خصص المحور الأول منها لبيان حقيقة وماهية هذه الأحكام وكلام العلماء عليها، وتناول في المحور الثاني جهود علماء المالكية وتصانيفهم في آيات الأحكام، أما المحور الثالث فمحضه لاستعراض مناهج المالكية في التعامل مع آيات الأحكام، منبها على أن مداخلته تستقصر على إبراز قيمة كتب آيات الأحكام عند الفقهاء وحضور آيات الأحكام في الدرس الفقهي افتاء وتأصيلا وتوضيحا واستدلالا.
وفي مقدمة تمهيديه أشار الأستاذ المحاضر إلى استفادة واستمداد كثير من العلوم من كتب آيات الأحكام، مبرزا دورها عند علماء المالكية في الفتوى والقضاء واعتمادهم عليها في تقرير المشهور من المذهب وأقوال مالك وتلامذته، وتأكيدا على ذلك ذكر أنه باستقراء أمهات المذهب ومصادره المعتمدة، نجد ما يزيد عن خمسين نقلا من كتب أحكام القرآن، وذكر أمثلة منها، كالتوضيح للشيخ خليل؛ حيث كان الخليل يدرج كلام العرب في أحكام القرآن ضمن تقرير المعنى الفقهي وتفسير المذهب، ما يؤكد حضورها في الدرس الفقهي أخذا واستمدادا واستدلالا.
ـ وتجد نماذج كثرة لذلك في الجامع د لابن يونس.
ـ كما نجد في مواهب الجليل للحطاب، وشرح الرسالة لابن ناجي ، تعضيد الراجح عن مالك بما ذكره ابن العربي مثلا.
ـ وأورد أبو عبد الله المواق في التاج والإكليل اعتماد الفقهاء على كتب أحكام القرآن في توجيه كلام الإمام مالك في مسائل قد يظهر بداية مخالفته لأصله الذي عمل به، مثال ذلك ما ذكره ابن العربي في أحكامه توجيهه لكلام مالك في جواز الشراء لولي اليتيم وإن خالف أصله في التهمة والذرائع.

وذكر الأستاذ أن كل من الشيخ خليل في التوضيح والحطاب في المواهب اعتبرا كتاب أحكام القرآن لابن العربي من المتأخرين المعتبرين في نقل المذهب في مسألة صيغة التزويج، وجعلا كتاب الأحكام في مرتبة كتاب الإشراف للقاضي عبد الوهاب وابن القصار في عيون الأدلة، وهو ما قرره الدسوقي في حاشية على الشرح الكبير.
وفي الفواكه الدواني للنفراوي نجده اعتمد على أحكام القرآن لابن العربي في اثبات القول المشهور المعتمد في المذهب إذا لم يخالف في ذلك، إما إذا خالف فيبينه وينتقده.
وفي البهجة في شرح التحفة للتسولي، نجد عن ابن العربي نقولا، وقد اعتمد بعض اختياراته في بيان المشهور من المذهب وقول الجمهور، كما نقل عن الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
ثم ذكر الأستاذ بعض النماذج على حضور كتب أحكام القرآن في الدرس الفقهي، منها:
أن ابن يونس ينقل في جامع مسائل المدونة عن أحكام القرآن للقاضي إسماعيل، ويقول عنه لا خلاف أنه إذا قلد هديه أو أشعره، يريد بذلك الإحرام بالمحرم وهو مذهب ملك.
وفي روضة المستبين شرح كتاب التلقين لابن بزيزة، حيث اعتمد على أحكام القرآن القاضي إسماعيل.
وفي عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس يذكر قول ابن بكير في أحكامه، وفي مقابلة كلام أئمة المذهب كابن حبيب.
وعموما فأحكام القرآن عمدة في تأصيل المذهب عند المالكية، ويكثرون من اعتمادها والنقل من مصادرها، ما يؤكد أن الدليل الشرعي من التفسير الفقهي كان جزءا أصيلا من المنهجية الفقهية في المذهب المالكي.
الجلسة الصباحية ليوم 19 ذي الحجة 1445هـ الموافق لـ: 25 يونيو 2024
رئيسة الجلسة: دة. مليكة نايت لشقر
المقرر د: حميد بن يرزيز
المداخلة الأولى: التخريج الفقهي والوجوه في فتح الفتاح المعايير والقواعد
د: محمد المصلح
هذه المداخلة مستدركة من الجلسة العلمية الأولى بسبب ظروف خاصة للأستاذ المحاضر.
شرع الأستاذ بالتنويه بأهمية موضوع التخريج الفقهي، إذ هو إجراء علمي راسخ في كل المذاهب الفقهية سواء عند الفقهاء المتقدمين أو المتأخرين.
ثم ذكر أهمية التخريج بالنسبة للمفتي، إذ لا يدرك أهمية التخريج إلا من يشتغل بالمخارج لإيجاد الحلول الشرعية للقضايا المستجدة.
وقد انتقد الأستاذ قول القائل بأن التخريج يولد أقوالا ويفرخ فروعا دونما اعتماد على دليل، والحقيقة أنه ليس هناك قول في المذاهب الفقهية دون دليل.
ثم تطرق الأستاذ لسبب اعتماد الفقهاء للتخريج، وحصر هذه الأسباب في أمرين: حفاظ الفقيه على الدليل وعدم الخروج عن قاعدة إمامه، والسبب الثاني: الحرص على الوحدة المذهبية.
ثم تناول الأستاذ مفهوم التخريج، وقال هو نوع من الاستدلال يندرج في القياس. ثم ذكر جملة من تعريفاته التي وضعها فقهاء المالكية مثل ابن فرحون في كشف النقاب.
والفقهاء يعبرون عن التخريج بألفاظ متعددة منها: قولهم: خرَّج، يتخرَّج، وقولهم: قياسا على قول مالك، واستقراء من قوله، كما يستعملون لفظ الإجراء.
ثم تطرق الأستاذ لأنواع التخريج، وحصرها في نوعين:

تخريج الأصول على الأصول: وهو نوع تمارسه طائفة خاصة من المجتهدين مثل ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم..
أما موقف الفقهاء من هذا النوع من التخريج، فقد اتفقوا على العمل به بشروط، منها:
- أن يكون المخرِّج عالما بهذه الأصول مستوعبا لفروع إمامه، محيطا بمآخذه. كما قرره ابن رشد في كتابه المسائل، ثم بعده القرافي.
والنوع الثاني من التخريج، وهو: تخريج الفروع على الفروع، أجازه جمهور الفقهاء، وقد مارسه المتقدمون والمتأخرون، لكن ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز هذا النوع من التخريج: منهم ابن العربي، كما صرح بذلك في كتابه تفسير القرآن وأيضا في كتابه عارضة الأحوال.
وقد عزى الأستاذ سبب هذا الرفض الذي عبر عنه ابن العربي لأسباب ثلاث تفهم من كلامه ابن العربي، وهي:
- سد الذريعة في تولية منصب الإفتاء والقضاء؛
- رفع همة الفقهاء للارتقاء إلى درجة الاجتهاد المذهبي؛
- حصر التخريج الذي مارسه الفقهاء في مجال المباحثة العلمية.
وقد خلص الأستاذ إلى أن ابن العربي لم يمنع التخريج على الفروع مطلقا، وإنما أجازه بشروط، إذ منعه على المقلد دون المجتهد في المذهب، وحصر إعماله في مجال المباحثة العلمية.
ثم ساق بعد ذلك فضيلة الأستاذ جملة من ردود الفقهاء على قول ابن العربي، ومنهم:
- رد خليل في كتابه التوضيح، الذي أكد على أن كلام ابن العربي فيه نظر إذ الأقرب جواز العمل بتخريج الفروع على الفروع.
- وأيضا رد عليه القرافي، وإن كان القرافي قد حاول إيجاد مخرجا لابن العربي بحمل كلامه على أنه يقصد قول المقلد الذي لا يستوعب أصول إمامه.
- وكذلك رد عليه ابن رشد الجد في كتابه المقدمات الممهدات.
وخلص الأستاذ إلى القول بأن التخريج على الفروع داخل المذهب جائز، ويجوز عند جمهور الفقهاء المقلدين الذين لهم دراية بأصول الإمام وقواعده.
تم ختم الأستاذ مداخلته بالحديث عن القيمة العلمية للتخريج فيما إذا كانت الأقوال المستخرجة تعتبر أقوالا وتنسب للمذهب أم غير ذلك؟
وذكر موقف الفقهاء من هذه المسألة، وقال: إن الجمهور على أنها أقوال، لكن وقع هناك خلاف؛ فقد ذهب كثير من الفقهاء إلى اعتبار الأقوال المخرَّجة سواء بالتخريج على الأصول أو على الفروع أقوالا يعمل بها في القضاء والإفتاء.
وهناك من الفقهاء من لم يعتبرها أقوالا، منهم ابن فرحون الذي قال أن الأقوال المخرجة لا يحكم بها ولا يفتى بها وكذلك لازم القول.
ثم ختم الأستاذ المحاضر كلمته وقوفا عند حدود الوقت، محيلا على البحث الذي سينشر ضمن أعمال الدورة بحول الله.
المداخلة الثانية: أساليب الاستدلال الفقهي ومصادره في فتح الفتاح.
د عبد الكريم الهواوي
كسر الأستاذ المحاضر موضوعه على محورين، خصص الأول منهما للمقدمات الممهدات للاستدلال في المذهب، فصل فيه الأسس التي يبنى عليها منهج الاستدلال عند الفقهاء، وعلى ضوئها ولج إلى بيان المنهج الذي اتبعه ابن رحال في كتابه فتح الفتاح.
وقد تناول الأستاذ هذا المحور في ست مقدمات بناها على قاعدتين:
القاعدة الأولى: قائمة على التميز بين الاستنباط والاستدلال، إذ الاستنباط عمل الفقهاء والمجتهدين، أما الاستدلال فهو مهمة الفقهاء «المستدلين» في المذهب.
وتنبني على هذا القاعدة الثانية، وهي: أن الاستدلال لاحق للفقه وتابع له، فالاستدلال لإظهار دليل الحكم لا لإثبات الحكم ابتداء.
ثم بعد ذلك فصل الأستاذ في بعض مقدمات الاستدلال، ذكر منها:
- كل فعل لابد له من حكم شرعي، وكل حكم شرعي لابد له من دليل شرعي.
- الأدلة الشرعية المعتمدة عند الفقهاء ظنية لا قطعية، والأحكام كذلك.
- الاستدلال على الأحكام غير لازم في بعض الأحوال.
وقد ذكر أن الغرض من تناول المقدمات المذكورة هو الجواب على سؤال: لماذا الفقهاء يستدلون في بعض الكتب دون بعض؟

المحور الثاني تناول فيه الأستاذ المحاضر منهج الاستدلال عند ابن رحال في كتابه فتح الفتاح، مؤكدا أن هذا الكتاب من حيث الاستدلال يجري على الاصطلاح القروي في منهجه العام، مقررا أن الاستدلال في فتح الفتاح شامل وجار بمختلف الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأدلة التبعية.
وأكد على أن الأصل هو الاستدلال على الأحكام من الكتاب والسنة، وأن ابن رحال من دون شك قد اعتمد هذين المصدرين في الاستدلال كما هو جار عند سائر الفقهاء الذين ينقل عنهم.
وقد سجل الأستاذ أن ابن رحال لم يتبع خطة محددة في الاستدلال بالنصوص والإجماع، متمكنا من خلال تتبع بعض الأجزاء من كتاب فتح الفتاح لابن رحال من استخلاص بعض الملاحظات العامة التي ينبغي الاحتياط في التسليم بها نظرا لطول الكتاب وتعدد مجلداته، ومن هذه الملاحظات:
- الاستدلال بالنصوص في فتح الفتاح يختلف حجمه بحسب الموضوعات التي يعالجها، وقد لاحظ الأستاذ أن الأبواب والفروع التي يكثر فيها التعليل عادة عند الفقهاء يقل فيها الاستدلال في فتح الفتاح، إذ يعتمد فيها ابن رحال على التعليل كما هو في المجلد الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، والمجلد العشرين والواحد والعشرين، في حين أن الأبواب والفروع التي يكثر فيها الاستناد فيها إلى النصوص الشرعية، فهي بالعكس من ذلك، يغلب فيها الاستدلال بالنصوص، في حين يقل فيها التعليل عند ابن رحال كما هو الحال في المجلد الخامس والسادس والسابع، فقد أحصى الأستاذ من المجلدات المذكورة مائة وعشر فقرة وقع فيها الاستدلال بنص القرآن، وأما الاستدلال بالحديث في نفس المجلدات فقد وقع في مائة وخمس عشرة فقرة.
- رغم الملاحظات التي سبق ذكرها، فإن الاستدلال بالنصوص قليل في فتح الفتاح مقارنة مع أوجه الاستدلال الأخرى خاصة التعليل والتوجيه، وقد ساق الأستاذ المحاضر كلام ذ محمد العلمي في القسم الدراسي من فتح الفتاح، حيث قال: «يتوسع ابن رحال في التوجيه والتعليل للمسائل في حين نجد الاستدلالات عنده قليلة مقارنة معها حيث يقتصر منها على بعض مسائل الخلاف ينقلها جاهزة من مصادرها، ولم نره ابتدع فيها أمور جديدة، سوى بعض التعقبات وبعض التنويهات والاستدلالات.. ومع قلة استدلالات ابن رحال بالنسبة لعدد من المسائل فإنها كثيرة في نفسها لو جردت مفردة خصوصا من جهة السنة فإني أقدر أن جمع أحاديثه التي استدل بها ربما يصل إلى ما يكون في حجم الموطأ».
- أغلب الاستدلالات في فتح الفتاح منقولة من كتب المذهب، وقليلا ما يأتي ابن رحال باستدلالات من عنده، إذ يكتفي بنقل النصوص؛ لأنها تفي بالمقصود لكونها موثوقة النسبة؛ إلى الأئمة فيزيدها ذلك قوة، إذ عادة ابن رحال تقوية ما يريد تقويته بنصوص الأئمة.
- ينبني على الملاحظة السابقة أن ابن رحال يكتفي عادة بوجوه الاستدلال إن وجدت كما يأتي بالنصوص دون تعليق وفي أحيان قليلة يعلق على الآية تعليقا مختصرا.
- إن ابن رحال لم يقصد بالاستدلال بالنصوص قصدا، ولا وضع لذلك منهجا خاصا، فهو ليس كتاب خلافيات، وإنما يوردها كيفما اتفق، وبحسب وقوعها في النصوص التي يجلبها، ومن ثم قد تتقدم عنده الآية أو الحديث، أو يتأخران، كما أنه قد لا يكتفي بهما، بل يورد الاستدلال بغيرهما من الأدلة.
- يطيل ابن رحال النفس في الاستدلال عندما يتعلق الأمر بأمرين: الأول عندما يذهب إلى رأي يستقل به، والثاني عند اختلافه مع غيره وهنا تظهر براعته التامة في الاستدلال.
- ينبني على ما سبق استقلال ابن رحال بالترجيح في موضع الخلاف.
- تتكرر نفس الأدلة في الكتاب مرارا، والسبب في ذلك هو نقل الكثير من النصوص التي تتضمن نفس الأدلة، فيتعدد ذكر الدليل الواحد على نفس الفرع.
- قليلا ما يلمح ابن رحال فيتحدث عن قاعدة أصولية عند الاستدلال.
- مما جرت به عادة الفقهاء ذكر الدليل في فواتح الأبواب، مثل دليل البيع، أو السلم، وابن رحال يجري على هذا النسق، وقد يبسط المقال في ذلك .
- تعدد الاستدلال بالدليل الواحد على فروع متعددة، وهو أمر كثير عند بن رحال في فتح الفتاح.
- قد يعدل ابن رحال على الاستدلال بالنص إلى الاستدلال بالعلة المستنبطة منه لدوران الحكم عليه لأن الاختلاف يعود إليها لا إلى النص.
- مصادر ابن رحال في الاستدلال بالحديث هي كتب الفقه، وهي كثيرة، ومرجعه غالبا الكتب العالية في المذهب المالكي، مثل المعونة للقاضي عبد الوهاب، والجامع لابن يونس، والتوضيح لخليل، والبيان التحصيل والمقدمات لابن رشد.
- لا يأتي ابن رحال في الحكم على الحديث أو بيان مقتضى الصناعة الحديثية عند الاستدلال بالحديث إلا ما يوجد ضمن النصوص التي ينقلها، فلا يتعرض لتصحيح حديث ولا إلى تضعيفه كما هي عادة الفقهاء في التعامل مع الحديث.
وفي ختام مداخلته جادت قريحة الأستاذ المحاضر ببعض الأبيات الشعرية الرقيقة من وحي هذه الدورة المباركة.
المداخلة الثالثة: تخريج الفروع على الأصول في فتح الفتاح.
د: أحمد الرزاقي
انطلق الأستاذ المتدخل بحديثه عن خطورة فكرة اللامذهبية، ثم تناول أهمية التخريج في المذهب وأشار إلى أن الدين والتدين أصول قطعية معلومة من الدين بالضرورة، وهي أصول اجتهادية استقرائية تنتج قواعد وفروع فقهية، وكل ذلك شريعة إما بالقطع أو بالظن، وعليه فإن اللامذهبية هي الفوضى العارمة.

ثم تناول نقطة في مداخلته عنونها: بالمذهب بين النقد والتقدير، أكد من خلالها على ضرورة الحفاظ على المذهب واستدل بقول المازري، ثم أشار إلى الإشكالية العميقة التي تطرحها مجموعة من المصطلحات في علاقتها بمسألة التخريج، ومن ذلك مصطلح التجديد الذي يعتبر مصطلحا ملغوما، ونفس الشيء بالنسبة لمصطلح المقاصد الذي يجب أن يظل مرتبطا بقواعد المذهب.
تم أشار إلى تعريف التخريج، والألفاظ التي يطلقها الفقهاء على التخريج، وذكر أنواعه وشروطه، وأهميته في الفقه. وأتى ببعض أمثلة تخريج الفروع عن الفروع من ذلك قول ابن القاسم فيما يتعلق بالشركة.
ثم ختم مداخلته بالحديث عن خصائص التخريج في المذهب المالكي.
المداخلة الرابعة: أصناف القواعد الفقهية في فتح الفتاح
د: رشيد لمدور
في بداية مداخلته قدم الأستاذ أهم الخطوط العريضة التي سيتطرق لها وحصرها في النقط الآتية:
- أهم فنون القواعد الفقهية.
- البعد المنهجي للقواعد الفقهية.
- أهم المؤلفات التي أنتجها السادة المالكية في مجال القواعد الفقهية.
- أهم مميزات مشاركة المالكية في مجال القواعد الفقهية.
ثم بعد ذلك فصل الأستاذ المحاضر حديثه في هذه النقط كما الآتي:
أولا: أهم فنون القواعد الفقهية:
تناول الأستاذ التعريف الاصطلاحي لفنون القواعد الفقهية وذكر أن مصطلح القواعد الفقهية، هو مصطلح مركب بين كلمتي القاعدة والفقه، وعند الجمع بين هاتين الكلمتين يمكن القول إن القواعد الفقهية هي: الأصول الجامعة لعدد من المسائل الفرعية التي تتحد أحكامها إما كليا أو جزئيا.
وبهذا التعريف السالف أكد الأستاذ على الصلة القوية بين القواعد الفقهية والدرس الفقهي، وأكد على أن القواعد الفقهية هي جزئ لا يتجزأ منه، وقد كانت دراستها تأتي في المراحل المتقدمة من التحصيل الفقهي، ولا يمكن أن يقوم بعملية تدريسها إلا الفقيه المتمكن، وهو ما يدل عليه قول القرافي الذي قال: «وهذه القواعد مهمة للفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها عظم قدر الفقيه فيها تنافس العلماء والفضلاء..»
ثم ذكر الأستاذ أن هناك من الفقهاء من توسع في اعتبار ما يدخل في القواعد الفقهية، فجعلوا من ذلك اللطائف، والحيل، والألغاز، والنكت.
وأغلب الفقهاء قصروا القواعد الفقهية بمعناها الخاص في خمسة أصناف، وهي التي يعبرون عنها بـ: الأمثال، والضوابط، والفروق، والأشباه، والنظائر ..
وبعد ذلك انتقل الأستاذ إلى الحديث عن البعد المنهجي للقواعد الفقهية، وضح فيها أهمية القواعد الفقهية كأساس للفقه التطبيقي ومساعد على انتظام فنون الفقه العملي عند المفتي والقاضي.
في النقطة الثانية من مداخلته تعرض الأستاذ بالتحليل للبعد المنهجي للقواعد الفقهية موضحا أهميتها القصوى للنوازليين والقضاة.

بدأ الأستاذ حديثه في هذه النقطة بذكر قول القرافي الذي جعل من القواعد الفقهية أحد قسمي الشريعة إذ قال: «أصول الشرعية قسمان أحدهما أصول الفقه والثاني قواعد كلية فقهية». وقد أشار إلى هذا المعنى أيضا الإمام المقري عند تعريفه للقواعد الفقهية حيث قال: «ونعني بالقاعدة كُل كلي هو أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية».
فالقواعد الفقهية هي وسيط بين أصول الفقه وبين الضوابط التي تهتم بجزئيات من الفقه. فالشريعة بهذا المعنى هي عبارة عن هرم قاعدتها أصول الفقه وطبقتها الثانية القواعد الفقهية، وما تبقى من هذا الهرم فهو لفروع المسائل الفقهية.
وهناك بعد منهجي آخر في القواعد الفقهية، وهو أنها أساس لتقنين الفقه الإسلامي: إذ كان لها دور هام في تقنين الفقه الإسلامي، خاصة في مراحله الأولى فقد عملت على تحويل الفقه الإسلامي إلى قواعد قانونية مكتوبة ومنظمة وهو الأمر الذي لم يتطور.
كما كان للقواعد الفقهية دور أساسي في تعزيز العدالة في الحكم بين المتقاضيين، وقد ألف القاضي المدغري ت1416هـ، كتابا في القواعد الفقه، قال في ديباجته: «أردت أن أضع كتيبا صغيرا في أقل حجم ممكن يضعه القاضي في طاولته أثناء قيامه بمهمته، يعينه على العثور على النص الفقهي الذي ينطبق على النازلة في أقل وقت»، وكان القاضي المذكور يعلق على كل نص من مدونة الأحوال الشخصية القواعد الفقهية التي تناسبها حتى يتسنى له حل الإشكالات المعروضة عليه.
كما للقواعد الفقهية دور منهجي رابع يتمثل في ضبط أصول المذهب وجعل الفتاوى منضبطة، فبها تتضح مناهج الفتوى، كما قال القرافي. وهي طريق لفهم الفقه ومعرفة الأحكام.
وختم الأستاذ مداخلته بالحديث عن مناهج العلماء في التأليف، وقد حصر هذه المناهج في ثلاثة أنواع، وهي:
- منهج إيراد الفتوى وتتبع الأقوال؛
- منهج الترتيب على أبواب الفقه وذكر المسائل دون تأصيل؛
- منهج ترتيب الأحكام الفقهية مخرجة على الأصول والقواعد، وهو المنهج الذي اعتمده القرافي في كتابيه؛ الذخيرة والفروق.
المداخلة الخامسة: أسلوب الاستدلال بالقواعد الأصولية في فتح الفتاح
د: عبد المنعم السنون
استهل الأستاذ المحاضر عرضه بتقرير أهمية فتح الفتاح لابن رحال المعداني، ثم حصر محاور مداخلته في محورين، تناول في أولهما الجوانب النظرية والتأصيلية بتعريف القواعد الأصولية لغة واصطلاحا، وما يتعلق بذلك من اشكالات.
والمحور الثاني خصصه للحديث عن مجموعة القواعد التي استدل بها ابن رحال في كتابه فتح الفتاح.
وأشار إلى منهج ابن رحال في الاستدلال، وخلص إلى أن ابن رحال كان تارة على منهج الاصطلاح القروي، وتارة في استدلاله بالقواعد كان على منهج العراقيين، وتارة كان ينتهج منهج العمل القضائي الأندلسي.
ثم انتقل الأستاذ للحديث عن تعريف القواعد الأصولية، وذكر أن للقواعد الأصولية إطلاقا عاما وإطلاقا خاصا، فيراد بها عند الإطلاق العام أصول الفقه، وبهذا الإطلاق تكون القواعد الأصولية: هي أصول الفقه، أما عند الإطلاق الخاص فيراد بها: القواعد والأسس التي يتوصل بها أو يعملها المجتهد لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
ثم انتقل للحديث عن أنواع القواعد الأصولية، وحصرها في نوعين:
- قواعد لغوية ضابطة لدلالات الألفاظ؛
- قواعد استدلالية، وهي قواعد ضابط لمباحث الاستدلال والاجتهاد وغير ذلك من القواعد، مثل سد الذرائع، ومراعاة الخلاف.
ثم عاد الأستاذ إلى تفصيل القول عن منهج ابن رحال في استدلاله بالقواعد الأصولية حيث كان منهجه على شاكلة الدرس الفقهي، سواء كانت تلك القواعد استدلالية، أو كانت لغوية. فكان تارة يستدل بها على شاكلة الاصطلاح القروي؛ الذي يعنى بتعيين وتوجيه المسائل وتعريف وضبط الألفاظ. وتارة أخرى كان على منهج الاصطلاح العراقي، حيث كان يطيل النفس في المناقشة، لا سيما في قاعدة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ حيث استدل ابن رحال على صحتها والعمل بها، أما المسائل التي كان يعترض بها البعض فكان ابن رحال يوجهها ويصوبها.

ثم انتقل الأستاذ إلى الحديث عن الجانب القضائي لدى ابن رحال، وهو الجانب الذي أبدع فيه على حد تعبير الأستاذ المتدخل، حيث حرر فيه ابن رحال نوازل ومسائل حررها ابن رحال معتبرا فيها العرف، ومن ذلك مثال عمل المرأة واختلافه في الفقه بين المرأة القروية والمرأة المدنية.
ثم ختم الأستاذ مداخلته بتقديم مجموعة من النماذج من فتح الفتاح استدل بها على طريقة تعامل ابن رحال مع القواعد الأصولية، منها:
ما جاء في باب الأوامر والنواهي، جاء في فتح الفتاح: «واختلف في الإشهاد على الرجعة هل هو واجب أم مستحب ذهب عبد الوهاب على أنه مستحب، قياسا على الاشهاد في البيع وذهب ابن بُكير وغيره إلى أنه واجب لقوله عز وجل: ﴿واشهدوا ذوي عدل منكم﴾»، يقول ابن رحال: «والأمر على الوجوب حتى يقترن به ما يدل على أنه ليس على الوجوب ولم يقترن به ما يدل على ذلك كما اقترن في الأمر بالإشهاد على البيع وذلك قول الله تعالى: فإن أمن ﴿بعضكم﴾»، هذا من الأمثلة التي قررها بخلاصة وعجالة لأن المسألة واضحة.
ومن الأمثلة الواردة في فتح الفتاح لابن رحال: «وقوله [يعني مالك] وليس للمتعة حد قال ابن يونس قال ابن المواز وهي على قدر وجد الرجل مع قدر حال المرأة، قال الله تعالى: ﴿ومتعوهن..﴾ إلخ»، قال ابن رحال: «والأمر على الوجوب ما لم تقترن به قرينة تصرفه إلى الندب وقد اقترنت بهذا الأمر قرائن تدل على أن المراد به الندب من ذلك تخصيصه بها للمحسنين من غير المحسنين..».
ومن الأمثلة التي قدمها الأستاذ في مداخلته مسألة قاعدة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ وهي مسألة أورد فيها ابن رحال أقوالا للأمة واستدل على صحتها وعلى العمل بها.
وختم الأستاذ عرضه انضباطا للوقت المحدد، محيلا على البحث الذي سينشر لأعمال الدورة.
تقرير الجلسة المسائية ليوم 19 ذي الحجة 1445هـ الموافق لـ: 25 يونيو 2024.
رئيسة الجلسة: د. محمد المنتار
المقرر: حميد بن يرزيز
المداخلة الأولى: النوازل بين تطبيق المذهب وتأويله في فتح الفتاح
د: الميلود كعواس
بدأ الأستاذ مداخلته بتعريف النوازل وذكر خصائصها، منها: أن تكون حادثة وطارئة وأن تكون واقعة لا مفترضة وأن تكون خلوا من نص شرعي صريح. وقال: إن فقه النوازل هو ذلك العلم الذي يشتغل على استخراج الحكم المناسب للوقائع التي لم يرد بشأنها نص صريح.
وبعد ذلك حرر الأستاذ المحاضر علاقة فقه النوازل بمقررات المذهب، وهل فقه النوازل هو نفسه فقه الفروع أم أنه شيء خارج عنه؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا استقل بمصادره ومصنفاته؟ بمعنى ما حدود العلاقة بين الفقه النظري والتطبيقي وما هي ملامح التلاقي والاختلاف بينهما؟
ثم شرع الأستاذ في الحديث عن منهج الفقهاء في نظرهم في النوازل، وهو منهج قائم على ضرورة احترام ثلاث خطوات، وهي:

1- التصور: وهو حجر الزاوية في النظر في النازلة، وشرط لاستنباط الحكم الشرعي المناسب لها، وهو ما يقتضي جمع كل ما يتعلق بها، حتى لا يقع الناظر فيها في الزلل. وهنا ذكر الأستاذ أن ابن رحال كان حريصا على تصوير النازلة من كل جوانبها، حيث أوصى بضرورة الإلمام بالتفاصيل، والتفطن لقرائن الأحوال عند النظر في كل نازلة، لذلك فالقاضي أو المفتي يجب أن يراعي جملة من المسائل في هذا الباب، ذكر منها الأستاذ:
- حسن الإنصات للمستفتي واستيعاب قوله ودعواه؛
- ضرورة تمكين المفتي من الوثائق والمعقود التي لها صلة بالنازلة؛
- حسن الاستماع للشهود والخبراء، وابن رحال كان وفيا لهذا الأمر لذلك نجده قد استدعى العارفين بالخط مثلا؛
- تحليل النازلة وتفكيكها إلى عناصر جزئية؛
- تحديد موقع النازلة وزمانها ومكانها إذ هي من الأمور المهمة للنظر في النازلة.
2- تحرير المسألة وبيان مدى انتمائها لأصل شرعي، وهنا الفقهاء قالوا أن القاضي يجب أن يعود للقول المعتمد في المذهب لا إلى السنة والكتاب مباشرة، ومسوغ هذا:
أولا: أن الرجوع إلى المذهب هو رجوع إلى الكتاب والسنة، ذلك أن المذاهب قد بنيت على تلك الأصول، وابن رحال كان وفيا لهذه المنهجية، ومثل الأستاذ لهذا من فتح الفتاح، إذ إن ابن رحال في مسألة جواز خطبة الرجل الصالح على خطبة الرجل الفاسق والمسخوط، أفتى بالجواز، وقال: إنه نقل من خمسة وعشرين مؤلفا النص على جواز أن يخطب الصالح على الفاسق، وهو ما قد يبدو مخالفا لظاهر الحديث: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)، لكن التحقيق عند ابن رحال أن القول الذي أخذ به مبني هو الآخر على أدلة أخرى، وعلى فقه الحديث نفسه، ومن ذلك قول ابن رشد: «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه إذا كان هذا الأخوين متكافئان»، ومنه فالأخذ بقول المذهب ليس عدولا عن الكتاب والسنة.
ثانيا: أن الرجوع المباشر للسنة والقرآن شأن المجتهد المطلق، والمجتهد المطلق غالبا غير متوفر، وهو ما يجعلنا أمام أحد الخيارين: إما أن ننتظر إلى حين وجوده، وفي هذا تأخير للبيان عن وقت الحاجة، ما يؤدي إلى إبطال التكليف، وإما أن نجتزئ بالموجود بشرائطه وضوابطه، حتى لا يخلو وقت عن التكليف، ولذلك فإن الذي جرى به العرف أنه حتى على فرض وجود مجتهد مطلق، فإنه يجتهد في تطوير المذهب الذي ينتمي إليه، وتعميق الفقه فيه، ولا يهدف باجتهاده إلى خلق مذهب جديد. ثم أن النازلة هي: ما ليس له نص لا في الكتاب ولا في السنة كما سبق.
فالجواب على النوازل يكون بما به الفتوى، كما قال الشيخ خليل، لكن بشرطين:
- ضبط صحة المنقول الفقهي من حيث صحة نسبتها لصاحبها ومن حيث صحتها في نفسها.
- تمييز المعتمد من الأقوال عن غيرها، لذلك فالعلماء حصروا أقوال المذهب فميزوا بين المعتمد وغير المعتمد.
تم تطرق الأستاذ للصور التي قد تتخذها النازلة وتناول طريقة تعامل الفقهاء مع كل حالة وكل صورة.
ثم ختم مداخلته بالحديث عن الخطوة الثالثة والأخيرة التي يجب مراعاتها عند النظر في كل نازلة، وهي:
3- مرحلة التنزيل أو التطبيق، وهنا ذكر الأستاذ ثلاث حالات، وهي:
*- تنزيل القول كما هو، وهو الأمر الغالب.
*- التصرف في الاعتماد من خلاف اختيار ما هو أنسب للخروج من المضايق، ومثاله شهادة اللفيف، والإضاءة في المساجد عند العتمة، إذ المشهور أنه مكروه، لكن جرى العمل بجوازه أو وجوبه، وهو اختيار ابن رحال الذي دافع عنه، وانتصر له، وقال: «وإضاءة المسجد بنحو المصابيح يظهر وجوبه؛ لأن الظلمة في المساجد تصيرها مخوفة، وربما يُقتل فيها الإنسان ولا يُرى، ولاسيما في زماننا، ولا سيما إن كانت النساء يصلين فيه، ففي ذلك ما لا يخفى. وربما يسقط الإنسان فيه، وربما يصادم سارية، وربما يصلي لغير القبلة، ولكثرة سرقة نحو النعال، وتختلط غاية، إلى غير ذلك من المفاسد المظنونة غاية، تأمله منصفا».
المداخلة الثانية: الفقه التطبيقي في المذهب المالكي من خلال النوازل
دة: مليكة نايت لشقر
افتتحت الأستاذة المحاضرة عرضها بالحديث عن أهمية فقه النوازل، وبراعة فقهاء المالكية في هذا اللون الفقهي، ثم حددت بعد ذلك الخطوط العريضة الآتية في مداخلتها، ومن ذلك الحديث عن مفهوم النوازل، وأسسها، وأهميتها، وخصائصها، وفوائد التصنيف والتأليف في فقه النوازل عند المالكية، ثم تجليات الصناعة الفقهية في منهج استنباط أحكام النوازل عند المالكية، ثم ذكرت أنها ستتعرض لبعض ومضات منهج ابن رحال في تعامله مع النوازل.
وبعد هذا التقديم بدأت الأستاذة المتدخلة بتفصيل الحديث في معنى الفقه والتنزيل وساقت تعاريف شاعت لدى المتقدمين والمتأخرين للمفهومين، كما تعرضت لكل من مفهومي التنزيل والتطبيق واعتبرت التنزيل هو مرادفا للتطبيق، إذ التطبيق هو الإجراء العملي لما تم تحصيله بالفهم من الأحكام الشرعية على واقع الأفعال، كما ذكرت أن ابن القيم الجوزية هو أهم من أبان عن مفهوم فقه التطبيق، ثم ساقت كلامه.
ثم تطرقت لمفهوم النازلة وصورها وأنواعها وعلاقة الفقه بالنوازل، وهي علاقة عموم وخصوص.
وفي نقطة ثانية تطرقت الأستاذة لأهمية النوازل الفقهية وأكدت على أن علماء المالكية اهتموا بعلم النوازل، فلم تنحصر فائدة كتب النوازل فقط بالنسبة للمشتغلين على النوازل، بل امتد أثرها إلى حقول دراسية أخرى، مثل علم الاجتماع، والتاريخ، والقانون.
ثم تحدثت عن خصائص كتب النوازل، إذ سمتها الأساسية الواقعية والمحلية، وذلك انسجاما مع نظرة الفقيه الذي كان لا ينظر إلا في المسائل التي وقعت بالفعل.
ثم انتقلت للحديث عن تجليات الصناعة الفقهية في منهج استنباط الأحكام عند المالكية، كما تطرقت لضوابط الفتوى، التي حددتها في:
- الضابط العلمي والمعرفي والكفاءة الفقهية؛
- ضابط فهم الواقع وأحوال النوازل؛
- الضابط القيمي أو ضابط الأهلية الأخلاقية؛

- الضابط المنهجي ومراحل النظر في النازلة؛ ومن ذلك التصور عن طريق الاستقراء النظري والاستعانة بأهل الاختصاص والاستعانة باجتهادات السابقين، والتكييف وهنا أشارت الأستاذة إلى أن هذا المصطلح حديث الظهور إذ لم يكن مستعملا في كتب الفقهاء الأقدمين، ثم بيان الوضع الشرعي الذي وردت فيه النازلة، ثم تحقيق المناط.
وخلصت الأستاذة المتدخلة في ختام مداخلتها إلى أن وحدة المنهج دفعت بالحركة الفقهية في المذهب المالكي لتراكم مادة فقهية علمية مهمة تنتظر من الباحثين التحسيس بأهميتها وفاعليتها في مواكبة العصر والانكباب على البحث فيها، وكشف مظانها بما يحقق متطلبات العصر.
وسجلت الأستاذة أيضا في ختم مداخلتها أنه رغم التفاف المذهب على فقه التأصيل والتنزيل من خلال وحدة المنهج ورصانة المصادر المعتمدة، إلا أن كتب النوازل تعج بالنقد، وتعج بالاختلاف بين المفتين، لاسيما في المستجدات من القضايا الكبرى.
ونظرا لأهمية الفتاوى والنوازل الفقهية وانبنائها على فقهي التأصيل والتنزيل فهي تحتاج من الباحثين إلى إعادة النظر في صياغتها بأسلوب تقريبي حتى تكون مرجعا للعامة والخاصة.
المداخلة الثالثة: مسائل الأحكام وقواعد القضاء والحسبة في فتح الفتاح.
د: إبراهيم بن عبلا
استهل الأستاذ عرضه ببيان أنه سيعمل على تقريب فكرة القضاء في المذهب المالكي باعتباره خطة وفنا، ومقاربة وضعها وماهيتها في المذهب المالكي.
ثم أشار إلى قدم السبق الذي حظي به فقهاء المالكية في وضع قواعد خطة القضاء إلى جانب فقهاء الحنفية، ثم تناول تعريف القضاء، وقال أن القضاء هو: إظهار الحكم الشرعي في النزاع بين الأطراف وإلزامهم بالحكم الذي يصدره القاضي، فهو حكم شرعي مطبق على واقعة حالية.
ثم بين الأستاذ المحاضر بعد ذلك منزلة القضاء، واعتبر باب القضاء من قوة المذهب المالكي وركيزته، واستدل بقول القاضي عياض الوارد في ترتيب المدارك، عند ترجمته لأبي بكر الأبهري، حيث قال: «وبعد موت الأبهري وكبار أصحابه وتلاحقهم به، وخروج القضاء عنهم إلى غيرهم من مذهب الشافعي وأبي حنيفة، ضعف مذهب مالك بالعراق، وقل طلبه لاتباع الناس أهل الرئاسة والظهور» .

ثم ذكر الأستاذ المصدر الذي يستمد منه القضاء قوته الأصولية، ووقف على مكانة ابن رحال كأحد كبار قضاة المالكية وفقهائهم.
ثم انتقل الأستاذ مباشرة بعد ذلك إلى الحديث عن مسائل الأحكام وقواعد القضاء في المذهب المالكي، وقد ذكر هنا جملة من الملاحظات، منها:
- القضاء في المذهب المالكي صناعة اندلسية وعمل أهل قرطبة هو المعتمد حتى عند المتأخرين.
- أقضية أهل المغرب والأندلس هي التي يرجع إليها ويعول عليها داخل المذهب المالكي بخلاف المدرسة العراقية التي تقل أقوالهم في كتب المذهب المالكي.
- منذ القرن العاشر وما بعده اختص علماء فاس والمغرب بعلم القضاء وذهبوا به إلى مدى بعيد من التآليف الأنيقة والاجتهادات والتدقيقات التي هي مصدر لقواعد القضاء وطرقه كما قال بذلك الأستاذ محمد العلمي، وفتح الفتاح من جملة المؤلفات التي تؤكد على هذه الحقيقة.
- القضاء في الفقه المالكي يبنى على المسائل التي وقعت ولا يبنى على الافتراضات.
- رتب فقهاء المالكية أقوال المذهب المعتمدة في المذهب وحددوا الكتب التي يحكم منها القاضي بين المتنازعين.
- وظيفة القضاء في المذهب المالكي تطبيق الشريعة وأحكامها على القضايا والنوازل بقيد أن القضاء ينزع إلى القول الواحد لكونه يطبق في مكان وزمان واحد، أي أن القضاء في المذهب المالكي لا يحتمل تعدد الأقوال.
- القضاء في المذهب المالكي هو الذي يحدد عمل الموثقين فيما يحررونه في الوثائق والسجلات خاصة ما يتعلق بالشروط.
- القضاء يتدخل في اختيار الأقوال الملائمة للمذهب حتى لا تضيع الحقوق مثل ما يتعلق بالقول الضعيف والحكم به.
وختم الأستاذ مداخلته بعرض مجموعة من المسائل التي عمل فيها القضاء بالقول الضعيف مثل بيع الصفقة وشهادة اللفيف والوقف على البنين دون البنات. محيلا في نهايتها على البحث الذي سيطبع مع أعمال الدورة بحول الله.
المداخلة الرابعة: مصادر علم التوثيق وأهميتها في تأويل المذهب وتطبيقه في فتح الفتاح
د: محمد العلمي
في بداية مداخلته ذكَّر الأستاذ المحاضر بموضوع مداخلته وأكد على أن مشروعه العلمي يهدف بالأساس إلى تصحيح المقولات الإدراكية، ذلك أن النقاش منذ ما يزيد عن مائة سنة يدور في فلك مقولات اختزالية وهي مقولات أضرت بالبحث العلمي، والحقيقة أن المقولات التي وصلتنا من فقهاء الشريعة تتسم بالتركيب والتواضع وعدم الدعاية، وعدم احتكار الحقيقة، مما يجعلها أكثر تفسيرية، ما يحتم إعادة النظر في المقولات الاختزالية التي هي في حقيقة الأمر مصدر للفوضى، ذلك أن المقولات الصحيحة لها شروط منها:
- أنها لا تزعم الحقيقة المطلقة، وأنها ذات طابع ذاتي وموضوعي في نفس الوقت، بحيث يفترضها الباحث بحدسه وخبرته، ويقوم بعد ذلك باختبارها في الواقع ليتم تصديقها أو تكذيبها أو تعديلها، [تعريف الصدق عند العلماء هو ما طابق الواقع لا ما طابق ما في الذهن].

وبعد هذه المقدمة أشار الأستاذ إلى أن المقولة التي اشتغل عليها وصاغها، هي أن الفقه المذهبي ليس شيئا واحدا بسيطا، وإنما هو عبارة عن خريطة تنشعب في ثلاث كتل متداخلة تارة، متباينة تارة أخرى، وهذه الشعب، هي: المتن وما يتعلق به من جهود، وعلوم النظر والاستدلال والحجة، وعلوم الفقه العملي والتطبيقي.
ثم تبين أن هذه المقولة التي صمم بها كتابه: «الدليل التاريخي لمؤلفات المذهب المالكي» تبين أنها مقولة مستوعبة لجميع مؤلفات المذهب المالكي، ثم تبين بعد أن جمع الدليل التاريخي لمؤلفات المذاهب الأربعة انسلكت كل مؤلفاتها في هذا الميزان، ولم يشذ منها شيء، مما يدل على ارتفاع مقدرته التفسيرية، وصلاحيته للاعتماد.
بعد ذلك تعرض الأستاذ لعلم الوثائق والشروط، وأول ما أشار إليه هو أن لهذا العلم دورا في تفسير المذهب، ولا ينحصر دوره في مجرد تطبيق المذهب وتنفيذ أحكامه. وقد عزى الأستاذ سبب تحول هذا العلم الفرعي إلى آلية لتفسير المذهب إلى وجود جدلية في الشريعة قائمة بين الواقع وبين النظر في النص، وضرب لذلك مثلا من قوله عز وجل: ﴿وآمر بالعرف﴾، إذ جعل الشرع العرف مصدرا لأحكام الشريعة نفسها التي هي كلام الله الأزلي الخالد.
ثم انتقل الأستاذ للحديث عن موضوع مداخلته، وهي: مصادر علم التوثيق وأهم الفوائد المستخلصة منها، ودورها في تأويل المذهب وتطبيقه.
- مصادر علم التوثيق وأهم الفوائد المستخلصة منها
أشار الأستاذ في هذه النقطة أن مؤلفات المذهب المالكي في علم الوثائق أقل من مائة كتاب؛ الطبقة العليا منها حوالي سبعين كتابا بين أصلي وشرح واختصار واستدراك، وقد هيمن الأندلسيون على هذا النمط من التأليف إلى حدود القرن الثامن، ثم بعد ذلك هيمن عليه المغاربة الفاسيون وبعض السوسيين، أما المصريون طيلة تاريخ المذهب فقد ألفوا كتابين فقط في الوثائق، أما التونسيون فقد ألفوا إحدى عشر كتابا والأندلسيون واحد وثلاثون أما المغاربة الفاسيون فقد ألفوا اثنين وعشرين كتابا رائدا في هذا العلم.
ولاحظ الأستاذ أن الأندلسيين قد هيمنوا على الوثائق كما ونوعا، إذ يكفي أنهم تفردوا في التأليف فيها أزيد من ثلاثة قرون، من أواخر القرن الرابع الهجري، إلى أواسط السابع. ومن الناحية العملية، فهم يعدون المرجع الأول في علم الوثائق والأحكام في المذهب المالكي.
ثم بعد ذلك انتقل الأستاذ للحديث عن المحطات الكبرى لعلم الوثائق.
وقد قسمها لمرحلتين:
- المرحلة الأولى: مرحلة التأسيس إن جاز هذا التعبير، وهي مرحلة ما قبل ابن العطار (ت 399هـ)، وهي مرحلة انقرت الكتب المؤلفة فيها، حيث لا نعرف بعض محتوياتها إلا من خلال النقول عنها في المصادر اللاحقة، علما أن ابن مغيث هو الذي احتفظ لنا بسرد أهم مؤلفاتها.
والملاحظ أن مؤلفي هذه المرحلة تميزوا بسمة أساسية، وهي: أنهم قد ألفوا كتبا في الوثائق وفي الوقت ذاته كانوا شراحا للمذهب. منهم سحنون، وابن حبيب، وابن عبد الحكم، ويحيى الليثي، وفضل بن سلمة، وغيرهم، فكلهم ألفوا الوثائق وفي الوقت نفسه لهم مؤلفات في المتن المذهبي أو شرحه.
- المرحلة الثانية: [مرحلة الرواد] وهي مرحلة أندلسية محضة، وامتدت لحوالي مائة سنة، وانتهت مع ابن فتوح البونتي (ت 460هـ) الذي جمع مؤلفاتها الرائدة في كتابه الوثائق المجموعة، وهي مؤلفات خمسة من كبار الشروطيين، وهم: ابن العطار، وابن الهندي، وابن أبي زمنين، وموسى الوتد، وابن الفخار.
وموازاة لهؤلاء الفقهاء فقد كان هناك علماء وثائق مصنفون آخرون، منهم: ابن عبد المغيث صاحب المقنع، وابن شريعة اللخمي الباجي، وابن معاذ الجياني، وابن أبي حمراء.
ولما ألفت الوثائق المجموعة لابن فتوح، انقرضت المصادر التي جمعتها، وأصبحت الوثائق المجموعة محلا للجهود الرائدة، فنجد طرر ابن عات الأندلسي عليها من المصادر المعتمدة في المذهب.
كما ألفت كتب أخرى مرجعية في الفن منها معين الحكام لابن عبد الرفيع التونسي الذي عد اختصارا للمتيطية، ووثائق الغرناطي، والمقصد المحمود للجزيري، والعقد المنظم لابن سلمون، ووثائق الفشتالي، إلى أن نصل إلى الونشريسي صاحب المنهج الفائق، وشرح وثائق الفشتالي، حتى نصل إلى الوثائق الفرعونية لبناني وشرحه للهواري، وحاشية الصنهاجي، والتدريب على الوثائق العدلية لأحمد الغازي الحسيني.
وقد لاحظ الأستاذ أن مؤلفات الوثائق والشروط منذ نشأتها ارتبطت بأمرين:
- أحمدهما تمكنت من التخلص منه، وهو الأدب والأخبار والأمثال والنكت. ومثال هذا النوع مؤلف ابن العطار الذي جمع فيه من الأمثال والأخبار. ووثائق المتيطي التي اختصرها ابن هارون وأسقط منها ثلثها، وقال في تعليل ذلك: «لعلمي أن من قرأ هذا الكتاب وكان معه طرف من العربية لم يخف عليه وجه الكتب فيها»
- أما الأمر الذي لم تتمكن من التخلص منه كتب الوثائق فهو الأحكام، لأن الموثق عند توثيقه لعقد ما يجب عليه أن يكون مطلعا عليه وعلى الأحكام التي تتعلق بموضوعه الفقهي.
ثم انتقل الأستاذ للحديث عن أثر كتب الوثائق في المذهب وما صنعت فيه
أكد الأستاذ في هذه النقطة على أن الفقه العملي مبدئيا ليس مرجعا في تأويل المذهب وإنما له سلطة محدودة في تأويل بعض أحكامه بمعطيات عملية، ومثل لذلك بشهادة اللفيف التي هي قول ضعيف في المذهب إلا أن القضاة والموثقون أجروا العمل بها وعملوا بها ولازال العمل بها إلى يومنا هذا. ولم يكن بد في اعتمادها من الاستدلال على العمل بها والاحتجاج لها وإعادة تأويل المذهب ليكون التعبد بالراجح.
ومن هذا المنطلق حدد الأستاذ أثرت مؤلفات الوثائق في الفقه بإحدى الطرق الآتية:
- الموثقون في بعض الأحيان لا يؤولون المذهب بل يحددون ويقيدون، مثاله خروج البالغ من الحجر حيث لم يرشد، ولم يعلم سفهه من رشده، حددوا له سنة أو سنتين، بعد أن كان المذهب فيه مطلقا.
- الإضافة مثاله: مسألة جواز بيع الأب عقار ابنه الصغير، إذ الفقهاء حددوا حالات هذا البيع في ثلاث أو أربع حالات إلا أن الموثقين زادوا عشرة وجوه أخرى، وهي مذكورة عند سيدي خليل في التوضيح.
- اختيار المذهب المشهور والتفريع عليه، وهو كثير وهو الأصل.
- اختيار قول مخالف للمشهور، مثاله: مسألة تصدق الأب على ابنه الصغير بما له غلة وقامت البينة على أن الأب يستغل ويدخل الغلة في مصالح نفسه إلى أن مات الأب وهنا الموثقون ذهبوا إلى أن هذا بمثابة الهبة التي لم تحز. وهو خلاف المشهور.
- مخالفة المشهور مع القيام بالتحديد لرفع الخلاف، مثاله: مسألة اليتيمة لا تزوج إلا بعد البلوغ عند مالك وهو المشهور، إلا أن هناك قول آخر، أنها تزوج قبل البلوغ إذا خيف عليها الفساد أو الضيعة، قال المتيطي: «وبه جرى العمل عند الموثقين وانعقدت به الفتوى».
وبهذه النقطة ختم الأستاذ مداخلته.
المداخلة الخامسة: أحكام العرف وأثره على الفتوى في فتح الفتاح.
د: محمد اليوبي
قسم الأستاذ المحاضر عرضه إلى محورين:
- محور يتعلق بالإطار العام لموضوع المداخلة، حيث تطرق فيه لمفهوم العرف، وأنواعه، ومجالاته، وأوجه استعماله.
- ومحور خصصه للحديث عن اطلاقاته وتطبيقاته عند العلامة ابن رحال المعداني.
ونظرا لضيق الوقت فقد اختار الأستاذ اختصار مداخلته في ما وسمه بنتائج ونماذج.
ومن بين النتائج التي توصل إليها الأستاذ في مداخلته:
- أن معنى العرف عند العلماء هو كونه ما استقر في النفوس وتلقته الطباع السليمة بالقبول، وذكر أن الفقهاء لا يميزون بين العرف والعادة؛
- العرف له ما يعزز اعتباره من جهة الأدلة الشرعية، فمراعاة الفقهاء للعرف جاءت من كون الشارع هو من طلب منهم تعليق الأحكام على العرف وذلك استنادا إلى نقولهم حيث يقولون: «وقد أمر الشارع بمراعاته».
- العرف أداة جوهرية في الاشتغال المذهبي.
- العرف تطور في المذهب إلى حد أن أصبح له اعتبار في تنزيل العديد من أحكام الفروع الفقهية والقضائية وتعداه إلى أن صار دليلا وأصلا شرعيا في ثبوت الأحكام التي لا دليل عليها سوى العرف.
- توسع فقهاء المالكية في إعمال العرف أكثر من غيرهم من المذاهب.
- العرف دليل مخصص لعموم بعض النصوص الشرعية.
- العرف المطرد ينزل منزلة الشرع، ومنه قاعدة المعروف عرفا كالمشروط شرطا.
- المدلول العرفي يقدم على المدلول اللغوي عند التعارض.
- العرف يرتبط عند المالكية بدليل الاستحسان من جهة ترك الدليل لاعتباره.
- العرف أداة تمكن الفقه من توجيه الخلاف داخل المذهب.
- العرف أداة القاضي عند التنازع في تفسير العقود؛
ثم أشار الأستاذ إلى طريقة تعامل ابن رحال مع العرف، وهنا لاحظ أن العرف عنده يتصل بجميع أبواب الفقه، فهو يقرر أن الأحكام التي تبنى على العرف تتغير بتغير الأزمان، ثم ساق الأستاذ ما قاله المهدي الوزاني في معرض حديثه عن الباعث الذي دفعه إلى تأليف تحفة الأكياس في شرح عمليات فاس، قال: «ورأيت بعض الأعراف قد تبدلت والأحكام تدور معها إذا تحولت»، واستدل بقول القرافي الذي، قال: «إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد.. بل كل ما في الشريعة يتبع العوائد».

وعلى هذا، فإن المفتي يتبع المستفتي في عرف بلده كما تدل على ذلك نقول ابن رحال، وهو ما تقرر لدى الفقهاء الذين قالوا بضرورة حمل الفتوى على عرف المستفتي، وقد دل على ذلك قول القرافي الذي قال: «ولا يشترط فيه تغير العادة، بل لو خرجنا من ذلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنا فيه، أفتيناهم بعادة بلدهم، ولم نعتبر عادة البلد الذي كنا فيه، وكذلك إذا قدم أحد من بلد، عادته مضادة للبلد الذي نحن فيه، لم نفته إلا بعادة بلده دون عادة بلدنا».
- العرف أداة الفقيه في الترجيح بين الأقوال، فهو من بين أهم أسس الترجيح التي بني عليها العمل، كما هو مقرر لدى صاحب لامية الزقاق والشيخ الهلالي في نور البصر، إذ قال: «فهو من أقوى المرجحات فيما يرجح به مقابل المشهور، فيجري به العمل، ولا يقتصر به على ترجيح الخلاف، بل يعتمد عليه في إنشاء حكم مقابل للحكم الذي تفرع عليه، وذلك في الأحكام التي مستندها العرف.. إلخ».
- العرف دليل على واقعية فقه الإمام مالك.
وبعد أن فرغ الأستاذ من ذكر النتائج التي توصل إليها انتقل للحديث عن تطبيقات العرف لدى ابن رحال في فتح الفتاح، الذي كان وفيا لمنهج المالكية إما حكاية ونقلا، وإما تقريرا وتحصيلا.
وساق الأستاذ مجموعة من النماذج من فتح الفتاح من ذلك مسألة إحداد المتوفى عنها زوجها من الزينة واللباس الجميل، إذ خلص ابن رحال بعد حشده لأقوال الفقهاء في المسألة إلى أن المدار في ذلك للعوائد ، قال: «وقد تحصل من هذا أن المدار على ما جرت به العوائد.. إلخ».
ثم ساق نموذجا آخر من كتاب النفقات يتعلق بما يجب للزوجة على زوجها من نفقات إذ تقرر لدى ابن رحال أن مدار الحكم فيها على العرف والعادة.
وختم مداخلته بمثال من البيوع، قال فيه ابن رحال: «وكذا يدل على ذلك ما أجاب به أبو اسحاق في نوازل العيوب من المعيار والإنسان إذا اطلع على المسائل الفقهية يكاد يجزم بلا تردد أن العرف كاف في هذا.. إلخ».
تقرير جلسة يوم 20 ذي الحجة 1445هـ الموافق لـ: 27 يونيو 2024.
رئيسة الجلسة: د. عبد الإله القاسمي
المقررد: محمد الخادير
المداخلة الأولى: المقاصد الشرعية في فتح الفتاح
د: محمد المنتار
مهد الأستاذ محاضرته بطرح بعض الأسئلة من قبل: لماذا لم يتعاط علماء المغرب مع الموافقات؟ ولماذا غابت الموافقات؟ وهل بقيت حتى اكتشفها التونسيون؟ أم أن الأمر خلاف ذلك؟
ثم قسم مداخلته إلى محورين رئيسين: المحور الأول: إضاءات معرفية، وصور منهجية، حول هذه الإشكال المقاصدي في كتب التراث الفقهي. والمحور الثاني: نماذج من تقريرات ابن رحال، التي تؤكد على أن الرجل كان عنده نفس المقاصد على مدرسة الأكابر.
ثم أوضح أن المقاصد مرت بمراحل، ومرحلة اليوم هي مرحلة الاشتغال أو انشغال الباحثين بالمقاصد، وكل من أراد أن يلصق شيئا بالشريعة الإسلامية ادعى أنه ينتمي إلى مقاصد هذه الشريعة، وذكر أن ابن رحال يأتي في مرحلة ما بعد الإمام الشاطبي؛ لأن المقاصد قبل الشاطبي كان شيئا، وبعد الشاطبي أصبح شيئا آخر.
ليعرج الأستاذ المحاضر على بعض الإضاءات المنهجية، منها: أن التكامل الوظيفي بين أصول الفقه ومقاصد الشريعة، لا يمكن أبدا أن نفصل مقاصد الشريعة عن أصول الفقه والكلام، لا يمكن الفصل أبدا، ومن رام الفصل سيأتي بالعجائب. الثانية: هو الحضور البعد المقصدي والحكمي عند المالكية عموما، وهو حضور تتضافر فيه أصول المذهب، وتؤكده أقوال كبار المذهب، وتتآمر فيه سياقات التنزيل التي صاحبت الفقه المالكي، الثالثة: هي البعد الوظيفي للأفق التنزيلي في المذهب المالكي، وهذا الأفق أكسب المقاصد عند ابن رحال بعدا عمليا، كسائر أئمة المذهب، حيث كان المالكية ذوي أفق تنزيلي، أعملوا فيه فعلا كليات الشرع، ومقاصد الشارع، ومقاصد المكلف، الرابعة: تتعلق بمميزات الفكر الأصولي عند مدرسة الغرب الإسلامي، وهي المدرسة التي أنتج منها، وأنتج فيها، وفي ضوئها، الإمام ابن رحال المعداني العمق والأصالة المنهجية التي كانت لهذه المدرسة.
ليختم مداخلته بتفصيل معالم استثمار ابن رحال مقاصد الشريعة في الفهم والتنزيل، الذي ينبني على ثلاثة ركائز:
- الركيزة الأولى: هي إقراره وإعماله لكليات الشرع.
- الركزة الثانية: إقراره لمبحث فريد جدا، كان غزيرا في فتح الفتاح، وهو إقرار علل الأحكام، وحكمها الجزئية التي أنيطت بها.
- والركيزة الثالثة: إقراره الكثير بالمقاصد الإجمالية للدين من تيسير، وتخفيف، ورفع حرج، التي تضافرت الكثير من نصوص الشريعة، في الكتاب وفي السنة على إقرارها، ثم ختم الأستاذ عرضه بذكر بعض النماذج الدالة على ما قرره من كتاب فتح الفتاح.
المداخلة الثاني: ما جرى به العمل في فتح الفتاح
د: عبد القادر بوعصيبة
استهل الأستاذ كلمته بأنه لا شك أن الأساتذة الذين اشتغلوا على كتاب فتح الفتاح بعد أن أصبح مطبوعا سيحسون بجودة العمل الذي قام به العلامة ابن رحال فهو ليس فقيها عاديا، ويكفي أن علماء عصره وصفوه بأنه صاعقة العلوم والتدريس، فهو يعتبر موسوعة ليس فقهية فقط، بل فقهية مقاصدية في القواعد، وفي الأصول، وفي اللغة وفي جميع الجوانب رغم أن صاحب الكتاب كما قال ألف الأجزاء المتعلقة بالمعاملات فقط، ومنهجه في الكتاب هو منهج واضح.

وفي هذا السياق أبرز الأستاذ أن ابن رحال عندما ألف هذا الكتاب فهو حاول أن يتناول من الفقه الجانب العملي الذي يساعد قضاة وقته في الحكم بين المتداعين، ولهذا فإن مداخلته تتعلق بما جرى بالعمل في فتح الفتاح، والنصوص التي وقف عليها من خلال أجزاء فتح الفتاح هي كثيرة جدا، حيث نجد فيها ابن رحال قد اعتمد إما نقلا عن غيره ما جرى به العمل، أو استدل به في بعض المسائل أثناء تحصيلاته وتقريراته لمتن خليل، أو في بعض الأحيان يجده يعطي بعض التوجيهات وبعض الضوابط التي ينبغي أن تراعى في إعمال قاعدة ما جرى به العمل.
ثم أردف بالإشارة إلى أن من خلال تتبعه لإطلاقات العلامة ابن رحال مصطلح ما جرى بالعمل في كتابه في جميع الأبواب وجدها تتخذ عدة أوجه، وأشكال، وأن قسمتها تعود إلى مجموعة من التقسيمات، أو باعتبارات متعددة من حيث الصيغ المستعملة، ومن حيث الأنواع والأقسام، ثم من حيث الحجية والترجيح.
ليختم بما جرى به العمل وقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان، وذكر أنه لاحظ من تتبعه لأجزاء الكتاب أن ابن رحال أخذ بما جرى به العمل كثيرا، ولكن في بعض الأحيان ردَّ بعض المسائل التي ادعي فيها جريان العمل، ومما قال في هذا الصدد أن العمل لا بد له من القول يعتمد عليه فهو ترجيح من الخلاف، وليس إنشاء لرأي جديد، ولهذا تم الطعن في بعض المسائل التي جرى بها العمل.
وختم الأستاذ عرضه بالإحالة على البحث المفصل الذي سينشر ضمن أعمال الدورة، بحول الله.
المحاضرة الختامية
التكامل بين العلوم في المنظومة الإسلامية للعلوم
د: محمد السرار
افتتح الأستاذ محاضرته بمقدمة ذكر فيها أن النيابة في الوظائف كالجبل الصعب المرتقى، ويزيد من صعوبة النيابة ثلاثة أمور:
المنوب عنه: فهو السيد الأمين العام الأستاذ الدكتور العلامة النظار أحمد عبادي حفظه الله الذي لا أبلغ مبلغه في حسن تصوري لهذا الموضوع ولا لغيره، ولا أبلغ أيضا مبلغه في حسن تناوله وعرضه. ثم ظروف النيابة فهي كون هذه المحاضرة محاضرة ختامية لدورة تكوينية في موضوع المنهجية الفقهية في المذهب المالكي من خلال كتاب فتح الفتاح لابن رحال رحمه الله، ثم المنوب فيه فهو موضوع واسع الأطراف الذي هو التكامل بين العلوم وهذا الموضوع تختلف الأنظار في تصوره أولا، ثم تتباين ثانيا في طريقة عرضه.
ثم انتقل الأستاذ المحاضر إلى الحديث عن مفهوم التكامل بين العلوم، وقسمه إلى أربعة أبواب:
الباب الأول خصصه لمفهوم التكامل بين العلوم، دون الدخول في تفاصيله الدقيقة.
والباب الثاني تناول فيه المسارات.
والباب الثالث تكلم فيه عن أنواع العلاقات بين هذه العلوم.
والباب الأخير ذكر فيه فائدة الوعي والشعور بأن العلوم متكاملة والفائدة المرجوة التي ترجع على الباحث المبتدئ، وعلى العالم المنتهي.
وأشار الأستاذ إلى أن الحديث عن تكامل بين العلوم يسير في مسارين:
المسار الأول: هو إثبات هذه العلاقة، وبيان مراتب أفراد العلوم من حيث القرب أو البعد، وذلك كقرب علم الصرف إلى علم النحو، إذ هو أقرب إليه من علم البلاغة، مع أن التكامل بينهما موجود.
وأما المسار الثاني فهو الحديث عن أصناف تلك العلاقات، مع الإشارة إلى هذا الإحساس العظيم عند العلماء منذ القرن الثالث الذي أنتج لنا هذا الكم الهائل جدا من المصنفات التي عنيت بإحصاء العلوم.

ثم استعرض الأستاذ المحاضر جملة من المصادر التي اعتنت بإحصاء العلوم وذكر منها ثمانية عشرة كتابا، كما أن بعضهم أدت به عملية الحصر إلى أن يذكر من العلوم اللسانية، والشرعية، والعقلية، والطبيعية، وغيرها أن يُوصل هذه العلوم إلى مائتي علم.
لينتقل للحديث عن بعض النماذج من هذه الكتب: الأقنوم في مراتب العلوم لسيدي عبد الرحمن الفاسي وهو عبارة عن منظومة كبيرة ذكر فيها 115 علما، وكتاب مراتب العلوم لابن حزم، تحدث فيه عن كل علم وقف عليه، وهذا الكتاب كان مرتبا على المؤلفين، وكتاب إرشاد القاصد لابن الأكفاني الذي أثر تأثيرا كبيرا جدا في مصطلح الحديث، حيث ظهر فيه أول تصنيف لعلوم الحديث إلى علم الحديث رواية، وعلم الحديث دراية. ومقدمة ابن خلدون وذكر أنه ينبغي أن ينقل من إطار التاريخ إلى إطار إحصاء العلوم.
ثم بين الأستاذ أن العلوم تتكامل وترتبط فيما بينها بعلائق مما أنتج لنا مسارات ثلاث:
المسار الأول، عبر عنه بـ «مسار الإحصاء» الذي تتبع أهم المؤلفات في كل علم، ككشف الظنون، ومفتاح السعادة، وإرشاد القاصد كل على حسب سعيه ومبلغ جهده.
المسار الثاني: هو مسار الاهتمام بكل علم على حدة من حيث ذكر حده، وموضوعه، أي: أن العلماء دخلوا إلى كل علم علم بتفصيلات أكبر، وهذا صنعه المتأخرون أكثر من المتقدمين.
المسار الثالث: وهو حصر العلوم التي تَحْصُل بها الملكة، وهذه حصرت في علوم متعددة لا تخرج عن ثلاثة تقريبا: الأول: علوم اللسان، والثاني: العلوم العاصمة للعقل من الغلط كالمنطق، والثالث: الفقه وعلوم الشريعة. وأحيانا يدخلون التاريخ.
ثم توقف الأستاذ للحديث عن العلاقات التي توجد بين العلوم وذكر أنها من أصعب الأبواب ومثل لها بعلاقة علم البلاغة بعلم التفسير فهي ليست كعلاقة علم المنطق بعلم الحديث، فعلاقة البلاغة بعلم التفسير علاقة جوهرية، في حين أن علاقة علم المنطق بعلم الحديث علاقة ضعيفة لا تتعدى صناعة الحدود.
ثم ذكر الأستاذ أن هذه العلاقات يمكن أن نتحدث فيها عن أنواع ستة من العلاقات: النوع الأول الذي سماه بعلاقة الاستناد، ومثل لذلك بعلوم اللغات التي تستند إليها كل علوم الشريعة ولهذا تشترط المعرفة بها في كل باحث في علوم الشريعة، ثم الاستمداد ومثل له باستمداد علم الخلاف من علمي الفقه و الأصول، فلو جردنا الخلافيات من قواعد الأصول التي تستعمل في الحجاج ومن الفروع التي هي محل الخلاف لما بقي في كاب الخلافيات شيء.

ثم البعضية، أي: بعض العلوم هو جزء من كل، كعلم السيرة هو علم قائم الذات، ولكنه لا يخرج عن أن يكون جزء من التاريخ.
ثم الاشتراك، وهي: أن يكون موضوع العلم شركة بين علمين لا ينفرد أحدهما به، كالفرائض هو شركة بين علمين: القسم العلمي الفقهي، وهو الفرائض أو المواريث، والقسم العملي التطبيقي (الحساب).
ثم المقاسمة وهي أن يأخذ كل علم من موضوع معين قسما خاصا به ومثل له بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي الذي قسمه إلى أربعة أرباع: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات.
ثم التداخل، كالتداخل في مادة العلم، والمصطلحات المستعملة، والنهج المتبع في بحث القضايا، ومثل له بمصطلح الجواز والوجوب في العقائد عندنا الجواز والوجوب، وفي الفقه عندنا الجواز والوجوب، واللفظ الاصطلاحي فيهما واحد ولكن المعنى مختلف.
ليختم الأستاذ محاضرته أن هذا الموضوع ليس بالموضوع السهل، وأن البحث فيه صعب، وأن عرضه أصعب، وأن الأنظار فيه تختلف وهذا طبيعي.
وشكر في الختام السيد الأمين العام الذي قبل بأخوته السامقة أن ينوب عنه في هذه المحاضرة حيث قال أنه لا أبلغ فيها شأوه.
الجلسة الختامية
اختتمت الأيام الجامعية الثامنة بتفويض اللجنة المشتركة للدورة إلى السيد عميد كلية الشريعة بفاس أن يختتم اللقاء باسمهما، فقال كلمة وجَّه فيها الشكر لمن ساهم في نجاح هذه الدورة، وخص منهم بالذكر الرابطة المحمدية للعلماء ممثلة في مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي في شخص رئيسه الدكتور محمد العلمي الذي سن هذه الدورات العلمية، كما وجه الشكر إلى إدارة الكلية وإلى جنود الخفاء الذين كانوا وراء هذا النجاح الكبير الذي لاقته هذه الدورة، كما توجه بالشكر للسادة الأساتذة المشاركين في الدورة، والطلبة المستفيدين منها، وعبر عن سروره لنجاح هذا المحفل العلمي المشهود.
ثم اختتمت الجلسة بقراءة آيات بينات من الذكر الحكيم.
صور تذكارية للدورة
معرض للكتاب خلال الدورة لإصدارات الرابطة المحمدية للعلماء