مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقدية

الإيمان والعقل عند الباقلاني.. تكامل أم تنافر؟

مايو 12, 2019

تستمد كل مذهبية عقدية معناها ودلالتها من اجتهادات أصحابها ونتاجهم العقلي، فالنسق الكلامي بناءٌ لبناته أطروحات تحاجج بها الشخصيات الـمُعتقِدة عن تصورات وأفهام تجتمع في معنى يعطي لهذا النسق هويته، لذلك كانت دراسة كل شخصية كلامية في مستواها التاريخي والمعرفي إمكانية تكشف لنا عن جانب من هذا البناء الكلامي، وتمكّننا من تفسير مفاهيم تشغل منه المجال الكلي، وبما أن المذهب الأشعري يتضمن مقولات ومفاهيم كثيرة تتصل به من جهة كليته، كان لزاما مقاربة ما تم طرحه على مستوى الأفراد الأشاعرة حتى تنكشف صورة المفهوم بوضوح.

 في هذا السياق قدّم الدكتور أحمد بوعود (أستاذ الفلسفة – كلية الآداب تطوان) محاضرة ـ نظمها مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالتعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان ـ في إشكالية جدلية العقل والإيمان عند الباقلاني، محاولا الكشف عن طبيعة هذه الجدلية من حيث اتصالها وانفصالها، أو بحسب وصفه من حيث “التكامل والتنافر”، قصد من خلالهـا الجواب عن هذه الإشكالية موزعا إياها في جملة من التساؤلات وهي كالتالي: ما علاقة الإيمان بالعقل؟ هل هي علاقة تكامل أم تنافر؟ ما الإيمان؟ وما العقل؟  ما وظيفة العقل عند الباقلاني وما حدوده؟ هل يمكن الاستدلال بالعقل في الإيمان وقضايا الدين؟

استهلّ المحاضر مداخلته بتأطير وضع فيه المتكلم الأشعري القاضي الباقلاني في سياقه التاريخي، متوقفا عند الاختلاف في مذهبه الفقهي، ما بين الشافعية والمالكية، مستغربا ومتعجبا أيضا ممن نسبه إلى المذهب الحنبلي، عارضا بعد ذلك قبسات من سيرته عبر وثائق وشهادات تاريخية نقلت الكثير من حياته الشخصية والفكرية، وقد قرأها المتدخل في سياق استمداد نعوت قيمية عامة عن شخصية الباقلاني، أهمها انخراطه في هموم مجتمعه، وقوة ذهنه في المناظرات، وألمعيته في الحجاج، وسرعة بديهته في مناقشاته ومواقفه، منتهيا إلى أن هذه القيم هي الصفات الحقيقية للمتكلم.

ومن جانب الإشكال العام للمحاضرة مهّد الباحث بالمستوى الدلالي للمفاهيم المركزية، حيث قدّم تحديدات أولية لغةً واصطلاحا لمفهومي الإيمان والعقل، مبتدئا بالدلالة اللغوية للإيمان التي حددها في معنيي الأمن والتصديق، كاشفا عن الجانب الاصطلاحي من خلال مفهوم الإيمان عند العز بن عبد السلام وابن تيمية، مبينا اختلاف الشرط الدلالي بينهما، حيث يربط الأول العمل بالإيمان ربطا مجازيا، في حين يربط ابن تيمية الإيمان بالعمل ربطا حقيقيا، أما الباقلاني فيردّ المفهوم لأصله اللغوي بوصفه المصدر الوحيد لهذه الدلالة وهي المتمثلة في (التصديق)، فالباقلاني يستدل على ذلك بالإجماع اللغوي، ويسوغه بأن الله تعالى لا يمكن أن يغيّر هذا المعنى، أو يخاطب بمعاني لا تتضمنها كلمة الإيمان كما هي في لسان العرب.

وبخصوص مفهوم العقل تطرّق المحاضر للتداول المعاصر لهذه الكلمة، باعتبار تحوله لمرجعية فكرية كبرى، متتبعا بعد ذلك حضوره الدلالي في القرآن الكريم بصيغ متعددة ومتنوعة دون وجوده كمصدر، مُنبها إلى كثرته في القرآن المكي على المدني، مُبينا بعد ذلك دلالته اللغوية المتمثلة في الربط والحبس، أما اصطلاحا فعرض الباحث جملة من التصورات المتداولة في تراثنـا، أهمها تعريف المحاسبي ـ وهو أول من كتب في مفهوم العقل بحسب المتدخل ـ الذي يحدده في معنيي الغريزة والقيم الخلقية الروحية كالخوف واليقين..الخ معرجا بعد ذلك على تعريف ابن سينا الذي يفرق بين العقل النظري والعملي مستذكرا القسمة الفلسفية الكانطية كذلك، كما عرض لتصور ابن حزم الذي استثمر الدلالة القرآنية محددا العقل في قوة تعين النفس المميزة على نصر العدل وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم.

أما بالنسبة للباقلاني فالعقل عنده ـ كما ذكر الباحث ـ يتحدد بوصفه بعض العلوم الضرورية، حتى لا يشترك معه في كل العلوم الضرورية من ليس من جنسه، وهي دلالة انتهى إليها المتكلم بعد أن عرض مجموع التصورات في سياقه المعرفي مستدلا على المعنى الذي قدمه لهذا المفهوم، فثمة من ينعته بوصفه قوة يتم بها الفصل بين حقائق المعلومات، وثمة من يقول بماديته وطبيعيته معا، وثمة من يُعرّفه بالجوهر البسيط، وثمة من يقول إن العقل هو العلوم الضرورية وهو تحديد ذهب إليه جمهور المتكلمين، وهذه المعاني رفضها الباقلاني منتهيا إلى أن العقل بعض العلوم الضرورية.

وكما لجأ الباقلاني لمبدأ التقسيم في دلالات العقل، كذلك فعل في تناوله لعلاقة هذا المفهوم بالسمع بحسب المتدخل، إلا أن تقسيم المتكلم هنا كان بحسب أصناف العلاقة بين العقل والسمع، فهناك ما لا يصح أن يعلم إلا بالعقل وحده دون السمع كالعلم بحدوث العالم وإثبات محدثه ونبوة رسله، وثمة ما لا يصح أن يعلم عقلا بل لا يصح العلم به إلا من جهة السمع كأحكام الحلال والحرام وتقبيح الفعل وتحسينه، وأخيرا هناك ما يصح أن يعلم عقلا وسمعـا كالقضايا التي لا يُخل الجهل بها بالعلم، نحو جواز رؤية الله تعالى بالأبصار، فعدم إدراكها لا يُخل بالتوحيد.

وعن قضية الاستدلال بالعقل في الإيمان وقضايا الدين، فقد ذكر الباحث أن الباقلاني يحاجج بمشروعية هذا الاستدلال بآيات كثيرة من القرآن تدعو الإنسان إلى الاعتبار والاستبصار ورد الشيء إلى مثله، والحكم عليه بحسب نظيره، والتقاضي إلى أدلة العقول، وغيرها من أفعال العقل، مقدما أمثلة كثيرة اشتغل فيها العقل على قضايا الإيمــان تتبعها المحاضر في كتابه (الإنصاف)، مثل مبحث الإرادة وجواز رؤية الله وحقيقة الخلق والإحداث وغيرها من الأمثلة.

وفي الختام قدم الباحث جملة من الخلاصات التي تجمع تفاصيل ما طرحه الباقلاني بخصوص جدلية العقل والإيمـان، وهي كالتالي: الإيمان عند الباقلاني هو التصديق، وبالتالي فالمعنى مطابق لدلالته اللغوية، وغير مرتبط بالعمل الصالح. والعقل عنده هو بعض العلوم الضـرورية وهذه البعض هي ما يميز الكائن الإنساني عن غيره. كما أنه لم ينكر وظيفة العقل، و لم يعطه أولوية، بل رسم له حدود اشتغاله. كذلك لا يستدل هذا المتكلم بالعقل إلا بحضور نصوص الوحي، فعندما أراد الاستدلال على مشروعية الاستدلال بالعقل رجع إلى الوحي. والنتيجة إذن هي أن علاقة الإيمـان بالعقل عند الباقلاني تقوم على التكــامل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق