الخلاف في تعيين يوم عاشوراء: هل هو التاسع من محرم، أم العاشر منه؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، الذي لا عز إلا في طاعته، ولا ذل إلا في الافتقار إليه، والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم إلى يوم الدين.
وبعد ؛ فإن الله تبارك وتعالى جعل في شهر المحرم يوما من أيامه العظمى؛ ألا وهو اليوم العاشر منه، الذي استحب فيه الصيام للمؤمنين؛ إلا أن العلماء انقسموا فيه إلى فريقين؛ فريق يقول: أن المقصود هو العاشر من محرم، وفريق آخر يقول: أن المقصود هو التاسع من المحرم، وهو ما أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح بقوله :" واختلف أهل الشرع في تعيينه"[1].
وأصل الخلاف في تعيين المقصود بذلك اليوم؛ إنما هو بسبب ورود أحاديث وروايات بعضها ذُكر فيها أن اليوم المقصود هو العاشر من المحرم، والبعض الآخر ذكر أنه اليوم التاسع منه؛ ولذلك قال العلامة ابن رشد رحمه الله في البداية:" واختلفوا فيه: هل هو التاسع، أو العاشر؟ والسبب في ذلك اختلاف الآثار "[2].
بيد أن هذا الاختلاف الواقع بين أئمة الفقه والدين في تعيين يوم عاشوراء، إنما يدل على قدر هذا اليوم الأغر، وعظم أجره، وعلو قدره؛ ولهذا قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد:"وفي اختلاف العلماء في يوم عاشوراء واهتبالهم بذلك دليل على فضله"[3].
ولأهمية هذا الموضوع؛ فقد أفردته بهذا المقال الذي سأتناول فيه: ذكر أقوال الفريقين معا، وذكر بعض أدلتهم التي استندوا إليها، مع ذكر الأرجح بين هذين القولين ، من خلال أقوال العلماء في المسألة.
فأقول وبالله التوفيق:
أولا: القائلون أنه اليوم العاشر من محرم وأدلتهم:
وممن قال بأنه اليوم العاشر من المحرم: جمهور الفقهاء، والعلماء، من السادة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، ونقل هذا الرأي النووي (676هـ) في شرحه لصحيح مسلم فقال: " وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف: إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وممن قال ذلك: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وخلائق، وهذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ"[4].
وسأذكر هنا قولا واحدا في كل مذهب منقول من مصدره الفقهي:
1- الأحناف:
قال العلامة بدر الدين العيني الحنفي (855هـ) في نخب الأفكار:"ثم العاشوراء في المشهور هو اليوم العاشر من المحرم كما ذكرناه "[5].
2- المالكية:
قال أبو الوليد ابن رشد القرطبي المالكي(520هـ) في البيان والتحصيل: "ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم"[6].
3 - الشافعية:
قال أبو زكريا النووي (676هـ) في المجموع شرح المهذب:" قال أصحابنا عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم .. هذا مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء"[7].
4- الحنابلة:
قال أبو عبد الله ابن مفلح الحنبلي (763هـ) في الفروع:"عاشوراء، وهو العاشر وفاقا لأكثر العلماء"[8].
أدلتهم:
أما أدلة القائلين أنه اليوم العاشر من محرم فأذكر بعضها:
الدليل الأول - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:"أمر رسول الله ﷺ بصوم عاشوراء يوم عاشر"[9].
الدليل الثاني - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أن النبي ﷺ أمر بصيام يوم عاشوراء، يوم العاشر"[10].
الدليل الثالث - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: «حين صام رسول الله ﷺ يوم عاشوراء، وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى !! فقال رسول الله ﷺ: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع». قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله ﷺ»[11].
قال ابن عبد البر القرطبي في التمهيد :" وفي هذا دليل على أنه كان يصوم العاشر إلى أن مات، ولم يزل يصومه حتى قدم المدينة، وذلك محفوظ من حديث ابن عباس رضي الله عنه"[12].
ثانيا: القائلون أنه اليوم التاسع من محرم وأدلتهم:
أما القائلون أنه اليوم التاسع من المحرم فهم: الظاهرية، ومنهم العلامة ابن حزم الأندلسي (456هـ)، قال في المحلى:" ونستحب صوم يوم عاشوراء: وهو التاسع من المحرم"[13].
وهو المروي كذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما سيأتي في أدلة هذا الفريق.
أدلتهم:
أما أدلة القائلين أنه اليوم التاسع من محرم فأذكر بعضها:
الدليل الأول - عن الحكم بن الأعرج قال: "انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء؟ فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع صائما قلت: هكذا كان رسول الله ﷺ يصومه؟ قال: نعم"[14].
قال النووي في شرح مسلم: " هذا تصريح من ابن عباس بأنه مذهبه، أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم "[15].
الدليل الثاني – وهو دليل لغوي: أنه مأخوذ من إظماء الإبل، فإن العرب تسمى اليوم الخامس من أيام الورد ربعا، وكذا باقي الأيام على هذه النسبة فيكون التاسع عشرا[16].
قال ابن منظور في لسان العرب: " والتسع من أظماء الإبل: أن ترد إلى تسعة أيام، والإبل تواسع. وأتسع القوم فهم متسعون: إذا وردت إبلهم لتسعة أيام وثماني ليال"[17].
قال ابن رسلان المقدسي في شرح سنن أبي داود: " هذا مذهب ابن عباس رضي الله عنهما أن اليوم التاسع يوم عاشوراء كما ثبت في صحيح مسلم، وتأوله على أنه مأخوذ من إظماء الإبل"[18].
قال النووي:" وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد؛ ثم إن حديث ابن عباس الثاني يرد عليه؛ لأنه قال:"إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم عاشوراء، فذكروا أن اليهود والنصارى تصومه، فقال أنه في العام المقبل يصوم التاسع، وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع، فتعين كونه العاشر"[19].
ثالثا: الترجيح:
من خلال ما تقدم من أدلة الفريقين، فالذي يترجح في هذه المسألة - والله أعلم - هو القول الأول: أي: أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، لا التاسع؛ وذلك لقوة أدلتهم؛ ولكون الأحاديث النبوية الواردة فيه صريحة في كون المقصود من عاشوراء هو اليوم العاشر؛ وقد أفصح العلامة ابن القيم الجوزية بكلام نفيس جامع مانع للخروج من هذا الإشكال الحاصل في هذه المسـألة فقال في زاد المعاد: "فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال، وسعة علم ابن عباس؛ فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليوم التاسع؛ بل قال للسائل: صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبر أن رسول الله ﷺ كان يصومه كذلك. فإما أن يكون فعل ذلك هو الأولى، وإما أن يكون حمل فعله على الأمر به، وعزمه عليه في المستقبل، ويدل على ذلك أنه هو الذي روى: «صوموا يوما قبله ويوما بعده»[20]، وهو الذي روى: «أمرنا رسول الله ﷺ بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر»[21]. وكل هذه الآثار عنه يصدق بعضها بعضا ويؤيد بعضها بعضا. فمراتب صومه ثلاثة أكملها: أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم. وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب"[22].
الخاتمة:
وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:
-أن الله تبارك وتعالى جعل في شهر المحرم يوما فاضلا يستحب فيه الصيام؛ إلا أن العلماء انقسموا في هذا اليوم إلى فريقين: فريق يقول أن المقصود هو العاشر من محرم، وفريق آخر يقول أن المقصود هو التاسع من المحرم.
-أصل الخلاف في المسألة؛ إنما هو بسبب ورود أحاديث وروايات بعضها ذُكر فيها أن اليوم المقصود هو العاشر من المحرم، والبعض الآخر ذكر أنه اليوم التاسع منه.
- الاختلاف الواقع بين أئمة الفقه والدين في تعيين يوم عاشوراء، إنما يدل على قدر هذا اليوم الأغر، وعظم أجره، وعلو قدره.
- وممن قال بأنه اليوم العاشر من المحرم: جمهور الفقهاء، والعلماء، من السادة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، مستندين في ذلك إلى أدلة ذكرتها في المقال.
- أما القائلون أنه اليوم التاسع من المحرم فهم: الظاهرية، ومنهم ابن حزم ، وهو قول مروي كذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. مستندين في ذلك إلى أدلة ذكرتها في المقال.
- والراجح في المسألة : أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، لا التاسع؛ وذلك لقوة أدلته؛ ولكون الأحاديث النبوية الواردة فيه صريحة في كون المقصود من عاشوراء هو اليوم العاشر؛ وقد أماط اللثام عن هذا الإشكال العلامة ابن القيم الجوزية في زاد المعاد.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
**********************
هوامش المقال:
[1] - فتح الباري: لابن حجر فتح الباري (5/ 310).
[2] - بداية المجتهد: لابن رشد (2/ 189-190).
[3] - التمهيد: لابن عبد البر (7 /213-214).
[4] - شرح صحيح مسلم (4/ 267) .
[5] - نخب الأفكار: للعيني (8/ 388).
[6] - البيان والتحصيل: لابن رشد (17 /325).
[7] - المجموع شرح المهذب: للنووي (1479).
[8] - الفروع: لابن مفلح (5/ 89).
[9] - أخرجه الترمذي في سننه (ص: 186)، في أبواب الصوم عن رسول الله ﷺ، باب: ما جاء عاشوراء: أي يوم هو؟ (755). وقال:" حديث ابن عباس حديث حسن صحيح".
[10] - أخرجه البزار في مسنده (18/ 153)، وقال ابن حجر في مختصر زوائد البزار (1 /406)(672): "إسناده صحيح".
[11] أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 505)، في كتاب: الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء(1134).
[12] - التمهيد: لابن عبد البر (7/ 215).
[13] - المحلى: لابن حزم (4 /437)(793).
[14] - أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 505) ، في كتاب الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1133).
[15] - شرح صحيح مسلم: للنووي (4 /267) .
[16] - انظر: شرح صحيح مسلم: للنووي (4 /267) .
[17] - لسان العرب: لابن منظور (1/ 129) مادة: (تسع).
[18] - شرح سنن أبي داود: ابن رسلان (10/ 574) .
[19] - شرح صحيح مسلم: للنووي (4/ 267) .
[20] - أخرجه أحمد في المسند (4 /52)(2154).
[21] - تقدم تخريجه بلفظ :" أمر رسول الله ﷺ بصوم عاشوراء يوم عاشر".
[22] - زاد المعاد : لابن القيم (2/ 72).
********************
لائحة المصادر والمراجع:
بداية المجتهد ونهاية المقتصد: لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد، ت: محمد صبحي حسن حلاق، مكتبة ابن تيمية بالقاهرة، ومكتبة العلم بجدة، ط1، 1415هـ.
البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة (ج17): لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، ت: محمد العريشي، وأحمد الحبابي، دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، ط2، 1408 هـ /1988م.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (ج7) : لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، ت: عبد الله بن الصديق، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب 1399 هـ/1979م.
زاد المعاد في هدي خير العباد: لشمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد ابن القيم الجوزية، ت: شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط3، 1418هـ /1998م.
سنن الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، باعتناء: مشهور حسن سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، (د. ت).
شرح سنن أبي داود. لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن حسين ابن رسلان المقدسي الرملي. ت: خالد الرباط. وخالد إبراهيم السيد ، وأحمد سليمان صالح حسون، وآخرون . دار الفلاح الفيوم. ط1/ 1437هـ- 2016مـ
صحيح مسلم بشرح النووي: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي ، ت: عصام الصبابطي، وحازم محمد، وعمار عامر، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1415هـ/1994م.
صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج النيسابوري، ت: نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، الرياض، ط1، 1427هـ/2006م.
فتح الباري شرح صحيح البخاري: لاحمد بن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2011م.
كتاب الفروع: لأبي عبد الله شمس الدين محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، المقدسي الصالحي الحنبلي، ت: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ودار المؤيد، الرياض، ط1،1424 هـ/ 2003م.
لسان العرب: لابن منظور الإفريقي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1993م.
المجموع شرح المهذب: لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، باعتناء: رائد بن صبري بن أبي علفه، بيت الأفكار الدولية، عمان، الأردن، ط1، 2005م.
المحلى بالآثار: لأبي محمد علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي، ت: د. عبد الغفار سليمان البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2010م.
مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد: لأبي الفضل أحمد بن حجر العسقلاني، ت: صبري بن عبد الخالق أبو ذر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1412هـ.
مسند البزار (المسمى: البحر الزخار ): لأبي بكر أحمد بن عمرو العتكي البزار، ت: صبري بن عبد الخالق الشافعي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة ، ط1، 2009م.
المسند: لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، ت: شعيب الأرنؤوط، ومحمد نعيم العرقسوسي، وإبراهيم الزيبق، ومحمد أنس الخن، وآخرون، إشراف: د . عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ/ 2001م.
نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار: لبدر الدين محمود بن أحمد العيني. ت: أبي تميم ياسر بن إبراهيم. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. قطر ط1 /1429هـ/ 2008م.
*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري