مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مجلس البلاغة العاشر

ألقى الدكتور محمد الحافظ الروسي يوم الثلاثاء الثامن عشر من رجب لسنة 1440هـ، الموافق للسادس والعشرين من مارس لسنة 2019م، درسا  في البلاغة لفائدة باحثي مركز ابن أبي الربيع السبتي، وهو الدرس العاشر في سلسلة المجالس التي تنعقد كل أسبوع.

فابتدأ حديثه عن إعجاز القرآن الكريم الذي يُعد عَصَبَ البلاغة، مبيّنا بعض جوانبه الإعجازية من حيثُ انتفاءُ الطابع البشري عنه، ومن ذلك بعض الظواهر التي وقعت في كلام الشعراء المقدّمين، ومثّل لذلك بقول امرئ القيس:

غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى العُلَا /// تَضِلُّ المَدَارَى فِي مُثَنًّى وَمُرْسَلِ

على أن فيه ائتلافَ الألفاظ التي تقاربت مخارجها، فيثقل بذلك النطق بها. وقد ذكر الأستاذ أن مثل هذا لا يوجد في القرآن الكريم، فهو وجه من أوجه إعجازه الذي بحث فيه علماء البلاغة. وإنما استشهدوا على ذلك ببيت امرئ القيس لأنه أشعر الشعراء، فوقوع مثل هذا في شعره مُنْبِئٌ أنه في شعر من هو دونه أكثرُ من أن يُحصى، وهذا ما صنعه الباقلاني في إعجاز القرآن لمّا تحدث عن معلقة امرئ القيس في مقابل بلاغة القرآن الكريم، فأبطل دعوى القائلين بارتفاع الشعر إلى منزلة كلام الله تعالى.

وهذا الذي ذكره الأستاذ، يدخل في باب نفي البشرية عن القرآن الكريم، بحيث لا تجد أثرا أو موضعا تستدل به على أنه من كلام البشر، وهو ما انتبه إليه كفار قريش، ومنه حديث الوليد بن المغيرة لمّا سمع القرآن، وهو في دلائل النبوة للبيهقي 1/232، وفيه أنه نفى عن رسول الله ﷺ صفةَ السحر والكهانة والجنون وقولَ الشعر، وذكر من ضروبه الهزج والرجز والقريض والمقبوض والمبسوط، ثم قال في آخر كلامه: «وما يقول هذا بشر». فجاء بعض الذين نظروا إلى هذا النص وما فيه من ذكر لأسماء بعض البحور ففرّقوا بين الشعر والقرآن الكريم بالوزن، بل وصفت طائفة منهم ما جاء منه في القرآن الكريم بأنه «مُتَّزِنٌ». وقد نبّه الأستاذ إلى أن ذلك لا يصح، لأن المتّزن يكون من غير قصد، وهذا لا يصح أن يُقال عن كلام الله تعالى.

ثم ذكر أن الذين وقفوا على مثل هذه النصوص هم علماء السِّيَرِ وعلماء الكلام، وليس لبعضهم علم بالبلاغة والشعر، ومنهم ابن إسحاق صاحبُ السيرة، وقد ساق الأستاذ في هذا الموضع من حديثه قولَ ابن سلام فيه في أول كتاب طبقات فحول الشعراء، قال 1/7: «وكان ممّن أفسد الشعر وهجّنه وحمل كلَّ غُثاء منه، محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المُطّلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسِّيَر».

ثم ذكر الأستاذ مسألة أخرى يتفاوت فيها الشعراء على حسب بيئتهم وزمانهم، وهي متعلقة بالوصف، فإن شعراء الجاهلية أكثروا من وصف الناقة لمكانتها منهم، فلا تكاد تخلو منها قصيدة. وهذا الأمر إنما يقوم على المعرفة بالشيء عند المتكلم، وقد مثّل له الأستاذ ببيت لبيد بن ربيعة العامري في وصف الفيل وفيّاله (الذي يركب الفيل)، قال فيه:

لَوْ يَقُومُ الفِيلُ أَوْ فَيَّالُهُ /// زَلَّ عَنْ مِثْلِ مَقَامِي وَزَحَلْ

فظن أنه يكون ضخما لأن الفيل كذلك، وإنما أُتي لبيد من قلة معرفته بهذا الضرب من الحيوانات إذ كانت لا توجد في البيئة العربية، وإنما عرفتها العرب باختلاطها بفارس. وقد ذكر المرزباني خطأ لبيد في هذا البيت فقال في الموشح: «وأُنكرَ على لبيد قولُه (وذكر البيت) لأنه ليس للفيّال مثلُ أَيْدِ الفيل فيذكره». والأيد، القوة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون *﴾ [الذاريات:47].

ثم انتقل بعد ذلك لمسألة التفاوت والتناقض، فإنهما لا يعتريان القرآن الكريم، فلا يوجد أثر التفاوت أو التناقض في أسلوبه ومعانيه، وإنما يكون هذا في كلام البشر. وقد مثّل له بشعر امرئ القيس أيضا للعلّة التي قدمناها، وهي أنه أشعر شعرائهم، فإن وُجد مثلُ هذا في شعره فهو في شعر غيره ممن هو دونه أكثر. فمنه التناقض في قوله:

وَلَوْ أَنَّمَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ /// كَفَانِي -وَلَمْ أَطْلُبْ- قَلِيلٌ مِنَ المَالِ

وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ /// وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي

وقوله:

فَتُوسِعُ أَهْلَهَا أَقِطًا وَسَمْنًا /// وَحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيُّ

فنفى عن نفسه طلب القليل والرضا به مرةً، ثم زهد أخرى، فلم نخرج منه بشيء.

ومن المسائل التي انتفت عن القرآن الكريم أيضا واعترت كلامَ البشر على اختلاف مراتبهم في البلاغة والفصاحة، ما أشار إليه الأستاذ –وهو عند حازم القرطاجني- من الفترات الإنسانية، فلا تجد شاعرا يقول في المواطن كلها، وفي كل وقت وحين، وإنما يصيبه ما يصيب كل إنسان من الفتور وقلة الحيلة أحيانا.

ثم ختم الأستاذ هذا المجلس البلاغي بحديثه عن ضعف التأليف الذي أُخذ على بعض الشعراء المتقدمين كأمثال حسان بن ثابت في قوله:

وَلَوْ أَنَّ مَجْدًا أَخْلَدَ الدَّهْرَ وَاحِدًا /// مِنَ النَّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطْعِمَا

لأن فيه عَوْدَ الضمير على متأخر لفظا ورتبة، وليس على هذا جرت قواعدُ العربية.

ومن ذلك أيضا التعقيدُ اللفظي كما في بعض شعر الفرزدق، ومنه قوله:

إِلَى مَلِكٍ مَا أُمُّهُ مِنْ مُحَارِبٍ /// أَبُوهُ، وَلَا كَانَتْ كُلَيْبٌ تُصَاهِرُهْ

وقوله:

وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا ///أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ

وتحت هذا كلام، وهو أن ابن سلام في طبقاته عرض لأبياتِ الفرزدق التي جرت هذا المجرى، ثم قال 2/364: «وكان يُداخل الكلامَ، وكان ذلك يعجب أصحاب النحو».

وقد ذكر الأستاذ بعد كلام ابن سلام، أنه يُعلم منه أن النحاة كانت تُعجب بشعر الفرزدق الذي يجدونه على هذا الضرب من التركيب، ثم إذا نظرنا فيمن جاء بعدَهم، وجدناهم ينسبونه إلى الخطإ والحَيْدِ عن سَنَنِ العرب في كلامها، وأنه لم يُحسن في ذلك. وإنما يُنظر في هذا من جهة فرقِ ما بين النحوي والبلاغي، ولأبي حيان في هذا الموضع كلام أورده في مقدمة تفسيره لمّا تحدث عن العلوم التي يجب على مُتَعاطي علمِ التفسير أن يكون آخذا بالحظ الأوفر منها، قال فيه: «وقلّ أن ترى نحوياً بارعاً في النظم والنثر ، كما قل أن ترى بارعاً في الفصاحة يتوغل في علم النحو ، وقد رأينا من ينسب للإمامة في علم النحو وهو لا يحسن أن ينطق بأبيات من أشعار العرب فضلاً عن أن يعرف مدلولها أو يتكلم على ما انطوت عليه من علم البلاغة والبيان، فأنّى لمثل هذا أن يتعاطى علم التفسير؟!».

وبه تم المجلس العاشر من مجالس البلاغة بحمد الله وتوفيقه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن سار على نهجه وطريقه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق