مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

الدكتور عبد الواحد الصمدي يحاضر في مركز ابن أبي الربيع السبتي

في إطار سلسلة المحاضرات العلمية التي ينظمها مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية، نظم المركز محاضرة بعنوان: «القراءات القرآنية وأثرها في التقعيد لعلوم العربية» ألقاها فضيلة الدكتور عبد الواحد الصمدي وذلك يوم الخميس 03رمضان1440هـ الموافق لـ   09 ماي 2019م.

افتتحت المحاضرة بكلمة فضيلة الدكتور محمد الحافظ الروسي رئيس المركز الذي شكر المحاضر ورحب بالحضور، وبعد هذا التقديم شرع  الدكتور عبد الواحد الصمدي في إلقاء محاضرته استهلها بتمهيد ذكر فيه أن القرآن الكريم هو النص العربي الوحيد الذي نقل من جيل إلى جيل عن طريق التلقي القائم على السماع والعرض، نقلا متواترا أجمعت الأمة على صحته، وقد بذل علماء القراءات في سبيل نقل القرآن كما سُمع من النبي صلى الله عليه وسلم جهودا جبارة أثمرت علما واسعا وهو علم القراءات القرآنية، ومباحثه تتعلق بكيفية أداء بعض المواضع في القرآن الكريم أداءً منضبطا بقوانين صارمة صاغها القراء ضمانا للأداء المتقن للقرآن، وهو يعبر الزمن والمحن، لا يتأثر بعربية فسدت ولا بأعجمية حكمت، فأي نص عربي له ما للقرآن من وسائل حفظ موكلة لرب الأرباب «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ». سورة الحجر، الآية:9. فالنص العربي الوحيد الذي تكفل الله بحفظه هو هذا القرآن، ولما كان الأمر كذلك ارتأى العلماء أن القرآن الأنموذج اللغوي الفذ الذي يستحق أن يكون منطلقا لأي دراسة لغوية يراد لها القبول والخلود فتزينت كتب اللغة بآيه وشواهده.

وكان حديثه في هذه المحاضرة عن القراءات من خلال عنوان هو: «القراءات القرآنية وأثرها في التقعيد لعلوم العربية» ذاكرا في هذا المنحى أن الذي يهمنا في القواعد العربية هو القراءة بحد ذاتها، فالقراءة الشاذة والقراءة المتواترة على حد سواء عند علماء العربية، ذلك أن علماء العربية احتجوا بالقراءة الشاذة ، كما أن ابن جني كان ينص في المحتسب على أن القراءة الشاذة ربما كانت أفصح من المتواترة. فهناك قراءات شاذة بلغت في الفصاحة والبلاغة فوق بعض القراءات الصحيحة، وقد ركز المحاضر على تأثير القراءات في تقعيد علوم العربية أو خرق القاعدة، بل إن القراءات تكون سببا للتقعيد وبعضها الآخر يكون سببا في خرق هذه القواعد التي قعدها علماء العربية.

وقد ركز حديثه على علمين عظيمين هما: علم الأصوات وعلم النحو، و في هذا السياق أشار إلى أن علوم العربية أنشئت لخدمة القرآن، وذلك بعد فشو اللَّحن في كلام الناس بسبب مخالطة العرب للعجم، ولذلك كان أول جهد أنشئ هو جهد أبي الأسود الدؤلي وكان بسبب اللحن في القرآن، فالعربية قامت خدمة للقرآن الكريم وأول ما قام به أبو الأسود الدؤلي عندما حاول أن يضع قواعد اللغة العربية هو نقط المصاحف ثم وضع بعد ذلك علم النحو. حكى ابن الأنباري أن أبا الأسود الدؤلي عندما سمع من لحن في قوله تعالى: « أَنَّ اللهَ بَرِئٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُه» فقرأها: «ورسولِه» بالكسر، هاله الأمر فقال: رأيت أن أبدأ بإعراب القرآن. وقصد بإعراب القرآن نقطه ، لأن الغاية من النحو هي صلاح اللسان واتقاء اللحن خصوصا في كلام الله، وبدأ أبو الأسود بالغاية قبل الوسيلة، فقال لزياد: ابعث إلي بثلاثين رجلا، فأحضرهم. فاختار منهم أبو الأسود عشرة و لم يزل يختارمنهم حتى اختار رجلا من عبد قيس، ثم قال له: خذ  المصحف وحبرا يخالف لون المصحف فإذا فتحت شفتي فضع نقطة فوق الحرف، وإذا ضممتها فضع نقطة أمام الحرف، وإذا كسرتها فضع نقطة تحت الحرف، فكان ذلك ما يسميه علماء الضبط بنقط الإعراب، ثم وضع أبو الأسود بعد ذلك ما ينسب إليه من الأوليات في النحو. واستمر مشروع أبي الأسود في تلامذته فممن أخذ عنه نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني، وإليهما ينسب نقط الإعجام، كما أخذ عن نصر بن عاصم أبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة، وأخذ عن أبي عمرو الخليل بن أحمد، والخليل بن أحمد هو الذي اخترع النقط المطول الذي نكتب به الآن في مصاحفنا فاخترع الحركات من حروف المد، فجعل الضمة واوا صغيرة، والفتحة ألفا صغيرة، والكسرة ياء صغيرة، ثم الخليل بن أحمد أسس لعلوم كثيرة، حيث أسس لعلم الأصوات وعلم التجويد وعلم المعاجم العربية، ثم إن سيبويه أخذ من الخليل بن أحمد وبذلك استقر علم النحو في «الكتاب» وظهر في أبرز صوره.

وفي معرض حديثه أشار الدكتور عبد الواحد الصمدي إلى مسألة تمثلت  في أن النحاة الأوائل كانوا قراء وهم الذين نشأ النحو على أيديهم كأبي عمرو بن العلاء البصري فهو شيخ الخليل وشيخ سيبويه.   

ونبه المحاضر إلى أن القارئ عند القراء لا تكتمل أهليته ولا يصدر إلا إذا كان إماما في العربية، ومن شروط القارئ أن يكون متقنا للعربية، فلا يصح الأخذ إلا عن متقن للعربية.

ومن المقدمات الأساسية التي تطرق إليها المحاضر أن لغة القرآن هي أفصح أساليب العربية على الإطلاق نص عليها جماعة من أئمة اللغة، وفي هذا المقام وقف على ما قاله الفراء: «والكتاب ( القرآن) أعرب وأقوى في الحجة من الشعر».

ثم بين المحاضر أن القراءات القرآنية تتميز عن سائر النصوص العربية بأمر وهو فيما يتعلق بالجانب الصوتي، فالقراءات أوثق شواهد العربية لما تشتمل عليه من وصف دقيق لأهم الظواهر الصوتية مما لا يوجد نظيره في غيرها من النصوص العربية، مبينا أن القراءات هي التي عرفتنا بالإشمام كيف يؤدى، وعرفتنا بالإمالة كيف تؤدى، وعرفتنا بالاختلاس والإدغام بنوعيه الصغير والكبير، والقراءات هي التي نقلت لنا كيفية تسهيل الهمز. ثم تطرق المحاضر إلى مسألة أخرى مهمة وهي أن القراءات عندما بدأ التأليف فيها كان مبنيا على مذهب نحوي عند المؤلف، فالذين ألفوا في القراءات ابتداءً بأبي بكر ابن المجاهد البغدادي كانوا متأثرين بمذاهبهم النحوية.

كما أشار الدكتور عبد الواحد الصمدي إلى مسألة مهمة جدا وهي أن القارئ ينظر إلى القراءة بنظرة تختلف عن نظرة النحوي، فالقراء ينظرون إلى القراءات على أنها أداء وتلقٍ عن المشايخ العمدةُ فيها الإسناد والرواية، أما النحاة فينظرون إلى القراءة باعتبارها أحد مصادر اللغة المعتمدة وشاهدا لا يصح النظر إليه بمعزل عن الشواهد العربية، فإذا كانت الغاية من الاستشهاد وضع قاعدة أو استنباط حكم فإن اللغوي يضع القراءة إلى جانب غيرها من النصوص، فلا فرق عند اللغوي آنذاك بين القراءة والشاهد الشعري، ولا منزلة للقراءة على الشواهد الشعرية وهذا من المسائل المهمة.

وأوضح المحاضر أنه عند إعمال النظر في تأثير القراءات في التقعيد نجد أن هناك ثلاثة مظاهر:  هناك مظهر التقعيد، ومظهر التأييد، ومظهر التسديد، فمظهر التقعيد هو أن تكون القراءات هي التي قعدت القاعدة، والاعتماد على القراءة بشكل واضح في التقعيد، وهناك الصنف الثاني مظهر التأييد وهو أن النحاة يؤيدون القاعدة ويعضدون القاعدة التي خلصوا إليها بشواهد من كلام العرب، والصنف الثالث هو مظهر التسديد وهو خرق القاعدة، فقد تكون في بعض الأحيان خارقة للقاعدة التي قعدها النحاة، فالنحاة اهتموا بالشاهد الشعري أكثر من الشاهد القرائي، ومثل لذلك بعدة مظان أهمها كتاب سيبويه الذي يحتوي على 458 شاهدا قرآنيا، و 1056 شاهدا شعريا.

ثم انتقل إلى الحديث عن علمين الأول هو علم الأصوات؛ وهو علم أسسه علماء النحو وعلماء اللغة واستفاد منه علماء القراءات فأنشؤوا علم التجويد، ولكن الفضل يرجع إلى النحاة وإلى اللغويين في إنشاء علم الأصوات.

ثم تطرق المحاضر إلى مطلب أول تمثل في أثر القراءات في علم الأصوات، ومطلب آخر تمثل في أثر القراءات في علم النحو، وهنا بدأ بعلم الأصوات وذكر أن أول شيء يطالعنا في الأصوات العربية، هو أن سيبويه يتحدث عن الحروف العربية في الكتاب فيقسمها إلى قسمين: حروف فرعية مستحسنة وحروف فرعية غير مستحسنة، وسيبويه سيتحدث عن الحروف الفرعية المستحسنة التي تستحسن في قراءة القرآن والأشعار فيعددها وهي ستة: يقول فهي النون الخفيفة، والهمزة التي بَيْن بَيْن، والألف التي تمال إمالة شديدة، والشين التي كالجيم، والحاء التي تكون كالزاي، وألف التفخيم، ومن أجل أن يصل إلى الحروف الفرعية المستحسنة الستة قام سيبويه بدراسة استقرائية للقراءات القرآنية التي وصلته فوجد أن التي تستحسن في قراءة القرآن هي هذه الستة.

ثم ينتقل سيبويه إلى حروف فرعية  غير مستحسنة ولكن ابن جني سماها مستقبحة، ويذكر سيبويه ثمانية أحرف غير مستحسنة وهي الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف، والجيم التي كالشين والضاد الضعيفة، والصاد التي كالسين، والطاء التي كالتاء، والظاء التي كالثاء، والباء التي كالفاء، ثم يصفها سيبويه بأنها لا تستحسن في قراءة القرآن.

ومن المسائل الصوتية التي كان للقراءات أثر واضح فيها الجمع بين الساكنين على غير حدهما كما يقول النحاة.

ثم عرج الحديث على أثر القراءات في علم النحو فذكر أن من جملة القراءات التي أثرت في القراءات وفي وضعها مسألة القول في عمل إن المخففة النصب في الاسم هل إن المخففة تعمل أم تهمل، وهذه مسألة خلافية بين البصريين، حيث ذهب الكوفيون إلى أن إن المخففة لا تعمل النصب في الاسم، وذهب البصريون أنه يبقى عملها.

وقد أعقبت المحاضرة مناقشة علمية شارك فيها مجموعة من الأساتيذ والطلبة والباحثين الذين حضروا هذا اللقاء العلمي الماتع، فكانت الكلمة الختامية للمحاضر الذي أجاب عن بعض ما اكتنف المحاضرة من مبهمات ساهمت في إغناء الموضوع.

وختم المحاضر ورقته بخلاصات مفادها:

– أن التراث النحوي تراث غني وعريق، تعاقبت على صنعه وبنائه أجيال من النحويين واللغويين الأفذاذ الذين نذروا أنفسهم لهذا التراث، حتى توطد بناؤه وشمخ صرحه عاليا، فقد أشادوا بنيانه على أسس ثابتة متينة لا تتزعزع؛ لهذا صمد طويلا أمام كثير من الهزات التي تعرض لها قديما وحديثا، ومما لا جدال حوله أن هذا التراث النحوي من صنع البشر فلا عجب أن يعثر الباحث فيه المدقق في تفاصيله على غير قليل من الثغرات وأن يكتشف في بعض جوانبه شيئا من الضعف والوهن، وهذه سمات أي عمل بشري مهما أتقن صنعه وأخلص في عمله.

– أعمل النحاة القراءات في تقعيد القواعد النحوية لكنهم لم يطلعوا على جل القراءات، فمن ثم فوجئوا ببعض القراءات التي تخالف قواعدهم، فانقسموا في التعامل معها إلى فريقين منهم من صنفها في خانة القليل ومنهم من هجم على القراء واتهمهم فيما نقلوه.

– ومن الجوانب التي ينبغي تعميق البحث فيها مفهوم الكثرة التي اعتمد عليها النحاة عند وضع قواعدهم لأنهم لم يوضحوا مرادهم بالكثرة، أهي الكثرة العددية بين أفراد القبيلة الواحدة؟ أم القبائل جمعاء؟ أهي الكثرة النسبية القائمة على الاستقراء التام والعد؟ فإذا كان الأول فما حدها؟ أهي ثلاثة أم خمسة أم عشرة أم ماذا؟ فإذا كانت الثانية فكم نسبة الكثير؟.

– ومن الجوانب المهمة في التقعيد النحوي البحث عن منزلة القراءات ضمن شواهد العربية، هل كانت القراءة عندهم بمنزلة الشاهد الشعري من حيث الاعتبار والحجية أم كان للشعر سلطان جعلهم يقدمونه على القراءات.

– كان عمل النحاة يتجه إلى الشاهد الشعري أكثر من القراءات لعوامل كثيرة، منها أن علماء العربية أرادوا البرهنة على أن القرآن بلسان عربي مبين فاتجهوا إلى كلام العرب وهذا له ما يعضده في ثقافتنا، فهذا عمر يسأل عن لفظ من القرآن فيقول أيها الناس عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا، قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم.

– إن أكبر نقد يوجه إلى منهج النحويين هو أنهم بنوا قواعدهم وصاغوا أحكامهم على استقراء ناقص ثم حكموا تلك القواعد والأحكام بأصح الأقوال وأوثقها، وكان المنهج السليم يقتضي أن يصحح النحاة قواعدهم لتستوعب كل ما ثبتت صحته من العربية ولو فعلوا ذلك لكانت قواعدهم أشد إحكاما. 

كتبته سكينة مناري و هاجر الفتوح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق