مركز أبي الحسن الأشعري يعقد لقاء علميا في موضوع: «تطور المقاربة الأصولية للنص الشرعي مع الشاطبي»

مركز أبي الحسن الأشعري يعقد لقاء علميا في موضوع:
«تطور المقاربة الأصولية للنص الشرعي مع الشاطبي»
في إطار لقاءاته العلمية، نظم مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية بتطوان (التابع للرابطة المحمدية للعلماء) عرضا علميا قدمه الباحث الدكتور عرفة بلقات في موضوع :«تطور المقاربة الأصولية للنص الشرعي مع الشاطبي»، وذلك بعد زوال يوم الأربعاء 18 رمضان 1446هـ الموافق لـ 19 مارس 2025م.
استهل اللقاء بتأطير من رئيس المركز الدكتور جمال علال البختي الذي رحب بالحضور النوعي من أساتذة وباحثين وطلبة ومهتمين بالقضايا المعرفية والعلمية، مستعرضا عمل الفقيه المغربي أبي إسحاق الشاطبي في تطوير مباحث أصول الفقه ضمن العلوم الإسلامية، ومحددا جملة من الملامح الاجتهادية لهذا التطور. كما ألمح إلى جهود المحاضر في تأثيث هذا النظر الاجتهادي، الذي ابتغى به مناقشة جمهور الباحثين له في هذا النظر.
قبل الشروع في عرضه، أعرب المحاضر عن شكره وامتنانه للمركز، على إتاحته هذه الفرصة، لتناول قضية تطور المقاربة الأصولية للنص الشرعي في أفق إشكالي يتعلق بالمنظورات المتعددة التي قاربت فكرة التطور في علم أصول الفقه عند واحد من بين أبرز الأصوليين؛ ألا وهو الإمام أبو إسحاق الشاطبي اللخمي الغرناطي رحمه الله.
بدأ المحاضر عرضه بتصوره لثلاث محطات تشكل الملامح المركزية للتطور الذي حققه الإمام الشاطبي رحمه الله في تاريخ علم أصول الفقه:
تتمثل المحطة الأولى في الصياغة الجديدة لموضوع العلم مع الشاطبي، وفي هذا السياق صرح أننا أمام تاريخ طويل لعلم أصول الفقه ظل فيه موضوع العلم قائما على الفصل بين الأدلة الإجمالية، وآليات النظر فيها؛ إذ لكي يحصل العلم بالمعلوم، وهو الأدلة الإجمالية، استمد العلم آلياته في النظر إلى هذا المعلوم من علم الكلام وعلم العربية وبعض التصورات المتعلقة بالأحكام، وبقدر ما انعكس ذلك على وحدة موضوع العلم، فانتهى إلى التعدد، بقدر ما وسم المقاربة الأصولية للموضوع بطابعها الخارجي.
وفي المقابل مثل انشغال الشاطبي بما سماه: «علم الشريعة» جزءا أصيلا في تفكيره في كلياتها (وهي أيضا مقاصدها) التي تمثل موضوع العلم. ذلك أن هذه الكليات مستقراة من مقتضيات أدلة الشريعة نفسها، وهي تمثل أساس النظر في جزئياتها، فكان التطور الذي حصل هو أن الشاطبي استطاع لأول مرة في تاريخ العلم «تمييز» علم أصول الفقه بموضوعه الخاص والمنبثق من النص الشرعي ذاته. ولولا نظرته الداخلية لهذا النص، وانشغاله بما يكشف عن موضوعه، لما كان لمنظوره الجديد أن يرى النور. وبحسب هذا التطور استطاع الشاطبي الحسم في ثنائيتين بارزتين في الخطاب العلمي الأصولي: ثنائية القطع والظن وثنائية العقل والنقل، مما يعده صاحب العرض تطورا تابعا لتطور منظوره لموضوع العلم.
أما المحطة الثانية فتتعلق بكون الأصوليين المتقدمين عن الشاطبي لم يبلوروا تصورا «كليا» للخطاب الشرعي؛ إذ مع أنهم- بمن فيهم الشاطبي- يعتبرون الأحكام الشرعية خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، إلا أنهم لم ينشئوا خطابا كليا للنص الشرعي قادرا على تصنيف بنياته الداخلية وتفسيرها والتعريف بنسقها، بل فكروا فيها انطلاقا من مقولات جزئية كمقولة «المخاطبات» المرتبطة بأجزاء الخطاب لا بالخطاب ككل. وقد كان من نتائج ذلك أن ظلت نظرتهم للخطاب نظرة تجزيئية.
وفي المقابل أدى انشغال الشاطبي بإنشاء موضوع خاص ومتميز للعلم إلى بناء نظرية كلية في الخطاب الشرعي، فموضوع العلم بكل خصائصه الكلية هو موضوع الخطاب المتمثل في مضمونه الكلي: «جلب المصلحة ودرء المفسدة».
أما المحطة الثالثة فيتعلق مدعاها بأن الأصوليين المتقدمين عن الشاطبي، اهتموا باللغة العربية من زاويتين: زاويةِ المبادئ، وزاويةِ النظر المباشر في النص الشرعي، بناء على ما تحصل لديهم من المعرفة بالعربية خاصة. أما من الزاوية الأولى فقد اهتموا بكثير من المباحث اللغوية؛ كأصل الوضع والوضع الأول والثاني والحقيقة والمجاز والحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية، والعرف والاستعمال وغير ذلك من المباحث التي يفهم منها أنهم كانوا يبحثونها كيما يتمكنوا من وضع النص الشرعي (القرآن الكريم خاصة) في سياق التحولات اللغوية المتعلقة بدلالات الألفاظ؛ كيما يحصل لهم الوعي بالسياق التاريخي الخاص بعربية القرآن الكريم، والوقوف، من ثم، على مدلولات ألفاظه وطبيعة أساليبه في المخاطبة وتوصيل المعاني والأغراض، حتى إذا عرفوا ذلك أمكنهم النظر في الأدلة الإجمالية، وعوارضها من أوامر ونواهي ومتشابه ومحكم ومقيد ومطلق ومجمل ومفصل... إلخ، بشكل مباشر، فأنشأوا بذلك سيميولوجية تماثلية خارجية، قوامها أسبقية المعرفة باللغة العربية، لم تتح لهم إنشاء نسق شرعي مواز إلا في صورته التجزيئية.
وبالمقابل، لم يكن الشاطبي بمعزل عن إجماع الأصوليين بأن المعرفة بالعربية تمثل شرطا لازما لمن أراد الاجتهاد، لكنه توجه بخطاب نقدي لانشغال الأصوليين بالمبادئ اللغوية يتعلق بالمقدار الذي يتوجب التصريح به، وهو المقدار الذي سيستثمره بما هو مكون مركزي مدمج في البنية المقصدية للخطاب الشرعي بصفتها بنية تواضعية - تخاطبية للنص الشرعي، قائمة على تماثل داخلي بين «مقاصد العربية» و«مقاصد الشريعة»، وغيرها من التمثلات الأخرى. وقد أشار صاحب العرض إلى أن الشاطبي أرجع هذا المنظور إلى الإمام الشافعي رحمه الله وأن الأصوليين الذين جاؤوا بعده لم يتنبهوا إلى ذلك.
في هذا السياق ومن أجل وضع هذه المحطات الثلاث في أفق نقدي انصب عرضه على الدراسات المعاصرة التي انشغلت بقضية تطور علم أصول الفقه مع الإمام الشاطبي معزيا ذلك إلى أن تصوره للتطور الذي حققه هذا الأخير يقدم إضافة أخرى لمجمل التصورات التي قاربها عند عديد من الدارسين كمحقق: «الموافقات» الشيخ عبد الله دراز والدكتور محمد عابد الجابري والدكتور طه عبد الرحمن والدكتور عبد المجيد تركي والدكتور أحمد الريسوني وغيرهم، وقد جاءت محاولة صاحب العرض هذه إما على سبيل التكميل والتقوية أو على سبيل التعديل والاعتراض، ملاحظا أن الأفكار التي قرأت هذا التطور شابتها أنماط من اللبس، فالذين يذهبون إلى تقسيم تاريخ علم أصول الفقه إلى مرحلتين: أ- مرحلة الحذق في اللغة العربية (مرحلة ما قبل الشاطبي) ب- مرحلة المعرفة بمقاصد الشريعة (المرحلة التي يمثلها الشاطبي) يولدون انطباعا خاطئا كما لو أن المعرفة بمقاصد الشريعة غير متصلة بالمعرفة الأولى، والحال، أن الشاطبي، في نظر المحاضر، كان عربيا في تفكيره وهو ينشئ النسق المقاصدي، كما أن المعرفة باللغة العربية مثلت عنصرا مدمجا في نوع خاص من أنواع المقاصد التي وضعت لها الشريعة وهو وضع الشريعة للإفهام. ولهذا يرى أنه من الصعب تفسير التطور الذي حققه الشاطبي بناء على التقسيم المرحلي المشار إليه. ومع ذلك فالشيخ عبد الله دراز الذي انشغل بهذا التقسيم أعطى صورة نقدية هامة حول وضعية علم أصول الفقه قبل الشاطبي كتفكك آلة النظر وطبيعتها التجزيئية.
وبالمثل، فالتفكير في تطور علم أصول الفقه مع الشاطبي بناء على القول بوجود قطيعة إيبيستيمولوجية بين التفكير الأصولي البياني الذي كان سائدا قبل الشاطبي والتفكير المقاصدي هو الآخر ملتبس، بل إنه يعطي انطباعا صريحا بأن المعرفة بمقاصد الشريعة لا علاقة لها بالمعرفة اللغوية العربية، والحال أن مقولة مقاصد الشريعة، بما هي مقولة تعكس قطعية المعنى، ليست – في نهاية المطاف- سوى صياغة أصولية لقوة المعنى الأكثر ترجيحا والأقرب إلى مراد الشارع، والأكثر بعدا عن ظنية المعنى المعتمد على مجرد المعرفة اللغوية. هذا فضلا عن كون الشاطبي اعتبر المقاصد بمثابة محمولات / معاني «وضعت» لها الشريعة ومثلت البنية الكلية لمقتضى الأمر والنهي فيها، وهي بنية تخاطبية كلية قسم منها متعلق بالشارع والآخر بالمكلف. وفي هذا السياق أشار المحاضر إلى أن المعرفة بمقاصد الشريعة هي بمثابة تنظير لنوع خاص من أنواع التخاطب وهو التخاطب الشرعي، الأمر الذي لم يتم التنظير له في مرحلة ما قبل الشاطبي.
هذا وقد توقف الباحث مع «فكرة المقاصد» التي تتبعها الدكتور أحمد الريسوني تتبعا مستفيضا لكي يميز بينها وبين «نظرية المقاصد» التي جاء بها الشاطبي، فأشار إلى أن أهمية هذا التتبع يعطي صورة واضحة عن أن القول بالقطيعة لا يستقيم أمام هذا التراكم الذي عرفه علماء الأصول قبل الشاطبي على مستوى الاهتمام بالمقاصد، لكنه في نفس الوقت يضع فكرة المقاصد في حيز ضيق، فنحن لا نعرف، مثلا، هل كان انشغال الشاطبي بالمقاصد هو كالتكملة والتتمة للتراكمات السابقة، أم أن فكرة المقاصد نفسها كانت معروفة وشائعة في تراثنا المعرفي العربي القديم، بلاغة ولغة ونحوا ونقدا وشعرا... إلخ، بحيث إن الشاطبي استثمرها كما يستثمرها أي مجال معرفي آخر؟ وفي إطار الاستشكال المتعلق بتعريف مقاصد الشريعة، أشار صاحب العرض أن المقاصد هي بمثابة القول الشارح الذي يفسر بنية النص الشرعي؛ أي أنها في حد ذاتها تعريف بهذه البنية وأي تعريف للمقاصد سيكون تعريفا للتعريف مما يسقطنا في التسلسل الممنوع منطقيا. ولذلك لم يلجأ الشاطبي إلى تعريفها، إنها بمعنى آخر تعرِّف بقطعية/ قوة المعنى المستقرى من جزئيات الشريعة بحيث يصح القول إذا أردنا تعريف هذه القوة، إن هذه الأخيرة هي «كليات الشريعة» أو «مقاصد الشريعة» أو «كلياتها المعنوية» أو هي «علم الشريعة»، وكلها اصطلاحات استعملها الشاطبي بمعان متقاربة...
هذا وقد أعقبت العرض مناقشات وأسئلة ناضجة أبانت على حضور متميز لأصحابها، كما أبانت على أن عديدا من المتسائلين كانوا يأملون لو أن العرض بسط القول حول المحطات التي صرح بها في بداية العرض، وهو الأمر الذي اعتذر عنه صاحب العرض لما يحتاجه من وقت أوسع، مكتفيا في نهاية العرض بإعطاء إشارات عامة حول تلكم المحطات.