تقرير عن ندوة ” المدرسة الطبية في المغرب، مقاربة تاريخية” بمشاركة الدكتور جمال بامي

زيدان عبد الغني
مركز ابن البنا المراكشي
نظمت لجنة التراث التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله محاضرة علمية بعنوان " المدرسة الطبية في المغرب، مقاربة تاريخية"، وقد تم هذا اللقاء العلمي المتفرد في رحاب قاعة الندوات بالمعرض الدولي للكتاب الذي انطلقت فعاليته يوم الخميس 9 ماي 2024 بالرباط والذي نظم تحت الرعاية السامة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حتى غاية 19 ماي.
تطرقت مداخلة الأستاذ محمد براص والتي تكلم فيها عن " المدرسة الطبية في المغرب مقاربة تاريخية ما بين الأصالة والبعد الهوياتي والتحديث"، إلى ثلاثة محاور أساسية:
المحور الأول: بين فيه "مقومات مدرسة طبية ضمن البعد التاريخي"، فعناصر المدرسة ضمن حقل من الحقول المعرفية في تصور الأستاذ محمد براص تنبني بالأساس على الجمع ما بين المنهح والتناهج القائم بدوره على حصيلة التجارب العلمية والفكرية المنتجة للمعرفة المنتظمة وفق أقنية نظرية محددة ومضبوطة، قد تتطور في الزمان والمكان، لكنها تبنى وفق معايير فكرية تصنفها ضمن طابع خاص يميزها عن نظيرتها في الحقل المعرفي ذاته.
المحور الثاني: "المدرسة الطبية المغربية وإشكالية الهوية في ظل التراث الطبي الأندلسي"، في هذا المحور يتصور الأستاذ براص الواقع الحديث عن مدرسة طبية مغربية بمعزل عن إشكالية التراث الطبي الأندلسي ومفهوم الهوية المغربية في آن واحد، خاصة في سياق الرصد التاريخي لمجال تطور الطب بالأندلس في صلته بمنظومة ما يعرف بالغرب الإسلامي. ومن ثم، يُصبح التساؤل عن مفهوم هوية الطبيب الأندلسي ووعيه لذاته، وانتمائه لمجاله الجغرافي محدد المدى اندماجه في مسار بنية فكرية لحقل التطبيب والعلاج الذي يشترك فيه مع الطبيب المحتضن ضمن مجال المغرب الأقصى.
المحور الثالث: "آفاق مدرسة طبية مغربية ما بين الإرث التراثي وموجبات الحداثة"، يبين الأستاذ بوراص في هذا المحور ذلكم الزخم المعرفي المؤسس لما يمكن نعته بالمدرسة الطبية، ليس من قبيل انزواء أطباء الغرب الإسلامي على حصيلة معرفية مغلقة في مجال الطب، بل هي منظومة متكاملة في المعرفة الطبية بشكل عام، تستقي مجال خلاصاتها من تجارب الأمم السابقة في صناعة الطب، وتعمل على تطوير تلك التجارب وفق اجتهادات مسترسلة في المجال.
في نهاية المداخلة تطرق الأستاذ إلى مجموعة من القواعد الملزمة، ففعل التطبيب والـتأليف فيما هو بالأندلس والمغرب الأقصى كما يرى الأستاذ براص، هو في حاجة ماسة إلى مزيد من التدقيق والبحث العلمي في مضان النصوص، وخلاصاتها العلمية، مع تطبيق مبدأ المنهج المقارن، واعتماد آليات المعرفة الطبية التي تتجاوز فعل المؤرخ.
وتناول الدكتور جمال بامي رئيس مركز ابن البنا المراكشي في مداخلته التي تلت بعد مداخلة الأستاذ محمد بوراص والتي تحدث فيها عن " البعد الابستمولوجي للمدرسة الطبية المغربية الأندلسية".
عرج الأستاذ جمال بامي في بداية مداخلته على مجموعة من الثوابت عرفها تاريخ الطب المغربي الأندلسي منها أولا: اقتران الحكمة بالتجريب باعتبار أن مجموعة من الأطباء كانوا فلاسفة كبار، مثال (ابن رشد، ابن طفيل)، بمعنى أن هناك اقتران ما بين الحكمة الفلسفية والتجريب الطبي.
وخلال حديثه تطرق الأستاذ جمال لمسألة مهمة جدا ترتكز في الجمع بين علم الطب والنبات والفلاحة بشكل نسقي. بمعنى لم يكن هناك فصل في الثقافة الطبية الأندلسية بين الطبيب الممارس للطب و هو نفسه يعمل في بستان يقوم فيه بتجارب نباتية (النموذج الأمثل: ابن وافد الذي كان عنده بستان من الملك بني ذي النون يقوم فيه بالتجارب النباتية و هو طبيب كبير)، و من هنا تكمن نقطة الالتقاء ما بين علم الطب و الفلاحة ضمن رؤية مفهوم الطب الشامل.
تطرق الأستاذ جمال إلى مسألة أخرى و هي الرؤية الشاملة في الثقافة الطبية المغربية الأندلسية. بحيث تجسدت هذه الرؤية في مراعاة البيئة والحماية الاجتماعية والاقتصادية. وقد أعطى أمثلة بسيطة حول قضية البيئة فيرجع إلى ما كُتِب حول البيئة في التراث المغربي الأندلسي، فذكرنا ببعض الأسماء الكبير التي ألفت في هذا الموضوع مثل رسالة ابن هيدور التادلي "المقالة الحكمية في الأمراض الوبائية" و التي فيها يطرح هذا العالم اقتراحات عملية عن تجنب الوباء انطلاقا من فهم البيئة و الماء الملوث، و الغريب في الأمر أن بعض العلوم الطبية المعاصرة نجد فيها استنتاجات ابن هيدور التادلي العلمية ، ثم أيضا "لسان الدين ابن الخطيب" في رسالته "مقنعة السائل عن المرض الهائل"، و الطبيب "ابن خاتمة الأنصاري" من خلال كتابه " تحصيل الغرض القاصد في تفصيل المرض الوافد".
أشار الأستاذ جمال خلال حديثه إلى نقطة مهمة وبالغة الأهمية، وهي أن كثير من الأطباء كان لديهم تكوين عميق في المادة الطبية. ففي البداية كما يرى الأستاذ، لم يكن هناك فصل بين علمي الطب والصيدلة، فأول العلماء الأطباء الفطالحة الذين اتخذوا خطوة عظيمة في هذا الاتجاه، هو العلامة و الطبيب الكبير القيرواني " ابن الجزار" الذي كتب مؤلفات قيمة في هذا المجال منها " زاد المسافر" وكتاب "طب الفقراء و المساكين". فهذا العالم الفذ في نظر الأستاذ المحاضر كان له دور كبير في انتقال المعرفة الطبية من شمال إفريقيا إلى أوربا عبر مدرسة "ساليرنو" و مدرسة "مونبولييه".
ويرى الأستاذ الفاضل أن الفترة التي ظهر فيها فيها "ابن الجزار" كطبيب و عالم متخصص في علم النبات، كان هناك اسم كبير في الضفة المجاورة اسمه "أبو القاسم الزهراوي" مؤسس علم الجراحة، و بناءا على هذا التصور يمكن التأكيد بأن جميع العلماء الأطباء في الغرب الإسلامي و أيضا في المشرق قاموا بالعمل الميداني للخروج بنتائج دقيقة في أبحاثهم العلمية.
جاء في حديث الأستاذ استحضار للطبيب الأندلسي "أبو الخير الاشبيلي" الذي ألف كتابا أسماه "عمد الطبيب في معرفة النبات لكل لبيب" باعتباره نبراسا في مجال العلوم النباتية لينتقل بعدها إلى الحديث عن الطبيب و الوزير "قاسم بن محمد بن إبراهيم الغساني" صاحب كتاب "حديقة الأزهار في شرح ماهية العشب و العقار "، في هذا الكتاب يجزم الأستاذ جمال أن تأثير أبو الخير الاشبيلي عليه من خلال استحضار الطبيب الغساني بعض المعلومات الطبية و النباتية بشكل مشابه لما ذكره أبو الخير في كتابه السابق.
في الختام عرّف الأستاذ جمال بامي جميع الحاضرين على نموذج للكتابة الطبية في المغرب خلال القرن الثامن عشر، كتاب في علم النبات لمؤلف مجهول" تحفة الأحباب في ماهية النبات و الأعشاب". في نظر الأستاذ أن هذا الكِتَاب هو الذي أدرك المنظومة الطبية المنهجية السابقة عليه، و قد كان عند صاحبه هم كبير و هو الحفاظ على هذه المنظومة الطبية بواسطة عملية جرد للنباتات التي كانت في عصره، كما أراد صاحب الكتاب تقريب المادة العلمية الطبية لعامة الشعب المغربي في ذلكم الوقت.
ينتقل الأستاذ قبل الختم على ذكر آخر طبيب مغربي اعتبر بمثابة النقلة النوعية ما بين تاريخ الطب العربي الإسلامي وما بين الطب الحديث، ألا وهو الطبيب المغوار الفذ مولاي عبد السلام العلمي رحمه الله مؤلف كتاب " ضياء النبراس في فهم مفردات الأنطاكي بلغة فاس".
إن وجود هذه الميزة الإيجابية لدي المدرسة الطبية المغربية الأندلسية في نظر الأستاذ د. جمال بامي تكمن في تلكم الاستمرارية في التوكل والاعتماد على التراث العلمي الطبي والنباتي من أجل تطوير المعرفة السابقة وبناء معارف علمية جديدة في مجال العلوم الطبية والنباتية، كما أن هناك نقطة أساسية و مهمة في المدرسة الطبية المغربية الأندلسية تتمثل في نظر الاستاذ في الجمع النسقي الدائم في الطب الأندلسي بين الطب و التغذية.