مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

تقرير عن قراءة في رواية طوق الفقد للدكتورة سعاد الناصر

مايو 20, 2025

نظم مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية بتطوان التابع للرابطة المحمدية للعلماء قراءة في رواية «طوق الفقد» للدكتورة سعاد الناصر، وقدم هذه القراءةَ فضيلة الدكتور محمد إقبال عروي، والدكتورة نُسَيبة الروسي، والدكتورة كريمة رحالي، وذلك يوم الثلاثاء 22 ذي القعدة الموافق لـــ 20 ماي على الساعة الحادية عشرة صباحا بمقر المركز.

قدمت القراءةَ الأولى للرواية الدكتورة كريمة رحالي، حيث ذكرت أنه لمقاربة أي نص روائي لا بد من الوقوف على قراءتين، هما: القراءة التوجيهية والقراءة التحليلية .

 1- أما القراءة التوجيهية: فهي التي تُعنى بعتبات النص الخارجية، أهمها الغلاف والعنوان والاستهلال.

كما ذكرت أن عنصر الغلاف: هو عتبة نصية مهمة له دلالات متعددة موضوعية وجمالية لها علاقة بالمحتوى، فهو يُعد مدخلا للقارئ يعطيه فكرة أولية عن العمل، إذ صارت له فلسفة في وضعه واختياره. وأشارت إلى أن غلاف رواية «طوق الفقد» يحمل مكونات لغوية تمثلت في اسم المؤلفة وعنوان الكتاب وجنسه، بينما المكونات الأيقونية انقسمت إلى ما هو بشري وطبيعي، توزعت في الغلاف بشكل اتخذ منحَى مثلث وضعت في نقطة ارتفاعه امرأة تمضي نحو المجهول، تاركة وراءها أوراقا متساقطة على الأرض مليئة بسطور مرتبكة يتخلل بعضها بياض، واتخذت هذه الأوراق مكان قاعدة المثلث، وعلى جانبيه وضعت أشجار وأغصان توحي بالتشتت وعدم الاعتدال مع سيادة ألوان باهتة يلفها الضباب. وأضافت أن هذا التوزيع الأيقوني البصري مرتبط بأحداث المتن الروائي، يوحي إلى انعزال امرأة لسقوط الذاكرة من دماغها والتقاط بعضها عن طريق فعل الكتابة في صفحات متناثرة كتب عليها سطور تنم عن التوتر والارتباك والانفعال والنسيان، وخاصة أن المواضيع الثلاثة التي كانت بمثابة الخيوط التي حركت بها المؤلفة الأحداث هي النسيان والذاكرة والفقد، وهذه الكلمات الثلاثة تعددت في الرواية، حتى إننا إذا أحصينا عددها نلقاه كبيرا، سواء باستعمالها مصادر أو ما يُشتق منها من أفعال وغيرها «تذكرت، ذاكرة ذكريات.../افتقدت، الفقدان ، الفقد...».

وعن عنصر العنوان: ذكرت الدكتورة رحالي أن له أيضا أهمية كبيرة ووظائف متعددة حددها «جيرار جينيت» في أربعة: وهي الوظيفة التعيينية، والوصفية، والإيحائية، والإغرائية، وذلك لولوج عالم النص واقتحام فضائه السردي. ولقد قام العنوان «طوق الفقد» بكل هذه الوظائف باعتباره مركبا إضافيا تربط بين مكونيه علاقة الإسناد بالإضافة، حيث أسندت كلمة «طوق» إلى كلمة «الفقد»، دالا في شموليته على تطويق الفقد حياة الشخصيات الرئيسة، وخاصة البطلة «أمينة».

أما عن عنصر الاستهلال: فذكرت الدكتورة كريمة رحالي أن الكاتبة افتتحت نصها ببيت شعري لأبي العتاهية وهناك من نسبه إلى الإمام علي رضي الله عنه. وانطلاق الرواية بهذا البيت يكشف عن النفَس الفلسفي للكاتبة، وهذا ما تأكد لنا بعد قراءتها، حيث تغلف الأحداث نظرتها لموقع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه وجوديا بالمجتمع.

فالإنسان وإن كان جزءا من هذا الكون فقد انطوى فيه العالم الأكبر، بل هو عالم لوحده له خصوصياته يعلوها التركيب والتعقيد .

2- القراءة التحليلية: ذكرت الدكتورة رحالي أن أحداث الرواية محورها الرئيس هو المرض، مرض «الزهايمر»، وتركز على تأثيره العقلي والعاطفي والنفسي على المريضة «أمينة» وعلاقتها بابنتها «شيماء» في ظل فقدان الذاكرة، إذ كان حضور الأم بطعم الغياب والفقد قد جعل الابنة تحزن عليها، فمريض الزهايمر يهيم في الفراغ البعيد والشرود والحيرة والتعب، فيصير مسلوب الإرادة وبعيدا كأنه في جزيرة تائها، وهو بُعد وجداني عن المحيطِين به مقارنة بالبعد المادي الذي حصل بين الناس عند انتشار الفيروس، علما بأن الرواية تؤرخ لوباء كرونا. وأضافت أن أحداث النص مطروحة أمام القارئ، مَررت كاتبتها من خلالها رسائل وحكما قوية وقفت عندها بعناية، فهي تعكس ثقافتها الواسعة التي تُعد أحد شروط الروائي الحديث الذي ينمي بها مهارات القارئ ويجعله يسمو بذائقته وقراءته واستيعابه للمتن الروائي، وبهذا نقول: إن الكاتبة نجحت في جعل عملها أداة معرفة ونقد للمتلقي يجندها لخوض غمار أحداثها واستجلاء مخبوءاتها ودلالاتها المشحونة في أثنائها.

كما ذكرت الدكتورة رحالي أن المؤلفة أثارت جدليات كثيرة شكلت صراعا لدى الإنسان في علاقته بالوجود؛ مثل جدلية الحياة والموت، بطرحها أسئلة وجودية متبحرة في فلسفة الموت، مميزة بين الموت الحقيقي الذي تنقضي فيه حياة الإنسان وينتهي أجله، والموت غير الحقيقي، وهو موت الذاكرة في جسم حي، مستخلصة أن كل نفس ذائقة الموت، ولكن ليست كل الأنفس ذائقة الحياة .

هذا فضلا عن تطرقها إلى فلسفة الحب منبهة إلى مَسَاوِي الفراغ العاطفي الذي أسقط شيماء في حب صديق أبيها الذي يكبرها سنا هاربة من قسوة الأب، ومحذرة من مخاطر صدمة المشاعر التي كانت أحد عوامل إصابة الأم أمينة بمرض الزهايمر لما اكتشفت أن مشاعر الحب تجاه زوجها عبد الغفار كانت أحادية الجانب، فانتقلت هذه المشاعر من الحلم إلى الإحباط فالانتكاسة، حيث تكسرت نفسيتها بتكسر تطلعاتها وتبخر أحلامها، وعاشت بأحاسيسها داخل نفق ضيق مسدود، وفي هذا الإطار ناقشت جدلية العقل والقلب بحثا عن أدوارهما، مستأنسة بالدراسات الحديثة التي تعطي للقلب مهمة إصدار القرارات والتحكم في العقل، مشيرة إلى أن الدماغ له وظائف غامضة عجز العلماء عن سبر أغواره.

كما أشارت أيضا إلى أن مَرَدَّ إثارة الروائية لكل هذه الجدليات هو الغوص في القضايا الأساسية للمتن، وهي كما سلف الذكر: النسيان، والذاكرة، والفقد، وهي قضايا تتشابك وتترابط داخل المتن. وتقول في النسيان مستشعرة خطورته: «النسيان هو نسيان أنك تنسى»، باعتبار الزهايمر أسوأ من الموت، واصفة إياه بالقاتل المتسلسل للذاكرة، وبين النسيان والذاكرة توجد أزمة الفقد، فقد الأحباء وصدمات فقدهم على التوالي، انتهت بفقد أعظم هو فقد الذكريات والذاكرة لكونه الحدث المباشر داخل المتن، وفقد بعض المعالم الحضارية والحنين لبعض الخصوصيات الثقافية المحلية للكاتبة باعتباره الحدث غير المباشر الذي حرك مخيلتها لإنجاز هذا العمل الروائي .

وبما أن المثقف الحقيقي هو الذي يحمل هموم المجتمع فالكاتبة بينت من خلال توظيفها لفعل الكتابة داخل الكتابة، أي كتابتها لهذه الرواية وكتابة الشخصية الأم لذكرياتها بتحفيز من ابنتها كخطوة أولى لعلاج أمها، لأن أمينة قبل فقدان ذاكرتها كانت تعشق مكتبَتها وكُتبها .

وداخل فعل الكتابتين نجد لفتا لانتباهنا إلى قضية الكتابة في زمننا الحديث، بحيث صار الكاتب الحقيقي يهابُ الكتابة خشية السقوط في فخ متطلبات السوق وسياساته التي لا تعترف بالقيم بانتشار موضوعات تافهة ومثيرة وكاشفة لعورات الناس، مما لا يحفز على الانخراط في هذا المشهد في غياب الاهتمام بقضايا فكرية جادة وهادفة .

وأشارت الدكتورة رحالي إلى أن الكاتبة مدتنا بحقائق تاريخية وجوانب أنثروبولوجية لمدينة تطوان، وطنها الصغير داخل الوطن الكبير، وذلك في نمط سردي متداخل تعددت فيه الأزمنة بين الزمن النحوي (الماضي و المضارع ...)، وزمن الانتظار (انتظار شيماء استعادة أمها لذاكرتها)، والزمن النفسي ( تتبع الهواجس النفسية للشخصيتين الرئيستين «أمينة و شيماء»)، وفي قالب حكائي مبني على الخيال واللغة المجازية والاستعارية والأسلوب التصويري الدقيق الذي عكس تمكنها من أداة الوصف سمحت لنا -نحن القراء- من خلاله بتصور الرواية على شكل لقطات ومشاهد، نتصورها في مخيلتنا متيقنين من نجاح نقلها من الورق إلى عدسات الكاميرات السينمائية والتلفزية، وخاصة عند تصوير رحيل الأم المفجع وضياعها في شوارع تطوان وصدمتها يوم زفافها...، وتقربنا إلى حضارة تطوان في كل مناسبة تستدعي ذلك وتتوسع في نقلها مُدَلِّلَةً برمزية مدينتها اسما ومعنى وأماكنِها التاريخية (سيدي طلحة، مياه السكوندو المتصلة ببيوتها ومساجدها...)، وأنهارها (المحنش والكيتان..)، ومنابعها (بوعنان ، الزرقة..)، وعاداتها في أعراسها وطبخها وطريقة بناء منازلها وتأثيث بيوتها، علاوة على روايتها لبعض التحولات التجارية والزراعية والصناعية التي شهدتها المدينة، من مدينة كانت تعرف نهضة اقتصادية إلى فضاء للتهريب، مع تحسرها على اختفاء بعض معالمها كسقاية باب العقلة ومكتبة الناصر بدار الطير، وكاشفة لحقيقة دار بريشة التي كانت مأوى للمعتقلين وفضاء لتعذيبهم، وكذا تركيزها على بعض الشخصيات النسائية المقاومة للاستعمار، على رأسها السيدة الحرة.

كما أشارت الدكتورة كريمة رحالي إلى أن موسوعية الكاتبة سعاد الناصر أغدقت على النص استشهادات ونقولا لأعلام عالميين في الفن والأدب والفلسفة والتاريخ والسياسة وغيرهم، مثل غاندي، والكاتبة الأمريكية ليزا جينوفا، وأوسكار وايلد، ورولان بارت، وشعر محمد بن زاكور الفاسي، واستحضار الأسطورة بينولوبي أوديسيوس...

وخلصت إلى أن هذا النص الروائي ترك أثرا وبصمة جعلنا نقول: إنه رواية حديثة بامتياز، شملت السمات الفنية الجديدة لهذا الجنس الأدبيّ، وهي إضافة نوعية للرواية المغربية والعربية، وهذا الأثر سيكون له وقع على الخزانة المعرفية للمتلقي عندما زودته برسائل وحكم كانت تمررها الكاتبة بشكل غير مباشر تزامنا مع الحدث، ولعل القارئ الذي يحمل الوعي الشقي داخل واقعنا الإنساني الجديد ومجتمعاتنا الحديثة سيتفق معها، خاصة عندما كانت تنصحنا بالمحافظة على الثقافة باعتبارها ذاكرة حية والتاريخ جزء منها، وعندما نبهتنا إلى ضرورة تسجيل التاريخ الحقيقي بسلبياته وإيجابياته، وإلى وجوب الإبداع من أجل الإبداع ذاته، وليس لنصرة جهة معينة مغيّرين في ذلك مواقفنا ومبادئنا بتغير جهات المصلحة، وعندما وجهتنا نحو الاستفادة من اللحظة واقتناصها لعيشها وعدم تأجيل مشاريعنا وقراراتنا ومشاعرنا والاجتهاد في العطاء، كالسعي إلى الأخذ لخلق توازن عاطفي في علاقاتنا بأحبائنا قبل فوات الأوان؛ لأن فقدهم يُؤَلِّب الزمن ضدنا ويقلب علينا المواجع لعدم إعطائهم حقهم في حياتهم حيث لا ينفع الاستدراك، ولتفادي الصدمات ترشدنا إلى اعتبار الإنسان علبة سوداء يخفي بداخله الجانب المظلم، مؤكدة ضرورة سير العلاقات في النور ليكون مصيرها النجاح.

أما القراءة الثانية للرواية فقد قدَّمتها الدكتورة نُسَيبة الروسي، ذكرت في بدايتها أنها ستشير فيها إلى بعض مكوناتها السردية والجمالية والدلالية. كما أشارت إلى أن الرواية مَعين خِصب غني بالمعاني تصعب الإحاطة في مقال واحد بكل ما فيه. واستهلت كلمتها بحديثها عن العنوان ودلالاته: «طوق الفقد»، فذكرت أن الطوق هنا استعارة بلاغية عميقة: فالطوق يوحي بشيء محيطٍ بغيرهِ، مستديرٍ عليه استدارة كاملة، فلا فكاك منه ولا هروب. فالعنوان هنا مدخل إلى الروايةِ يرمز إلى حالة شعورية تقيد شخصية الرواية الرئيسة وتحيط بها. فالشخصية تشعر بالحزن والغياب والانكسار والفراغ الداخلي وكل ذلك يجعلها تختبر شعور الفقد لا كحدث عابر، بل كوجود دائم رازخ بثقله على كل لحظة من لحظات حياتها.

وطوق الفقد - وهنا أقصد الرواية - هي تجربة أدبية فريدة على لسان شخصيتين: الأم أمينة وابنتها شيماء. والسرد في الرواية بضمير المتكلم (first-person) مع التناوب بين شخصيتين، واختيار نمط السرد هذا يمنح القارئ وصولا عميقا إلى أفكار الراويتين ومشاعرهما، فيضفي بذلك عمقا سرديا على الرواية وتباينا في الرؤية يزيد الكاتب إلماما بالمقصود، وتدعوه إلى موازنة موقفين، والتأمل في حياتين، والتعاطف مع كلا الطرفين. وهذه الاستراتيجية السردية فعالة جدا عندما يكون الموضوع المتناوَلُ صراعا (أو حوارا) بين الأجيال، وسبرا للذاكرة وتأويلا للماضي واستشرافا للمستقبل، وكذلك عندما يمس الموضوع مسألة الهوية أو فقد الهوية، وكل هذه مواضيع اهتمت بها هذه الرواية.

كما أضافت أن المعروف على هذا النمط من السرد أن القارئ لا يعرف فيه سوى ما يعرفه الراوي، ولعل تلك كانت هي الحكمة في اختيار هذا النمط من السرد في الرواية، فيعيش القارئ تجربة المرض (الزهايمر) والفقد (وهذا المرض فقد في ذاته) من منظورين مختلفين: منظور المريض ومنظور القائم على العناية به. ونمط السرد هذا يضع القارئ في موضع الشخصية الرئيسية كذلك، ويضعه «داخل» الأحداث. ولذلك فهذا النمط من السرد أيضا يطبع عادة الكتابات التأملية الذي ترجو أن تسبُر أغوار النفس ومتاهاتها. و«طوق الفقد» روايةٌ تغوص في أعماق نفوس الشخصيات لتكتشف ثيمات الفقد بتجلياته:

- فقد القريب (فقد الابنة لأمها، والأم لزوجها، والابنة لأبيها… سواء كان سبب ذلك الموت أو الهِجران).

- فقد المكان (وذلك في فقد البيت والأمكنة المعتاد عليها).

- وفقد المعنى (وذلك حين يَضْطَرُّ الفقدُ الإنسانَ إلى التأمل في معنى الحياة ويختبر إيمانه).

- وفقد الذات (بسبب النسيان الذي يتيه فيه الإنسان عن نفسه قبل أن يَتِيهَ عمن حوله).

وفي هذا المقام أضافت الدكتورة أن اختيارات الدكتورة الروائية تبين لنا كيف أن طوق الفقد واسعٌ لا يشمل فقد الأحبة فقط، واختيارها لمنظور السرد بضمير المتكلم له أهمية بالغة في الرواية، فهو لا يقرب الشخصيات من القارئ فحسب ويسهل التماهي معها والدخول في عالمها، بل يضفي كذلك على الرواية كثيرا من التشويق، لأنه يساعد على التحكم في تدفق المعلومات، فلا يعطى القارئ من المعلومات إلا ما يزيد شوقه إلى قراءة المزيد، ويُغَذِّي فضوله إلى معرفة ما ستؤول إليه الأحداث. واختيار الأستاذة الفاضلة لهذا النمط من السرد في روايتها اختيار ذكي لأسباب عديدة، أهمها أنه نمط لا يتمكن معه القارئ من استيقان الحقيقة، ولهذا فقد خدم هذا النمط من السرد الرواية، فنرى كيف أن نفس الأحداث تذكرها شيماء وأمها فلا ندري أيّهما أصدق في روايتها للأحداث، فكلا الراويتين «غير موثوقةٍ» unreliable narrator))، ولكن ذلك هو المقصود. فالهدف من الرواية هو أن يضع القارئ نفسه موضع كل من الراويتين، فيفهم معضلتهما، وتقلباتهما النفسية، وعلاقتهما ببعضهما، ومشاعر الفقد كما أحستا بهما. وبذلك فإن تعدد الأصوات هذا وما يقدمه من وجهات نظر متناقضة أو متماثلة مهم في الرواية، فهو يمكن القارئ من فهم الشخصيتين أكثر، وتكوين فهمه الخاص للأحداث، والتعاطف معهما، وفهم ضعفهما ومخاوفهما وهمومهما ورغباتهما ونظرتهما إلى الحياة وتطلعاتهما إلى المستقبل. فيجد القارئ نفسه متأملا في علاقة الأم بابنتها، ثم بمريض الزهايمر بالقائم على رعايته. وتُفهم عبر تجربتهما التجاربُ المشابهة، وهذا أحد أهم أغراض الأدب.

كما ذكرت الدكتورة نُسَيبة الروسي أن في الرواية مشاهد استرجاع كثيرة (flashbacks) تستدعي فيها الراوية لحظات من طفولتها وشبابها الأول، وتغوص فيها في ذكرياتها وعلاقتها بوالدتها وجدتها ومربيتها وزوجها والمقربين منها، فيزيد فهم القارئ لتركيبة الشخصية وخلفياتها. وتتخلل الرواية كذلك تأملات وِجدانية، فشيماء تسعى إلى فهم مشاعر الفقد وتقبل المصاب الذي ألّم بها، وأمينة تهيم في دهاليز نفسها محاولة فهم ما طرأ عليها من تغير وتبدّل، ويظهر في تأملاتها عجزها عن فهم مرضها بداية ثم خوفها منه نهاية، وتنقطع أفكارها عن الظهور في الرواية حين يشتد عليها المرض، فنفهم أنها لم تعد تعي واقعها، وأن ذلك اضطر شيماء ابنتها إلى الأخذ بزمام السرد. وفي هذا السرد عرض نادر في الرواية للعالم الداخلي لمريض الزهايمر، تسجل فيه الكاتبة على لسان الشخصية خوفها وحيرتها وقلقها وفقدانها لوعيها بنفسها وعالمها الخارجي، ثم تعطينا الرواية فرصة لنرى كيف يبدو كل ذلك للمحيطين بالمريض العاجزين عن الوصول «إلى عالمه الداخلي» كأن جدارا يفصلهم عنه كما تعبر عن ذلك الكاتبة على لسان شيماء. ولا أعرف رواية ذات موضوع مشابه سوى رواية Still Alice للكاتبة الأمريكية وعالمة الأعصاب Lisa Genova. فالقارئ للرواية لا يقرأ نصا أدبيا فحسب، بل ينغمس في تجربة عاطفية، وروحية، وإنسانية.

ثم تطرقت الدكتورة نُسَيبة إلى الزمن في الرواية فذكرت أنه ليس خطيا، بل هو دائري أو استعادي (retroactive) تحكمه الذاكرة لا التسلسل الزمني للأحداث. وفي الصفحة رقم 120 نقرأ تجسيدا نصيا لهذه الفكرة:

«كتبت في إحدى المرات التي كانت فيها لا تزال تملك الوعي بذهنها: «الذاكرة ليست هي الماضي كما يخيل إلينا، إنها الحاضر دوما، يسعى لمعانقة الأفق المتحرر من الزمان، دورة متجددة بالحياة يعيشها الإنسان كما تعيشها عناصر الطبيعة. الذاكرة تحفظ وجودنا الهش والخاطف من الضياع والفناء، فهل أستطيع الحفاظ على ذاكرتي؟»

كما أن الكاتبة تسعى عبر استخدام تقنية الاسترجاع إلى الربط بين لحظات الحاضر والطفولة، وتوظيف الكتابة وسيلةً للشفاء ومواجهة الغياب والفقد، فتقول على لسان شيماء:

«الرعب يتملكني أحيانا حين أصل بتفكيري إلى أنني قد أدخل يوما في متاهات النسيان (...) ولعل اللجوء إلى الكتابة مثلك يعينني على مجابهة هذا الرعب» (ص 66).

وتستشهد الدكتورة سعاد الناصر بمقولة تنسب لفيرجينيا وولف تقول فيها: «لا حدث يحدث بالفعل إذا لم يدون»(ص 289).

(Nothing has really happened unless it's been described [in words].)

وترجمة المقولة حرفيا هو أنه: «لا شيء قد حدث فعلا إلى أن يوصف». ولعل هذه الترجمة تعرفنا أكثر بأهمية الرواية، فلا يكفي التدوين، بل لا بد من الوصف. وذلك ما جعلته الدكتورة سعاد الناصر ممكنا في روايتها، بحث تصف أمينة تفصل مرضها وما يتبادر إلى ذهنها من أفكار بدقة منذ علمها بها إلى حين عجزها عن الوصف والتدوين.

وأضافت: وقد ذكرني وصف الكاتبة لركن أمينة الذي كانت تجلس فيه للكتابة والتدوين بكتاب لفيرجينيا وولف نفسها: A Room of One's Own أو مما ترجم: (غرفة تخص المرء وحده)، وهو كتاب تدافع فيه عن حاجة المرأة إلى «غرفة مستقلة» أو مساحة خاصة لكي يمكن لها أن تكتب وتبدع، وترى أن حرمان المرأة من ذلك -تاريخيا- هو ما حرمها التميز في ميدان الأدب. والدكتورة سعاد الناصر تمنح إحدى شخصيتي روايتها الرئيسة «أمينة» ما يشبه تلك «الغرفة الرمزية»، حيث تتحول الكتابة إلى ملاذ وعزاء ومساحة لاستعادة الصوت، ومواجهة الخسارة والفقد، وبعد وفاة أمينة ستجلس ابنتها شيماء في ذات الركن لتكمل ما بدأته أمها.

وذكرت أيضا أنها قد لاحظت في رواية الدكتورة سعاد أنها توظف الذاكرة كذلك بوصفها شكلا من أشكال الزمن، فهي، مثل فيرجينيا وولف، تلعب في أعمالها على زمن الذات لا زمن الواقع، حيث تشكل الذاكرة نسيجا سرديا غير خطي a non-linear narrative structure))، يتداخل فيه الماضي والحاضر. كما أن أسلوب الدكتورة يشبه أسلوب وولف، فسردها يشبه ما يعرف بـ«تدفق الوعي» (stream of consciousness) الذي اشتهرت به وولف، حيث تنتقل البطلة من لحظة إلى أخرى بحرية شعورية دون الخضوع لقيود التسلسل الزمني. وأسلوب «تدفق الوعي» كما يمكن ملاحظة ذلك في الرواية يتميز بعدم اتباع التسلسل الزمني التقليدي في السرد، حيث لا تُروى الأحداث من البداية إلى النهاية بشكل متتابع، بل تتداخل الأزمنة والمشاعر والذكريات بطريقة غير خطية. كما يُقدَّم السرد بأسلوب داخلي ذاتي، حيث يتم عرض الأفكار من داخل عقل الشخصية مباشرةً، دون تدخل الراوي التقليدي. وهذا الأسلوب يحاكي الفكر الخام والعفوي، فتظهر الجمل أحيانا طويلة، أو متداخلة، أو متقطعة، لأنه يحاكي ما يجري في ذهن الشخصية، ويجعلها أقرب للقارئ، ولذلك نجد في الرواية على لسان أمينة:

«لا أدري لم الكلمة تهرب مني، غريب… لحظة، ها هي، إنها على طرف لساني، لكني عاجزة عن تذكرها، انتظري إنها… لا لا لقد غابت عني…» (ص 71).

فباختيارها لهذا الأسلوب الأدبي ولجت بنا الكاتبة إلى العالم الداخلي للشخصية. وبما أنها مريضة الزهايمر فكان ولوج القارئ إلى عالمها الداخلي مهما، فهو يتيح له تجربة الحياة الذهنية والعاطفية للشخصية بشكل أكثر وضوحًا وصدقًا، مما يمنحه فهما أعمق للشخصية، ويزيده اتصالا عاطفيا بها. كما أن هذا الأسلوب يعكس تعقيد الوعي الإنساني وسلاسته بشكل أفضل من السرد الخطي التقليدي، مما يوفر تصويرًا أكثر ثراءً وتفصيلا للواقع النفسي للشخصية، فهو أسلوب يركز أكثر على النفس الداخلية للشخصية بدلًا من سرد الأحداث الخارجية فقط، إذ يكون الهدف منه هو كشف الحياة النفسية العميقة للشخصية، وتقديم تجربة ذهنية وحسية متكاملة للقارئ.

كما أفادت الدكتورة نسيبة الروسي أن الدكتورة سعاد الناصر تكتب في هذه الرواية عن امرأة تواجه الفقد بأنواعه، فالموت فقد، ورحيل الأحبة فقد، والنسيان فقد، وخسارة الهوية بسبب المرض فقد، وقمع مواهبها وإقصاؤها من أقرب الناس إليها فقد. ولعل هذا ما جعل الكاتبة تستحضر مقولة فرجينيا وولف، فَوولف كانت تكتب من موقع احتجاجي ناعم، ولكن صارمٍ ضد إقصاء النساء من الكتابة ومن التاريخ، والدكتورة سعاد حولت الكتابة في روايتها إلى فعل مقاومة: مقاومة للفقد، وللنسيان وللغياب، فأصبح مع ذلك الكتابة فعلا احتجاجيا ولو كان الغرض منه شخصيا.

وفي كتابها A Room's of One's Own تناقش وولف معيقات النساء عن الكتابة، وغيابهن عن الساحة الأدبية. وفي طوق الفقد لا نقرأ عن قصة امرأة فقط، بل نقرأ «من خلالها»، فالمرأة في رواية الدكتورة سعاد الناصر ليست موضوعا للنظر object of the gaze))، بل هي «ذات ناظرة» (a perceiving object) وهي الراوية وصاحبة الوعي. ففي كثير من الأعمال الأدبية التقليدية -خصوصا المغربية منها- تقدم المرأة بوصفها «الآخر» the other))، و«المحبوبة» the beloved))، و«الضحية» the victim))، أو «الملهمة» the muse))، فلا تكاد تخرج المرأة عن هذه الصور (الأركيتايبية) أو الرمزية (archetypes) التي تجسد الوظيفة الرمزية التي تؤديها المرأة داخل النص، دون أن يكون لها صوت سردي (a narrative voice) خاص بها، فالقارئ يراها من خلال عيون الآخرين. أما في طوق الفقد فهذه المرأة التطوانية التي تكتب عن معاناتها مع اليتم، وظلم الزوج والعادات المجتمعية المسيئة للمرأة، والإقصاء، والهجر، والفقد، والدراسة والعمل، والموت والحياة هي «الراوية» the narrator))، فهي التي تكتب، وتتأمل، وتعيد صياغة العالم من وجهة نظرها الخاصة، فهي ليست موضوعا للحكي (subjet of narration)، بل مصدرا للحكي a source of it))، فالمرأة في «طوق الفقد» تمارس سلطة السرد narrative authority))، وتكتب عن ذاتها (من الداخل) writing herself from the inside))، باعتبارها كيانا مستقلا autonomous being))، لا مجرد مرآة لما حولها. فأمينة تكتب انطلاقا من تجربتها الخاصة، بأدواتها، ولغتها، وإحساسها بالزمن والذات. والتفاصيل التي تذكرها عن حياتها ليست ثانوية، بل هي جوهر الرواية. ففي طوق الفقد تتحقق رؤية فرجينيا وولف، والنتيجة صوت ناضج يكتب عن نفسه وعن علاقته بالعالم والذاكرة لا بوصفه موضوعا للرغبة أو الشفقة أو التأمل الخارجي، بل بوصفه ذاتا راوية، كاتبة، وواعية a conscious subject)). أي بمعنى آخر: ذاتا أدبية كاملة (a complete literary self).

وختمت الدكتورة نسيبة الروسي كلمتها بأن لغة الدكتورة سعاد الناصر ذات طابع تأملي شعري عميق، إذ ليست للأحداث الأهمية القصوى، بل للوعي بها. والزهايمر معركة ضد الوعي بالأشياء، وإثبات الوجود، والتشبت بالماضي في ظل حاضر يتفلت عنوة من صاحبه. وقد أبدعت الكاتبة في توظيف عناصر الرواية لتجسيد هذه المعاناة، وقدمت للقارئ عملا تنبض فيه الشخصيات بالحياة لتقول: أنا موجودة، وأنا أتذكر، وأنا أروي.

وأما القراءة الثالثة للكتاب فقدمها الدكتور محمد إقبال عروي، فذكر أن مداخلته ستسير في اتجاهين، الأول: المدخل، والثاني: محاولة اكتشاف تجليات هذا الطوق المتمثل في الفقد ومحاولات الخروج من هذا الطوق سواء على مستوى الشخصيات أو على مستوى الأحداث أو على مستوى الأساليب.

فبدأ بالمدخل الأول، حيث استهله بأنَّ هناك قاعدة وعرفا نقديا مفاده أن غنى النص هو من غنى المداخل التي يمكن أن ندخل من خلالها إلى ذلك النص، ونص «طوق الفقد» يتوفر على هذه الإيجابية؛ فهو يوضح لنا كيف يمكننا أن نلج عالم هذا النص من مداخل متعددة، المدخل الأول هو المدخل الأجناسي، متسائلا في ذلك عن الإطار التجنيسي الذي يمكن أن نؤطر به هذا العمل، وأشار إلى أنها في إطار التعاقد الاجتماعي مع القارئ رواية، فالحضور الشعري في هذه الرواية حضور لافت كما أسمته الدكتورة نسيبة الروسي بقضية التدفق، وهذا يكشف حقيقة جوهرية تكشفها المبدعة، هذا التنازع بين الشعري والروائي في تجربتها.

أما المدخل الثاني الذي تطرق إليه الدكتور عروي هو مدخل المقاربة الأدبية للظواهر النفسية، فذكر أنه في فترة من الفترات ضعف هذا الحقل في الدراسات العربية نتيجة الافتتان بالمناهج الحديثة، فتراجع هذا المسار النقدي، وعلينا أن نبحث في الأعمال الأدبية وعلاقتها بالظواهر النفسية، وفي هذا السياق أشار إلى أن رواية طوق الفقد رائدة، لأنها اهتمت بموضوع نفسي بامتياز، كما أشار في الآن ذاته إلى أن هذا العمل يمكن أن يتحول إلى عمل درامي بالنظر إلى الإبقاء والاحتفاظ بالنصوص واللحظات والسرد المرتبط بالمرض، أما إذا انضافت إليه قضايا أخرى يصعب على المخرج السينمائي أن يُخْرج من هذه الرواية سيناريو يقبل أن يتحول إلى فيلم روائي.

ثم تحدث الدكتور محمد عروي عن المدخل القيمي كالغفران والتسامح، فذكر أنه مدخل بارز، ولكن تحفه مكاره، فلا يمكن للرواية أن تقدم معطى ثوريا تجديديا تغييريا للتراكمات السلبية [العلاقة بين الزوج وزوجته] التي تصل أحيانا إلى حد الجفاف ، وتصل أحيانا كما يسميه الدكتور حد الطلاق النفسي. كما أشار إلى أن هذه المداخل المتعددة تعطي حقيقة أن النص غني يحتاج إلى قراءات متعددة.

ثم انتقل للحديث عن المدخل الثالث، وهو المدخل البلاغي الذي حاول فيه تقديم بعض اللقطات، فقد تحدث عن ظاهرة بلاغية معروفة هي ظاهرة المقابلة في هذه الرواية، والمقصود بالمقابلة هو أننا يمكن أن نستصحب العطاء البلاغي العربي القديم في نظرته للطباق والمقابلة لكن مع الاستدراك؛ لأن المقابلة في هذه الرواية ليست مقابلة لغوية، فلا تنظر إلى المقابلة على أنها وضع لغوي، ولا تنظر إلى المقابلة على أنها عدد مقابل عدد بالشكل الكمي الذي رأته البلاغة في عهود عدم إنتاجيتها، وإنما المقصود بالمقابلة مقابلة تصورية وسياقية ترتبط بفكر الساردة ورؤيتها إلى الوجود، بحيث إنها تستطيع أن تقتني من واقع الأشياء ما هو في أصله غير متقابل، لكنها في النص الروائي تنسجه في سياق تقابلي فتكون المقابلة من إنتاج الروائية وليس من إنتاج الوضع اللغوي. وهذه المقابلة تتخذ أشكالا كثيرة لكنها كلها تؤول إلى «طوق الفقد»، هذا العنوان الذي تكرر كثيرا في الرواية، تارة مركبا تركيبا إضافيا، وتارة مفردا إما «طوق» وإما «فقد». وأضاف أن طوق الفقد هو في الحقيقة أطواق كثيرة، وقد مثل الدكتور عروي لذلك من الرواية، ثم أتى على بعض الأساليب التي تتمثل فيها هذه المقابلة بين تلك الأطواق وما نتج عنها من مآلات، فمثل لذلك بالتشبيه وعرض نصوصا من الرواية في هذا الشأن مفادها أن هناك تشبيها في ظاهره لكنه يخدم البرنامج السردي العام للرواية، إذ فيه تقابلات؛ مثل الموت الذي هو نقيض الحب، وفيه أن الطير إذا لم يَقْتَتْ بالحَبِّ سيموت، وفيه كذلك أن الشجر إذا لم يُسْقَ بالماء يموت، فهذه التقابلات تبدو ظاهريا تقابلات تشبيهية، ولكنها تخدم هذا البرنامج السردي، وذكر أيضا أن الأمر لا يقتصر على التشبيه، فهناك استعارة في نصوص الرواية سرد لها بعض النصوص. بالإضافة إلى نصوص من الكناية ذكرها كذلك. وخلص من هذه الأمثلة التي ذكرها من الرواية إلى أن الساردة تحكمت في هذا البرنامج السردي وكانت تستحضر أي عنصر من العناصر لخدمة الصورة العامة.

ثم ذكر أن تلك الأطواق المذكورة في الرواية جُلها كانت تبحث عن الحريات، فشخصية «أمينة» حاولت أن تتخلص من هذه الأطواق عبر الكتابة، وشخصية شيماء في لحظة من اللحظات كانت تتوهم بأن خروجها من طوق الوالد غير المُبالي هي أن تحب، وتوهمت بأن الحب سيشكل لها خلاصا من ذلك الطوق حيث عاشت المرارة في هذه النقطة بالضبط؛ لأن والدتها القريبة إلى قلبها كانت تحذرها من شخصية «عزيز».

وفي هذا المقام تساءل الدكتور عروي: هل تَحَررها من «عزيز» نتيجة وعي دقيق وإرادي أم هو نتيجة قيود أخلاقية وتربوية فرضتها عليها الوالدة؟ وخلص إلى أنه في كثير من الأحيان تذهب مع الشخصيات متوهما أنها ستتحرر، لكنها في العمق تجد أنها تزداد طوقا إلى طوق، وحتى القارئ يعتقد أنه أمسك بالمعنى العميق للرواية، فإذا به أحيانا يجد أن المعنى يتحلل من بين يديه كما تتحلل الذاكرة لدى شخصية أمينة في الرواية، فيضطر إلى أن يقرأها من جديد.

وخُتمت هذه القراءة بمداخلة للدكتورة سعاد الناصر التي مهدت فيها ببيان أن السرد أو الأدب بصفة عامة مولد للتأويل، ولعل ما سمعناه مجموعة من التأويلات لهاته الرواية من وجهات نظر مختلفة ومتعددة، من الأستاذة «كريمة رحالي» التي ركزت على العتبات النصية، خاصة العنوان، إلى الدكتورة نُسيبة الروسي، إلى الأستاذ الدكتور محمد إقبال عروي، وبدأت فضيلة الدكتورة سعاد الناصر ورقتها بالحديث عن العنوان، فذكرت أنها تَنْحت عناوينها في كل إبداع بدقة وبحميمية لإثارة القارئ وجذبه بمثل هذه العناوين، لأن العتبات النصية عامل جذب للقارئ، وأشارت المؤلفة إلى أن موضوع «طوق الفقد» يعبر في اعتقادها عن موضوع إنساني بالغ الحساسية وبالغ الأهمية يتمثل في مرض «الزهايمر» وتحديدا ما يترتب عنه من معاناة نفسية واجتماعية، ليس للمصاب به فقط، وإنما للمحيطين به، كل الأسرة وكل العائلة أحيانا تعاني من هذا المرض من جوانب كثيرة.

وذكرت أيضا أن هذه الحكاية تسرد عن شخصية تنكسر ذاتها وتبدأ رحلة الانسحاب التدريجي من الحياة، وفي هذا السياق عبرت عن إعجابها بما توصلت إليه الدكتورة كريمة رحالي من عدم تأجيل المشاعر الإنسانية التي أصبحت فارغة من محتواها في مجتمعاتنا المعاصرة ومجتمعاتنا الإسلامية بصفة خاصة التي ينبغي أن تحوطها القيم الإنسانية التي تتفرع عنها المحبة والتسامح والتضحية والعناية والاهتمام، وإبداء المشاعر، ولعل هذا ما سقطت فيه أمينة، وهنا أجابت الدكتورة سعاد الناصر على الدكتور محمد إقبال الذي قال: لعل أمينة سجلت استسلامها في وجه ما عاشته وما ناضلت من أجله، قالت: لو أن أمينة بادلت عبد الغفار مشاعر المحبة وأفهمته وجعلته يشعر بحبها لتغير الوضع، كما أرادت المؤلفة أن تبلغ رسالة للقارئ.

وذكرت أن المرأة يجب أن تكون مبادرة أحيانا، وأن مرض الزهايمر لا يسرق الإنسان من جسده ومن عقله وحسبُ، بل ينهب روحه وذاكرته، لأن أمينة حين تحاول أن تركز أو تتذكر اللحظات الجميلة التي عاشتها في تطوان فإنها تريد أن تذكر الآخرين.

وقد أشارت أيضا إلى أن الزهايمر ليس مرضا عضويا، فقد تحدثت عن فقدان الذاكرة الوجداني الذي يصيب العلاقات الإنسانية، حين تتآكل الروابط وتتلاشى المعاني، وذكرت أن الفقد هو جوهر التجربة الإنسانية في هاته الرواية التي تعيشها الشخصيات سواء كان الفقدان ماديا، الأمان، التضحية... أم غير مادي، كأن الفقد دائرة مغلقة تحاصر الإنسان المعاصر، والإنسان المسلم بالدرجة الأولى.

كما وقفت عند تساؤلات المتدخلين، ومنها سؤال الكتابة، لماذا نكتب ولمن نكتب؟ وهل الكتابة تحرر من الطوق أو مزيد من الطوق؟ والحقيقة أن التناوب على الحكي في الرواية تارة شيماء وتارة أخرى الوالدة ثم خَتْمُ الحكيِ بشيماء، هذا التناوب كأنه الملاك من مواجهة الخيبات التي تعيشها الشخصيات على المستوى الشخصي أو المستوى الجمعي، ومحاولة قهرها والانتصار على هاته الخيبات، وخلخلة بعض الثوابت الاجتماعية التي أصبحنا نؤمن بها؛ وإعادة النظر في بعض يقينيات ثقافتنا العربية، أرادت من خلال سؤال الكتابة أن تجيب عنها.

وختمت الدكتورة سعاد الناصر مداخلتها بأنه يصعب على المرء أن يكون قارئا لإبداعه وإنتاجه، لأنه سيسقط في محاولة توضيح أمور لا ينبغي توضيحها، وإنما يجب أن تترك للقارئ أن يؤول العمل الأدبي من وجهة نظره الخاصة، وذكرت أن الرواية العربية بصفة عامة لها مستويات من التلقي؛ هناك القارئ العادي الذي يتوصل إلى ظواهر الأشياء، والقارئ المتصفح الذي يريد أن يتعمق في المعاني والدلالات الثَّاوِيَةِ في كل فكرة من أفكار الرواية، وأشارت الدكتورة إلى أنها تتوقف على كل لفظ من ألفاظ العمل الروائي.

وقد أعقبت هذه القراءات مناقشات علمية شارك فيها مجموعة من الأساتيذ والطلبة والباحثين الذين حضروا هذا اللقاء العلمي، ثم كانت الكلمة الختامية للدكتورة سعاد الناصر عمَّا شمل هذه الرواية من غموض أثار تقديم بعض الأسئلة وفك بعض المبهمات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق