تلقى الباحثون والمهتمون صدور هذه المجلة قبل سنتين من الآن بترحاب كبير داخل المغرب وخارجه، وما إن صدر العددان الأول والثاني، حتى أصبح السؤال ملحا عن موعد صدور العدد الثالث الذي إن تأخر صدوره، فإن لذلك ما يُسوّغه من الدواعي، التي عادة ما تصادف القائمين على المجلات العلمية المحكمة ، فصدور مجلة علمية محكمة وفية لأهدافها، صادقة في شروطها؛ ليس أمرا هينا بل يتطلب جهودا مضنية في التواصل مع الباحثين، ومراسلة الأساتذة المحكمين، والدقة في تصحيح البحوث ، ومراجعتها ، وترتيبها حسب أبواب المجلة.

ومما يجدر التنبيه إليه أن إدارة المجلة تحرص أشد الحرص على إخضاع البحوث المقدمة إليها - بلا استثناء - إلى الفحص والتحكيم العلمي، بمشاركة نخبة من الأساتذة المتخصصين، وفق المعايير العلمية المرعية في سائر المجلات العلمية الدولية، كما أن التزام المجلة بنشر الجديد من البحوث التراثية الوازنة دفعها إلى استبعاد البحوث المنشورة بمجلات أخرى، أو بمواقع الإنترنت، أو تلك التي تكون مستلة من أطاريح علمية، أو أعمال أخرى منشورة للباحث.

وإذ تزف مجلة مرآة التراث لعموم قرائها صدور هذا العدد الجديد، فإنها لتأمل أن تتحقق في الأبحاث الستة التي تضمنها الفائدة المرجوة، وأن تشبع نهم الباحثين المتطلعين بشغف، إلى جديد الدراسات التراثية،

ويأتي في طليعة بحوث هذا العدد بحث عن إسهامات المحدثين في كتابة تاريخ المدن للدكتور عبد اللطيف الجيلاني، وهو يكشف عن وعي علماء الحديث النبوي منذ فترة زمنية مبكرة، بأهمية التاريخ، كما يكشف إسهامهم الوازن في البحث التاريخي.

وبعده بحث شيق عن ظاهرة المولد النبوي احتفالا ، وإقراء ، وتأليفا ، للدكتور أنس وكاك . عضو الرابطة المحمدية للعلماء . وقد عقد فيه دراسة مقارنة بين مصدرين لا يستغني عنهما باحث في موضوع المولد النبوي، وهما كتاب التنوير في مولد السراج المنير ، لأبي الخطاب عمر بن حسن الكلبي المعروف بابن دحية (ت 633 هـ ) ، وكتاب الدر المنظم في مولد النبي المعظم ، لأبي العباس العزفي (ت 633هـ ) ، وابنه أبي القاسم (ت 677هـ) ، ولم يكتف الباحث بإجراء مقارنة بين الكتابين المذكورين؛ بل تحدث عن فنّ التأليف في المولد النبوي كاشفا عن غاياته ، ومقاصده، وسياقه التاريخي، ومحددا أهم معالمه المنهجية.

وفي إطار حرص المجلة على التعريف بأعلام المالكية، يكشف هذا العدد عن شخصية فقيه مالكي طاله النسيان لدى الباحثين؛ حتى اشتبه اسمه بغيره من الفقهاء : وهو العلامة الفقيه، أبو مهدي عيسى بن يحيى بن صالح الوانوغي، صاحب التعليقة على المدونة (ت 810هـ) ، فأزاح عنه الباحث الأستاذ سعيد بلعزي الغموض في بحث مفيد، معرفا بشيوخه وتلاميذه، ومبينا مكانته بين فقهاء زمانه.

وفي باب الرحلات العلمية، يتحفنا الدكتور عبد السلام الصباري، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة إب باليمن، ببحث قيم عن الرحلة العلمية الأندلسية إلى صنعاء اليمن في القرنين الثالث والرابع للهجرة، فأثبت فيه أن اليمن كانت وجهة كثير من علماء الأندلس في القرنين المذكورين، وجلّى فيه أن الكثير من رحلاتهم، لم تقتصر على الذهاب صوب الحجاز لأداء فريضة الحج ، وإنما تجاوزت ذلك لاستكشاف كبرى الحواضر العلمية والنهل من كبار شيوخ عصرهم في شتى المعارف العلمية.

أما البحث الخامس، فهو ثبـت بيبليوغرافي، يستقصي فيه الباحث الدكتور مصطفى عكلي المؤلفات على كتاب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، فأحصى فيه أكثر من ستين ومائة من أعمال العلماء، وأوضاعهم على كتاب الرسالة، رغم وجازته، شرحا ، وتعليقا، ونظما، وختما، وما إلى ذلك، وما يتميز به هذا الثبت عن الأعمال التي على منواله، اجتهاد صاحبه في بيان ما طبع من الكتب التي ذكرها ، وما كان منها مخطوطا، مع العناية بذكر مكان وجوده.

وفي باب نصوص . محققة، قام الدكتور محمد العلمي، بتحقيق جملة من الرسائل والنصوص الملحقة بكتاب الذب عن مذهب مالك لابن أبي زيد القيرواني، وهو كتاب كان قد نهض بتحقيقه، ونشره منذ سنوات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء، وتتضمن هذه الرسائل والنصوص المحققة، استجازةً لأبي عبد الله محمد بن مجاهد الطائي البصري (ت 370هـ)، ونص إجازة ابن أبي زيد له، وخطبة نكاح، ونصائح ووصايا وقصيدة ، وهي جميعها لابن أبي زيد القيرواني، مع تقاييد أخرى تنشر لأول مرة، وتعتبر في غاية الأهمية بالنظر إلى الزمن المبكر الذي تنتمي إليه.

وبهذا يكون هذا العدد الثالث من المجلة، قد اشتمل على ستة أبحاث علمية، في موضوعات تراثية متنوعة تتوزع حسب أبواب المجلة من أعلام، ورحلات، وأعمال بيبليوغرافية، ونصوص محققة، وبحوث ودراسات، وبذيله، أنجزت إدارة المجلة ملحقا علميا مفيدا، استقصت فيه أخبار التراث، فاشتمل على تقارير في التعريف بالندوات والملتقيات العلمية المنعقدة في الآونة الأخيرة، وتضمن أيضا جديد الإصدارات التراثية وآخر الرسائل والأطاريح الجامعية المناقشة، وأخبار وفيات شوامخ العلماء المحققين.