تقرير عن: قراءة في كتاب الدكتور عبد العزيز السعود «رأس الرخامة»

نظم مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية بتطوان التابع للرابطة المحمدية للعلماء قراءاتٍ في كتاب الدكتور عبد العزيز السعود «رأس الرخامة».

وقدم هذه القراءات جلة من الأساتذة وهم فضيلة الأستاذ رضوان احدادو، والدكتور نجيب العوفي، والدكتور جمال علال البختي، والدكتور عبد اللطيف شهبون، وذلك يوم الثلاثاء 3 محرم 1946هـ الموافق لــ09 يوليوز 2024م على الساعة الحادية عشرة صباحا بمقر المركز.

وقد أدار الجلسة فضيلة الدكتور محمد الحافظ الروسي رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية، مرحبا في البداية بالحضور الكرام في هذه القراءة للسيرة الذاتية التي كتبها الدكتور عبد العزيز السعود، واستهل فضيلة الدكتور محمد الحافظ الروسي حديثه بأن هذه السيرة سُبِقنا إلى الكتابة عنها وتحليلها، وأشار إلى أنه قد نشر بعض الأفاضل مقالة عنها، وذكر الدكتور محمد الحافظ الروسي أنها تجمع ما بين التاريخ والسيرة كما تجمع بين السرد والتسجيل والحكي والتحليل، وهي نوع خاص من أنواع السيرة الذاتية؛ لأنها تقف عند مرحلة الطفولة وهذا النوع ليس كثيرا. وذكر أن «رأس الرخامة» كتبها مؤرخ متمكن صاحب أبحاث كثيرة، مثنيا في ذلك على المؤلف وعلى مؤلفاته المتنوعة.

ثم قدم القراءة الأولى للكتاب الأستاذ رضوان احدادو الذي عنون قراءته برواية الحكي ومتعة السرد في رأس الرخامة، وابتدأ حديثه بكلمات لشاعر إسباني كبير، ثم ذكر المحاضر أن صاحب الكتاب مؤرخ يؤرخ لنفسه ولطفولته، وهو يجري الحوادث والأحداث ويسعفها بالذي يكون قد انفلت وضاع منها، فهو يؤرخ لنا لكل الذين كانوا حاضرين في ذاك الزمن، وقد خامر المحاضر سؤال في أي خانة يتموقع هذا العمل؟، وأفاد بأن صاحبه أراده رواية سيرة؛ فهو رواية إذا اعتبرنا الحكي رواية وهو سيرة إذا أسسنا للتاريخ أن يكون سيرة، ولكنه إضافة إلى الرواية والسيرة والتاريخ ففيه أيضا شيء من العلوم والفلسفة، كما ذكر أنه أسس لنفسه موقعا متفردا كنص مفتوح على المحاسن والألوان موثقا للذاكرة الفردية والجماعية للذات، والأسرة الصغيرة (الوجوه، المعالم، الأعلام، الأماكن، الفضاءات، الرموز)، مع ولاء تام لتطوان التي كانت محصنة بالقيم وبحميمية العلاقات مع كل مكوناتها؛ حميمية الجوار التي تتحول فيها الأسر إلى أسرة واحدة، وهنا تساءل المحاضر ترى هل استطاع المؤلف أن يتحرر من معطفه معطف الباحث المحافظ على تسلسل الأحداث زمنيا وإحضار الأدلة والبراهين، ويلبس معطفا مطرزا بخيوط حريرية من خيال مجنح وإبداع منمق، ومن جهة ثانية أشار المحاضر أنه في مقاطع كثيرة يهرب عنا المؤلف فاسحا المجال لعبد العزيز الآخر الأصل، ذلك الأسلوب الموسوم بالبحث والتاريخ، والحامل لحلم راوده يوما فتمكن منه وظل الحلم يطارده يحمله معه من زمن التلمذة إلى أن أصبح أستاذا. وذكر المحاضر أن المؤلف كان أكثر إخلاصا ووفاء للتاريخ، فشخصية الباحث المؤلف لا تفارقه في عموم الكتاب من أحداث عاشها عن قرب فكان فيها شاهد عيان، وأجمل المتحدث مداخلته هذه في الإبانة عن أهمية الكتاب وقد لخصها في نقاط تمثلت في: غزارة المضامين، ودقة التفاصيل، والتعريف بالأماكن والأعلام، ثم الانفتاح على نماذج لشخصيات الهامش التي كانت تعج بها مدينة تطوان، ثم توثيقه لبعض الحكايات والخرافات.
وختم المحاضر ورقته بشكره لمؤلف الكتاب مشيرا في ذلك إلى أنه أعاد لنا لحظات الدفء من الزمن الآخر، وما وفره للقارئ من زاد ومتعة من خلال كتابه رأس الرخامة.

أما القراءة الثانية للكتاب فقدمها الدكتور نجيب العوفي الذي عبر في البداية عن سروره لحضوره في هذا العرين الثقافي الرصين مركز ابن أبي الربيع السبتي، شاكرا الدكتور محمد الحافظ الروسي، وذاكرا أن سروره في هذا اللقاء بقيمة مضافة ومضاعفة، فالمؤلف عبد العزيز السعود كما أشار الدكتور نجيب العوفي ضيفنا وصديق العمر، وموضوع كتابه رأس الرخامة هي تطوان، وقد آثر المحاضر لهذه القراءة عنوانا موسوما برأس الرخامة نوستالجيا تطوانية، وذكر الدكتور نجيب العوفي أنه على امتداد المسار الفكري والثقافي اليانع للمؤلف كانت تطوان الهم الجميل الذي شغل هذا الباحث، فذكر أن السؤال التاريخي الذي سكن فكر ووجدان المؤلف في جل بحوثه وكتاباته ينبئ على أنه كان باحثا متيما بتطوان سائرا تحت شرفاتها وطائفا بأبوابها ونابشا في أضواء ذاكرتها، وأضاف المحاضر أنه إلى جانب ذلك يبدو باحثا ناقدا ومشاركا في تاريخ تطوان؛ تطوان هذه الحمامة الأيقونة الواقعة بين جبلين والعاكسة للتاريخ هي هاجسه المركزي الذي يقود خطى مشروعه التاريخي. وفي هذا المقام أشار المحاضر إلى أنه سيرا على نهج سلفيه وشيخيه التطوانيين المؤرخ الفقيه أبي العباس أحمد الرهوني صاحب السفر الرائد «عمدة الراوين في تاريخ تطاوين»، والمؤرخ العلامة محمد داود صاحب السفر الموسوعة «تاريخ تطوان»، وتكملة وتوسعة لمشروعيهما كان المؤلف عبد العزيز السعود يلتقط الشفرة التطوانية المسافرة بين الأجيال، ليغوص في تاريخ تطوان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسيكولوجي أيضا، بمناهج علمية حصيفة ومرجعية تاريخية وثقافية وإحاطة موضوعية بمسالكه، وبمؤلفه الجديد رأس الرخامة يعود ليحفر في ذاكرة تطوان وبإيقاع نوستالجي جميل من خلال الحفر في ذاكرة السيرة الذاتية في حضن الحمامة البيضاء.
ثم عرج المحاضر إلى الحديث عن القيمة الأدبية للكتاب فأفاد أن هذا العمل السردي السِّيَرِي، الذي يستعيد المسار ويقتنص الأسرار قيمة أدبية مضاعفة، فهو كما ينص التوقيع التجنيسي في واجهة الغلاف [العنوان الفرعي] رواية سيرة بما يعني أنها سيرة ذاتية في قالب روائي.
والقيمة الأدبية الثانية لهذه السيرة أنها صادرة عن باحث مؤرخ وخبير مسؤول بأسئلة تاريخ شمال المغرب، مولع بالقراءة والتأويل للوقائع والمسارات واختراق المسكوت عنه؛ أي إنه مولع بالنبش والحفر في التاريخ.
أما القيمة الأدبية الثالثة لهذه السيرة السردية هي قيمة شخصية وذاتية بالنسبة للمحاضر موغلة في تلافيف الذاكرة والقلب، فعبد العزيز السعود هذا الفتى التطواني حسن السمت والمظهر هو صديق العمر كما ذكر المحاضر، فقد درجا معا في أحياء ودروب مدينة تطوان.
وفي منحى آخر أضاف المحاضر أن النص يتوزع بنائيا إلى إحدى عشرة لوحة سردية معنونة هي بمثابة الكلمات المفاتيح للنص، أو إنها مفاتيح الولوج إلى تطوان، ويشير الدكتور نجيب العوفي أنه في رأس الرخامة نجوب مع السارد منذ طفولته إلى يفاعته وشبابه، أزقة وشوارع وأحياء ومنازل تطوان، حيث تحضر عين السارد الفاحصة وأحاسيسه وخوالجه الوجدانية، وتحضر أيضا ذاكرة السارد التاريخية الخبيرة العالمة بتواريخ ووشوم الأمكنة، يصطحبنا مؤرخ ضمني عبد العزيز السعود، وبأثر الارتجاع ملتحما بالسارد الفعلي المتنقل عبر ربوع ومنازل تطوان وكأنه نابش في قول أبي الطيب:
لَكِ يَا مَنَازِلُ فِي القُلُوبِ مَنَازِلُ /// أقفَرْتِ أنتِ وَهُنَّ مِنْكِ أَوَاهِلُ
كما أشار المحاضر أن اللافت في سرد السارد أنه لا يلتزم صناعة السرد، ناهجا نهجا تقليديا في السرد الذي يقارب ويساند الحكي، ولعل من القرائن على ذلك لجوؤه إلى الاسترجاع السردي والطي الزمني.
ثم ذكر المحاضر أنه يتناوب على نص رأس الرخامة ساردان؛ سارد أول يصف صيرورة حياته بتطوان، وسارد ثان ضمني عليم مؤرخ بالأزمنة والأمكنة وما تخفي الصدور، ومن هنا تتحد متعة اقتفاء سيرة الكاتب مع المعلومة والفائدة التاريخية والعلمية لهذه السيرة.
وخلص الدكتور نجيب العوفي إلى أن السيرة الذاتية رأس الرخامة للمؤلف عبد العزيز السعود تكون عزفا على وترين وتر الذات ووتر التاريخ في إيقاع واحد، إنها وثيقة أدبية تاريخية ترصد مظاهر التحول التاريخي والاجتماعي والعمراني والسيكولوجي بين مغرب الكولونيال ومغرب الاستقلال في مدينة تطوان.

أما القراءة الثالثة للكتاب فقدمها الدكتور جمال علال البختي رئيس مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية التابع للرابطة المحمدية للعلماء، والذي صدر كلامه بشكره للدكتور محمد الحافظ الروسي على الدعوة الكريمة وبشرف حضوره مع القمم العلمية التي شاركت في هذه القراءة.
ثم استهل حديثه بمقدمة عن علاقته بالدكتور عبد العزيز السعود فقد كانت معرفته به أولا في ثانوية القاضي عياض هذه المدرسة التي درس فيها المؤلف ليعود إليها بعد مدة ليصير أستاذا في مادة التاريخ والجغرافيا، فكان الدكتور جمال علال البختي من تلامذته المقربين فذكر أنه تعلم منه وقرأ عليه في مستوى السادسة ثم السابعة في آداب عصرية ثم الباكالوريا. وذكر المحاضر أنه مازال يتذكر خصوصية أستاذيته المميزة المتمثلة في أخلاقه العالية وسعة صدره في الاستماع إلى وجهات نظر المستفيدين، والذي شده إليه هو ذلك الإخلاص المبدئي المؤسَّس على قناعات قيمية رفيعة، كما أشار المحاضر إلى أن كتب الدكتور عبد العزيز السعود كثيرة في عددها غنية في موادها ورصينة في منهجها وتأليفها، وقد كان المؤلف أمينا في مجالات ومواضيع كتاباته، موافقا لتخصصه العلمي المتمثل في علم التاريخ ونزيها فيما دوّنه من أخبار موفقا في تحليلاته للوثائق والنصوص، فإننا نجد أنفسنا أمام عمل فريد يزين مشروعه العلمي متمثل في كتابة رواية عن سيرته الذاتية أطلق عليه اسم رأس الرخامة. وهنا راود المحاضر بعض الأسئلة عن الجديد الذي أضافه هذا الكتاب إلى المشروع السعودي التاريخي؟ وما هي الجوانب المستوقِفة فيه لمتابعة مساره الفكري والعلمي، ثم ما هي المضامين المختلفة والملاحظات العامة المسجلة في هذا الإنتاج الأدبي الصادر للمؤلف؟
ثم انتقل المحاضر إلى الحديث عن نقطة ثانية عنونها برأس الرخامة بين السيرة والتاريخ ذكر فيها أن المؤلف رجل تاريخ ومؤرخ معاصر للمدينة لا ينازعه في ذلك منازع، وفي هذا المقام تساءل الدكتور جمال البختي هل تعتبر كتابة المؤلف لسيرته عملا تاريخيا ؟ فأجاب المحاضر أن كتابة السيرة علم وفن وأدب في الوقت نفسه، فالسيرة الذاتية وغير الذاتية تصور حياة الفرد وتعد جانبا أساسيا في العمل التاريخي المعبر عن أعماق الروح الإنسانية، وأضاف أن السيرة نشأت في أحضان التاريخ، وقد اعتبرت علما لأنها تقوم بالعرض الصادق للأحداث في الحياة، وسميت فنا لأنها تهتم بالأساليب والوسائل للتعبير عن أحداثها بل هي من أشد الوسائل لزوما على الأديب، كما ذكر المحاضر أن المؤرخ يستلهم من الأدب منهجيا استحضار ذاتيته الأنا وجماعته، ويمكن أن يتحدث عن مشاعره وأحاسيسه عندما يكون في عمق عملية البحث، كما يمكنه إثارة مجريات ومراحل التحقيق التاريخي وتفاصيلها، كما يسعه ارتداء سيناريوهات تاريخية وهي أساليب تتطلب خيالا أدبيا راقيا ولكنه خيال غير مُخْتَلَق. ثم تطرق المحاضر إلى البعد الأدبي في السيرة الذاتية فذكر أن الأدب في أحد تعاريفه هو تجربة إنسانية، تكشف النوازع والميول وتتأثر بمحيطها الحي، فهو وثيقة تؤرخ للإنسان والحياة يؤدي النفاذ إلى دواخلها إلى كشف الواقع ورصد حوادثه، وتقديم صورة صارمة ومتكاملة للحياة والإنسان، وما التاريخ إلا رصد لهذه الظواهر وتسجيل لمجريات الأحداث. وأضاف أنه من هذه المنطلقات يسهل الحكم بأن المؤرخ عبد العزيز السعود، كان خلال كتابته لسيرته بصدد ممارسة مهمته التأريخية بكل إتقان، إذ سيرته جزء من تاريخ أسرة السعود وتاريخ هذه الأسرة هو نفسه جزء من تاريخ تطوان، كما أن الفضاءات التي تجري فيها أحداث الرواية تحكي وتروي تاريخ الكثير من معالم وأخبار مدينة تطوان وهي جانب من تاريخ المغرب العام.
أما النقطة الثالثة التي تطرق إليها المحاضر تمثلت في عرض وتحليل مكونات الرواية الأساسية، فذكر أن كتابة سيرة ذاتية تشمل في العادة حياة بأكملها ويتطلب الأمر فيها منطقيا الالتزام بالترتيب الزمني لحياة صاحبها، ولكن رأس الرخامة سيتخللها تحرك السرد للأمام وأحيانا للخلف حسب الضرورة، ولأن سيرة الفرد لا تتحقق متابعتها إلا في زمن معين وفي أماكن محددة ثم في علاقتها بالمحيط المكون لشخصيات أساسية وثانوية، وتحرك الشخصية موضوع السيرة أحداثا ووقائع، فهي الصانعة للتاريخ اللحظي المتحول من الوقت إلى وقائع تاريخية. فإن الحديث عن رأس الرخامة كما ذكر المحاضر سينصب على جوانب متعلقة بـ: - عنوان الرواية. - الحضور التاريخي للمكان في الرواية. – شخصيات أساسية وأبطال متحركون في السيرة.- عن الزمن الروائي. وسيختم بالحديث عن المسكوت عنه في رأس الرخامة وقد فصل القول في جل هذه المحاور التي ذكر. وبخصوص المسكوت عنه سجل المحاضر ملاحظات حول هذا العمل حيث اتضح لديه أن هناك حضورا واضحا وتوظيفا لدروس ومعلومات تستند إلى العلوم البحتة والعلوم النفسية والفلسفية في الرواية واستدل على ذلك بقراءته لصفحات من الرواية تصب في هذا المنحى.
وذكر المحاضر أن طرح مثل هذه القضايا العلمية والنفسية والفلسفية هو أمر مهم لبسط جوانب السيرة، وما أثار المحاضر في هذا التوظيف أن الطريقة التي عرض فيها المؤلف هذه المادة أثناء السرد كانت مغايرة إلى حد ما بسرد الأحداث المتعلقة بتفاصيل حياة الرجل ومختلفة أيضا عن كيفية التوظيف التاريخي الذي كان موفقا فيه باعتباره مجاله الطبيعي كما نوه إلى ذلك في بداية هذه القراءة. وخلص المحاضر إلى أن المؤلف يتوقف كثيرا في استحضار الجانب التاريخي المرتبط بعمله، كما نجده محايدا في الكثير من الأخبار التي نقلها لدرجة أن روح النقد ظهرت عليه وهو يحكي عن أحداث ووقائع خاصة.

أما القراءة الرابعة للكتاب فقد قدمها الدكتور عبد اللطيف شهبون الذي عبر عن سعادته لحضوره في هذا المقام الكريم، مصدرا حديثه بأن رأس الرخامة هو نص أدبي، زاوج فيه المؤلف بين جنسين السيرة والرواية مع تغليب الجانب السيري، وهو نص صدر سنة 2023 م موزع بين خمسة وأربعين ومائة صفحة، موزعة على أحد عشر عنوانا بعد عتبة أو كلمة لا بد منها فذكر أنه عمل ماتع ونافع، وأشار المحاضر أن المؤلف وضع لنصه عتبة مفهومية خاصة بكتابة السيرة الذاتية، المُؤَصَّلة والممتدة من دينامية الذاكرة وفعل التذكر، بما هو استرجاع منتقى لسياقات ووقائع وأحداث تاريخية واجتماعية متقاطعة، مع فعل تدوين خاص للمحيط الأسري رفاقي ومؤسسي على مدى عقود. بالإضافة إلى توظيفه قاموسا محليا جميلا لم نعد نسمعه إلا في نطاق جد محدود، وهذا جانب مهم كما ذكر المحاضر، وأضاف كذلك أن هذا العمل يفتح أمامنا آفاقا كثيرة للبحث ومتابعة العمل على المستوى اللغوي وعلى مستوى لهجة تطوان. وذكر أن المؤلف كتب بانتقاء مقصود وقدم لنا جملة من الأشياء التي هي نتيجة فعل الاستقراء عنده بمدونات الخبر والاعتبار. كما أشار إلى أن هذا النص يقدم لنا مجموعة من الدروس أولاها أن هذا العمل يقدم لنا فكرة مؤداها أن تقدم منسوبية المقروئية ليس مشروطا بروادها المعروفين، أما الدرس الثاني يتجلى في أن كل مقطع سردي ينشأ من ذاكرة صاحبه وقدرته على إقامة بنيان أدبي متماسك يؤلف بين تاريخ ذاتي وما بين تاريخي موضوعي. أما الدرس الثالث فيتأتى في درس الصدق. ثم ذكر أن كتابة السيرة أو أية كتابة أخرى ليست بابا مفتوحا دون مضامين أخلاقية فهي كتابة لها قانون مضبوط، وأما الدرس الرابع فذكر فيه أن هذا المؤلَّف مصدره هو الماضي، وهذا الماضي بمُرَكّبات معيشية ويقينيات دينية وقيم أخلاقية، ومراحل العمر لصاحبها هو أفق للتفكير في مجموعة كبيرة من التفاصيل والبنى التاريخية الكبرى، وختم المحاضر ورقته بالدرس الخامس ومفاده أن الكتاب يتحدث أو ينطق بما جاء على أطراف ألسنة جيل المؤلف وهو جيل تأسس على نوع من المعاناة.

وختمت هذه القراءات بمناقشات شارك فيها الأساتذة المتدخلون، وكان أبرزها مداخلة رئيس المركز فضيلة الدكتور محمد الحافظ الروسي الذي تحدث عن علاقة الأدب بالتاريخ، فذكر بأنها قضية قديمة عالجها أرسطو الذي تحدث عن الفرق بين التراجيديا والتاريخ وبين الشاعر التراجيدي والمؤرخ فالأول يتحدث عما يمكن أن يحدث بينما الثاني يتحدث عما وقع بالفعل، وهو القسم الذي لم يفهمه العرب على وجهه وهم يترجمون كتاب الشعر ويلخصونه. فقد ربط حازم، مثلا، بين التواريخ وبين القصص، لأن ابن سينا عرف المقصود بالأشعار القصصية فقال: ( ..لأن الغرض ليس الأفعال بل تخييل الأزمنة، وماذا يعرض فيها، وما يكون حال السالفِ منها بالقياس إلى الغابر، وكيف تنـتقل فيها الدول، وتدرس أمور وتحيا أمور ).
وغني عن الذكر أن أرسطو لم يتحدث عن ( تخييل الأزمنة ) ولكن هذا ما فُهم من قوله : ( وينبغي في التأليفات ألا تكون مشابهة للقصص التاريخية التي لا يراعى فيها فعل واحدٌ، بل زمان واحد ).
وأشار إلى أنه سبق المؤلف مؤرخ كبير في كتابة سيرته الذاتية وهو ابن خلدون وقد طبعت سيرته تحت عنوان «ابن خلدون ورحلته شرقا وغربا» وهو مصدر سيرة ومصدر تاريخ، وأشار كذلك إلى أن المركز طبع مؤلفا نفيسا وهو كتاب «العطاء الجزيل في كشف غطاء الترسيل» وفيه مراسلات ورسائل تجد مثلها في كتب التاريخ، وذكر أنه قد أجمع كل من تحدث هذا الصباح على صفة الصدق في هذه السيرة، فالمؤلف في سيرته الذاتية يعيد تركيب الماضي ويتحدث عما كان لا عما كان ينبغي أن يكون، وذكر أن المؤلف كان يكتب الصدق والتاريخ والحقيقة وبمقاييس التاريخ.

ثم عقب ذلك كانت مداخلة الدكتور نجيب العوفي وقد تضمنت حديثه عن قضية تجنيس كتاب رأس الرخامة، فبدا له أن هذا النص أميل ما يكون إلى طقوس السيرة الذاتية، مشيرا إلى أننا حينما نستحضر التوصيف الذي يحصل فيه تطابق وتماثل وتلاحم ما بين المؤلف والشخصية الرئيسية والسارد هذه المعطيات تجدها تعود مباشرة إلى المؤلف كخلفية مرجعية أساسية؛ فهو المؤلف كاتب السيرة، وهو ساردها، وهو المحور الذي تدور حوله أحداث هذه السيرة في القطب المكاني وهو مدينة تطوان ثم القطب الشخصي المركزي وهو حضور عبد العزيز السعود، وبالمقارنة مع نماذج روائية وسيرية أخرى أشار إلى رواية «المصري» و«باريو مالقة» لصاحبها محمد أنقار رحمه الله تعالى، فأشار إلى أنها رواية ولكن ليست رواية صرفة ولا سيرة ذاتية صرفة، فهذه الأعمال أقرب ما تكون كما سماها سيرج دوبروفسكي التخييل الذاتي، ففي أعمال أنقار هناك توازٍ ما بين الواقع المرجعي الحقيقي غير الملموس وهنالك تصرف وابتكار وإطلاق سراح الخيال ليلعب لعبته في النسج والسرد، ومن جهة ذكر أنه حينما نضع المتن الروائي المغربي على المحك ونتوغل في أسراره وأخباره وفي طقوس كتابته، سنجد حتى الرواية المغربية ذاتها مبنية على السيرة، ذلك أن جل الروايات المغربية تعزف على وتر الذات (الأنا)، وهنا استحضر قولة لناقد غربي مفادها أن السيرة الذاتية مغناطيس تحت الصفحة، وختم حديثه بأن عنصر السيرة الذاتية يعتبر ركنا ركينا في كل متوننا وأقوالنا السردية.

وكانت مداخلة فضيلة الدكتور عبد الرحمن بودرع مسك ختام هذا اللقاء العلمي المفيد والذي تحدث بدوره عن السيرة الذاتية وعلاقتها بالتاريخ وقدم نماذج لمؤلفات في هذا الشأن، وذكر أن التاريخ حُفظ في أحضان الأدب والسير.





