خطة القصر

يضم قصر الباهية (أي البَهيَّة) قسمين متميزين: الأول بناه السي موسى ، وهو الصدر الأعظم على عهد السلطان سيدي محمة بن عبد الرحمن؛ والثاني بناه ابنه أحمد المدعو باحماد . فأما الجزء القديم المسمى دار السي موسى فبداخله بستان كبير والصحن الشمالي وملحقاتهما . والصحن ذو هيئة قروية رغم ما بلط به من رخام ورغم ذينك الصهريجين النجمين؛ ويفضي إلى رياض ذي طابع متمدن شكله مستطيل ، وبين المماشي المكسوة بالفخار ما زالت تنمو الأشجار التي غرسها موسى ، وكانت كلفتها مرتفعة . كل ذلك يؤرخ لبداية عهد إثراء الأسرة وارتقاء أفرادها إلى أعلى المناصب . وبه أيضا قاعتان جميلتان  في طرفي البستان؛ ويهمس الماء من فسقية صغيرة تتوسط المكان بين أشجار السرو والعناقية .
إلا أن الابن لم يكتف بطموحات الأب. فلسكنى عياله وخدمه الكثيرين عزم باحماد على بناء قصر دون تراخ  وساعده في ذلك الأمين زنبير، فأضاف بناء إلى بناء وتزيينا إلى تزيين، حتى اضطربت المسالك فى الحي برمته. وعبثا نبحث في انخطة عن علامات تشير إلى تصميم رشيد: فلا مركز ولا محور ولا تنظيم، بل ضروب من الهوى والعبث ليس فيها فن ولا حتى تخيل فيه إمعان. فهناك مداخل من كل جهة، ومنعطفات نشاز، ومسجد ومئذنة في الجنوب، وإلى الشرق منتزه عظيم به صهريج كبير يتلألأ ماؤه صفاء، ويؤدي إليه جسر يمر فوق الزقاق . وباختصار لا نجد لهذا المجموع محيطا يحده: فلا ندري أين يبتدئ ولا أين ينتهي هذا الحشد الهائل مزر الحيطان والدور الصماء. وبالجملة فإن كل شيء في هذه الفوضى العارمة يذكر بالطريقة التي كان الوزرأء يوسعون بها دورهم عندما يرضى عنهم السلطان فيبتسم لهم الحظ . فقد كانت الدور المجاورة تباع الواحدة تلو الأخرى؛ فتستحيل الأزقة ردوبا، ثم أروقة داخلية. من هنا يتضح غياب أي منطق في هندسة النتوآت الظاهرة من كل مجموعة من الحجرات المنضافة إحداها إلى الأخرى ، وكذلك تعقد مسالك السير بين أروقتها في متاهات لا معنى لها؛ وقد ذكر غالوطي أنها ستعصية للغاية. وما يميز هذا القصر ويضفي عليه طابعا خاصا أن ما فاته في ترتيب أجزائه وانسجام أبعاضه قد استدركه بالضبط في شكله غير المنسجم .
والصحن الكبير المكسو بالرخام يستحق منا وقفة يوصل إليه من الرياض بعد ارتقاء درجات قلائل؛ وبلاطاته الرخامية البيضاء تلمع تحت الشمس. وقد هيئت بالصحن ظلة ممتدة على طول جنباته، طليت أعمدتها المجندة فجاء لها حسن لطيف. وكالعادة جاءت ثلاث فسقيات لتزين الساحة المستطيلة الفيحاء الواقعة أمام القبة الشرقية المهيبة، ولها أسقف متميزة عن كل ذلك بزخرفتها الرائعة. والمجموع مؤرخ بسنة 1315هـ/1897-96م .
والمهندس صاحب خطط المساكن بالقصر هو الحاج محمد بن المكي المسفيوي ، أأألطف المغاربة؛ وهو من أصل إفريقي أندلسي . تعلم رسم الخطط على القبطان إركمان ألطف المغاربة رئيس البعثة العسكرية الفرنسية سابقا، وبملاحظة صناعة الخشب بمكناس والجبص بفاس. ولتشييد الباهية استقدم الرخام من مكناس والأرز من الأطلس المتوسط والزليج من تطوان، ومن كل أطراف البلاد أجود الصناع، وقد كان من بينهم من له قيمة خاصة . ولئن كان دوتي مبالغا عندما وصف الباهية بأنه آية انتصار الفن العربي المعاصر فإنه لم يخف أن جمالها حزين. وأن زينتها على قدر من الهشاشة، بحيث تستدعي تعاملا بغاية اللطف والرفق؛ فإن البحث فيه تطلب عناية خاصة .
والواقع أن قصر الباهية إنما صمد لعوادي الزمان بفضل العناية البالغة، ولولاها لصار اليوم ، بعد خمسة عقود مرت على الفراغ من بنائه، قصرا آخر خربا كغيره من القصور الكثيرة بالمغرب . ومن الجدير بالملاحظة أن القصر ليس به إلا طابق أرضي؛ ولعل ذلك راجع إلى خلقة باحماد. هذا إن لم يكن الوزير نفسه قدر أن خلوة في السطح قد تكون مصدر خطر على حياة رجل تواترت فيها الهيعة والفزع من كثرة ما خشي على نفسه من الغيلة ، شأنه في ذلك شأن حاشية الملك كافة . ومع ذلك مات باحماد في قصره في 71 مايو 1900، لم تنفع معه عناية ثلاثة أطباء أوربيين ومتصرف مسلم . فووري الثرى في محفل رهيب بمدافن الأسرة العلوية. وما هي إلا سويعات بعد وفاته حتى نهب قصره كما جرت بذلك العادة ؛ والسلطان نفسه، وقد شيعه في الموكب الجنائزي باكيا ، أمر بالاستحواذ على ما بالقصر من أثاث رفيع وضم إليه عبيد خديمه الأرضى .